سرديات .. التجربة الأولى !
عدنان زاهر
7 December, 2023
7 December, 2023
1
الحياة سلسلة من التجارب المتتالية التى نستمد منها فهمنا للأشياء و ايجاد تفاسير لما هو خفى منها كما هو سلوك حياتى مستمر و متجدد، بالطبع فيه ما هو مكرر لكنه يأتى فى صور و مشاهد مختلفة. كما ان التجارب أيضا فيها الجديد المدهش، و تتنوع فى حلاوة مذاقها ، مرارتها و خيباتها. لكن مع كل ذلك تظل التجربة الأولى لكل تلك الأشياء ذات مذاق خاص..... تظل لاصقة بالذهن لا تبارحه و دوما عند الطلب.
معظم تجارب السودانيين مع مؤسسة الدولة الأمنية كانت فاشلة وذات علقم، فقد تغولت الأنظمة العسكرية الديكتاتورية على مسيرة حياتنا ثم قامت ب (نشل ) أجمل سنوات العمر، صارت لنا تجارب مع مؤسسة الدولة و لكن الجانب السلبى منها و تنحصر تلك التجارب فى......تجربة الأعتقال الأول .....تجربة السجن الأولى ......تجربة الترحيل الأول الى سجن آخر بعيد عن المدينة التى تسكنها و آخيرا تجربة التعذيب ...الم أقل لكم ان تجربتنا مع مؤسسة الدولة الأمنية السودانية مريرة و هى تشابه تجارب " دول الموز " فى أمريكا اللاتينية بل هى نسخة منها مكررة ، فى قارة أخرى و بلدا باسم آخر ..... صارت لدينا كمية من التجارب يمكن أن نطلق عليها باطمئنان كامل " ثقافة السجن و الأعتقال " !!!
لكن ما يثير التساؤل و الدهشة حقا، انه و خلال مسيرة السودان السياسية صار ممارسة الأعتقال و سلب حرية المواطن من قبل السلطات الحاكمة عاديا، بالرغم من أن الأصل هو الحرية للمواطن، و قد نص الدستور على ذلك مع حقوق أخرى أساسية.
و لا تحد تلك الحرية الا فى حالة ارتكاب مخالفة جنائية و نَظم القانون القبض على أن لا يتجاوز اربعة و عشرين ساعة، و ان لا يجدد الى بموافقة النيابة ثم القاضى المسئول و اِلا أطلق سراح المقبوض أو تقديمه الى محاكمة عادلة. و تلك اجراءت تجاوزتها السلطات العسكرية الديكتاتورية الحاكمة التى جسمت على رقاب السودانيىين لفترة تجاوزت النصف قرن.
2
تم اعتقالى اٍبان عودتى بعد انتهاء الدراسة الجامعية بموسكو و من سلم الطائرة استنادا على ندوة تحدثت فيها مع آخرين بالنقد لدستور 1974 الذى أعلنته و نشرته حكومة نميرى ، و لكن والدى الذى كان يعمل محافظا للبرلمان فى ذلك الوقت تمكن من اخراجى بعد قضائي ليلة واحدة فى حراسات الأمن، و قد فعل ذلك ( خليفة كرار ) مسئول جهاز الأمن - و حسب قوله - تقديرا لمواقف والدى الوطنية....كان حتى ذلك الزمن يوجد اناس فى الدولة يقدرون مواقف الآخرين و تاريخهم قبل عهد الكيزان السلطوى.
الأعتقال الأول كان فى العام 1976 من منزلى و تم اٍقتيادى من منزل الأسرة بالموردة الى حرسات أمن الدولة فى شرق الخرطوم بالقرب من القيادة العامة للجيش. مكثت عدة ساعات هنالك مع تحقيق شكلى،لأنهم كانوا لا يملكون شيئا ضدى، و من ثم تم تحويلى لقسم البوليس فى الخرطوم شرق.
القسم الشرقى حتى ذلك الوقت كان من أقسام الشرطة الهادئة لأنعدام أو قلة الحواداث الجنائية فى تلك المنطقة، لذلك كان القسم منظما و نظيفا و قد زرته بعد ذلك كمحامى مرات عدة.
بعد اكمال اجراءات التسليم و التسلم من مسئول القسم، تم اقتيادى الى غرفة حراسة بالقسم الداخلى و اودعت بها. بعد قفل باب الحراسة لاحظت و جود شخصين يستلقيان على الأرض ، جلسا عند دخولى و رحبا بى بشكل مهذب كعادة السودانيين فى ذلك الزمن، ثم دعانى للجلوس.تلفت يمنة و يسرى و لم أرى شيئا أجلس عليه. وقفت فى مكانى محتارا انظر اليهما، لكنهما لم يعيرانى انتباها أو يحفلا بى و استلقيا على الأرض كما كانا من قبل.
لاحظت أن الشخصين فوق العقد الخامس من العمر ،يرتديان جلابيب نظيفة ناصعة البياض و يتوسد كل منهما عمامته على الأرض بديلا للمخدة أو الوسادة. ظللت واقفا فترة من الوقت أراقبهما و مترددا كيف يمكن أن أجلس على الأرض ببنطلونى النظيف المهندم !
فى ذلك الزمن و فى ذلك العمر كان الشخص مختالا و معجبا بنفسه كأنما يحمل الكرة الأرضية على " قرنيه "........المهم فى الأمر ظللت فترة طويلة واقفا و بعد أن أشتد شعورى بالتعب جلست - و محاولا عدم لفت انتباه الشخصين - على الأرض ساندا ظهرى على الحائط فعلت ذلك متمنيا ألا يلاحظا جلوسى لأننى فى البداية تجاهلت و رفضت طلبهم المهذب..... ....انتبهت انهما يتبادلان الحديث غير مكترثين بما أفعل . بعد جلوسى تمددت على الأرض مستخدما شنطتى الصغيرة كوسادة و رافعا أرجلى على الحائط كما يفعلان.
بعد فترة من الوقت التفتا الئ و بدا معى حديثا ودودا، و قد قاما بسؤالى عن اسمى و سبب اعتقالى و لم يخبرانى بأنهم يعرفان أسرتى، برغم علمى لاحقا انهما يعرفان بعض أفراد الأسرة معرفة وثيقة و تربطهما علاقة صداقة و زمالة!!
تبادلنا الحديث المرح و النكات و هما غير مكترثين لظروف الأعتقال و مؤكدين لى ان النظام الذى قاما باعتقالنا الى زوال و قريبا. حديثهما الهادئ الملئ باليقين و الصمود بث فى نفسى كثير من الثقة و الثبات، كما تعلمت منهما التواضع و إحترام الآخرين.
الرجلان العظيمان كانا هما صلاح مازرى الشيوعى و المهندس العظيم و كيل وزراة التخطيط الذى قام بتخطيط معظم أحياء الخرطوم و أمدرمان. أحياء مثل العمارات، الصحافات و أركويت، الثورات بامدرمان، و الذى قام نظام نميرى بفصله من الخدمة لتأييده حركة 19 يوليو !!
و الشخص الآخر الشيوعى المناضل محمد صالح ابراهيم المراقب المالى للأدارة المركزية و نائب فى البرلمان عن دائرة حلفا الجديدة أيضا ابان الديمقراطية الثالثة.
توصلت خلال تلك الفترة اقصيرة التى قضيتها معهم مدى قصر نظر، مع الحقد السياسى للسلطات الديكتاتورية العسكرية التى تعمل على اقصاء الكفاءات المهنية التى صرفت الدولة عليهم كثيرا للنهوض بالوطن، فقط للاختلاف فى وجهات النظر السياسية بالرغم من أن ذلك حق طبيعى و مشروع !!!
3
بالرغم من الجانب السوداوى من هذه التجربة ذلك المرتبط بالاعتقال و سلب الحرية ، الا اننى أعترف بأنها كانت تجربة استثنائية و مفيدة و ساهمت فى عجم العود فى ذلك الوقت المبكر. لقد حُولت بعد يومين قضيتهما معهما فى حراسة الشرقى الى سجن كوبر و مكثت هنالك لفترة اعتقال تزيد عن العام .
هنالك أيضا فى السجن التقيت بمعلمين جدد ....الراحل سيد طه المحامى ...... المناضل الصلب الانسان و ابن سنار الراحل معاذ محمد عبالله اللذين استقينا منها كثيرا من المعرفة و القدرة على الصمود و كيفية الاستفادة بما هو متاح من الامكانيات.
الم أقل لكم فى بداية مقالى ان التجربة الأولى لكل الأشياء، تظل لاصقة بالذهن لا تبارحه ..... فعلا كنت محظوظا بلقاء امثال هؤلاء الرجال العظماء و أنا أخطو فى أول بدايات حياتى العملية و السياسية، لقد استفدت كثيرا من تلك التجارب رغم قسوتها....." سلكت " بعد ذلك !
عدنان زاهر
الثانى من دسمبر 2023
elsadati2008@gmail.com
/////////////////
الحياة سلسلة من التجارب المتتالية التى نستمد منها فهمنا للأشياء و ايجاد تفاسير لما هو خفى منها كما هو سلوك حياتى مستمر و متجدد، بالطبع فيه ما هو مكرر لكنه يأتى فى صور و مشاهد مختلفة. كما ان التجارب أيضا فيها الجديد المدهش، و تتنوع فى حلاوة مذاقها ، مرارتها و خيباتها. لكن مع كل ذلك تظل التجربة الأولى لكل تلك الأشياء ذات مذاق خاص..... تظل لاصقة بالذهن لا تبارحه و دوما عند الطلب.
معظم تجارب السودانيين مع مؤسسة الدولة الأمنية كانت فاشلة وذات علقم، فقد تغولت الأنظمة العسكرية الديكتاتورية على مسيرة حياتنا ثم قامت ب (نشل ) أجمل سنوات العمر، صارت لنا تجارب مع مؤسسة الدولة و لكن الجانب السلبى منها و تنحصر تلك التجارب فى......تجربة الأعتقال الأول .....تجربة السجن الأولى ......تجربة الترحيل الأول الى سجن آخر بعيد عن المدينة التى تسكنها و آخيرا تجربة التعذيب ...الم أقل لكم ان تجربتنا مع مؤسسة الدولة الأمنية السودانية مريرة و هى تشابه تجارب " دول الموز " فى أمريكا اللاتينية بل هى نسخة منها مكررة ، فى قارة أخرى و بلدا باسم آخر ..... صارت لدينا كمية من التجارب يمكن أن نطلق عليها باطمئنان كامل " ثقافة السجن و الأعتقال " !!!
لكن ما يثير التساؤل و الدهشة حقا، انه و خلال مسيرة السودان السياسية صار ممارسة الأعتقال و سلب حرية المواطن من قبل السلطات الحاكمة عاديا، بالرغم من أن الأصل هو الحرية للمواطن، و قد نص الدستور على ذلك مع حقوق أخرى أساسية.
و لا تحد تلك الحرية الا فى حالة ارتكاب مخالفة جنائية و نَظم القانون القبض على أن لا يتجاوز اربعة و عشرين ساعة، و ان لا يجدد الى بموافقة النيابة ثم القاضى المسئول و اِلا أطلق سراح المقبوض أو تقديمه الى محاكمة عادلة. و تلك اجراءت تجاوزتها السلطات العسكرية الديكتاتورية الحاكمة التى جسمت على رقاب السودانيىين لفترة تجاوزت النصف قرن.
2
تم اعتقالى اٍبان عودتى بعد انتهاء الدراسة الجامعية بموسكو و من سلم الطائرة استنادا على ندوة تحدثت فيها مع آخرين بالنقد لدستور 1974 الذى أعلنته و نشرته حكومة نميرى ، و لكن والدى الذى كان يعمل محافظا للبرلمان فى ذلك الوقت تمكن من اخراجى بعد قضائي ليلة واحدة فى حراسات الأمن، و قد فعل ذلك ( خليفة كرار ) مسئول جهاز الأمن - و حسب قوله - تقديرا لمواقف والدى الوطنية....كان حتى ذلك الزمن يوجد اناس فى الدولة يقدرون مواقف الآخرين و تاريخهم قبل عهد الكيزان السلطوى.
الأعتقال الأول كان فى العام 1976 من منزلى و تم اٍقتيادى من منزل الأسرة بالموردة الى حرسات أمن الدولة فى شرق الخرطوم بالقرب من القيادة العامة للجيش. مكثت عدة ساعات هنالك مع تحقيق شكلى،لأنهم كانوا لا يملكون شيئا ضدى، و من ثم تم تحويلى لقسم البوليس فى الخرطوم شرق.
القسم الشرقى حتى ذلك الوقت كان من أقسام الشرطة الهادئة لأنعدام أو قلة الحواداث الجنائية فى تلك المنطقة، لذلك كان القسم منظما و نظيفا و قد زرته بعد ذلك كمحامى مرات عدة.
بعد اكمال اجراءات التسليم و التسلم من مسئول القسم، تم اقتيادى الى غرفة حراسة بالقسم الداخلى و اودعت بها. بعد قفل باب الحراسة لاحظت و جود شخصين يستلقيان على الأرض ، جلسا عند دخولى و رحبا بى بشكل مهذب كعادة السودانيين فى ذلك الزمن، ثم دعانى للجلوس.تلفت يمنة و يسرى و لم أرى شيئا أجلس عليه. وقفت فى مكانى محتارا انظر اليهما، لكنهما لم يعيرانى انتباها أو يحفلا بى و استلقيا على الأرض كما كانا من قبل.
لاحظت أن الشخصين فوق العقد الخامس من العمر ،يرتديان جلابيب نظيفة ناصعة البياض و يتوسد كل منهما عمامته على الأرض بديلا للمخدة أو الوسادة. ظللت واقفا فترة من الوقت أراقبهما و مترددا كيف يمكن أن أجلس على الأرض ببنطلونى النظيف المهندم !
فى ذلك الزمن و فى ذلك العمر كان الشخص مختالا و معجبا بنفسه كأنما يحمل الكرة الأرضية على " قرنيه "........المهم فى الأمر ظللت فترة طويلة واقفا و بعد أن أشتد شعورى بالتعب جلست - و محاولا عدم لفت انتباه الشخصين - على الأرض ساندا ظهرى على الحائط فعلت ذلك متمنيا ألا يلاحظا جلوسى لأننى فى البداية تجاهلت و رفضت طلبهم المهذب..... ....انتبهت انهما يتبادلان الحديث غير مكترثين بما أفعل . بعد جلوسى تمددت على الأرض مستخدما شنطتى الصغيرة كوسادة و رافعا أرجلى على الحائط كما يفعلان.
بعد فترة من الوقت التفتا الئ و بدا معى حديثا ودودا، و قد قاما بسؤالى عن اسمى و سبب اعتقالى و لم يخبرانى بأنهم يعرفان أسرتى، برغم علمى لاحقا انهما يعرفان بعض أفراد الأسرة معرفة وثيقة و تربطهما علاقة صداقة و زمالة!!
تبادلنا الحديث المرح و النكات و هما غير مكترثين لظروف الأعتقال و مؤكدين لى ان النظام الذى قاما باعتقالنا الى زوال و قريبا. حديثهما الهادئ الملئ باليقين و الصمود بث فى نفسى كثير من الثقة و الثبات، كما تعلمت منهما التواضع و إحترام الآخرين.
الرجلان العظيمان كانا هما صلاح مازرى الشيوعى و المهندس العظيم و كيل وزراة التخطيط الذى قام بتخطيط معظم أحياء الخرطوم و أمدرمان. أحياء مثل العمارات، الصحافات و أركويت، الثورات بامدرمان، و الذى قام نظام نميرى بفصله من الخدمة لتأييده حركة 19 يوليو !!
و الشخص الآخر الشيوعى المناضل محمد صالح ابراهيم المراقب المالى للأدارة المركزية و نائب فى البرلمان عن دائرة حلفا الجديدة أيضا ابان الديمقراطية الثالثة.
توصلت خلال تلك الفترة اقصيرة التى قضيتها معهم مدى قصر نظر، مع الحقد السياسى للسلطات الديكتاتورية العسكرية التى تعمل على اقصاء الكفاءات المهنية التى صرفت الدولة عليهم كثيرا للنهوض بالوطن، فقط للاختلاف فى وجهات النظر السياسية بالرغم من أن ذلك حق طبيعى و مشروع !!!
3
بالرغم من الجانب السوداوى من هذه التجربة ذلك المرتبط بالاعتقال و سلب الحرية ، الا اننى أعترف بأنها كانت تجربة استثنائية و مفيدة و ساهمت فى عجم العود فى ذلك الوقت المبكر. لقد حُولت بعد يومين قضيتهما معهما فى حراسة الشرقى الى سجن كوبر و مكثت هنالك لفترة اعتقال تزيد عن العام .
هنالك أيضا فى السجن التقيت بمعلمين جدد ....الراحل سيد طه المحامى ...... المناضل الصلب الانسان و ابن سنار الراحل معاذ محمد عبالله اللذين استقينا منها كثيرا من المعرفة و القدرة على الصمود و كيفية الاستفادة بما هو متاح من الامكانيات.
الم أقل لكم فى بداية مقالى ان التجربة الأولى لكل الأشياء، تظل لاصقة بالذهن لا تبارحه ..... فعلا كنت محظوظا بلقاء امثال هؤلاء الرجال العظماء و أنا أخطو فى أول بدايات حياتى العملية و السياسية، لقد استفدت كثيرا من تلك التجارب رغم قسوتها....." سلكت " بعد ذلك !
عدنان زاهر
الثانى من دسمبر 2023
elsadati2008@gmail.com
/////////////////