هكذا يمضون سراعا متتابعين!! في تذكر البروفسر إبراهيم موسى حمدون
عالم عباس محمد نور
24 January, 2024
24 January, 2024
(إنا لله وإنا إليه راجعون)!
أن نفقد الأعزاء، من الأهل والصحاب والرفاق، فهذا قد ألفناه وصرنا نتعايش معه قدراً مقدوراً! نغالب أحزاننا ونلوذ إلى ما وسع مخزوننا من اليقين والإيمان وما قسم المولى لنا من الصبر، نلتمس العون على تحمل المحنة وتجاوزها، إلى حين الصدمة التالية. هذا دأبنا مع الموت، (صدئت آلاته فينا ولا زلنا نعافر)!
بعضٌ ممن يمضون، يتركون حسرة وألماً مُمِضّاً، لا تقتصر على دائرة الأسرة والأهل والأقربين، بل تتعداهم إلى آخرين، ربما كان يصلهم الفقيدُ بماله وبمودته أو بطيب حديثه وبطلاقة وجهه أو برأيه وحكمته أو يفتقدون زمالته ورفقته! ولكلٍ حزنه الخاص وخسارته التي يحس ويعرف!
وأمَّا نقصنا فيمن نفتقد من أهل العلم فذلك هو الفقد المبين!
هؤلاء يذهبون، وبذهابهم يندثر علم كثير، ويتركون فراغاً لا تملؤه الأموال ولا الأنفس ولا الثمرات! وفي هؤلاء، فإن أحق الناس بالعزاء هم تلاميذهم ورفاقهم من أهل المعرفة، فهم أحوج الناس إليهم، وبعض وعارفي فضلهم، على قلَّتِهم، ومجالس العلم وقاعات الدرس، ومنابر المناظرات، وخلوات البحث، وقد يأتي من بعد هؤلاء الأهلون والأقربون ومن تبعهم من أصحاب الفضل والمروءات!
البروفسير إبراهيم موسى حمدون، بجانب صلة القربى الوثيقة، وقد امتدت معرفتي به منذ الطفولة، كان يكبرني في السن قليلاً، فقد كان أصغر الأعمام في سياق النسب، من الأم أو الأب، وهذا مبحثٌ مُرْبِكٌ لمن لا يعرف الفاشر وتشابك الأنساب والعلائق فيها!
نشأنا في حي الوكالة بالفاشر، والحديث عن هذا الحي في ذاته شائق ومذهل وعجيب!
الدراسة ما بين خلوة الخال الشيخ التجاني عبد الماجد ومدرسته الصغرى، ثم بعدئذ المتوسطة في زالنجي، حيث تَعَلَّمَ لغة الفور إبان وجوده فيها. اضطرته ظروفه للعمل بعد دراسة المرحلة المتوسطة، فالتحق كاتباً بمحكمة الفاشر، وتعلم الطباعة على الآلة الكاتبة (كانت تلك مزية كبرى في ذاك الوقت)! ثم قرر أن يمتحن لدخول المدرسة الثانوية من منازلهم. وأذكر أنه دخل في تحدٍ مع جارنا عثمان الشريف البكاي الذي شكَّكَ في قدرته علي النجاح في الدخول للثانوي من منازلهم، وقد فعلها إبراهيم فنجح. وكان يعزي الفضل لعثمان الشريف باعتبار أن تحديه واستفزازه كان محفزاً كبيراً له علي النجاح. التحدي والمثابرة، هما بعضٌ من خصائص شخصيته!
أنقضت أْعوام الثانوية، وأيام داخلية النجومي، فقد كان إبراهيم من القليلين جداً من أبناء الفاشر الذين قبلوا بالداخليات، فقد كان أولاد الفاشر، (أولاد الخارجية، كما يسمونهم)، على قلتهم، يسكنون مع أهاليهم وتقلهم عربة المدرسة كل صباح من أمام منتزه الفاشر، شمال النقعة وأمام مجلس الفاشر البلدي، وتعيدهم حوالي الثانية والنصف ظهراً، مالم يكن هنالك نشاط مسائي، رياضي أو ثقافي، يتطلب بقاءهم، وعلى وجه خاص، سباق الضاحية الإجباري لكل الطلاب! فيتلقون الوجبات التي توفرها المدرسة بانتظام. كان إبراهيم من المميزين في سباق العدو، وأسهم في حصاد العديد من الكؤوس الرياضية التي حصل عليها داخلية النجومي، وبخاصة في مهرجان يوم الآباء الذي تنظمه المدرسة سنوياً. كانت مدرسة الفاشر الثانوية منارة ضخمة وعنصر تغيير وتحفيز إيجابي في مدينة الفاشر الحديث الشائق عنها يحلو ويطول!
في العام ١٩٦٧ التحق إبراهيم بجامعة الخرطوم، كلية الآداب، واستهوته دراسة التاريخ فبرز في هذا العلم وكان أحد طلاب البروفيسور برايان هيكوك، أستاذ التاريخ والآثار الشهير، الذي اغتيل في الخرطوم في سبعينات القرن الماضي! تفوق إبراهيم في هذا العلم واختير معيداً بالجامعة وتم ابتعاثه إلى سويسرا حيث حذق اللغة الفرنسية ونال معها درجة الماجستير في علم الآثار، ثم بعدئذ ابتعث إلى بريطانيا فأحرز الدكتوراه من جامعة كمبردج الشهيرة.
قليلون جداً من أبناء دارفور من نالوا درجات عليا في علم التاريخ وتخصصوا في الآثار. وحتى منتصف الثمانينات من القرن المنصرم. لا أعرف منهم سوي اثنين، هما إبراهيم موسى حمدون، دكتوراه من كامبردج، وابن خاله د. محمد أحمد بدين، دكتوراه في الآثار من ألمانيا. التحق د. بدين بالمتحف القومي، وكان يُدَرِّسُ اللغة الألمانية في الأمسيات بمعهد جوتة. كلاهما عصاميان، د. بدين ود. إبراهيم. وكلاهما خاضا قسوة الحياة والاعتماد علي النفس والهمة العالية في سنٍّ مبكرة، وكلاهما يدينان لوالدتيهما بصرامة التربية وغرس القيم العليا والاعتداد بالنفس، والاعتماد من بعد الله، عليها وعلي قدراتها والاسترشاد بالإرث العائلي الذي يعرف قيمة العلم، يتوارثونه ويُجِلُّونه ويحقونه حق قدره.
محمد أحمد بدين وقد نشأ يتيماً بعد وفاة والده. بعد المدرسة الوسطى دخل معهد التربية وصار معلِّماً في المدارس الأولية وتحمل مسئولية الأسرة. ولكن الطموح والرغبة العارمة في العلم، والتي ما زالت جذوته متقدة في نفس الفتى، في تلك الأعوام، سمحت وزارة التربية والتعليم لمُدَرِّسي المدارس الأولية الذين يحرزون الشهادة السودانية ويتم قبولهم بجامعة الخرطوم، أن يطبق عليهم شروط الأساتذة المبتعثين من الوزارة على أن يعودوا إلي العمل بعد التخرج وفق شروط الابتعاث المقررة. وكانت سانحة للكثير من الطامحين ذوي القدرات والهمم العالية ممن استفادوا من تلك الفرص من المدرسين. نذكر منهم بعض الرواد الأوائل، بروفسير آدم الزين، سليمان محمد الحسين، عبد الرحيم أبو بدرية، ومن بعدهم مولانا عبد الحميد أحمد أمين، محمد أحمد بدين ومختار محمد علي.
نعود إلى كل من د. بدين وبروفسر إبراهيم، عالما الآثار. د. بدين لم يسهل له العمل كما ينبغي في المتحف، رغم تأهيله العالي وتخصصه! في ذلك الوقت، وفي مؤسسات الخدمة المدنية التي غالباً ما يسيطر عليها مجموعات، أحياناً يشكلون ما يشبه ال" الجيتو"، وبالتالي فهم قليلو الترحاب بالقادمين الجدد الأكثر تأهيلاً. وأما إن كان هؤلاء من خارج المناطق التي ألفوا، فالوضع للقادمين الجدد أكثر حرجاً وأقسى وأصعب! وهكذا لم يستطع د. بدين تحمل المضايقات التي دفعته دفعاً، لا لترك متحف السودان القومي فحسب، بل هاجر من الوطن كله في ثمانينات القرن الماضي!
إبراهيم، وقد عمل مع بروفسر يوسف فضل في شعبة أبحاث السودان (معهد الدراسات الأفريقية والأسيوية الآن)، وعمل بالجامعة. لم يسلم من المضايقات، واضطرته الظروف والمكايد أن يهاجر هو أيضاً! وهكذا فقد السودان عالمين كبيرين كانا يمكنهما إضافة الكثير للتراث الآثاري في السودان وكانا سيسهمان، بلا شك، في اكتشاف آثار ضخمة في مناطق دارفور على وجه التحديد، وهما على دراية بها، وسبق أن أجريا فيها حفريات وبحوثاً، منذ أن كانا طلاب دراسات عليا يحضران للماجستير والدكتوراه!
إبراهيم اغترب في جامعات ليبيا، وأسهم فيها بشكل مشهود، وبعدئذ في جامعة صنعاء باليمن، وعاد إلى السودان في منتصف العقد الأول من هذا القرن، وعمل مديراً بأمانة مجلس الوزراء ثم عمل مع المهندس آدم عبد الرحمن في مفوضية الأراضي بالسلطة الانتقالية بدارفور، وأعدوا بحوثاً قيمة فيما يتعلق بالحدود والحواكير، تم نشرها ضمن مطبوعات المفوضية، وعمل أستاذاً وعميداً بجامعة النيلين، وأشرف على عدد كبير من رسائل الماجستير والدكتوراه، وأشرف وشارك في العديد من الرحلات الاستكشافية للتنقيب عن الآثار في مناطق السودان المختلفة، وكان ذا علاقة متميزة بالمؤرخ الأشهر عالم التاريخ السويسري الجنسية،(السوداني الهوى) شارل بونيه، ولكم استضافه في الجامعة ووطد صلته بجامعة النيلين مما يعد كسباً ورصيدا أكاديمياً للجامعة. كانت تربطه أيضاً علاقة متميزة مع المؤرخ النرويجي الكبير البروفسر ريكس أوفاهي، (عاشق دارفور) وصديق أهلها المقرب. وأذكر تماماً زياراته لمنزلنا والحديث والمؤانسة التي كانت تتم مع أعمامي، مرة باللغة الفرنسية، فلأعمامي إلمام بها، ومرة باللغة الإنجليزية وكان إبراهيم موسى يتولى الترجمة بينهم، إذا كان برفقتهم، وأحياناً أنا. كان بروفسر أوفاهي يكن مودة خاصة للأسرة أبرزها في العديد من أوراقه، كما من خلالهم اضطلع على الكثير من الوثائق، وتيسرت له مقابلة كثيرين استفاد من رواياتهم ومستنداتهم في كتاباته.
لم يقتصر نشاط البروفسر إبراهيم على الجامعات فقد شارك بجهده العلمي كخبير في التاريخ والآثار في مفوضية الحدود والتي عُيِّنَ الدكتور معاذ أحمد تنقو رئيساً لها، والذي له به صلة قربى فأسهم بشكل ملحوظ في لجان المفوضية مع نفر كريم من المتخصصين وأهل الدراية والخبرة في إعداد واستخراج وتحليل الوثائق والخرائط المتعلقة بحدود السودان مع أثيوبيا وتلك المتعلقة بمنطقة أبيي وغيرها من مناطق السودان الحدودية والتي تشكل بؤر نزاع وتوتر! وكان ينخرط في اجتماعات طويلة ومضنية بصبر وجلد، رغم اعتلال صحته مؤخراً.
تم تعيين البروفسر إبراهيم أواخر عام ٢٠٢١ مديراً للهيئة القومية للآثار والمتاحف، وشأن كل مؤسسات الدولة السودانية التي استشرى فيها التمكين، فقد واجه صراعاً عنيفاً وحرباً شعواء، تفضح المحسوبية والحسد، والغل في مؤسسات الدولة السودانية وتركة الإنقاذ المُثْقلة، تصدى لها بخبرته وعلمه ومثابرته، مما أوهن بدنه، ولكن لم تفتر عزيمته، حتى جاءت طامة الحرب الكبرى فعصفت بالوطن كله، فاضطر للنزوح هو وأسرته إلى القاهرة في مايو٢٠٢٣. وحتى وهو في القاهرة يعاني النزوح وتشتت أفراد الأسرة والأهل، ويغالب المرض، كل ذلك لم يقعده عن العمل والكتابة إذ أعَدَّ أكثر من ورقة وأكمل كتابه الأخير بعنوان (الفن الصخري: ابداعات فنية ودلالات حضارية في الصحراء الليبية والنيل وساحل دارفور)، والذي شرفني بمراجعته اللغوية والتحريرية. ودفع به إلى النشر في إحدى دور النشر المصرية.
بروفسر إبراهيم إضافة إلى العديد من الأبحاث والأوراق المنشورة في الدوريات والمجلات العلمية المحكمة في اللغات الثلاث، (العربية والإنجليزية والفرنسية)، فإن لديه العديد من الكتب التي تم نشرها، أو في المطابع قيد النشر، أو التي اكتملت، أو التي لم تكتمل بعد. منه، على سبيل المثال، كتاب عن الحواكير، وكتاب عن الحدود، أعده بالاشتراك مع الدكتور معاذ أحمد تنقو والكتابان نشرتهما مفوضية الأراضي بالسلطة الإقليمية لدارفور. وكتاباً عن (دور الآثار والوثائق في تخطيط (ترسيم) الحدود الدولية) وأعد البروفسر إبراهيم كتاباً ضخماً عن علم الآثار، هو في الواقع Text Bookيصلح لطلاب هذا العلم ولغير المتخصصين في علم الآثار ولقد قدم للكتاب بروفسر انتصار صغيرون، وزيرة التعليم العالي في حكومة ثورة ديسمبر المجيدة، ولقد تشرَّفْتُ بمراجعتها، لغةً وتحريراً، ولقد تم الاتفاق مع دار المصورات للنشر والتوزيع، وكان من المفترض أن قد نشرت، ولكن لا نعرف مصير الكتاب الآن مع هذه الحرب المشؤومة! ولقد شارَكْتُ مع البروفسر إبراهيم موسى والمرحوم بروفسر عبدالله حمدنا، وبعض من أفراد الأسرة في إعداد كتاب توثيقي مهم عن سيرة الشيخ إبراهيم ياجي، نأمل أن تعجل الأسرة في نشره لأهميته البالغة لهذا الجيل الناهض.
ومن ناحية أخرى فقد كان لنا مشروع مشترك للكتابة عن الفاشر من منظور يجمع بين التاريخ والسيرة والحياة الاجتماعية، يضاف إلى الجهود التوثيقية المهمة التي يقوم بها الأجلاء حامد علي نور وقاسم عبدالله الفكي وجبريل عبدالله ومحمد جبريل وغيرهم ممن اهتموا بالكتابة والتوثيق لهذه المدينة.
بروفسر إبراهيم خسارة كبيرة لهذا الوطن، ولأهل دارفور والفاشر بخاصة، فعلى غزارة علمه فهو يتصف بالتواضع الجم والصبر والمثابرة، يجيد الإصغاء ويستمع بصمت وأدب، يعرف الأنساب، (هذا العلم الذي يكاد يندثر)، وعلاقات العائلات في دارفور، وهي صفات موروثة من والدته تمر البقيع بنت بدين، والعديدين من أجداد وجدّات(حبوبات) العائلة، ويحتفظ بوثائق قيمة اطّلع عليها أثناء تجواله في دارفور والاستفادة من معرفة الأسرة بأعيانها وأسلوبه في التقرب إليهم مما أكسبه ثقتهم فأفضوا إليه بعلم كثير وأطلعوه على وثائقهم ومقتنياتهم الثمينة وبعض من إرث آبائهم كما استفاد من مراكز البحوث العالمية، إبان دراساته العليا ومن بعدها.
الحديث عن عطاء البروفسر إبراهيم يطول، وفقده فاجع أليم، وبخاصة في ظل هذه الفتنة النكباء، كنا نتطلع إلى أمثالهم من أهل النهى والعلم والرأي أن يبتدروا لنا، مما يحفظون من إرث، وما تعلموه من حكمة أن يهدونا إلى ما يمكن أن نتجاوز به هذه المحنة، بما عرفوا من خبرة الأجداد، ومن رزانتهم وتعاليهم عن الصغائر، والتركيز فيما ينفع الناس ويخلصهم من الغل وإراقة الدماء. ولكن قضاء الله سبق، وشاءت إرادته تعالى أن يمضوا عنا ويتركوا في النفوس أسفاً وحسرة!
اللهم تقبله عندك القبول الحسن، فقد كان عفيفاً صادقاً ذا همة ومثابرة. وَصُولاً للأرحام بارّاً بهم، ومخلصاً لعلمه منقطعاً له، محباً لأهله غيوراً عليهم، بذل ما استطاع في رفع شأنهم وإبداء مآثرهم وأمجادهم.
الَّلهُمَّ أكرم نزله وأنزل عليه شآبيب رحمتك. اللّهُمَّ ألْهِمْ أسرته الصغيرة، زوجه وابنيه وبناته الصبر الجميل، وأبناء أخيه وأبناء أخته، آل بدين، وآل محمد النور عالم وآل أحمد تنقو، وآل الإمام عبد الماجد وآل ياجي، وجميع أهل الفاشر، وتلاميذه العديدين في أرجاء المعمورة، وأصدقاءه، وزملاءه في الجامعات والمؤسسات العلمية، ومفوضية الحدود ومعارفه وأهل وده أينما كانوا. اللَّهُمَّ لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده، (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)
عالم عباس
جدة، ٢٤ يناير٢٠٢٤
alim.nor@gmail.com
أن نفقد الأعزاء، من الأهل والصحاب والرفاق، فهذا قد ألفناه وصرنا نتعايش معه قدراً مقدوراً! نغالب أحزاننا ونلوذ إلى ما وسع مخزوننا من اليقين والإيمان وما قسم المولى لنا من الصبر، نلتمس العون على تحمل المحنة وتجاوزها، إلى حين الصدمة التالية. هذا دأبنا مع الموت، (صدئت آلاته فينا ولا زلنا نعافر)!
بعضٌ ممن يمضون، يتركون حسرة وألماً مُمِضّاً، لا تقتصر على دائرة الأسرة والأهل والأقربين، بل تتعداهم إلى آخرين، ربما كان يصلهم الفقيدُ بماله وبمودته أو بطيب حديثه وبطلاقة وجهه أو برأيه وحكمته أو يفتقدون زمالته ورفقته! ولكلٍ حزنه الخاص وخسارته التي يحس ويعرف!
وأمَّا نقصنا فيمن نفتقد من أهل العلم فذلك هو الفقد المبين!
هؤلاء يذهبون، وبذهابهم يندثر علم كثير، ويتركون فراغاً لا تملؤه الأموال ولا الأنفس ولا الثمرات! وفي هؤلاء، فإن أحق الناس بالعزاء هم تلاميذهم ورفاقهم من أهل المعرفة، فهم أحوج الناس إليهم، وبعض وعارفي فضلهم، على قلَّتِهم، ومجالس العلم وقاعات الدرس، ومنابر المناظرات، وخلوات البحث، وقد يأتي من بعد هؤلاء الأهلون والأقربون ومن تبعهم من أصحاب الفضل والمروءات!
البروفسير إبراهيم موسى حمدون، بجانب صلة القربى الوثيقة، وقد امتدت معرفتي به منذ الطفولة، كان يكبرني في السن قليلاً، فقد كان أصغر الأعمام في سياق النسب، من الأم أو الأب، وهذا مبحثٌ مُرْبِكٌ لمن لا يعرف الفاشر وتشابك الأنساب والعلائق فيها!
نشأنا في حي الوكالة بالفاشر، والحديث عن هذا الحي في ذاته شائق ومذهل وعجيب!
الدراسة ما بين خلوة الخال الشيخ التجاني عبد الماجد ومدرسته الصغرى، ثم بعدئذ المتوسطة في زالنجي، حيث تَعَلَّمَ لغة الفور إبان وجوده فيها. اضطرته ظروفه للعمل بعد دراسة المرحلة المتوسطة، فالتحق كاتباً بمحكمة الفاشر، وتعلم الطباعة على الآلة الكاتبة (كانت تلك مزية كبرى في ذاك الوقت)! ثم قرر أن يمتحن لدخول المدرسة الثانوية من منازلهم. وأذكر أنه دخل في تحدٍ مع جارنا عثمان الشريف البكاي الذي شكَّكَ في قدرته علي النجاح في الدخول للثانوي من منازلهم، وقد فعلها إبراهيم فنجح. وكان يعزي الفضل لعثمان الشريف باعتبار أن تحديه واستفزازه كان محفزاً كبيراً له علي النجاح. التحدي والمثابرة، هما بعضٌ من خصائص شخصيته!
أنقضت أْعوام الثانوية، وأيام داخلية النجومي، فقد كان إبراهيم من القليلين جداً من أبناء الفاشر الذين قبلوا بالداخليات، فقد كان أولاد الفاشر، (أولاد الخارجية، كما يسمونهم)، على قلتهم، يسكنون مع أهاليهم وتقلهم عربة المدرسة كل صباح من أمام منتزه الفاشر، شمال النقعة وأمام مجلس الفاشر البلدي، وتعيدهم حوالي الثانية والنصف ظهراً، مالم يكن هنالك نشاط مسائي، رياضي أو ثقافي، يتطلب بقاءهم، وعلى وجه خاص، سباق الضاحية الإجباري لكل الطلاب! فيتلقون الوجبات التي توفرها المدرسة بانتظام. كان إبراهيم من المميزين في سباق العدو، وأسهم في حصاد العديد من الكؤوس الرياضية التي حصل عليها داخلية النجومي، وبخاصة في مهرجان يوم الآباء الذي تنظمه المدرسة سنوياً. كانت مدرسة الفاشر الثانوية منارة ضخمة وعنصر تغيير وتحفيز إيجابي في مدينة الفاشر الحديث الشائق عنها يحلو ويطول!
في العام ١٩٦٧ التحق إبراهيم بجامعة الخرطوم، كلية الآداب، واستهوته دراسة التاريخ فبرز في هذا العلم وكان أحد طلاب البروفيسور برايان هيكوك، أستاذ التاريخ والآثار الشهير، الذي اغتيل في الخرطوم في سبعينات القرن الماضي! تفوق إبراهيم في هذا العلم واختير معيداً بالجامعة وتم ابتعاثه إلى سويسرا حيث حذق اللغة الفرنسية ونال معها درجة الماجستير في علم الآثار، ثم بعدئذ ابتعث إلى بريطانيا فأحرز الدكتوراه من جامعة كمبردج الشهيرة.
قليلون جداً من أبناء دارفور من نالوا درجات عليا في علم التاريخ وتخصصوا في الآثار. وحتى منتصف الثمانينات من القرن المنصرم. لا أعرف منهم سوي اثنين، هما إبراهيم موسى حمدون، دكتوراه من كامبردج، وابن خاله د. محمد أحمد بدين، دكتوراه في الآثار من ألمانيا. التحق د. بدين بالمتحف القومي، وكان يُدَرِّسُ اللغة الألمانية في الأمسيات بمعهد جوتة. كلاهما عصاميان، د. بدين ود. إبراهيم. وكلاهما خاضا قسوة الحياة والاعتماد علي النفس والهمة العالية في سنٍّ مبكرة، وكلاهما يدينان لوالدتيهما بصرامة التربية وغرس القيم العليا والاعتداد بالنفس، والاعتماد من بعد الله، عليها وعلي قدراتها والاسترشاد بالإرث العائلي الذي يعرف قيمة العلم، يتوارثونه ويُجِلُّونه ويحقونه حق قدره.
محمد أحمد بدين وقد نشأ يتيماً بعد وفاة والده. بعد المدرسة الوسطى دخل معهد التربية وصار معلِّماً في المدارس الأولية وتحمل مسئولية الأسرة. ولكن الطموح والرغبة العارمة في العلم، والتي ما زالت جذوته متقدة في نفس الفتى، في تلك الأعوام، سمحت وزارة التربية والتعليم لمُدَرِّسي المدارس الأولية الذين يحرزون الشهادة السودانية ويتم قبولهم بجامعة الخرطوم، أن يطبق عليهم شروط الأساتذة المبتعثين من الوزارة على أن يعودوا إلي العمل بعد التخرج وفق شروط الابتعاث المقررة. وكانت سانحة للكثير من الطامحين ذوي القدرات والهمم العالية ممن استفادوا من تلك الفرص من المدرسين. نذكر منهم بعض الرواد الأوائل، بروفسير آدم الزين، سليمان محمد الحسين، عبد الرحيم أبو بدرية، ومن بعدهم مولانا عبد الحميد أحمد أمين، محمد أحمد بدين ومختار محمد علي.
نعود إلى كل من د. بدين وبروفسر إبراهيم، عالما الآثار. د. بدين لم يسهل له العمل كما ينبغي في المتحف، رغم تأهيله العالي وتخصصه! في ذلك الوقت، وفي مؤسسات الخدمة المدنية التي غالباً ما يسيطر عليها مجموعات، أحياناً يشكلون ما يشبه ال" الجيتو"، وبالتالي فهم قليلو الترحاب بالقادمين الجدد الأكثر تأهيلاً. وأما إن كان هؤلاء من خارج المناطق التي ألفوا، فالوضع للقادمين الجدد أكثر حرجاً وأقسى وأصعب! وهكذا لم يستطع د. بدين تحمل المضايقات التي دفعته دفعاً، لا لترك متحف السودان القومي فحسب، بل هاجر من الوطن كله في ثمانينات القرن الماضي!
إبراهيم، وقد عمل مع بروفسر يوسف فضل في شعبة أبحاث السودان (معهد الدراسات الأفريقية والأسيوية الآن)، وعمل بالجامعة. لم يسلم من المضايقات، واضطرته الظروف والمكايد أن يهاجر هو أيضاً! وهكذا فقد السودان عالمين كبيرين كانا يمكنهما إضافة الكثير للتراث الآثاري في السودان وكانا سيسهمان، بلا شك، في اكتشاف آثار ضخمة في مناطق دارفور على وجه التحديد، وهما على دراية بها، وسبق أن أجريا فيها حفريات وبحوثاً، منذ أن كانا طلاب دراسات عليا يحضران للماجستير والدكتوراه!
إبراهيم اغترب في جامعات ليبيا، وأسهم فيها بشكل مشهود، وبعدئذ في جامعة صنعاء باليمن، وعاد إلى السودان في منتصف العقد الأول من هذا القرن، وعمل مديراً بأمانة مجلس الوزراء ثم عمل مع المهندس آدم عبد الرحمن في مفوضية الأراضي بالسلطة الانتقالية بدارفور، وأعدوا بحوثاً قيمة فيما يتعلق بالحدود والحواكير، تم نشرها ضمن مطبوعات المفوضية، وعمل أستاذاً وعميداً بجامعة النيلين، وأشرف على عدد كبير من رسائل الماجستير والدكتوراه، وأشرف وشارك في العديد من الرحلات الاستكشافية للتنقيب عن الآثار في مناطق السودان المختلفة، وكان ذا علاقة متميزة بالمؤرخ الأشهر عالم التاريخ السويسري الجنسية،(السوداني الهوى) شارل بونيه، ولكم استضافه في الجامعة ووطد صلته بجامعة النيلين مما يعد كسباً ورصيدا أكاديمياً للجامعة. كانت تربطه أيضاً علاقة متميزة مع المؤرخ النرويجي الكبير البروفسر ريكس أوفاهي، (عاشق دارفور) وصديق أهلها المقرب. وأذكر تماماً زياراته لمنزلنا والحديث والمؤانسة التي كانت تتم مع أعمامي، مرة باللغة الفرنسية، فلأعمامي إلمام بها، ومرة باللغة الإنجليزية وكان إبراهيم موسى يتولى الترجمة بينهم، إذا كان برفقتهم، وأحياناً أنا. كان بروفسر أوفاهي يكن مودة خاصة للأسرة أبرزها في العديد من أوراقه، كما من خلالهم اضطلع على الكثير من الوثائق، وتيسرت له مقابلة كثيرين استفاد من رواياتهم ومستنداتهم في كتاباته.
لم يقتصر نشاط البروفسر إبراهيم على الجامعات فقد شارك بجهده العلمي كخبير في التاريخ والآثار في مفوضية الحدود والتي عُيِّنَ الدكتور معاذ أحمد تنقو رئيساً لها، والذي له به صلة قربى فأسهم بشكل ملحوظ في لجان المفوضية مع نفر كريم من المتخصصين وأهل الدراية والخبرة في إعداد واستخراج وتحليل الوثائق والخرائط المتعلقة بحدود السودان مع أثيوبيا وتلك المتعلقة بمنطقة أبيي وغيرها من مناطق السودان الحدودية والتي تشكل بؤر نزاع وتوتر! وكان ينخرط في اجتماعات طويلة ومضنية بصبر وجلد، رغم اعتلال صحته مؤخراً.
تم تعيين البروفسر إبراهيم أواخر عام ٢٠٢١ مديراً للهيئة القومية للآثار والمتاحف، وشأن كل مؤسسات الدولة السودانية التي استشرى فيها التمكين، فقد واجه صراعاً عنيفاً وحرباً شعواء، تفضح المحسوبية والحسد، والغل في مؤسسات الدولة السودانية وتركة الإنقاذ المُثْقلة، تصدى لها بخبرته وعلمه ومثابرته، مما أوهن بدنه، ولكن لم تفتر عزيمته، حتى جاءت طامة الحرب الكبرى فعصفت بالوطن كله، فاضطر للنزوح هو وأسرته إلى القاهرة في مايو٢٠٢٣. وحتى وهو في القاهرة يعاني النزوح وتشتت أفراد الأسرة والأهل، ويغالب المرض، كل ذلك لم يقعده عن العمل والكتابة إذ أعَدَّ أكثر من ورقة وأكمل كتابه الأخير بعنوان (الفن الصخري: ابداعات فنية ودلالات حضارية في الصحراء الليبية والنيل وساحل دارفور)، والذي شرفني بمراجعته اللغوية والتحريرية. ودفع به إلى النشر في إحدى دور النشر المصرية.
بروفسر إبراهيم إضافة إلى العديد من الأبحاث والأوراق المنشورة في الدوريات والمجلات العلمية المحكمة في اللغات الثلاث، (العربية والإنجليزية والفرنسية)، فإن لديه العديد من الكتب التي تم نشرها، أو في المطابع قيد النشر، أو التي اكتملت، أو التي لم تكتمل بعد. منه، على سبيل المثال، كتاب عن الحواكير، وكتاب عن الحدود، أعده بالاشتراك مع الدكتور معاذ أحمد تنقو والكتابان نشرتهما مفوضية الأراضي بالسلطة الإقليمية لدارفور. وكتاباً عن (دور الآثار والوثائق في تخطيط (ترسيم) الحدود الدولية) وأعد البروفسر إبراهيم كتاباً ضخماً عن علم الآثار، هو في الواقع Text Bookيصلح لطلاب هذا العلم ولغير المتخصصين في علم الآثار ولقد قدم للكتاب بروفسر انتصار صغيرون، وزيرة التعليم العالي في حكومة ثورة ديسمبر المجيدة، ولقد تشرَّفْتُ بمراجعتها، لغةً وتحريراً، ولقد تم الاتفاق مع دار المصورات للنشر والتوزيع، وكان من المفترض أن قد نشرت، ولكن لا نعرف مصير الكتاب الآن مع هذه الحرب المشؤومة! ولقد شارَكْتُ مع البروفسر إبراهيم موسى والمرحوم بروفسر عبدالله حمدنا، وبعض من أفراد الأسرة في إعداد كتاب توثيقي مهم عن سيرة الشيخ إبراهيم ياجي، نأمل أن تعجل الأسرة في نشره لأهميته البالغة لهذا الجيل الناهض.
ومن ناحية أخرى فقد كان لنا مشروع مشترك للكتابة عن الفاشر من منظور يجمع بين التاريخ والسيرة والحياة الاجتماعية، يضاف إلى الجهود التوثيقية المهمة التي يقوم بها الأجلاء حامد علي نور وقاسم عبدالله الفكي وجبريل عبدالله ومحمد جبريل وغيرهم ممن اهتموا بالكتابة والتوثيق لهذه المدينة.
بروفسر إبراهيم خسارة كبيرة لهذا الوطن، ولأهل دارفور والفاشر بخاصة، فعلى غزارة علمه فهو يتصف بالتواضع الجم والصبر والمثابرة، يجيد الإصغاء ويستمع بصمت وأدب، يعرف الأنساب، (هذا العلم الذي يكاد يندثر)، وعلاقات العائلات في دارفور، وهي صفات موروثة من والدته تمر البقيع بنت بدين، والعديدين من أجداد وجدّات(حبوبات) العائلة، ويحتفظ بوثائق قيمة اطّلع عليها أثناء تجواله في دارفور والاستفادة من معرفة الأسرة بأعيانها وأسلوبه في التقرب إليهم مما أكسبه ثقتهم فأفضوا إليه بعلم كثير وأطلعوه على وثائقهم ومقتنياتهم الثمينة وبعض من إرث آبائهم كما استفاد من مراكز البحوث العالمية، إبان دراساته العليا ومن بعدها.
الحديث عن عطاء البروفسر إبراهيم يطول، وفقده فاجع أليم، وبخاصة في ظل هذه الفتنة النكباء، كنا نتطلع إلى أمثالهم من أهل النهى والعلم والرأي أن يبتدروا لنا، مما يحفظون من إرث، وما تعلموه من حكمة أن يهدونا إلى ما يمكن أن نتجاوز به هذه المحنة، بما عرفوا من خبرة الأجداد، ومن رزانتهم وتعاليهم عن الصغائر، والتركيز فيما ينفع الناس ويخلصهم من الغل وإراقة الدماء. ولكن قضاء الله سبق، وشاءت إرادته تعالى أن يمضوا عنا ويتركوا في النفوس أسفاً وحسرة!
اللهم تقبله عندك القبول الحسن، فقد كان عفيفاً صادقاً ذا همة ومثابرة. وَصُولاً للأرحام بارّاً بهم، ومخلصاً لعلمه منقطعاً له، محباً لأهله غيوراً عليهم، بذل ما استطاع في رفع شأنهم وإبداء مآثرهم وأمجادهم.
الَّلهُمَّ أكرم نزله وأنزل عليه شآبيب رحمتك. اللّهُمَّ ألْهِمْ أسرته الصغيرة، زوجه وابنيه وبناته الصبر الجميل، وأبناء أخيه وأبناء أخته، آل بدين، وآل محمد النور عالم وآل أحمد تنقو، وآل الإمام عبد الماجد وآل ياجي، وجميع أهل الفاشر، وتلاميذه العديدين في أرجاء المعمورة، وأصدقاءه، وزملاءه في الجامعات والمؤسسات العلمية، ومفوضية الحدود ومعارفه وأهل وده أينما كانوا. اللَّهُمَّ لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده، (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)
عالم عباس
جدة، ٢٤ يناير٢٠٢٤
alim.nor@gmail.com