ظاهرة شيخ الأمين، لماذا يستهدفونه وماذا يريدون منه؟
البروفيسور محمد جلال هاشم
29 February, 2024
29 February, 2024
محمد جلال أحمد هاشم
جوبا - 28 فبراير 2024م
الهجوم على شيخ الأمين عمر لم يبدأ مع هذه الحرب، فقد لازمه منذ زمن ليس بالقصير. فما من فيديو للرجل يخرج لفضاء الأسافير حتى تضجُّ به، ذما وشتما، ذلك ريثما تبدأ الأصوات المدافعة عنه تعلو قليلا، قليلا.
***
في هذه العجالة نريد أن نحلل هذه الظاهرة التي جذبت انتباه الناس. ولن نقف ولو للحظة حول الغبار الكثيف الذي يشاع حولله فيما يتعلق بموقفه من مليشيات الجنجويد التي عاثت فسادا في حي أبروف، بينما استبْقت شيخ الأمين ومسيده.
***
في هذه السانحة نحاول أن نستكشف ونكشف القناع، قناع الحداثوية، وما إذا كانت أصيلة أم زائفة، عن ظاهرة هؤلاء الذين يهاجمون شيخ الأمين. ففي الحق، ليس شيخ الأمين وحده يشكل ظاهرة، بل التيار المتنامي الذي يهاجمه هو في حد ذاته ظاهرة. وفي رأيي أنه ما من ظاهرة إلا وكانت لها عوامل الوعي الأدائية الواضحة سلوكيا، بمثلما لها عوامل وعيها البنيوية غير الواضحة للعيان. وبعد، لماذا يهاجمون شيخ الأمين؟
***
بصرف النظر عن نوع الطريقة التي يتّبعها، يبقى القول بأن شيخ الأمين عمر هو رجل صوفي وله طريقته وأتباعه ومريدوه، وغالبيتهم من الشباب رجالا كانوا أو نساءً. وتتميز طريقته، فوق ما تتميز به الصوفية والإسلام الشعبي من تسامح وعدم تشدد، باتباع مناهج أدائية تجعل من طقوس الصوفية المعروفة من نوبة ومديح ... إلخ أشبه بالحفلات الشبابية المختلطة. وللشباب والعامة في ذلك طرائقهم في وصف ما عليه شيخ الأمين وحواريوه، أكانوا شبابا أم شيوخا، ذكورا أم إناثا، جنّا كانوا أم إنسا. فعاى ما في أغلبها من استهجان واستنكار لطريقة شيخ الأمين في أدائياته، لكن أيضاً منها ما هو طريف، ومنها كذلك ما هو بغيض ومؤذي.
***
هنا سوف نترخص في حذرنا ونذكر واحدة منها لما لها من دلالة، وهي: "محايتو بيبسي وبخرتو جلكسي وحيرانو جكسي"! وهذا الاقتباس نقلا من صفحة بالفيسبوك تحمل اسم "دجل شيخ الأمين" على الرابط أدناه:
https://www.facebook.com/profile.php?id=100042874857171&sfnsn=mo&mibextid=RUbZ1f
***
الآن دعونا نحلل هذا التعبير من حيث هو قد أصبح خطابا، لا من حيث دلالات الألفاظ القانونية فحسب. وما سنحاول فعله هنا هو استكشاف بنية السلطة الأيديولوجية الإسلاموعروبية المتخفية كخطاب وراء الهجوم على أدائيات شيخ الأمين الطقسية الصوفية، لنحاول أن نرى إذا كانت موجودة أم لا.
***
البيبسي هو المشروب الغازي المعروف، ويقصد به نعومة الحياة ورفاهيتها، بجانب حداثوية مُدّعاة تكمن في تجافي المشروبات البلدية من قبيل عصائر الكركدي والعرديب ... إلخ؛ وجلكسي هو عطر وكان ينبغي أن يكتب "قلكسي" لكنها عادة السودانيين في الوقوع تحت التأثير المصري، فيكتبون القاف المخففة بالجسم القاهرية. والكلمة لها دلالتها المجازية فيما يتعلق بحداثوية مزعومة من حيث التعطر بالتطور ذات الماركات؛ أما الجكسي، فهي تعريب لكلمة إنكليزية ذات دلالة مجازية للفتيات الحسناوات، وهذا مما يُعبّر عنه لدى الشباب بكلمة "الخلط"، وهي صفة ذات دلالة مُدّعاة في الحداثوية أيضاً. وقد وُلدت بذرة هذه الكلمة في الجامعات، وتشير إلى السلوك الحداثوي المتعلق بتعلم طلبة وطالبات الجامعة (وغالبيتهم من القادمين من المجتمعات التي تفصل بين الجنسين) فنون مخالطة بعضهم بعضا، ذكورا وإناثا، بطريقة لك يكن يألفوها في المجتمعات التي صدروا منها. وعبر هذا "الخلط" يتعرف الشباب من الجنسين على بعضهم بعضا، ومن ثم قد يرتبط كل إثنين منهم برباط العاطفى على أمل إكمال ذلك بالزواج. في هذا مجتمعنا هذا ذي الهيمنة الذكورية، يُنظر إلى من كان كثير "الخلط" بعين الإعجاب، وربما الحسد، وقد يشتط الأمر، فيُتّهم في سلوكه. هذا بينما تجر كثرة "الخلط" للبنت سمعة سالبة ليست مما تقبله عن نفسها.
ومأثورٌ عن كثرة "الخلط" أنها مما ترقّق حاشية المرء، وتُرخي من عصبية أواصر القلب والفؤاد، وتهذّب الكلام والمنطق، وتحرر الشباب من حوشيِّ الكلام، غليظه وبذيئه، وتُهيِّؤهم لاستقبال ما يُظنُّ بأنها موجات التحضر والتحرر، ومن ثم مفارقة أساليب الحياة التقليدية، ملبسا، ومأكلا، وتحدثا. وجميع هذا مما يقع تحت طائلة الاستعداد النفسي للتحرر من غِلظة مناهج التربية التقليدية من انتهار وتعنيف لفظي وجسدي، ضربا بالعصى وجلدا بالسوط. ومن ثم فتح أشرعة العقل والفؤاد لرياح الحداثة والتغيير
***
إذن ما يميز شيخ الأمين هو أنه حداثوي لدرجة أن "محايته" ليست ذلك الخليط من المواد التقليدية، بل هي من البيبسي، لا انكفاءً عليه كمشروب فحسب، بل كخطاب تمدني، تحضري وتحرري. والبخور عند شيخ الأمين ليس ذلك المكون من بخور التيمان، أو "المستكة" .. إلخ مما نعرفه في فولكلورنا، بل هو العطر الماركة المعروف باسم "قلكسي" Galaxy، لا من حيث هو عطر راقي والسلام، بل من حيث هو خطاب تمدني، تحضري وتحرري، دع عنك كلفته المادية. أما الحواريون (الحيران) عند شيخ الأمين، فهذا أمرٌ جَدُّ مختلف! فالحيران عند شيخ الأمين بنات! كذا! ليس من حيث "المغرزة" في تشبيه الذكور منهم بالبنات فخسب، وليس من حيث كثرة "الخلط" والاعتماد عليه داخل باحة الصوفية بوصفها دينا فحسب، بل أيضاً من حيث هي خطاب تمدّني، تحضّري وتحرّري. وهنا على من يا ترى ينصبُّ جامُ اللعنات والاستهجان والاستنكار؟ بالطبع على الشخص *البرنجي"! ألا وهو شيخ الأمين الذي لا يخلو من روح شبابية، ومن وسامة رجولية، وطول فارع، وبسطة في الجسم، وطلاوة في اللسان، وحلاوة في الكلام، كما لا يخلو من الحس الفكاهي، والطرب والتطريب، رقصا وغناءً وإنشادا. كل هذا في سَمْت إيماني صوفي اختص هو به دون المتشيّخين على يد طيب الذكر ود العجوزة.
***
ترى أين هي الأيديولوجيا الإسلاموعروبية هنا؟ ها هي! تقف واضحة كما تقف الشمسُ رأد الضحى، فيصطلي الناسُ بحرّها دون أن يرفعوا أعينهم ليروها! وعليه، هذا ليس بخطاب، وإن تظاهر بأنه كذلك! هذه هي الأيديولوجيا الإسلاموعروبية في أكثر حالتها مراوغةً ومخاتلةً. كيف؟
***
إنهم لا يريدون شيخ الأمين كصوفي على هيئته الأدائية الحداثوية السلمية هذه لأنهم في حقيقتهم وفي دخيلة واعيتهم الأيديولوجية الإسلاموعروبية يريدون الصوفي المتزمت، بالضبط مثل المكاشفي طه الكباشي! وهم لا يريدون شيخ الأمين كرجل دين على هيئته الأدائية الحداثوية السلمية هذه لأنهم يريدون رجل الدين السلفي، الدموي، بالضبط مثل عبد الحي يوسف! إنهم يا سادتي في حقيقتهم يريدون الكيزان، وأكثر ما يخشونه (حتى لو لم يكونوا واعين بذلك) هو أفول شمس الفلول، وغياب شمس دولة الشريعة، شريعة الجلد والقطع والصلب من أمامٍ ومن خلاف، من قبيل ما رأينا على عهد النميري والترابي وعمر البشير.
***
هذا ما يريدونه في حقيقة أمرهم: ترسيخ أقدام الأيديولوجيا الإسلاموعروبية التي أورثتنا ما نحن فيه من خسارٍ وبوار، وحربٍ ودمار، لكنهم يغلفونها بورق مهترئ ثم يريدوننا أن نشتري بضاعتهم الكاسدة هذه على أنها خطاب، بينما هي ليست كذلك. إنها الأيديولوجيا الإسلاموعروبية في أخطر أشكالها مراوغةً ومخاتلةً.
***
وحتى لا يظُنّن أحدٌ بي شتى الأظانين، فإني لستُ بصوفيٍّ ولا بسُنّيٍّ، ولا بشيعيٍّ، وما كنت تابعا لأحدٍ قط ولن أكون، ولكني اقتدي وأحتذي متوسما الخير، محتفظا باستقلاليتي كاملة غير منقوصة. وعليه، فهذه ليست بمرافعة عن شيخ الأمين، وما كان يعنيني من أمره شيء مهما ملأ الدنيا وشغل الناس. لا من باب تجاهله، بل من باب عميق إيماني بالحرية وبحق أي شخص في أن يتعبد بالطريقة التي يجد نفسه فيها. وعندي، كما قلت في كتابي *الإسلام الثقافي: فقه ما بعد الحداثة" (قيد الطبع): "إن القمة العلياء التي يطمح أي دين أن يبلغها من حيث النجاح في هذه الدنيا هي أن يصبح ثقافة تنهض بالمجتمع في عمومه سلوكيا وجماليا من حيث مكارم الأخلاق. هنا تتجلى عظمة جماعية ومجتمعية الدين. أما التعبدية في أي دين، فهي حالة فردية، غير مجتمعية، ولهذا نأتي اللهَ يوم القيامة فرادى، فلا والد ولا والدة ولا صاحبة ولا بنين ولا بنات. وأسوأ المذاهب هي تلك التي تريد أن تجعل التعبدية حالة مجتمعية، وليست فردية. عندها، سوف يفقد المجتمع الدين كثقافة بمثلما سيفقده كعبادة، فيتفشى النفاق والرياء في لبوس الدين، فيُخمون في عاقبة أمرهم.
***
إنّ رجُل/رجُلة الدين الحق، هم ذلكم الذي/التي يولون أنفسهم بالرعاية ويأخذونها بالشدة طلبا للهداية، وأملا في أن يذكيهم المولى، فيصبحوا في أخراهم من أهل النعيم. أما رجُل/رجُلة الدنيا المتوشحون بمسوح الدين نفاقا أوضلالا، فهم ذلكم الذي/التي لا يولون أنفسهم بالرعاية ولا يأخذونها بالشدة طلبا للهداية، أو أملا في أن يذكيهم المولى، بل جُلّ همّهم هو مراقبة ما عليه دين الآخرين وأخذ الناس بالشدة في دنياهم باسم الدين نفاقا أو ضلالا، دون أي ضمانة من هؤلاء المتشددين باسم الدين بأنهم في أخراهم سيكونون من أهل النعيم. فتصوروا! فصاحب الدين الحق يترك الخلق لخالقهم، فيأخذ نفسه بالشدة عسى أن يتقبُله الله؛ أما صاحب الدين غير الحقيقي، فتراه يترك أمر نفسه ودينه ليشتغل بأمر الناس ودينها.
***
عودٌ على بدء؛
ما لكم وشيخ الأمين؟ هل أنتم مُساءلون عنه وعما يفعله؟ أيّهم أشدّ ضررا بنا وبالسودان: الصوفي شيخ الأمين الذي يهتم لأمر نفسه وحيرانه، أم الصوفيون المهلاوي والمكاشفي طه الكباشي ومن لفّ لفّهم الذين حكموا بإعدام شهيد الفكر والإنسانية محمود محمد طه؟ أيهم أشد ضررا بنا وبالسودان: الصوفي شيخ الأمين أم السلفي عبد الحي يوسف الذي أفتى بقتل وإبادة ربع أو ثلث الشعب كيما يستقيم الحكم ويستمر لعمر البشير؟
*MJH*
جوبا - 28 فبراير 2024م
جوبا - 28 فبراير 2024م
الهجوم على شيخ الأمين عمر لم يبدأ مع هذه الحرب، فقد لازمه منذ زمن ليس بالقصير. فما من فيديو للرجل يخرج لفضاء الأسافير حتى تضجُّ به، ذما وشتما، ذلك ريثما تبدأ الأصوات المدافعة عنه تعلو قليلا، قليلا.
***
في هذه العجالة نريد أن نحلل هذه الظاهرة التي جذبت انتباه الناس. ولن نقف ولو للحظة حول الغبار الكثيف الذي يشاع حولله فيما يتعلق بموقفه من مليشيات الجنجويد التي عاثت فسادا في حي أبروف، بينما استبْقت شيخ الأمين ومسيده.
***
في هذه السانحة نحاول أن نستكشف ونكشف القناع، قناع الحداثوية، وما إذا كانت أصيلة أم زائفة، عن ظاهرة هؤلاء الذين يهاجمون شيخ الأمين. ففي الحق، ليس شيخ الأمين وحده يشكل ظاهرة، بل التيار المتنامي الذي يهاجمه هو في حد ذاته ظاهرة. وفي رأيي أنه ما من ظاهرة إلا وكانت لها عوامل الوعي الأدائية الواضحة سلوكيا، بمثلما لها عوامل وعيها البنيوية غير الواضحة للعيان. وبعد، لماذا يهاجمون شيخ الأمين؟
***
بصرف النظر عن نوع الطريقة التي يتّبعها، يبقى القول بأن شيخ الأمين عمر هو رجل صوفي وله طريقته وأتباعه ومريدوه، وغالبيتهم من الشباب رجالا كانوا أو نساءً. وتتميز طريقته، فوق ما تتميز به الصوفية والإسلام الشعبي من تسامح وعدم تشدد، باتباع مناهج أدائية تجعل من طقوس الصوفية المعروفة من نوبة ومديح ... إلخ أشبه بالحفلات الشبابية المختلطة. وللشباب والعامة في ذلك طرائقهم في وصف ما عليه شيخ الأمين وحواريوه، أكانوا شبابا أم شيوخا، ذكورا أم إناثا، جنّا كانوا أم إنسا. فعاى ما في أغلبها من استهجان واستنكار لطريقة شيخ الأمين في أدائياته، لكن أيضاً منها ما هو طريف، ومنها كذلك ما هو بغيض ومؤذي.
***
هنا سوف نترخص في حذرنا ونذكر واحدة منها لما لها من دلالة، وهي: "محايتو بيبسي وبخرتو جلكسي وحيرانو جكسي"! وهذا الاقتباس نقلا من صفحة بالفيسبوك تحمل اسم "دجل شيخ الأمين" على الرابط أدناه:
https://www.facebook.com/profile.php?id=100042874857171&sfnsn=mo&mibextid=RUbZ1f
***
الآن دعونا نحلل هذا التعبير من حيث هو قد أصبح خطابا، لا من حيث دلالات الألفاظ القانونية فحسب. وما سنحاول فعله هنا هو استكشاف بنية السلطة الأيديولوجية الإسلاموعروبية المتخفية كخطاب وراء الهجوم على أدائيات شيخ الأمين الطقسية الصوفية، لنحاول أن نرى إذا كانت موجودة أم لا.
***
البيبسي هو المشروب الغازي المعروف، ويقصد به نعومة الحياة ورفاهيتها، بجانب حداثوية مُدّعاة تكمن في تجافي المشروبات البلدية من قبيل عصائر الكركدي والعرديب ... إلخ؛ وجلكسي هو عطر وكان ينبغي أن يكتب "قلكسي" لكنها عادة السودانيين في الوقوع تحت التأثير المصري، فيكتبون القاف المخففة بالجسم القاهرية. والكلمة لها دلالتها المجازية فيما يتعلق بحداثوية مزعومة من حيث التعطر بالتطور ذات الماركات؛ أما الجكسي، فهي تعريب لكلمة إنكليزية ذات دلالة مجازية للفتيات الحسناوات، وهذا مما يُعبّر عنه لدى الشباب بكلمة "الخلط"، وهي صفة ذات دلالة مُدّعاة في الحداثوية أيضاً. وقد وُلدت بذرة هذه الكلمة في الجامعات، وتشير إلى السلوك الحداثوي المتعلق بتعلم طلبة وطالبات الجامعة (وغالبيتهم من القادمين من المجتمعات التي تفصل بين الجنسين) فنون مخالطة بعضهم بعضا، ذكورا وإناثا، بطريقة لك يكن يألفوها في المجتمعات التي صدروا منها. وعبر هذا "الخلط" يتعرف الشباب من الجنسين على بعضهم بعضا، ومن ثم قد يرتبط كل إثنين منهم برباط العاطفى على أمل إكمال ذلك بالزواج. في هذا مجتمعنا هذا ذي الهيمنة الذكورية، يُنظر إلى من كان كثير "الخلط" بعين الإعجاب، وربما الحسد، وقد يشتط الأمر، فيُتّهم في سلوكه. هذا بينما تجر كثرة "الخلط" للبنت سمعة سالبة ليست مما تقبله عن نفسها.
ومأثورٌ عن كثرة "الخلط" أنها مما ترقّق حاشية المرء، وتُرخي من عصبية أواصر القلب والفؤاد، وتهذّب الكلام والمنطق، وتحرر الشباب من حوشيِّ الكلام، غليظه وبذيئه، وتُهيِّؤهم لاستقبال ما يُظنُّ بأنها موجات التحضر والتحرر، ومن ثم مفارقة أساليب الحياة التقليدية، ملبسا، ومأكلا، وتحدثا. وجميع هذا مما يقع تحت طائلة الاستعداد النفسي للتحرر من غِلظة مناهج التربية التقليدية من انتهار وتعنيف لفظي وجسدي، ضربا بالعصى وجلدا بالسوط. ومن ثم فتح أشرعة العقل والفؤاد لرياح الحداثة والتغيير
***
إذن ما يميز شيخ الأمين هو أنه حداثوي لدرجة أن "محايته" ليست ذلك الخليط من المواد التقليدية، بل هي من البيبسي، لا انكفاءً عليه كمشروب فحسب، بل كخطاب تمدني، تحضري وتحرري. والبخور عند شيخ الأمين ليس ذلك المكون من بخور التيمان، أو "المستكة" .. إلخ مما نعرفه في فولكلورنا، بل هو العطر الماركة المعروف باسم "قلكسي" Galaxy، لا من حيث هو عطر راقي والسلام، بل من حيث هو خطاب تمدني، تحضري وتحرري، دع عنك كلفته المادية. أما الحواريون (الحيران) عند شيخ الأمين، فهذا أمرٌ جَدُّ مختلف! فالحيران عند شيخ الأمين بنات! كذا! ليس من حيث "المغرزة" في تشبيه الذكور منهم بالبنات فخسب، وليس من حيث كثرة "الخلط" والاعتماد عليه داخل باحة الصوفية بوصفها دينا فحسب، بل أيضاً من حيث هي خطاب تمدّني، تحضّري وتحرّري. وهنا على من يا ترى ينصبُّ جامُ اللعنات والاستهجان والاستنكار؟ بالطبع على الشخص *البرنجي"! ألا وهو شيخ الأمين الذي لا يخلو من روح شبابية، ومن وسامة رجولية، وطول فارع، وبسطة في الجسم، وطلاوة في اللسان، وحلاوة في الكلام، كما لا يخلو من الحس الفكاهي، والطرب والتطريب، رقصا وغناءً وإنشادا. كل هذا في سَمْت إيماني صوفي اختص هو به دون المتشيّخين على يد طيب الذكر ود العجوزة.
***
ترى أين هي الأيديولوجيا الإسلاموعروبية هنا؟ ها هي! تقف واضحة كما تقف الشمسُ رأد الضحى، فيصطلي الناسُ بحرّها دون أن يرفعوا أعينهم ليروها! وعليه، هذا ليس بخطاب، وإن تظاهر بأنه كذلك! هذه هي الأيديولوجيا الإسلاموعروبية في أكثر حالتها مراوغةً ومخاتلةً. كيف؟
***
إنهم لا يريدون شيخ الأمين كصوفي على هيئته الأدائية الحداثوية السلمية هذه لأنهم في حقيقتهم وفي دخيلة واعيتهم الأيديولوجية الإسلاموعروبية يريدون الصوفي المتزمت، بالضبط مثل المكاشفي طه الكباشي! وهم لا يريدون شيخ الأمين كرجل دين على هيئته الأدائية الحداثوية السلمية هذه لأنهم يريدون رجل الدين السلفي، الدموي، بالضبط مثل عبد الحي يوسف! إنهم يا سادتي في حقيقتهم يريدون الكيزان، وأكثر ما يخشونه (حتى لو لم يكونوا واعين بذلك) هو أفول شمس الفلول، وغياب شمس دولة الشريعة، شريعة الجلد والقطع والصلب من أمامٍ ومن خلاف، من قبيل ما رأينا على عهد النميري والترابي وعمر البشير.
***
هذا ما يريدونه في حقيقة أمرهم: ترسيخ أقدام الأيديولوجيا الإسلاموعروبية التي أورثتنا ما نحن فيه من خسارٍ وبوار، وحربٍ ودمار، لكنهم يغلفونها بورق مهترئ ثم يريدوننا أن نشتري بضاعتهم الكاسدة هذه على أنها خطاب، بينما هي ليست كذلك. إنها الأيديولوجيا الإسلاموعروبية في أخطر أشكالها مراوغةً ومخاتلةً.
***
وحتى لا يظُنّن أحدٌ بي شتى الأظانين، فإني لستُ بصوفيٍّ ولا بسُنّيٍّ، ولا بشيعيٍّ، وما كنت تابعا لأحدٍ قط ولن أكون، ولكني اقتدي وأحتذي متوسما الخير، محتفظا باستقلاليتي كاملة غير منقوصة. وعليه، فهذه ليست بمرافعة عن شيخ الأمين، وما كان يعنيني من أمره شيء مهما ملأ الدنيا وشغل الناس. لا من باب تجاهله، بل من باب عميق إيماني بالحرية وبحق أي شخص في أن يتعبد بالطريقة التي يجد نفسه فيها. وعندي، كما قلت في كتابي *الإسلام الثقافي: فقه ما بعد الحداثة" (قيد الطبع): "إن القمة العلياء التي يطمح أي دين أن يبلغها من حيث النجاح في هذه الدنيا هي أن يصبح ثقافة تنهض بالمجتمع في عمومه سلوكيا وجماليا من حيث مكارم الأخلاق. هنا تتجلى عظمة جماعية ومجتمعية الدين. أما التعبدية في أي دين، فهي حالة فردية، غير مجتمعية، ولهذا نأتي اللهَ يوم القيامة فرادى، فلا والد ولا والدة ولا صاحبة ولا بنين ولا بنات. وأسوأ المذاهب هي تلك التي تريد أن تجعل التعبدية حالة مجتمعية، وليست فردية. عندها، سوف يفقد المجتمع الدين كثقافة بمثلما سيفقده كعبادة، فيتفشى النفاق والرياء في لبوس الدين، فيُخمون في عاقبة أمرهم.
***
إنّ رجُل/رجُلة الدين الحق، هم ذلكم الذي/التي يولون أنفسهم بالرعاية ويأخذونها بالشدة طلبا للهداية، وأملا في أن يذكيهم المولى، فيصبحوا في أخراهم من أهل النعيم. أما رجُل/رجُلة الدنيا المتوشحون بمسوح الدين نفاقا أوضلالا، فهم ذلكم الذي/التي لا يولون أنفسهم بالرعاية ولا يأخذونها بالشدة طلبا للهداية، أو أملا في أن يذكيهم المولى، بل جُلّ همّهم هو مراقبة ما عليه دين الآخرين وأخذ الناس بالشدة في دنياهم باسم الدين نفاقا أو ضلالا، دون أي ضمانة من هؤلاء المتشددين باسم الدين بأنهم في أخراهم سيكونون من أهل النعيم. فتصوروا! فصاحب الدين الحق يترك الخلق لخالقهم، فيأخذ نفسه بالشدة عسى أن يتقبُله الله؛ أما صاحب الدين غير الحقيقي، فتراه يترك أمر نفسه ودينه ليشتغل بأمر الناس ودينها.
***
عودٌ على بدء؛
ما لكم وشيخ الأمين؟ هل أنتم مُساءلون عنه وعما يفعله؟ أيّهم أشدّ ضررا بنا وبالسودان: الصوفي شيخ الأمين الذي يهتم لأمر نفسه وحيرانه، أم الصوفيون المهلاوي والمكاشفي طه الكباشي ومن لفّ لفّهم الذين حكموا بإعدام شهيد الفكر والإنسانية محمود محمد طه؟ أيهم أشد ضررا بنا وبالسودان: الصوفي شيخ الأمين أم السلفي عبد الحي يوسف الذي أفتى بقتل وإبادة ربع أو ثلث الشعب كيما يستقيم الحكم ويستمر لعمر البشير؟
*MJH*
جوبا - 28 فبراير 2024م