تأمل معي بالكتابة الغرائبية والملغزة في أدبنا السوداني

 


 

 

زهير عثمان حمد
الكتابة الغرائبية والملغزة في الأدب المعاصر تشير إلى استخدام عناصر غير واقعية أو خارقة للطبيعة لاستكشاف الواقع بطريقة جديدة ومبتكرة. هذا النوع من الكتابة يتحدى القواعد التقليدية للسرد ويهدف إلى خلق تجارب قراءة فريدة من خلال تدمير البنية التقليدية للحكاية وتفتيت معناها وفي الأدب العربي المعاصر، يُعتبر العجائبي بؤرة للخيال الخلاق الذي يتجاوز حدود المعقول والمنطقي والتاريخي والواقعي، مما يسمح للكاتب بتشكيل العالم كما يشاء والغرائبية تعكس أيضًا الواقع الاجتماعي والسياسي، كما هو الحال في رواية “فرانكشتاين في بغداد” التي تعالج قضايا واقعية مثل الصراع والتشظي في العراق والعالم العربي , ولو تحدثنا عن الرمزية في هذا السياق تعني استخدام الرموز والإشارات للتعبير عن معاني أعمق وأكثر تعقيدًا، والتي قد لا تكون واضحة للقارئ فورًا ولكنها تكشف عن طبقات من المعنى عند التأمل والتفسي , و الرمزية تسمح للكاتب بالتعبير عن أفكار ومشاعر بطريقة مجازية، مما يثري النص ويمنحه أبعادًا متعددة

في الأدب السوداني المعاصر، هناك أمثلة على الكتابة الغرائبية والملغزة التي تحمل خصائص الرمزية. يُعد إبراهيم إسحاق من الكتّاب الذين يُظهرون هذه السمات في أعمالهم الروائية، مثل “أخبار مياكايا” و"وبال في كليمندو"، حيث يستكشفون الواقع المحلي ويُسطرونه بأسلوب يجمع بين الواقع والخيال وتتميز الرواية السودانية بالتنوع في الأسلوب والمضمون، وتُظهر اهتمامًا بالمنسي والهامش، وتُعبر عن الاختلاف والنسبية بدلًا من التطابق والمطلق. هذه الأعمال تُعبر عن تحولات كبيرة في الأدب السوداني نحو نمط جديد من الكتابة يُعيد تشكيل الواقع بطرق مبتكرة ومُلهمة.

الأدب الغرائبي والملغز يتميز بعدة أساليب فنية تُستخدم لإثراء النص وإضفاء الدهشة والتشويق على القارئ. من هذه الأساليب مثل الوصف المفصل: يستخدم الكتاب الوصف الدقيق للمشاهد والشخصيات لخلق عالم غني بالتفاصيل يساعد على انغماس القارئ في القصة وهنالك التعليل والتصوير: يُعتمد على التعليل لتبرير الأحداث الغرائبية والتصوير لرسم صور ذهنية قوية واستخدام علوم البلاغة: يُبرع الكتاب في استخدام الاستعارات، التشبيهات، وغيرها من أدوات البلاغة لإضفاء معانٍ عميقة ومتعددة الطبقات وترتيب الجمل والأفكار: يُولي الكتاب اهتمامًا كبيرًا لترتيب الجمل والأفكار بطريقة تُسهل على القارئ تتبع القصة وفهمها , وكذلك التأثير الوجداني: يُحاول الكتاب التأثير على مشاعر القارئ من خلال اللغة والأسلوب الذي يُعبر عن حالة الكاتب النفسية أثناء الكتابة وربط الأحداث بزمنها التاريخي: يُمكن للكتاب أن يُدخلوا عناصر تاريخية لإضفاء الصدقية على الأحداث الغرائبية وكل هذه الأساليب تُساعد على خلق تجربة قراءة ممتعة وغنية بالعناصر الأدبية التي تُثري النص وتُعمق تجربة القارئ
الرمزية في الأدب تعتمد على استخدام الرموز للتعبير عن معانٍ أعمق وأكثر تعقيدًا من النص المباشر. بعض الأساليب التي يستخدمها الكتاب في الرمزية تشمل: التلميح بدلاً من التصريح: يفضل الكتاب استخدام الإيماءات والإشارات بدلاً من الوصف المباشر للأشياء الغموض: يترك الكتاب الرموز مفتوحة لتأويل القارئ، مما يخلق مساحة للتفكير والتأمل الاعتماد على الحواس: يستخدم الكتاب الحواس والمراسلات الحسية لإثراء النص الإيجاز: يميل الكتاب إلى التكثيف والإيجاز في استخدام اللغة لتحميل النص بمعانٍ متعددة التعقيد والعمق: يعمد الكتاب إلى تعقيد المعاني وإعطائها عمقًا يتجاوز السطحية. الصور الفنية: يغني الكتاب النص بصور فنية متقنة ومتنوعة لإظهار جمال اللغة. وهذه الأساليب تساعد في خلق تجربة قراءة غنية ومتعددة الأبعاد، حيث يُصبح النص مرآة للعالم الداخلي للكاتب ومنبرًا للتعبير عن الأفكار والمشاعر بطريقة مجازية ورمزية

بالطبع، الشعر السوداني غني بأشعاره الغرائبية والملغزة التي تحمل في طياتها عمقًا ثقافيًا وفكريًا. من الأمثلة على هذه الأشعار ما يلي-

سألوا ولم يكن هناك ماء ولا مرآة
فتفكروا ورن أسمائهم عالياً،
وكان المؤذنون القدامى كلما غموضت صلواتهم
يخلعون التكبير ويختلطون.
بالغوا فِيْ الأسماء، وحفظوا الأسماء،
ثم نسوا، وتمجدوا بمطر الله.
تقول صحرائهم لقد جربت.. إنها جافة وساخنة،
لأن قلوبهم تتوقف عَنّْد نوافذهم الحمراء، فِيْصمتون.
هذا النص هو جزء من قصيدة “سيرة ناقصة لأصدقائي” للشاعر السوداني محمد عبد الباري يُعرف عبد الباري بأسلوبه الشعري الذي يجمع بين الغموض والعمق الفكري، وهو يعتبر من الأصوات الشعرية المهمة في الأدب السوداني الحديث.

ومن الشعراء الذين يمكن الإشارة إليهم في هذا السياق:عبد المنعم عجب الفيا: ناقد وباحث في الثقافة واللسانيات، له إسهامات في دراسة الشعر السوداني وتحولاته.معاوية محمد نور: أديب وناقد سوداني، له دور بارز في تطبيق نظريات الحداثة النقدية الأوروبية على الشعر العربي.هذه مجرد أمثلة قليلة، والشعر السوداني يضم العديد من الأصوات الشعرية الفريدة التي تستحق الاكتشاف والقراءة و هناك العديد من الشعراء السودانيين المعاصرين الذين يستحقون الإشارة والتقدير لمساهماتهم في إثراء الشعر العربي. إليك بعض الأسماء

محمد طه القدال: شاعر وكاتب سوداني، له العديد من القصائد التي تتميز بالعمق والجمال.هاشم صديق: شاعر ومسرحي سوداني، يعرف بأسلوبه الشعري الفريد ومساهماته في المسرح السوداني1.هؤلاء الشعراء وغيرهم قدموا إسهامات قيمة في الشعر السوداني، وأثروا الأدب العربي بأعمالهم الشعرية المتميزة. محمد عبد الحي ومصطفى سند هما من الشخصيات البارزة في الشعر السوداني، ولكل منهما إسهامات مهمة في الأدب العربي:محمد عبد الحي (1944 - 1989): شاعر سوداني مرموق وأستاذ في الأدب المقارن، يُعد واحدًا من رواد التجديد في الشعر السوداني. تميز بأسلوبه الشعري الذي يجمع بين الرومانسية والحداثة، وكان له تأثير كبير في الحركة الأدبية المعروفة بـ "مدرسة الغابة والصحراء".مصطفى سند (1939 - 2008): شاعر وقاص سوداني، يلقب برائد القصيدة المعاصرة وهو أيضًا من شعراء مدرسة الغابة والصحراء. اشتهر بأشعاره التي تتميز بالإيقاع الموسيقي الصاخب والجزالة والإفصاح، وتناول في شعره موضوعات متنوعة تدور حول التأمل في الوجود والتأمل الوجداني الصوفي , كلاهما قدما أعمالًا شعرية تعكس الثقافة والهوية السودانية، وأثريا الأدب العربي بإبداعاتهما الفريدة بحثت ولكن المساحة هنا لا تسع أشعارهم مع التحليل النقدي
تجربة الأدب السوداني في الكتابة الغرائبية والملغزة تُقيّم بأنها غنية ومتنوعة، وقد لعبت دورًا مهمًا في تطور الأدب العربي. النقاد يرون أن الأدب السوداني يتميز بخصوصية تنبع من تفاعل الثقافة السودانية مع مختلف الثقافات والتقاليد الأدبية. وقد أشار النقاد إلى أن الشعر السوداني يحتذي الشعر المصري في تطوره ويتأثر بالنزعة الدينية وروح الإيمان، ويتميز بالحماسة والفخر بالعشيرة والأنفة.
كما يُشير النقاد إلى أن الكتابة النقدية في السودان قد تكون مقصرة في مواكبة الكتابة الشعرية والأدبية بشكل عام، نظرًا لكثرة المنتوج الأدبي الذي لم يجد ما يقابله من أقلام ناقدة تُصحح وتُقوم وتشيد وتعيب. ومع ذلك، هناك نقاد فاعلون في الساحة الأدبية السودانية يسعون لإثراء النقد الأدبي وتقديم رؤى نقدية عديدة.

بشكل عام، يُقدّر النقاد الأدب السوداني لمساهمته في إثراء الأدب العربي بأساليبه الفريدة وموضوعاته المتنوعة التي تعكس الثقافة والهوية السودانية, والأدب الغرائبي في السودان يعكس تنوع الثقافة والتاريخ السوداني، ويمتاز بخصائص فريدة تجمع بين التراث العربي والأفريقي. يتميز هذا الأدب بالحماسة، والفخر بالعشيرة، والأنفة، وإباء الضيم، والحب، والرثاء، وغير ذلك، وهو يحتذي الشعر المصري في تطوره وتغلب عليه النزعة الدينية وروح الإيمان

الأدب السوداني الحديث يكتب بشكل كبير باللغة العربية، ولكن بعض الأنواع أيضًا في اللغات المحلية الأخرى، مثل الشعر في اللغة الفوراوية. ويوجد كل من الأدب المكتوب والتقاليد الشفوية، مثل الفولكلور والحكايات الأسطورية والمديح

من الجدير بالذكر أن الأدب السوداني لم يأخذ حظه من الانتشار بين القراء والنقاد العرب، وذلك لأسباب عديدة منها صعوبة نشر الكتاب السودانيين لأعمالهم بسبب التغيرات الاجتماعية والسياسية والاضطرابات الكثيرة، وعدم وصول الكتاب السوداني إلى القراء والنقاد.

للأدب الغرائبي في السودان جذور تاريخية تعود إلى الكتابة المروية التي يرجع تاريخها إلى 700 قبل الميلاد، ولكن لم يبدأ حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر ظهور الأدب السوداني الحديث المميز
حاولت أن اكتب نصا غرائبي لكي أكمل مقالي بتجربة جديدة
في أرض النيلين حيث القلوب تنبض بالأمل،
والأحلام تعانق ضفاف الزمان الجميل،
هناك، حيث السماء تروي قصص الأجداد،
والأرض تحفظ أسرار الرمال والنيل.

تتراقص الظلال في ليل الخرطوم الساحر،
وتهمس الرياح بألحان من ماضٍ عابر،
في الأزقة، حكايات الدروايش تتناثر،
والأسواق تعج بالألوان والعطور العاطر.

أرواح الصوفية تعبر الأزمان،
في رقصة الذكر، تتلاشى الأحزان،
والدموع تتحول إلى لآلئ في الأكوان،
والقلوب تتوحد في حب الإنسان.

في الخيال، تحلق العقول بلا قيد،
ترسم الأحلام على جدار الوجود الفريد،
وفي الواقع، ينبض السودان بالعزم الشديد،
يواجه التحديات بروح لا تعرف الرقيد.

هذه هي السودان، أرض الغرائب والعجائب،
حيث الخيال والواقع يتحدان في قصائد الحبائب،
والشعر ينسج من الألم والأمل خيوط النجائب،
ليكون شاهدًا على تاريخ عريق وأيام لا تغيب#

ولي عودة في طرح كنوز ومعارف في الادب السوداني المعاصر

zuhair.osman@aol.com

 

آراء