على حافة الغابة البدائية: الحلقة (15)

 


 

 

على حافة الغابة البدائية: الحلقة (15)

تجارب وملاحظات طبيب الماني في أفريقيا الإستوائية
كتبها: آلبرت شفايتزر
نقلها من الإنجليزية د. أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الأزهري – السودان

• ديباجة
تعرفنا على كثير من الجوانب المظلمة في الحقبة التي تكالب فيها الإستعمار الأوربي على أفريقيا. وقد توالت الأحداث الجسام من تهجير وقهر وقتل، دأب المستعمر الأبيض على ممارستها، ليفرض سيطرته على إنسان أفريقيا ومقدراته وموارده التي نهبت - ردحاً من الزمن - ليعمّر بها العالم الأوربي، بينما يرزح الأفريقي صاحب كل ذاك الخير في فقر لا يدانيه فقر. ومازالت أفريقيا تعاني من استنزاف مواردها بطرق شتى، وما زال بنوها يعانون من الأمرّين: استغلال المستعمر المباشر وتغول بعض أبنائها المتسلطين على إهانة شعوبهم وسرقة مقدراتهم – بواسطة حفنة من الحكام الفاسدين. لقد خرج الاستعمار من الباب الأمامي

ليتسلل مرة أخرى من الباب الخلفي.
كانت سيرة الاستعمار طوال وجوده في أفريقيا، ليست بالسيرة العطرة، غير أنه قد تخللت هذه السيرة غير المحبوبة، بعض الفضاءات المضيئة من أفراد بيض، آثروا أن يغلّبوا الجانب الانساني في علاقتهم بالانسان الأسود، بطرق عديدة، كالخدمات الطبية التي قدمها الطبيب والفيلسوف الألماني (آلبرت شيفايتزر) وزوجه، للانسان الأفريقي في الجابون الحالية، إذ قاموا ببناء مستشفى لخدمة السكان المحليين، هذا المجهود أهّله للترشيح والفوز بجائزة (نوبل) تقديراً لهذا العمل الإنساني الكبير.

هذه الصفحات هي ترجمة لمذكراته التي صدرت في كتاب باسم:
(On the Edge of the Primeval Forest)

**********************************
الحطّابون وصانعوا الأطواف في الغابة البكر

كايب لوبيز، 25-29 يوليو، 1914

اضطرتني عملية خراج يستلزم فتحه للذهاب إلى الساحل في هذا الوقت، بمساعدة الطبيب العسكري في كايب لوبيز، ولكن لم نكن بالكاد نصل الى هناك حتى انفجر الورم لحسن الحظ، وتجنبنا خطر مضاعفات إضافية.
تم استقبال زوجتي وأنا بلطف في منزل موظف في مصنع يدعى فورير، قضت زوجته معنا شهرين في ذلك الصيف في لامباريني، بانتظار وضع مولودها في منزلنا. والسيد فورير هو حفيد الفيلسوف الفرنسي فورير (1772-1837)، الذي كنت مهتماً بنظرياته الاجتماعية عندما كنت طالباً في باريس. الآن، أحد أحفاده جاء الى العالم تحت سقف بيتنا.
لا أستطيع التحرك بعد، لذا أقضي اليوم كله على كرسي في شرفة نطل على البحر مع زوجتي، ونستنشق بنشوة نسيم البحر العليل. أن يكون هناك نسيم أصلاً هو متعة لنا، إذ لا توجد أبداً تيارات هوائية في لامباريني إلا خلال العواصف القصيرة التي تُعرف بالأعاصير. سأستغل هذا الوقت من الفراغ من كتابة شيء عن حياة الحطّابين وصانعي الاطواف على نهر أوجووي.

بدأت المحاولات الأولى لاستغلال الغابات العظيمة قبل حوالي ثلاثين عاماً فقط في غرب ووسط أفريقيا، لكن العمل ليس سهلاً كما قد يُعتقد. هناك أخشاب رائعة بكميات كبيرة، ولكن كيف يمكن قطعها ونقلها؟ حالياً، الأخشاب الوحيدة في نهر أوجووي التي لها قيمة تجارية هي تلك القريبة من النهر. فالشجرة الأكثر روعة على بعد كيلومتر من الماء آمنة من الفأس، فما الفائدة من قطعها إذا لم يمكن من الممكن نقلها؟

لماذا لا يتم بناء سكك حديدية خفيفة، إذًا، لنقل الأخشاب إلى الماء؟ ذلك السؤال يطرحه فقط من لا يعرف ما هي الغابة في أفريقيا الاستوائية. الأرض التي تقف عليها الغابة ليست سوى كتلة من الجذور العملاقة والمستنقعات. إعداد الأرض حتى لمسافة 200 أو 300 ياردة من السكة الحديدية الخفيفة يعني قطع الأشجار، والتخلص من جذورها، وردم المستنقع؛ وذلك سيكلف أكثر مما يمكن أن تجلبه مائة طن من أفضل الأخشاب في كايب لوبيز. لذلك، يمكن بناء السكك الحديدية الخفيفة بتكلفة منخفضة فقط في المواقع الأكثر ملائمة. في هذه الغابات يتعلم الإنسان مدى عجزه عندما يواجه الطبيعة!

إذًا يجب أن يتم العمل بصورة بدائية في العادة، وذلك لأسباب إضافية، منها أنه لا يمكن الحصول على عمال إلا من السكان الأصليين البدائيين، وليس بأعداد كافية حتى من هؤلاء. لقد تم الحديث عن إدخال العمال الفيتناميين والصينيين، لكن ذلك اقتراح ميؤوس منه. فالأجانب لا فائدة منهم في الغابات الأفريقية، لأنهم لا يستطيعون تحمل الحرارة وحياة المعسكر فيها، علاوة على ذلك، لا يمكنهم العيش على الأطعمة المنتجة محلياً.

· اختيار موقع العمل

أول شيء يجب القيام به هو اختيار المكان المناسب للعمل. تنمو الأشجار بأسلوب عشوائي للغاية في الغابة البكر، ويكون من المجدي قطعها فقط في الأماكن القريبة من حافة الماء حيث يوجد عدد كبير من الأشجار المطلوبة. هذه الأماكن تكون عادةً على مسافة داخل الغابة، ولكن عندما يكون النهر عالياً، فإنها تتصل به عبر مجرى مائي ضيق أو بركة تتحول في هذه الأوقات إلى بحيرة. يعرف السكان الأصليون جيداً أين توجد هذه الأماكن، لكنهم يحتفظون بهذه المعرفة لأنفسهم، ويحرصون على تضليل أي رجل أبيض يأتي إلى منطقتهم للبحث عنها.

أخبرني أحد الأوربيين أن سكان قرية معينة ظلوا يأخذون منه هدايا سخية لعدة أشهر من البراندي والتبغ والقماش بينما يخرجون معه يومياً للبحث عن مثل هذا المكان، ولكن لم يتم اكتشاف أي مكان يعد باستغلال مربح. في النهاية، ومن محادثة استرق السمع اليها، علم أنهم كانوا يأخذونه عمداً متجاوزين جميع المواقع الملائمة، ثم انتهت علاقاتهم الودية به فجأة. لقد تم قطع تقريباً كل شيء من الأخشاب التي تقف قريبة بما يكفي من النهر حيث يسهل نقلها.

تم وضع حوالي نصف مساحة الغابة، من خلال الامتيازات، في أيدي شركات أوروبية كبيرة. أما الباقي فهو حر، ويمكن لأي شخص، سواء كان أبيض أو أسود، قطع الأخشاب هناك كما يشاء. ولكن حتى في المناطق الغابية التي تغطيها الامتيازات، فغالباً ما تسمح الشركات للسكان الأصليين بقطع الأشجار بحرية كما يمكنهم في الأجزاء الأخرى، بشرط واحد وهو أن يبيعوا تلك الأخشاب للشركة نفسها وليس لتجار آخرين.

الأمر المهم في النهاية ليس امتلاك الغابات، بل الحصول على الأخشاب للبيع، والأخشاب التي يقطعها الزنوج لحسابهم الخاص ثم يعرضونها على الشركة تكون أرخص من تلك التي تحصل عليها الأخيرة من خلال العمالة المتعاقدة. من ناحية أخرى، فإن الإمدادات من السكان الأصليين غير مضمونة بدرجة كافية للاعتماد عليها في الأغراض التجارية. فقد يقررون الاحتفال بمهرجان، أو القيام برحلة صيد كبيرة عندما يكون الطلب على الأخشاب في ذروته، لذا فإن الشركات، بينما تشتري كل ما يمكنها من السكان الأصليين، تحتفظ أيضاً بعمالها في العمل باستمرار.

عندما يتم اكتشاف مكان مناسب، يأتي إليه إما رجال قرية اتفقوا على استغلاله معاً، أو الرجل الأبيض مع عماله، وتُقام الأكواخ للسكن. وتكمن الصعوبة الكبرى في الطعام. يواجه المرء مشكلة في وسط الغابة البكر تأمين الإمدادات لستين إلى مائة رجل لأسابيع وشهور. قد تكون أقرب قرية وأقرب مزارع على بعد خمسة وعشرين ميلًا، ولا يمكن الوصول إليها إلا من خلال صراع مرهق عبر الأدغال والمستنقعات. للأسف، فإن الأغذية الأساسية مثل الموز والكسافا كبيرة الحجم، وبالتالي يصعب نقلها؛ علاوة على ذلك، فإنها تبقى صالحة لبضعة أيام فقط.

المشكلة الكبيرة في أفريقيا الاستوائية هي أن منتجاتها الغذائية لا تدوم طويلًا. ينضج الموز والكسافا على مدار السنة، أحياناً بغزارة وأحياناً بنقص حسب الوقت من السنة، ولكن الموز يفسد بعد ستة أيام من جمعه، وخبز الكسافا يفسد بعد عشرة أيام من صنعه. جذور الكسافا نفسها غير صالحة للاستخدام، إذ توجد أنواع سامة تحتوي على حمض السيانيد، وللتخلص منه يتم نقع الجذور لعدة أيام في الماء الجاري. فقد فقد ستانلي ثلاثمائة حمّال لأنهم أكلوا جذر الكسافا بسرعة دون غسلها لمدة كافية. فعندما يتم إخراج الكسافا من الماء، يتم سحقها وفركها، وتخضع للتخمير، مما ينتج نوعاً من العجين الصلب الداكن، الذي يُشكل على هيئة عصي رفيعة ويُلف في أوراق للحفاظ عليه. ويجد الأوروبيون هذا الطعام فقيراً جداً.
الكسافا ربما تكون معروفة بصورة أفضل للقارئ الإنجليزي باسم المنيهوت، وهي تنتمي إلى عائلة الفربيونيات. النوعان الرئيسيان هما :Manihot utilissima، وهو النوع المر الذي يحتوي على حمض الهيدروسيانيك، وManihot Aipi، فهو النوع الحلو الذي لا يحتوي على السموم. تكون الجذور بطول 3 أقدام وقطر 6 إلى 9 بوصات، ومملوءة بعصير لبني. يُعرف بالنشا الذي يحضر للطعام أولاً باسم أروروت البرازيل، وهذا، عند تحضيره بصورة أكبر، يُعرف باسم التابيوكا التجارية. (الموسوعة البريطانية، انظر مادة "الكسافا")

· الحياة في الموقع المختار

بما أن توفير المواد الغذائية المحلية بانتظام صعب للغاية، يجب على هؤلاء العمال الأصليين العاملين في قطع الأخشاب أن يتصالحوا مع العيش على الأرز والأطعمة المحفوظة القادمة من أوروبا. وهذا يعني في الغالب علب رخيصة من السردين، المُعدة خصيصاً للتصدير إلى المناطق الداخلية من إفريقيا، وتحتوي المتاجر دائماً على مخزون كبير منها. يتم توفير الأنواع من خلال علب الكركند، وعلب الهليون، والفواكه الكاليفورنية المعلبة. وتكون الأطعمة المعلبة باهظة الثمن ويمتنع حتى الأوروبي الميسور الحال عن تناولها لارتفاع تكلفتها، ولكن يتناولها الزنجي عند قطع الأخشاب من باب الضرورة!

وماذا عن الصيد؟ يستحيل الصيد في الغابة الحقيقية. بالفعل هناك حياة برية وفيرة، ولكن كيف يمكن اكتشافها ومطاردتها في الأدغال الكثيفة؟ الصيد الجيد يكون فقط في الأماكن التي تتناوب فيها الأراضي العشبية أو المستنقعات الخالية من الأشجار مع الغابة، ولكن في مثل هذه الأماكن لا يوجد عادة أخشاب لقطعها. لذا، رغم أنه يبدو مفارقة، فإنه لا يوجد مكان أسهل للجوع فيه من وسط النباتات الفاخرة في غابات أفريقيا الاستوائية التي تعج بالحياة البرية!

كيف يتمكن عمال قطع الأخشاب من قضاء النهار مع ذبابة تسي تسي، والليل مع البعوض، هذا شيء يصعب تصوره. يتعين غالباً عليهم العمل أيضاَ لأيام متتالية خائضين حتى الوركين داخل الماء. وبطبيعة الحال، يعاني الجميع من الحمى والروماتيزم.

قطع الأشجار عمل شاق للغاية بسبب سماكة الجذوع. علاوة على ذلك، فإن عمالقة الغابة لا تنمو من الأرض مستديرة وسلسة؛ بل ترتبط بالأرض بسلسلة من البروزات القوية والزوايا التي تتحول، وهي تبتعد عن السيقان، إلى الجذور الرئيسية وتعمل كدعامات. الطبيعة الأم، كما لو أنها درست تحت إشراف أفضل المعماريين؛ تمنح هؤلاء العمالقة في الغابة النوع الوحيد من الحماية التي يمكن أن تكون فعالة ضد قوة الأعاصير.

لا يمكن التفكير في قطع الأشجار على مستوى الأرض في كثير من الحالات. يمكن أن تبدأ الفأس عملها فقط من على ارتفاع يوازي رأس الرجل، أو قد يكون من الضروري إقامة سقالة يمكن للعمال الوقوف عليها لبدء القطع.

يجب أن يعمل عدة رجال بجد لعدة أيام قبل أن تنهي الفأس عملها، وحتى بعد ذلك قد لا تسقط الشجرة دائمًا. تكون الشجرة متشابكة في كتلة واحدة مع جيرانها بواسطة المتسلقات القوية، تسقط الشجرة، إلى الأرض فقط عندما يتم قطع هذه المتسلقات مع جيرانها. بعد ذلك تبدأ عملية التقطيع. يتم نشرها، أو قطعها بالفؤوس، إلى قطع بطول يتراوح بين 12 إلى 15 قدماً، حتى يتم الوصول إلى النقطة التي يكون فيها القطر أقل من قدمين. ثم يترك الباقي ليتحلل، وكذلك الأجزاء التي تكون سميكة جداً، أي التي يتراوح قطرها بين 5 إلى 5.50 أقدام، حيث تكون هذه القطع الضخمة غير مريحة في التعامل معها.

عادة ما يتم قطع الأشجار وتقطيعها في موسم الجفاف، أي بين يونيو وأكتوبر. والعمل التالي هو تنظيف المسار الذي سيتم عبره دحرجة هذه الأخشاب الضخمة، التي تزن أحياناًا ما يصل إلى ثلاثة أطنان، إلى أقرب بركة ماء. ثم تبدأ معركة مع الجذور التي تركت في الأرض ورؤوس الأشجار الضخمة التي تقع عليها، وغالباً ما يكون الجذع نفسه قد غرس نفسه عند سقوطه بعمق ثلاثة أقدام في التربة. لكن مع مرور الوقت يتم إعداد المسار بصورة جيدة، ويتم ردم الأجزاء التي تمر عبر المستنقعات بالخشب.

تُدحرج القطع، التي يُشار إليها بـ"القطع" بالفرنسية، billes))، إلى المسار، ويدفع ثلاثون رجلاً بصيحات إيقاعية كل قطعة، ويدحرجونها ببطء حول محورها. فإذا كانت القطعة كبيرة جداً، أو ليست دائرية تماماً، قد لا تكفي القوة البشرية لدفعها، ومن ثم يتم الدفع باستخدام الرافعات. ثم قد يمثل تل صغير في الطريق صعوبة يجب التغلب عليها؛ أو قد تنهار عبوة الخشب في المستنقع! في فترة الظهيرة، نادراً ما ينقل الثلاثون رجلاً قطعة من هذه "القطع" لأكثر من ثمانين إلى تسعين ياردة.

والوقت يضغط! يجب نقل جميع الأخشاب إلى البركة لتكون جاهزة للمياه العالية في نهاية نوفمبر وبداية ديسمبر، حيث يكون الاتصال بين البركة والأنهار متاحاً فقط في ذلك الوقت. وأي أخشاب يفوت عليها هذا التوقيت ستظل في الغابة، وتتعرض لحالة من التدهور بسبب الحشرات الطفيلية، وخاصة نوع من خنفساء البوستريتشيد، لتصبح بعدها غير صالحة للبيع. في أفضل الأحوال يمكن إنقاذها عند وصول المياه العالية في الربيع، ولكن غالباً ما يكون غير كافي للاتصال بجميع البرك، وإذا اضطر لابقاء الأخشاب هناك حتى الفيضان الخريفي التالي فإنها ستضيع بلا شك.

أخيرًا، يتم وضع الأخشاب في النهر، مربوطة إلى الأدغال على الضفة بحبال من النباتات المتسلقة، ويأتي التاجر الأبيض لشراء ما يعرضه الزنوج من القرى المختلفة. وهنا تتطلب الحذر. هل الأخشاب من النوع المطلوب حقًا، أم أن الزنوج قد دسوا وسطها قطعاً من أشجار أخرى بقلوب وبنية متشابهة كالتي كانت تقف على حافة الماء؟ هل جميعها مقطوعة حديثًا، أم أن هناك بعض الجذوع من العام الماضي، أو حتى من العام الذي قبله، والتي تم نحت أطرافها لتبدو جديدة؟

إن مهارة الزنوج في الاحتيال في تجارة الأخشاب تصل إلى حدود لا تصدق! يجب على القادم الجديد أن يكون على حذر! فعلى سبيل المثال: في خليج ليبرفيل كان على تاجر إنجليزي شاب شراء بعض خشب الأبنوس لشركته، وهو خشب ثقيل يدخل السوق في قطع قصيرة. أبلغ الإنجليزي بارتياح أنه قد حصل على بعض القطع الضخمة من خشب الأبنوس الرائع، ولكن بمجرد وصول أول عملية شراء له إلى إنجلترا، تلقى برقية تقول إن ما اشتراه وأرسله على أنه خشب أبنوس لم يكن كذلك على الإطلاق؛ وأن بضاعته المكلفة كانت عديمة القيمة، وهو وحده المسؤول عن الخسارة التي تكبدها!

الحقيقة هي أن الزنوج باعوه بعض الخشب الصلب الذي تركوه لعدة أشهر في المستنقع الأسود. وهناك امتص الخشب اللون بعمق لدرجة أنه عند الأطراف وبعمق معين بدا وكأنه أجود أنواع خشب الأبنوس؛ لكن الجزء الداخلي كان ذا لون محمر. لقد أغفل التاجر الأبيض غير المتمرس اختبار صفقته بنشر أحد الجذوع إلى نصفين!

ثم يقوم التاجر بقياس وشراء الأخشاب. عملية القياس مهمة صعبة، حيث يتعين عليه القفز فوق الجذوع التي تدور تحت الماء. ثم يدفع نصف ثمن الشراء، محتفظاً بالباقي حتى يتم جلب الأخشاب، التي تم وضع علامة تجارية لشركته عليها، بأمان إلى الساحل. ومع ذلك، يحدث أحياناً أن يبيع السكان الأصليون الأخشاب أربع أو خمس مرات، ويحصلون على المال في كل مرة ثم يختفون في الغابة حتى يتم نسيان الصفقة، أو حتى يتعب الرجل الأبيض من قضاء الوقت والمال في ملاحقة المحتالين، الذين من غير المرجح أن يعوضوه، حيث أنه قبل أن يعثر عليهم بفترة طويلة، سيكونون قد أنفقوا المال على التبغ وأشياء أخرى.

· الطوافات. الرحلة

يأتي بعد ذلك بناء الطوافات، أو العوامات، والتي لا تحتاج إلى حبال أو أسلاك، حيث أن النباتات المتسلقة المرنة في الغابة أرخص وأفضل من كليهما، ويمكن الحصول عليها بسمك إصبع أو بسمك ذراع. يتم ترتيب من 60 إلى 100 جذع بطول 12 إلى 15 قدمًا وترص واحدًا خلف الآخر في صفين ويتم ربطها معاً، بحيث تكون الطوافة بعرض يتراوح بين 25 و30 قدماً، وطولها حوالي 130 قدماً، وقد يصل وزنها إلى 200 طن. يتم ربط ألواح طويلة عليها وفقًا لخطة منتظمة، وهذه الألواح تعطي الطوافة القوة والثبات اللازمين. بعد ذلك، يتم بناء أكواخ من الخيزران وأوراق الرافيا عليها، ويتم تغطية منصة خاصة من الأخشاب بالطين لتكون مكانًا للطهي. يتم تثبيت مجاديف توجيه قوية في الأمام والخلف في شوكات قوية، بحيث يمكن توجيه مسار الطوافة إلى حد ما، ولأن كل من هذه المجاديف يحتاج على الأقل إلى ستة رجال لتشغيلها، يجب أن يكون هناك طاقم يتراوح بين خمسة عشر وعشرين رجلاً لادارتها. ثم وعندما يتم وضع جميع الموز وعصي المانيوك التي يمكن الحصول عليها على الطوافة، تبدأ الرحلة.

يجب أن يعرف الطاقم جيداً مواقع الكثبان الرملية المتحركة باستمرار لتجنبها، وهذه الكثبان، مغطاة كما هي بالمياه البنية، ويصعب اكتشافها من مسافة بعيدة. فإذا اصطدمت الطوافة بأحدها، لا توجد طريقة لتحريكها مرة أخرى سوى تحرير الجذوع التي ثبتت في الرمال واحداً تلو الآخر، وإعادتها مرة أخرى بعد ذلك. يتعين أحياناً تفكيك الطوافة بالكامل وإعادة بنائها، وهي عملية تستغرق في هذه الظروف أسبوعاً كاملاً وتتسبب في فقدان بعض الجذوع التي يحملها التيار أثناء العمل. الوقت أيضاً ثمين، حيث أن المؤن عادةً ليست وفيرة جداً، وكلما ابتعدوا في نهر أوجووي، أصبح من الصعب الحصول على المزيد من الطعام. من أجل بعض سبائط الموز البائس، يطلب سكان القرى على طول النهر من الرجال الجائعين فرنكاً أو فرنكاً ونصف؛ أو قد يرفضون تزويدهم بأي شيء على الإطلاق.

يحدث أحياناً، أن يبيع طاقم الطوافة خلال الرحلة، بعض الجذوع الجيدة في الطوافة إلى سكان القرى الأخرى، ويستبدلونها بأخرى أقل قيمة من نفس الأحجام تماماً، ثم يضعون العلامة التجارية للشركة على هذه الجذوع بدقة مضللة. هذه القطع الأقل قيمة يكون قد تم التخلص منها في الغابة ومكثت على الأرض منذ الفيضان الأخير، إما على الكثبان الرملية أو في الخلجان الصغيرة على ضفاف النهر، ويقال إن هناك قرى تحتفظ بمخزون كبير منها بكل الأحجام الممكنة. يتم جعل الأخشاب الجيدة التي تم أخذها من الطوافة غير قابلة للتعرف عليها في وقت لاحق، وتباع مرة أخرى لرجل أبيض.

هناك أسباب أخرى أيضًا لقلق الرجل الأبيض حول طوافته خلال رحلتها. ففي الأيام المقبلة، ستكون السفينة التي ستأخذ الأخشاب في كيب لوبيز، ويجب على الطوافات الوصول إليها بحلول ذلك الوقت: يتم وعد الطاقم بمكافآت سخية إذا وصلت الشحنة في الوقت المناسب. ولكن إذا دوى الطبل في إحدى قرى ضفاف النهر أثناء مرورهم، فقد يستسلمون للإغراء بربط الطوافة والانضمام إلى الاحتفالات - لمدة يومين، أربعة، ستة أيام! وفي هذه الأثناء، تنتظر السفينة في كيب لوبيز ويجب على التاجر دفع غرامة عن التأخير تحول دون ما كان يأمله من صفقة تجارية مربحة إلى خسارة جسيمة.

aahmedgumaa@yahoo.com

 

آراء