على حافة الغابة البدائية: الحلقة (19)
د. أحمد جمعة صديق
8 June, 2024
8 June, 2024
تجارب وملاحظات طبيب الماني في أفريقيا الإستوائية
كتبها: آلبرت شفايتزر
نقلها من الإنجليزية د. أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الأزهري – السودان
• ديباجة
تعرفنا على كثير من الجوانب المظلمة في الحقبة التي تكالب فيها الإستعمار الأوربي على أفريقيا. وقد توالت الأحداث الجسام من تهجير وقهر وقتل، دأب المستعمر الأبيض على ممارستها، ليفرض سيطرته على إنسان أفريقيا ومقدراته وموارده التي نهبت - ردحاً من الزمن - ليعمّر بها العالم الأوربي، بينما يرزح الأفريقي صاحب كل ذاك الخير في فقر لا يدانيه فقر. ومازالت أفريقيا تعاني من استنزاف مواردها بطرق شتى، وما زال بنوها يعانون من الأمرّين: استغلال المستعمر المباشر وتغول بعض أبنائها المتسلطين على إهانة شعوبهم وسرقة مقدراتهم – بواسطة حفنة من الحكام الفاسدين. لقد خرج الاستعمار من الباب الأمامي ليتسلل مرة أخرى من الباب الخلفي.
كانت سيرة الاستعمار طوال وجوده في أفريقيا، ليست بالسيرة العطرة، غير أنه قد تخللت هذه السيرة غير المحبوبة، بعض الفضاءات المضيئة من أفراد بيض، آثروا أن يغلّبوا الجانب الانساني في علاقتهم بالانسان الأسود، بطرق عديدة، كالخدمات الطبية التي قدمها الطبيب والفيلسوف الألماني (آلبرت شيفايتزر) وزوجه، للانسان الأفريقي في الجابون الحالية، إذ قاموا ببناء مستشفى لخدمة السكان المحليين، هذا المجهود أهّله للترشيح والفوز بجائزة (نوبل) تقديراً لهذا العمل الإنساني الكبير.
هذه الصفحات هي ترجمة لمذكراته التي صدرت في كتاب بعنوان:
(On the Edge of the Primeval Forest)
*********************************
· ملحوظة جانبية: العلاقات بين البيض والسود
كلمة في الختام حول العلاقات بين البيض والسود. ما هو الطابع العام للتعامل بينهم؟ هل يجب أن أعامل الرجل الأسود كمساوي لي أم أقل مني؟ يجب أن أظهر له أنني أستطيع احترام كرامة الشخص البشري في كل إنسان، ويجب أن يكون قادراً على رؤية هذا الموقف في نفسه؛ لكن الأمر الأساسي هو أن يكون هناك شعور حقيقي بالأخوة. أما إلى أي مدى يجب أن يكن هذا التعبير كامل في الأقوال والأفعال اليومية، فذلك يجب أن يُحَدَّد بحسب الظروف.
الرجل الأسود عبارة عن طفل، ومع الأطفال لا يمكن فعل أي شيء بدون استخدام السلطة. لذا، يجب علينا ترتيب ظروف الحياة اليومية بحيث يمكن لسلطتي الطبيعية أن تجد قبولاً. بالنسبة للسود، فقد وضعت صيغة: "أنا أخوك، صحيح، لكن أخوك الأكبر." إن الجمع بين الود والسلطة هو بالتالي السر الكبير للتعامل الناجح.
ترك أحد مبشرينا، السيد روبرت، الطاقم منذ بضع سنوات ليعيش بين السود كأخ لهم تماماً. بنى لنفسه منزلا صغيراً بالقرب من قرية بين لامبارين ونغومو، وأراد أن يُعترف به كعضو في القرية. منذ ذلك اليوم، انقلبت حياته جحيماً. فقدْ فَقَدَ كل تأثيره عند تخليه عن المسافة الإجتماعية بين الأبيض والأسود. لم يعُدْ كلامه يُؤخذ كـ"كلمة رجل أبيض"، بل كان يتعين عليه أن يجادل في كل نقطة معهم كما لو أنه مساوٍ لهم.
كنت قبل قدومي إلى أفريقيا، أسمع المبشرين والتجار يقولون مراراً وتكراراً أنه يجب أن يكون الشخص حذراً جداً هنا في الحفاظ على هذا الموقف السلطوي للرجل الأبيض، بدا لي هذا الموقف صعباً وغير طبيعي، كما يبدو للجميع في أوروبا الذين يقرأون أو يسمعون نفس الشيء. الآن فهمت أن أعمق مشاعر التعاطف واللطف يمكن دمجها مع هذا الإصرار على بعض الأشكال الخارجية، وفعلا لا يمكن أن تتحقق إلا من خلالها.
سمح أحد المبشرين العزاب لدينا في نغومو - والقصة تعود إلى فترة منذ بضع سنوات - لطباخه أن يكون حراً جداً في التعامل معه. في يوم ما، وقفت العبارة وكان المحافظ غلى متنها، وذهب المبشر ليقدم احترامه للمسؤول الكبير. كان يقف على سطح العبارة بزي أبيض أنيق بين مجموعة من المسؤولين والعسكريين، عندما اقتحم رجل أسود بقبعة على رأسه والغليون في فمه نفس المجموعة وقال له: "حسناً، ماذا سنتناول في عشاء الليلة؟" أراد الطباخ أن يظهر مدى العلاقة الطيبة التي يتمتع بها مع سيده
إن حرمان الحرية غير المناسبة هو جزء سطحي وتقني، لنقول، من مشكلة السلطة. لا يمكن للرجل الأبيض أن يكون له سلطة حقيقية إلا إذا احترمه السكان الأصليون. لا يجب على أحد أن يتصوّر أن ابن الطبيعة يحترمنا فقط لأننا نعرف أكثر أو نستطيع أكثر مما يستطيع هو. هذا التفوق واضح للغاية بالنسبة له بحيث يتوقف عنده ويؤخذ بعين الاعتبار. ليس الأمر على الإطلاق أن الرجل الأبيض هو شخص مبهر بالنسبة للأسود لأنه يمتلك السكك الحديدية والعبارات، ويستطيع الطيران في الهواء، أو السفر تحت الماء. "الناس البيض ماهرين ويمكنهم فعل أي شيء يريدونه"، كما يقول جوزيف. لكن السكان الأصليون ليسوا في موقف يمكنهم فيه تقدير ما تعنيه هذه الفتوحات التقنية في قهر الطبيعة كدلائل على التفوق العقلي والروحي، ولكن في نقطة واحدة لديهم فحدسهم غير مخطئ، وهذه هي المسألة: ما إذا كان أي رجل أبيض معين شخصية حقيقية وأخلاقية أم لا. فإذا شعر السكان الأصليون إن هو كذلك، فإن السلطة الأخلاقية ممكنة؛ وإذا لم يكن كذلك، فإنه ببساطة من المستحيل إرساء سلطته على الآخرين. ابن الطبيعة، لم يتم تشويهه كما تم تشويهنا، فلديه معايير تقدير أولية فقط، ويقيسنا من خلال أبسط هذه المعايير، ألا وهي المعيار الأخلاقي، فحيث يوجد الخير والعدل والصدق في الشخص، والقيمة والكرامة الحقيقية، وراء الكرامة الخارجية التي منحتها الظروف الاجتماعية، ينحني ويعترف بسيده؛ وحينما لا يجد هذه القيم يظل عاصياً حقيقةً بالرغم من كل مظاهر الانقياد والخنوع، ويقول لنفسه: "هذا الأبيض ليس أكثر إنسانية مني، لأنه ليس أفضل مني".
أنا لا أقصد بهذا فقط حقيقة أن الكثير من الأشخاص غير المناسبين، وليس القليل من الرجال غير اللائقين، يذهبون إلى المستعمرات لجميع الدول. بل أريد التأكيد على حقيقة أخرى، وهي أن حتى أفضل الأخلاقيين والمثاليين يجدون صعوبة في أن يكونوا هنا على ما يرغبون ان يكونوا عليه. نشعر نحن جميعاً بالإرهاق في المنافسة الرهيبة بين العامل الأوروبي الذي يتحمل المسؤولية ويكون دائمًا مستعجلًا، وابن الطبيعة الذي لا يعرف ما هي المسؤولية وليس في عجلة من أمره أبداً. يجب على المسؤول الحكومي أن يسجل في نهاية السنة الكثير من العمل الذي قام به السكان الأصليون في البناء وصيانة الطرق، في خدمة الحمال أو الصانع، وكم من المال تم دفعه كضرائب؛ كما يتوقع من التاجر والمزارع أن يوفروا ربحًا معيناً لشركاتهم مقابل رأسمال المستثمر في المشروع. ولكن في كل هذا، فهم معتمدون إلى الأبد على أشخاص لا يمكنهم تحمل المسؤولية التي تقع عليهم، ويقدمون فقط كمية محددة من العمل بقدر ما يستطيع الآخرون إجبارهم عليها، وإذا كان هناك أدنى فشل في الإشراف، فهم يفعلون ما يحلو لهم تماماً دون أي اعتبار للخسائر التي قد تتسبب لأرباب عملهم. في هذه المنافسة اليومية والساعية مع ابن الطبيعة، يكون كل رجل أبيض في خطر مستمر على التدهور الأخلاقي والتدريجي الذي يحدث.
كانت زوجتي وأنا سعداء جدًا في إحدى المرات بقدوم تاجر جديد، لأنه في المحادثات التي أجريناها معه كان دائمًا يصر على اللطف تجاه السكان الأصليين، ولم يسمح بأدنى معاملة سيئة لهم من قبل مشرفيه. ومع ذلك في الربيع التالي كان لديه التجربة التالية: فقد وجد أن لديه كمية كبيرة من خشب الماهوقني في بركة مائية على بعد حوالي ستين ميلاً من هنا، لكنه تم استدعاؤه إلى لامبارين لتسوية بعض المراسلات العاجلة جداً. وعندما بدأ الماء في الارتفاع. أمر مشرفيه وعماله بالتأكد من استخدام يومين أو ثلاثة أيام من المد العالي لجلب جميع الأخشاب، إذا كان ذلك ممكناً، إلى النهر. عندما انخفض الماء عاد إلى المكان ووجد أنه لم يتم عمل أي شيء على الإطلاق! لقد اندمجوا في التدخين والشرب والرقص؛ كانت الأخشاب التي قد وضعت بالفعل في البركة لفترة طويلة تقريباً مدمرة تماماً، وكان هو المسؤول أمام شركته عن الخسارة. كان رجاله غير مبالين لأنهم لم يكونون يخشوه بما فيه الكفاية. غيرت هذه التجربة الرجل كلياً، والآن يضحك على أولئك الذين يعتقدون أنه من الممكن فعل أي شيء مع السكان الأصليين دون استخدام القسوة بلا هوادة.
في وقتٍ ليس ببعيد، دخل النمل الأبيض، أو الأرضة، إلى صندوق كان موضوعاً على شرفتنا. أفرغتُ الصندوق وكسرته إلى قطع، وأعطيت القطع إلى الرجل الأسود الذي كان يساعدني. قلت له: "انظر، لقد دخلت النمل إلى هذا الصندوق؛ يجب أن لا تضع الخشب مع بقية الحطب حتى لا تدخل النمل إلى هيكل بناء المستشفى."
اذهب إلى النهر وارمِها في الماء. هل تفهم؟" "نعم، نعم، لا داعي للقلق." كان الوقت متأخراً ذاك اليوم، وبما أنني كنت متعباً جدًا لأذهب إلى أسفل التل مرة أخرى، كنت ميالًا لكسر قاعدتي العامة والثقة برجل أسود - وهو في الواقع كان ذكياً وماهراً بشكل عام. لكن حوالي الساعة العاشرة شعرت بقلق شديد، فأخذت الفانوس وذهبت إلى المستشفى. كان هناك الخشب الذي كان يحتوي على النمل الأبيض موضوعاً مع بقية الحطب. لتوفير عناء الذهاب العشرين ياردة إلى النهر، عرَّض الرجل الأسود باهماله جميع المبانيَّ للخطر!
وكلما زادت المسؤولية التي تقع على عاتق الرجل الأبيض، تزداد خطورة أن يصبح قاسياً تجاه السكان الأصليين. ونحن في طاقم البعثة ميالون بسهولة لأن نصبح متعجرفين فيما يتعلق بعلاقتنا مع البيض الآخرين. ونحن لسنا مضطرين لتحقيق نتائج معينة من السكان الأصليين بحلول نهاية العام، كما يفعل المسئولون والتجار، ولذلك فإن هذا الصراع المرهق ليس صعباً بالنسبة لنا كما هو بالنسبة لهم.
لم أعد أجرؤ على الحكم على زملائي بعد أن تعلمت شيئاً عن روح الرجل الأبيض الذي يعمل في التجارة من أولئك الذين كانوا مرضى تحت سقفي، وحديثهم قادني إلى الشك في أن أولئك الذين يتحدثون الآن بوحشية عن السكان الأصليين ربما أتوا إلى إفريقيا مليئين بالمثالية، لكن في الصراع اليومي أصبحوا متعبين ويائسين، يفقدون شيئًا فشيئًا ما كانوا يمتلكونه من قيم روحانية.
من الصعب حقًا على الإنسان أن يحافظ على إنسانيته، وبالتالي أن يكون الشخص حامل راية الحضارة النموذجية؛ هو نفسه العنصر المأساوي وسبب المشكلة في العلاقات، بين الآدميين البيض والملونين، في إفريقيا الاستوائية.
aahmedgumaa@yahoo.com
كتبها: آلبرت شفايتزر
نقلها من الإنجليزية د. أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الأزهري – السودان
• ديباجة
تعرفنا على كثير من الجوانب المظلمة في الحقبة التي تكالب فيها الإستعمار الأوربي على أفريقيا. وقد توالت الأحداث الجسام من تهجير وقهر وقتل، دأب المستعمر الأبيض على ممارستها، ليفرض سيطرته على إنسان أفريقيا ومقدراته وموارده التي نهبت - ردحاً من الزمن - ليعمّر بها العالم الأوربي، بينما يرزح الأفريقي صاحب كل ذاك الخير في فقر لا يدانيه فقر. ومازالت أفريقيا تعاني من استنزاف مواردها بطرق شتى، وما زال بنوها يعانون من الأمرّين: استغلال المستعمر المباشر وتغول بعض أبنائها المتسلطين على إهانة شعوبهم وسرقة مقدراتهم – بواسطة حفنة من الحكام الفاسدين. لقد خرج الاستعمار من الباب الأمامي ليتسلل مرة أخرى من الباب الخلفي.
كانت سيرة الاستعمار طوال وجوده في أفريقيا، ليست بالسيرة العطرة، غير أنه قد تخللت هذه السيرة غير المحبوبة، بعض الفضاءات المضيئة من أفراد بيض، آثروا أن يغلّبوا الجانب الانساني في علاقتهم بالانسان الأسود، بطرق عديدة، كالخدمات الطبية التي قدمها الطبيب والفيلسوف الألماني (آلبرت شيفايتزر) وزوجه، للانسان الأفريقي في الجابون الحالية، إذ قاموا ببناء مستشفى لخدمة السكان المحليين، هذا المجهود أهّله للترشيح والفوز بجائزة (نوبل) تقديراً لهذا العمل الإنساني الكبير.
هذه الصفحات هي ترجمة لمذكراته التي صدرت في كتاب بعنوان:
(On the Edge of the Primeval Forest)
*********************************
· ملحوظة جانبية: العلاقات بين البيض والسود
كلمة في الختام حول العلاقات بين البيض والسود. ما هو الطابع العام للتعامل بينهم؟ هل يجب أن أعامل الرجل الأسود كمساوي لي أم أقل مني؟ يجب أن أظهر له أنني أستطيع احترام كرامة الشخص البشري في كل إنسان، ويجب أن يكون قادراً على رؤية هذا الموقف في نفسه؛ لكن الأمر الأساسي هو أن يكون هناك شعور حقيقي بالأخوة. أما إلى أي مدى يجب أن يكن هذا التعبير كامل في الأقوال والأفعال اليومية، فذلك يجب أن يُحَدَّد بحسب الظروف.
الرجل الأسود عبارة عن طفل، ومع الأطفال لا يمكن فعل أي شيء بدون استخدام السلطة. لذا، يجب علينا ترتيب ظروف الحياة اليومية بحيث يمكن لسلطتي الطبيعية أن تجد قبولاً. بالنسبة للسود، فقد وضعت صيغة: "أنا أخوك، صحيح، لكن أخوك الأكبر." إن الجمع بين الود والسلطة هو بالتالي السر الكبير للتعامل الناجح.
ترك أحد مبشرينا، السيد روبرت، الطاقم منذ بضع سنوات ليعيش بين السود كأخ لهم تماماً. بنى لنفسه منزلا صغيراً بالقرب من قرية بين لامبارين ونغومو، وأراد أن يُعترف به كعضو في القرية. منذ ذلك اليوم، انقلبت حياته جحيماً. فقدْ فَقَدَ كل تأثيره عند تخليه عن المسافة الإجتماعية بين الأبيض والأسود. لم يعُدْ كلامه يُؤخذ كـ"كلمة رجل أبيض"، بل كان يتعين عليه أن يجادل في كل نقطة معهم كما لو أنه مساوٍ لهم.
كنت قبل قدومي إلى أفريقيا، أسمع المبشرين والتجار يقولون مراراً وتكراراً أنه يجب أن يكون الشخص حذراً جداً هنا في الحفاظ على هذا الموقف السلطوي للرجل الأبيض، بدا لي هذا الموقف صعباً وغير طبيعي، كما يبدو للجميع في أوروبا الذين يقرأون أو يسمعون نفس الشيء. الآن فهمت أن أعمق مشاعر التعاطف واللطف يمكن دمجها مع هذا الإصرار على بعض الأشكال الخارجية، وفعلا لا يمكن أن تتحقق إلا من خلالها.
سمح أحد المبشرين العزاب لدينا في نغومو - والقصة تعود إلى فترة منذ بضع سنوات - لطباخه أن يكون حراً جداً في التعامل معه. في يوم ما، وقفت العبارة وكان المحافظ غلى متنها، وذهب المبشر ليقدم احترامه للمسؤول الكبير. كان يقف على سطح العبارة بزي أبيض أنيق بين مجموعة من المسؤولين والعسكريين، عندما اقتحم رجل أسود بقبعة على رأسه والغليون في فمه نفس المجموعة وقال له: "حسناً، ماذا سنتناول في عشاء الليلة؟" أراد الطباخ أن يظهر مدى العلاقة الطيبة التي يتمتع بها مع سيده
إن حرمان الحرية غير المناسبة هو جزء سطحي وتقني، لنقول، من مشكلة السلطة. لا يمكن للرجل الأبيض أن يكون له سلطة حقيقية إلا إذا احترمه السكان الأصليون. لا يجب على أحد أن يتصوّر أن ابن الطبيعة يحترمنا فقط لأننا نعرف أكثر أو نستطيع أكثر مما يستطيع هو. هذا التفوق واضح للغاية بالنسبة له بحيث يتوقف عنده ويؤخذ بعين الاعتبار. ليس الأمر على الإطلاق أن الرجل الأبيض هو شخص مبهر بالنسبة للأسود لأنه يمتلك السكك الحديدية والعبارات، ويستطيع الطيران في الهواء، أو السفر تحت الماء. "الناس البيض ماهرين ويمكنهم فعل أي شيء يريدونه"، كما يقول جوزيف. لكن السكان الأصليون ليسوا في موقف يمكنهم فيه تقدير ما تعنيه هذه الفتوحات التقنية في قهر الطبيعة كدلائل على التفوق العقلي والروحي، ولكن في نقطة واحدة لديهم فحدسهم غير مخطئ، وهذه هي المسألة: ما إذا كان أي رجل أبيض معين شخصية حقيقية وأخلاقية أم لا. فإذا شعر السكان الأصليون إن هو كذلك، فإن السلطة الأخلاقية ممكنة؛ وإذا لم يكن كذلك، فإنه ببساطة من المستحيل إرساء سلطته على الآخرين. ابن الطبيعة، لم يتم تشويهه كما تم تشويهنا، فلديه معايير تقدير أولية فقط، ويقيسنا من خلال أبسط هذه المعايير، ألا وهي المعيار الأخلاقي، فحيث يوجد الخير والعدل والصدق في الشخص، والقيمة والكرامة الحقيقية، وراء الكرامة الخارجية التي منحتها الظروف الاجتماعية، ينحني ويعترف بسيده؛ وحينما لا يجد هذه القيم يظل عاصياً حقيقةً بالرغم من كل مظاهر الانقياد والخنوع، ويقول لنفسه: "هذا الأبيض ليس أكثر إنسانية مني، لأنه ليس أفضل مني".
أنا لا أقصد بهذا فقط حقيقة أن الكثير من الأشخاص غير المناسبين، وليس القليل من الرجال غير اللائقين، يذهبون إلى المستعمرات لجميع الدول. بل أريد التأكيد على حقيقة أخرى، وهي أن حتى أفضل الأخلاقيين والمثاليين يجدون صعوبة في أن يكونوا هنا على ما يرغبون ان يكونوا عليه. نشعر نحن جميعاً بالإرهاق في المنافسة الرهيبة بين العامل الأوروبي الذي يتحمل المسؤولية ويكون دائمًا مستعجلًا، وابن الطبيعة الذي لا يعرف ما هي المسؤولية وليس في عجلة من أمره أبداً. يجب على المسؤول الحكومي أن يسجل في نهاية السنة الكثير من العمل الذي قام به السكان الأصليون في البناء وصيانة الطرق، في خدمة الحمال أو الصانع، وكم من المال تم دفعه كضرائب؛ كما يتوقع من التاجر والمزارع أن يوفروا ربحًا معيناً لشركاتهم مقابل رأسمال المستثمر في المشروع. ولكن في كل هذا، فهم معتمدون إلى الأبد على أشخاص لا يمكنهم تحمل المسؤولية التي تقع عليهم، ويقدمون فقط كمية محددة من العمل بقدر ما يستطيع الآخرون إجبارهم عليها، وإذا كان هناك أدنى فشل في الإشراف، فهم يفعلون ما يحلو لهم تماماً دون أي اعتبار للخسائر التي قد تتسبب لأرباب عملهم. في هذه المنافسة اليومية والساعية مع ابن الطبيعة، يكون كل رجل أبيض في خطر مستمر على التدهور الأخلاقي والتدريجي الذي يحدث.
كانت زوجتي وأنا سعداء جدًا في إحدى المرات بقدوم تاجر جديد، لأنه في المحادثات التي أجريناها معه كان دائمًا يصر على اللطف تجاه السكان الأصليين، ولم يسمح بأدنى معاملة سيئة لهم من قبل مشرفيه. ومع ذلك في الربيع التالي كان لديه التجربة التالية: فقد وجد أن لديه كمية كبيرة من خشب الماهوقني في بركة مائية على بعد حوالي ستين ميلاً من هنا، لكنه تم استدعاؤه إلى لامبارين لتسوية بعض المراسلات العاجلة جداً. وعندما بدأ الماء في الارتفاع. أمر مشرفيه وعماله بالتأكد من استخدام يومين أو ثلاثة أيام من المد العالي لجلب جميع الأخشاب، إذا كان ذلك ممكناً، إلى النهر. عندما انخفض الماء عاد إلى المكان ووجد أنه لم يتم عمل أي شيء على الإطلاق! لقد اندمجوا في التدخين والشرب والرقص؛ كانت الأخشاب التي قد وضعت بالفعل في البركة لفترة طويلة تقريباً مدمرة تماماً، وكان هو المسؤول أمام شركته عن الخسارة. كان رجاله غير مبالين لأنهم لم يكونون يخشوه بما فيه الكفاية. غيرت هذه التجربة الرجل كلياً، والآن يضحك على أولئك الذين يعتقدون أنه من الممكن فعل أي شيء مع السكان الأصليين دون استخدام القسوة بلا هوادة.
في وقتٍ ليس ببعيد، دخل النمل الأبيض، أو الأرضة، إلى صندوق كان موضوعاً على شرفتنا. أفرغتُ الصندوق وكسرته إلى قطع، وأعطيت القطع إلى الرجل الأسود الذي كان يساعدني. قلت له: "انظر، لقد دخلت النمل إلى هذا الصندوق؛ يجب أن لا تضع الخشب مع بقية الحطب حتى لا تدخل النمل إلى هيكل بناء المستشفى."
اذهب إلى النهر وارمِها في الماء. هل تفهم؟" "نعم، نعم، لا داعي للقلق." كان الوقت متأخراً ذاك اليوم، وبما أنني كنت متعباً جدًا لأذهب إلى أسفل التل مرة أخرى، كنت ميالًا لكسر قاعدتي العامة والثقة برجل أسود - وهو في الواقع كان ذكياً وماهراً بشكل عام. لكن حوالي الساعة العاشرة شعرت بقلق شديد، فأخذت الفانوس وذهبت إلى المستشفى. كان هناك الخشب الذي كان يحتوي على النمل الأبيض موضوعاً مع بقية الحطب. لتوفير عناء الذهاب العشرين ياردة إلى النهر، عرَّض الرجل الأسود باهماله جميع المبانيَّ للخطر!
وكلما زادت المسؤولية التي تقع على عاتق الرجل الأبيض، تزداد خطورة أن يصبح قاسياً تجاه السكان الأصليين. ونحن في طاقم البعثة ميالون بسهولة لأن نصبح متعجرفين فيما يتعلق بعلاقتنا مع البيض الآخرين. ونحن لسنا مضطرين لتحقيق نتائج معينة من السكان الأصليين بحلول نهاية العام، كما يفعل المسئولون والتجار، ولذلك فإن هذا الصراع المرهق ليس صعباً بالنسبة لنا كما هو بالنسبة لهم.
لم أعد أجرؤ على الحكم على زملائي بعد أن تعلمت شيئاً عن روح الرجل الأبيض الذي يعمل في التجارة من أولئك الذين كانوا مرضى تحت سقفي، وحديثهم قادني إلى الشك في أن أولئك الذين يتحدثون الآن بوحشية عن السكان الأصليين ربما أتوا إلى إفريقيا مليئين بالمثالية، لكن في الصراع اليومي أصبحوا متعبين ويائسين، يفقدون شيئًا فشيئًا ما كانوا يمتلكونه من قيم روحانية.
من الصعب حقًا على الإنسان أن يحافظ على إنسانيته، وبالتالي أن يكون الشخص حامل راية الحضارة النموذجية؛ هو نفسه العنصر المأساوي وسبب المشكلة في العلاقات، بين الآدميين البيض والملونين، في إفريقيا الاستوائية.
aahmedgumaa@yahoo.com