بعض ما تساقط من حقيبة الذكريات!
الخضر هارون
9 June, 2024
9 June, 2024
الدكتور الخضر هارون
فضل الألوان في التبيان والإشهار والإعلان!
التحقنا بالمدرسة الأولية في العام ١٩٥٨ وكانت البلاد قد كسرت قيد الاستعمار قبل عامين اثنين فقط فلم ندرك المنهج البريطاني في الكتب الدراسية. لكننا حصلنا علي نسخة من الكتاب الأول في الأولية ممن سبقونا إلي المدارس و كانت الصور التوضيحية فيها رسومات علي طريقة الكاريكاتير وكنت ولم أزل شديد الظن بأنها تحمل معان التحقير والازدراء فقد كانت لبريطانيين. والذي يقرأ كتاباتهم الأخرى لونستون تشرشل وسلاطين باشا عن السودانيين يومئذ وغيرهم من الملونين لا ينتهي إلا لذلك الظن السئ .أذكر درساً يحكي قصة تلميذ كسول عظيم البطن ( والبطن مذكر في الفصحي ) كما جاء في الرسم التوضيحي كالمصاب بمرض الاستسقاء ( الكلازار)يقول : درس أمس صعب ،درس اليوم سهل ويختم الطفل حديثه بالقول ، وملأت البطن ورقدت !وقصة أخري لفتاة معشوقة : تقول ، هو ورد وهي وردت ( أي وردا مصدر الماء) فلما نظر إليها تعجب منها ( أي شغف بها حباً) وبقية القصة أن طلبها من أبيها الذي استشارها فسكتت فزوجها للرجل. ثم قصة عمر والنمر the crying wolfوغيرها.
كنا نسكن مستأجرين في بيت رجل من أمبكول يعمل في السكة حديد ويسكن هناك يدعي محمد المكي وكان البيت خلف سوق السجانة من الناحية الشرقية وفي بداية الشارع كانت عيادة الدكتور الهادي الزين النحاس مكتوب في وصف تخصصه: نساء وولاده! وكنت في بداية تعلمي القراءة أعجب كيف يكتبون وأولاده خطأ بلا ألف ! ولم أفطن إلي أن المقصود التوليد وليس الأولاد! وقبالة العيادة علي يدك اليمني وأنت تتجه شرقاً ناد لعله نادي أبناء المقل والحجير وفيه بدأت مدرسة النور خضر النور رحمه الله بفصل واحد وكانت تسمي "مدرسة السجانة (أ) المجلسية" أي التي أسسها مجلس بلدية الخرطوم لا وزارة المعارف.
وكانت الألوان الزاهية علي الصور المعلقة علي الجدار والمرسومة بإتقان : الجمل دخل والجمل خرج وأ ,أسد وك, كلب وغيرها سبباً لرفضي الاختلاف إلي خلوة شيخنا محمد علي محمود التي كانت علي بعد خطوات من حيث نسكن تحولت بعد ذلك إلي زاوية للصلوات. كانت بالمقارنة حوشاً فسيحا يطل علي فسحة لا أدري لم كان يطلق عليها منتزه! وليس بينها وبين التنزه من سبب بل كانت معترك مترب للصبية يتبارون فيه علي كرة الشراب ولم تكن بها خضرة ولم تنبت بها زهرة بل (ولت صحراء ) في غناء الرائع عبدالوهاب الدوكالي .والغرف في الخلوة لم تكن مطلية بدهان وكان والجلوس القرفصاء علي حصائر بروش قاسية نغدو ونروح للجلوس عليها مرات ثلاث كل يوم ونخشي تنمر كبار (الحيران ) ومطالبتهم لنا أحيانا بالقرش والتعريفة لغير ما سبب ! وقبيل الانصراف عند المغيب نردد أسماء الله الحسني ونردد بفرح حسبنا الله ونعم الوكيل فهي شارة الانصراف ودالته.
وفي المدرسة المذكورة يجلس التلاميذ علي أرائك (كنبات) مطلية باللون الأخضر الجميل وعليها محابر بيضاء اللون. وتنطلق من الحناجر الغضة الأناشيد مزدانة بالألحان : حل الخريف حل أهلاً بها وسهلا! وعلمي أنت رجائي أنت عنوان الولاء! كنت عند المقارنة أجد أن البعد بين العالمين سنوات ضوئية فتمردت علي الخلوة وأكلت علقة بالنعال لكني انتصرت حيث ألحقوني بتلك المدرسة. وكان كتاب الأطفال في العهد الجديد جميل تزينه صورة فخيمة بالألوان أيضاً لطفل يلبس جلباباً ناصع البياض ويعتمر عمامة بيضاء يرفع السبابة كالسائل!
ولا أزال أتساءل عن شغف الصغار بالألوان. أذكر أن قريباً لنا جاء بعدد من أكواب الزجاج عليها رسومات جميلة بالألوان لفروع الأشجار تكسرت جميعا وقيل لنا دسوها في التراب حتي لا تجرح أحدا وكدنا ألا نفعل حسرة علي ما أصابها ولكنها كانت عديمة النفع. كان مما يميزنا في الخرطوم إذا أصابنا جرح من كسرة زجاج في الشارع قلنا أو قيل عنا : جرحته ساسوية بإمالة الشايقية ولعلها كلمة نوبية. وبعض حبنا لكرات البلي (كرات الرخام) ربما كانت ألوانها المتعددة البديعة! وكنا ننهي عن اللعب بها مخافة أن تحببنا اللعبة لاحقا للعب القمار
مطاميس التلاميذ!
وهي صفة أطلقها أستاذ الطاهر علي عدد من المشاغبين من التلاميذ في الصف الرابع في المدرسة الأولية وكان ذلك الصف هو نهاية الأرب لبعض كبار التلاميذ وبداية المرحلة المتوسطة لسواهم والتي كان يطلق عليها ( الإبتدائي) ربما لأنها بداية التأهيل الحقيقي للتوظيف في الحكومة تحديدا حيث يبدأ هناك تدريس اللغة الإنقليزية وتعادلها المرحلة الإعدادية في سلم التعليم المصري. قلت نهاية الأرب فلم تكن لبعض الوقت هناك كلية أو جامعة ينتهي مطاف الطلب إليها بل كان المرجو من التعليم للأهالي والمستعمر معاً :التوظيف ! فبعد الأولية كان يساق الذين دخلوا المرحلة كبارا إلي مدرسة الصنائع في جبيت ليلتحقوا بوظائف فنية في السكك الحديدية بالتركية : عطشقي مثلاً وخلافه والذين يتجاوزون الأولية للابتدائية بنجاح قد يحظون بوظيفة ( أفندي) في المصالح والإدارات الحكومية ويلبسون البنطال ويعتمرون بالطربوش فتصيبهم نفخة وغطرسة فيصعرون خدودهم للناس ويتعالون عليهم تشبهاً بالانقليز ! ذلك أكثر ما صنع التعليم في الناس !وقد يرسل بعضهم لمعاهد التربية ليتخرجوا بعد عامين معلمين في المدارس الأولية أو قد يصبح أحدهم تذكرجيا ( كمساري) في قطارات السكة حديد أو علي متن بواخرها النيلية .ولك أن تعلم أن أولئك المطاميس كان أكثرهم علي درجة رفيعة من الكفاءة والإتقان فيما عهد إليهم من أعمال ووظائف. اذكر قريبا لنا عمل تذكرجيا ثم مفتشا في القطارات كان يتحدث الانقليزية بطلاقة عجيبة كما لو كانت لغة أم.
والمطاميس جمع مطموس والطمس في الفصيح هو الإزالة والمحو وعشي الأبصار. وهي كما لا يخفي لا علاقة لها بالطمث!!
وهي كلمة سيئة الدلالة في ظاهرها علي الأقل، قريبة من معني الحرافيش في المصرية ولكن تطلق أحيانا علي سبيل التحبب والإعجاب المبطن كقولهم في الحجاز ( والله إنك ممحون!) أو ( حدق) في العامية المصرية مع قلب القاف همزة في اللهجة القاهرية. او كما عندنا أحيانا ( دا فقري ياخي) أو حتي في الانقليزية ( دا كعب he is bad) أو ربما دود dude في عامية الشباب أحيانا. ويقيني أن شبيهه يوجد في سائر الثقافات. قال الشاعر صلاح احمد ابراهيم:
هل يوما رحت تراقب لعب الصبية في لهفة وحنان
فإذا أوشكت تصيح بقلب ممتلئ رأفة
ما أبدع " عفرتة الصبيان"!!
وندع بقية البيت حتي لا يصرفنا عن مرادنا.
لما كان ذووهم قد وفدوا علي العاصمة الخرطوم من كل صقع من السودان الفسيح : نوبة ، محس، شايقية، دناقلة ،ميرفاب، جعليون ، عركيون ودينكا فقد جاءوا بلهجات مناطقهم المتباينة وخصومات قبائلهم القديمة التي تلاشت وبقيت منها هنات وحزازات فقد تجد بينهم بادي ذي بدء بعض ذلك وقد جمعهم الآن سور المدرسة الواحد المتسع الكبير عندما تثور بينهم الخصومات الصغيرة: تكتل (تقتل)جنا الشايقي قبل جنا الدابي. طريفي دي شنو هي ؟ الطرفايي ذاتا شن طعما! أول انت جبارة دا اسم شنو ؟ آخر يتهكم ضاحكا: يمكن يقصدوا دبارة لخياطة الخيش ويضج الصف بالضحك .الكدنبس دا عربي دا ؟ يا بربري ، يا بقاري وتنتهي بصراع و (شكلة) وربما توعد الواحد منهم زميله إذا رأي ( شيخ الطاهر ) قادماً فيتوقف العراك بالأيدي .هكذا (شيخ) انتقلت من الخلوة بحذافيرها ثم تحولت الي (افندي) ثم أستاذ في وقت وجيز، نعم إذا رآه كف عن العراك فضم أصابع يده اليمني ورفعها إلي أعلي متوعداً، أي طالعني بعد الدروس! ثم تآلفوا عبر السنين وتحول تحاملهم القبلي والجهوي القديم إلي سخرية محببة. وكانوا جميعا في طليعة الصف الرابع من حيث التحصيل وكان شيخ الطاهر يقدر ذلك وتعجبه (شقاوتهم )لكنها ان تجاوزت الحد جلدهم بقسوة ومع ذلك كانت شقاوتهم في غالب الأحيان تطربه فيها سخريتهم المعبرة عن الواقع المعيش الذي يغاير ما في الكتب ،يعبر عن ذلك بالتبسم قائلا: مطاميس!
قرأ الأستاذ: لا تأكل الفواكه قبل غسلها.
تمتم سيد احمد بصوت خافت: الفواكه ؟ هي وينا الفواكه لمن يغسلوها ؟!نحن البلح ما عاد نغسلو!
قال اسماعيل القادم من سنجة: ليه انتو ما عندكم موز؟
رد سيداحمد : ايه نان الموز فواكه؟ ما شايف الأمثلة كلها عنب وتفاح وكمثرى؟
يا أستاذ : الكمثري يعني شنو؟
الأستاذ باقتضاب وشيء من الضيق: فاكهة بمصر.
وشوش (سركيس) لجاره بصوت مسموع فقد جاء جده من سوريا: اسمها انجاصة في سوريا، قالها في ابتهاجة من يعرف الاجابة.
قال علوبة: نلقي وين يا أستاذ الفواكه والله علا نشوفها في السوق!
ونستعير عبارة الروائي الأمريكي المبدع جيمس بولدوين James Baldwin في روايته الرائعة If Beale Street
Could Talk
"لو قدر لشارع بيلي أن يتكلم!" وهي رواية حزينة لشاب أسود حوكم علي جريمة ارتكبت في ذلك الشارع و هو منها براء .تقول الرواية لو أن الشارع يقوي علي الكلام ، وهو بالطبع جماد وحيطان لشهد ببراءة ذلك الشاب.
أقول أنا في إطار فكاهي مغاير بأن لو تمكن فناء المدرسة العظيم من التكلم لقال إذن وتحدث عن ما سمعه من طريف القول وغريبه ولضحك ملء شدقيه و أضحك ولتراقص طوبه الصامد الذي قارب عمره المائة ،طرباً من غرابة اللهجات واللغات التي كانت تصدر من الأفواه الغضة وهي تتزاحم علي مقصف بيع الطعام في فسحة الفطور: ياحسن ،يا حاجة الشول : ساندوتش بالدقة والسلطة! ولكل لهجة في نطق الساندوتش المسكين يومئذ شؤون! وحاجة الشول سيدة محترمة كان فيها أجمل مافي الأمهات من الحنين والعطف والرعاية. كانت تصنع الطعمية أمام دارها الفسيحة عصراً وتأتي بها صباح اليوم الموالي لإفطار التلاميذ ضمن الفول ومقبلاته. بيتها الأنيق كان في المنطقة التي سميت لاحقا بالخرطوم جنوب حيث ينتهي الطريق المزفت, في لغة الشيخ الجليل علي الطنطاوي، الممتد من شارع الحرية شرقاً وشمال سوق السجانة حتي النهاية ،جنوب نادي الأهلي .ولأن بيتها كان حسن البناء بمقاييس ذلك الزمن قلت ربما تجهد السيدة في بيع الفطور علي سبيل الصدقة ولخيرية جبلت عليها أو لملء الفراغ بالعمل . وفي شأن البيوت كان جلها من اللبن مدرعة بالزبل الخالص من روث البهائم لا تعجب فلم تكن السجانة إلا بعض ريف. شاهدت طفلة تجمع ما يتساقط من علف البرسيم قرب من يبيعه فزجرتها امرأة بيضاء ( يابت بيتكم طوب أحمر كيف تلقطي سواقط البرسيم !)ولك أن تعجب ثانية إن شئت !وحسن صبي كان يساعدها علي البيع داخل سور المدرسة . والدقة هي فتات عجين الطعمية أو الفلافل الذي يتناثر أثناء الرمي في الزيت الحار فيباع مقلياً منفصلا بسعر أقل مع سلطة الأسود ( الباذنجان) ،بقرش ونصف وما أقيم القرش يوم ذاك! وهي جديرة بالاسم لأنها دقيقة الحجم ، أليس الدُقة من الدِقة ؟والدُقة أيضاً خليط من الكمون ( الشمار) والملح يكون كالإدام يؤكل مع الخبز والزوادة .وجدتها تباع في المدينة المنورة بذات الاسم.
ومثلما تصطك الكلمات وتتشاجر علي الألسن في ساحة المدرسة، تفعل مثل ذلك في حجرات الدرس فعدد من التلاميذ يأتون من أصقاع نائية تقل فيها فرص العبور إلي المتوسطة بسبب قلة المدارس .وكانوا متميزين خاصة في مادة الرياضيات ( الحساب) وتري في أعينهم بريق ذكاء ورغبة جامحة للمعرفة مع انبهار بما في المدينة الكبيرة من مبهرات تشد الاهتمام مقارنة بما في قراهم وبينهم وبين أبناء الأفندية المولودين في البندر روح منافسة وتحد فأولئك يعيرونهم بلهجاتهم ونطقهم للأشياء والريفيون يبذونهم في التحصيل سيما وهم ( الريفيون ) قد جلسوا من قبل لامتحان الدخول للمرحلة المتوسطة فحالت قلة المدارس في مناطقهم من خلوصهم إليها فجاءوا يعيدون الكرة في الخرطوم.
أمر الأستاذ التلميذ حسان وهو ممن جاء من الأنحاء البعيدة، بترديد نشيد (دجاجي يلقط الحب )بالتلحين . أجاب حسان : أفندي أنا عندي لحناً ( كُتُر). ضحك الأستاذ وضحكنا معه. كُتُر يعني شنو؟! يعني غير بتاعكم دا. والكُثرُ في الفصيح معظم الشيء وأكثره و الكثر من المال يعني الكثير. وقد يتبادر إلي الذهن أن الكلمة قد طاحت في أرض اللهجات والرطانات في غير موضعها فمكثت حيث وقعت وأقرب من ذلك أن العبقرية الشعبية قد قرأت معني التعدد علي إطلاق في ( كتر ) فجاءت صحيحة لا بأس بها فأراد حسان القول إن لهذا النشيد أكثر من لحن كالذي كان في مدرستنا في الريف البعيد، فلا تثريب عليه .
ومن يومها أصبح اسم حسان (كُتُر)! ولم يجد ضربه للأشقياء من ترك مناداته بها حتي بعد أن أصبح طبيباً يشار إليه بالبنان.
وبعد العطلة الطويلة عاد (أرصد) من قريته في دنقلاً سأله ماهر : عرفتني يا أرصد. رد أرصد متسائلا ( كندو؟) وكندو رطانة معناه ما عرفتك أو من أنت. وكانت عجائز الشايقيات يقلنها علي سبيل الاستهجان اي مثل أُمال أو لكان أو عندما يقلنها مؤمنات علي قول آخر : أنا عارف! ولصقت بأرصد ( كندو) هذه أعوامه الباقية في ذلك السور.
ومع مرور السنين تقارب النطق وزالت الفوارق فأصبحت : أيي وأيا آآي وحسيت صحيت والبارح أم بارح و ( آ جنا) ب يا ود فقد تسيدت الساحة لغة أواسط السودان أو لهجة العاصمة المثلثة وهذا بعض ما يسمونه الانصهار في بوتقة وبه يتحقق التجانس علي نار هادئة وربما بطفرات تصنعها الضرورات .
والذين هاجروا بصغارهم إلي بلاد الضباب يفاجأون بأطفالهم قد أتقنوا لغات تلك البلاد بسرعة فائقة وبقي من عربيتهم القليل مثل : افتح الباب يا ولد ، جيبي موية يا بت . وبعد قليل تتري أسئلة الصغار المزعجة بعد أن انهالت لغات الفرنجة علي مفردات العربية قتلاً: دادي عربية يعني شنو ؟ فتنقلب البهجة بإتقان لغة القوم حيث هم ،إلي إنشغال ممض بما ستأتي به الأيام وما أعجب ما تأتي به الأيام!
قال أحدهم كانوا يلزمونا التحدث بالعربية في فناء المدرسة في منطقنا النوبية في الشمال وكل من يخالف فيتحدث بالنوبية يعطونه ورقة تظل تجول في أوساطنا فكل من خالف ونطق بغير العربية يعطي الورقة ومن بقيت لديه حتي نهاية اليوم أكل علقة بالسوط. قال شريف تنمر عليّ أحدهم في حضرة أمه و عندما وجدته مرة بلا حماية قلت أؤدبه فضاعت العربية في سورة غضبي فقلت مذكراً إياه : " انتا قبيل شنو منو ؟!" عبارة كما ترون لا تفيد معني كانت مقدمة للانتقام!
abuasim.khidir@gmail.com
فضل الألوان في التبيان والإشهار والإعلان!
التحقنا بالمدرسة الأولية في العام ١٩٥٨ وكانت البلاد قد كسرت قيد الاستعمار قبل عامين اثنين فقط فلم ندرك المنهج البريطاني في الكتب الدراسية. لكننا حصلنا علي نسخة من الكتاب الأول في الأولية ممن سبقونا إلي المدارس و كانت الصور التوضيحية فيها رسومات علي طريقة الكاريكاتير وكنت ولم أزل شديد الظن بأنها تحمل معان التحقير والازدراء فقد كانت لبريطانيين. والذي يقرأ كتاباتهم الأخرى لونستون تشرشل وسلاطين باشا عن السودانيين يومئذ وغيرهم من الملونين لا ينتهي إلا لذلك الظن السئ .أذكر درساً يحكي قصة تلميذ كسول عظيم البطن ( والبطن مذكر في الفصحي ) كما جاء في الرسم التوضيحي كالمصاب بمرض الاستسقاء ( الكلازار)يقول : درس أمس صعب ،درس اليوم سهل ويختم الطفل حديثه بالقول ، وملأت البطن ورقدت !وقصة أخري لفتاة معشوقة : تقول ، هو ورد وهي وردت ( أي وردا مصدر الماء) فلما نظر إليها تعجب منها ( أي شغف بها حباً) وبقية القصة أن طلبها من أبيها الذي استشارها فسكتت فزوجها للرجل. ثم قصة عمر والنمر the crying wolfوغيرها.
كنا نسكن مستأجرين في بيت رجل من أمبكول يعمل في السكة حديد ويسكن هناك يدعي محمد المكي وكان البيت خلف سوق السجانة من الناحية الشرقية وفي بداية الشارع كانت عيادة الدكتور الهادي الزين النحاس مكتوب في وصف تخصصه: نساء وولاده! وكنت في بداية تعلمي القراءة أعجب كيف يكتبون وأولاده خطأ بلا ألف ! ولم أفطن إلي أن المقصود التوليد وليس الأولاد! وقبالة العيادة علي يدك اليمني وأنت تتجه شرقاً ناد لعله نادي أبناء المقل والحجير وفيه بدأت مدرسة النور خضر النور رحمه الله بفصل واحد وكانت تسمي "مدرسة السجانة (أ) المجلسية" أي التي أسسها مجلس بلدية الخرطوم لا وزارة المعارف.
وكانت الألوان الزاهية علي الصور المعلقة علي الجدار والمرسومة بإتقان : الجمل دخل والجمل خرج وأ ,أسد وك, كلب وغيرها سبباً لرفضي الاختلاف إلي خلوة شيخنا محمد علي محمود التي كانت علي بعد خطوات من حيث نسكن تحولت بعد ذلك إلي زاوية للصلوات. كانت بالمقارنة حوشاً فسيحا يطل علي فسحة لا أدري لم كان يطلق عليها منتزه! وليس بينها وبين التنزه من سبب بل كانت معترك مترب للصبية يتبارون فيه علي كرة الشراب ولم تكن بها خضرة ولم تنبت بها زهرة بل (ولت صحراء ) في غناء الرائع عبدالوهاب الدوكالي .والغرف في الخلوة لم تكن مطلية بدهان وكان والجلوس القرفصاء علي حصائر بروش قاسية نغدو ونروح للجلوس عليها مرات ثلاث كل يوم ونخشي تنمر كبار (الحيران ) ومطالبتهم لنا أحيانا بالقرش والتعريفة لغير ما سبب ! وقبيل الانصراف عند المغيب نردد أسماء الله الحسني ونردد بفرح حسبنا الله ونعم الوكيل فهي شارة الانصراف ودالته.
وفي المدرسة المذكورة يجلس التلاميذ علي أرائك (كنبات) مطلية باللون الأخضر الجميل وعليها محابر بيضاء اللون. وتنطلق من الحناجر الغضة الأناشيد مزدانة بالألحان : حل الخريف حل أهلاً بها وسهلا! وعلمي أنت رجائي أنت عنوان الولاء! كنت عند المقارنة أجد أن البعد بين العالمين سنوات ضوئية فتمردت علي الخلوة وأكلت علقة بالنعال لكني انتصرت حيث ألحقوني بتلك المدرسة. وكان كتاب الأطفال في العهد الجديد جميل تزينه صورة فخيمة بالألوان أيضاً لطفل يلبس جلباباً ناصع البياض ويعتمر عمامة بيضاء يرفع السبابة كالسائل!
ولا أزال أتساءل عن شغف الصغار بالألوان. أذكر أن قريباً لنا جاء بعدد من أكواب الزجاج عليها رسومات جميلة بالألوان لفروع الأشجار تكسرت جميعا وقيل لنا دسوها في التراب حتي لا تجرح أحدا وكدنا ألا نفعل حسرة علي ما أصابها ولكنها كانت عديمة النفع. كان مما يميزنا في الخرطوم إذا أصابنا جرح من كسرة زجاج في الشارع قلنا أو قيل عنا : جرحته ساسوية بإمالة الشايقية ولعلها كلمة نوبية. وبعض حبنا لكرات البلي (كرات الرخام) ربما كانت ألوانها المتعددة البديعة! وكنا ننهي عن اللعب بها مخافة أن تحببنا اللعبة لاحقا للعب القمار
مطاميس التلاميذ!
وهي صفة أطلقها أستاذ الطاهر علي عدد من المشاغبين من التلاميذ في الصف الرابع في المدرسة الأولية وكان ذلك الصف هو نهاية الأرب لبعض كبار التلاميذ وبداية المرحلة المتوسطة لسواهم والتي كان يطلق عليها ( الإبتدائي) ربما لأنها بداية التأهيل الحقيقي للتوظيف في الحكومة تحديدا حيث يبدأ هناك تدريس اللغة الإنقليزية وتعادلها المرحلة الإعدادية في سلم التعليم المصري. قلت نهاية الأرب فلم تكن لبعض الوقت هناك كلية أو جامعة ينتهي مطاف الطلب إليها بل كان المرجو من التعليم للأهالي والمستعمر معاً :التوظيف ! فبعد الأولية كان يساق الذين دخلوا المرحلة كبارا إلي مدرسة الصنائع في جبيت ليلتحقوا بوظائف فنية في السكك الحديدية بالتركية : عطشقي مثلاً وخلافه والذين يتجاوزون الأولية للابتدائية بنجاح قد يحظون بوظيفة ( أفندي) في المصالح والإدارات الحكومية ويلبسون البنطال ويعتمرون بالطربوش فتصيبهم نفخة وغطرسة فيصعرون خدودهم للناس ويتعالون عليهم تشبهاً بالانقليز ! ذلك أكثر ما صنع التعليم في الناس !وقد يرسل بعضهم لمعاهد التربية ليتخرجوا بعد عامين معلمين في المدارس الأولية أو قد يصبح أحدهم تذكرجيا ( كمساري) في قطارات السكة حديد أو علي متن بواخرها النيلية .ولك أن تعلم أن أولئك المطاميس كان أكثرهم علي درجة رفيعة من الكفاءة والإتقان فيما عهد إليهم من أعمال ووظائف. اذكر قريبا لنا عمل تذكرجيا ثم مفتشا في القطارات كان يتحدث الانقليزية بطلاقة عجيبة كما لو كانت لغة أم.
والمطاميس جمع مطموس والطمس في الفصيح هو الإزالة والمحو وعشي الأبصار. وهي كما لا يخفي لا علاقة لها بالطمث!!
وهي كلمة سيئة الدلالة في ظاهرها علي الأقل، قريبة من معني الحرافيش في المصرية ولكن تطلق أحيانا علي سبيل التحبب والإعجاب المبطن كقولهم في الحجاز ( والله إنك ممحون!) أو ( حدق) في العامية المصرية مع قلب القاف همزة في اللهجة القاهرية. او كما عندنا أحيانا ( دا فقري ياخي) أو حتي في الانقليزية ( دا كعب he is bad) أو ربما دود dude في عامية الشباب أحيانا. ويقيني أن شبيهه يوجد في سائر الثقافات. قال الشاعر صلاح احمد ابراهيم:
هل يوما رحت تراقب لعب الصبية في لهفة وحنان
فإذا أوشكت تصيح بقلب ممتلئ رأفة
ما أبدع " عفرتة الصبيان"!!
وندع بقية البيت حتي لا يصرفنا عن مرادنا.
لما كان ذووهم قد وفدوا علي العاصمة الخرطوم من كل صقع من السودان الفسيح : نوبة ، محس، شايقية، دناقلة ،ميرفاب، جعليون ، عركيون ودينكا فقد جاءوا بلهجات مناطقهم المتباينة وخصومات قبائلهم القديمة التي تلاشت وبقيت منها هنات وحزازات فقد تجد بينهم بادي ذي بدء بعض ذلك وقد جمعهم الآن سور المدرسة الواحد المتسع الكبير عندما تثور بينهم الخصومات الصغيرة: تكتل (تقتل)جنا الشايقي قبل جنا الدابي. طريفي دي شنو هي ؟ الطرفايي ذاتا شن طعما! أول انت جبارة دا اسم شنو ؟ آخر يتهكم ضاحكا: يمكن يقصدوا دبارة لخياطة الخيش ويضج الصف بالضحك .الكدنبس دا عربي دا ؟ يا بربري ، يا بقاري وتنتهي بصراع و (شكلة) وربما توعد الواحد منهم زميله إذا رأي ( شيخ الطاهر ) قادماً فيتوقف العراك بالأيدي .هكذا (شيخ) انتقلت من الخلوة بحذافيرها ثم تحولت الي (افندي) ثم أستاذ في وقت وجيز، نعم إذا رآه كف عن العراك فضم أصابع يده اليمني ورفعها إلي أعلي متوعداً، أي طالعني بعد الدروس! ثم تآلفوا عبر السنين وتحول تحاملهم القبلي والجهوي القديم إلي سخرية محببة. وكانوا جميعا في طليعة الصف الرابع من حيث التحصيل وكان شيخ الطاهر يقدر ذلك وتعجبه (شقاوتهم )لكنها ان تجاوزت الحد جلدهم بقسوة ومع ذلك كانت شقاوتهم في غالب الأحيان تطربه فيها سخريتهم المعبرة عن الواقع المعيش الذي يغاير ما في الكتب ،يعبر عن ذلك بالتبسم قائلا: مطاميس!
قرأ الأستاذ: لا تأكل الفواكه قبل غسلها.
تمتم سيد احمد بصوت خافت: الفواكه ؟ هي وينا الفواكه لمن يغسلوها ؟!نحن البلح ما عاد نغسلو!
قال اسماعيل القادم من سنجة: ليه انتو ما عندكم موز؟
رد سيداحمد : ايه نان الموز فواكه؟ ما شايف الأمثلة كلها عنب وتفاح وكمثرى؟
يا أستاذ : الكمثري يعني شنو؟
الأستاذ باقتضاب وشيء من الضيق: فاكهة بمصر.
وشوش (سركيس) لجاره بصوت مسموع فقد جاء جده من سوريا: اسمها انجاصة في سوريا، قالها في ابتهاجة من يعرف الاجابة.
قال علوبة: نلقي وين يا أستاذ الفواكه والله علا نشوفها في السوق!
ونستعير عبارة الروائي الأمريكي المبدع جيمس بولدوين James Baldwin في روايته الرائعة If Beale Street
Could Talk
"لو قدر لشارع بيلي أن يتكلم!" وهي رواية حزينة لشاب أسود حوكم علي جريمة ارتكبت في ذلك الشارع و هو منها براء .تقول الرواية لو أن الشارع يقوي علي الكلام ، وهو بالطبع جماد وحيطان لشهد ببراءة ذلك الشاب.
أقول أنا في إطار فكاهي مغاير بأن لو تمكن فناء المدرسة العظيم من التكلم لقال إذن وتحدث عن ما سمعه من طريف القول وغريبه ولضحك ملء شدقيه و أضحك ولتراقص طوبه الصامد الذي قارب عمره المائة ،طرباً من غرابة اللهجات واللغات التي كانت تصدر من الأفواه الغضة وهي تتزاحم علي مقصف بيع الطعام في فسحة الفطور: ياحسن ،يا حاجة الشول : ساندوتش بالدقة والسلطة! ولكل لهجة في نطق الساندوتش المسكين يومئذ شؤون! وحاجة الشول سيدة محترمة كان فيها أجمل مافي الأمهات من الحنين والعطف والرعاية. كانت تصنع الطعمية أمام دارها الفسيحة عصراً وتأتي بها صباح اليوم الموالي لإفطار التلاميذ ضمن الفول ومقبلاته. بيتها الأنيق كان في المنطقة التي سميت لاحقا بالخرطوم جنوب حيث ينتهي الطريق المزفت, في لغة الشيخ الجليل علي الطنطاوي، الممتد من شارع الحرية شرقاً وشمال سوق السجانة حتي النهاية ،جنوب نادي الأهلي .ولأن بيتها كان حسن البناء بمقاييس ذلك الزمن قلت ربما تجهد السيدة في بيع الفطور علي سبيل الصدقة ولخيرية جبلت عليها أو لملء الفراغ بالعمل . وفي شأن البيوت كان جلها من اللبن مدرعة بالزبل الخالص من روث البهائم لا تعجب فلم تكن السجانة إلا بعض ريف. شاهدت طفلة تجمع ما يتساقط من علف البرسيم قرب من يبيعه فزجرتها امرأة بيضاء ( يابت بيتكم طوب أحمر كيف تلقطي سواقط البرسيم !)ولك أن تعجب ثانية إن شئت !وحسن صبي كان يساعدها علي البيع داخل سور المدرسة . والدقة هي فتات عجين الطعمية أو الفلافل الذي يتناثر أثناء الرمي في الزيت الحار فيباع مقلياً منفصلا بسعر أقل مع سلطة الأسود ( الباذنجان) ،بقرش ونصف وما أقيم القرش يوم ذاك! وهي جديرة بالاسم لأنها دقيقة الحجم ، أليس الدُقة من الدِقة ؟والدُقة أيضاً خليط من الكمون ( الشمار) والملح يكون كالإدام يؤكل مع الخبز والزوادة .وجدتها تباع في المدينة المنورة بذات الاسم.
ومثلما تصطك الكلمات وتتشاجر علي الألسن في ساحة المدرسة، تفعل مثل ذلك في حجرات الدرس فعدد من التلاميذ يأتون من أصقاع نائية تقل فيها فرص العبور إلي المتوسطة بسبب قلة المدارس .وكانوا متميزين خاصة في مادة الرياضيات ( الحساب) وتري في أعينهم بريق ذكاء ورغبة جامحة للمعرفة مع انبهار بما في المدينة الكبيرة من مبهرات تشد الاهتمام مقارنة بما في قراهم وبينهم وبين أبناء الأفندية المولودين في البندر روح منافسة وتحد فأولئك يعيرونهم بلهجاتهم ونطقهم للأشياء والريفيون يبذونهم في التحصيل سيما وهم ( الريفيون ) قد جلسوا من قبل لامتحان الدخول للمرحلة المتوسطة فحالت قلة المدارس في مناطقهم من خلوصهم إليها فجاءوا يعيدون الكرة في الخرطوم.
أمر الأستاذ التلميذ حسان وهو ممن جاء من الأنحاء البعيدة، بترديد نشيد (دجاجي يلقط الحب )بالتلحين . أجاب حسان : أفندي أنا عندي لحناً ( كُتُر). ضحك الأستاذ وضحكنا معه. كُتُر يعني شنو؟! يعني غير بتاعكم دا. والكُثرُ في الفصيح معظم الشيء وأكثره و الكثر من المال يعني الكثير. وقد يتبادر إلي الذهن أن الكلمة قد طاحت في أرض اللهجات والرطانات في غير موضعها فمكثت حيث وقعت وأقرب من ذلك أن العبقرية الشعبية قد قرأت معني التعدد علي إطلاق في ( كتر ) فجاءت صحيحة لا بأس بها فأراد حسان القول إن لهذا النشيد أكثر من لحن كالذي كان في مدرستنا في الريف البعيد، فلا تثريب عليه .
ومن يومها أصبح اسم حسان (كُتُر)! ولم يجد ضربه للأشقياء من ترك مناداته بها حتي بعد أن أصبح طبيباً يشار إليه بالبنان.
وبعد العطلة الطويلة عاد (أرصد) من قريته في دنقلاً سأله ماهر : عرفتني يا أرصد. رد أرصد متسائلا ( كندو؟) وكندو رطانة معناه ما عرفتك أو من أنت. وكانت عجائز الشايقيات يقلنها علي سبيل الاستهجان اي مثل أُمال أو لكان أو عندما يقلنها مؤمنات علي قول آخر : أنا عارف! ولصقت بأرصد ( كندو) هذه أعوامه الباقية في ذلك السور.
ومع مرور السنين تقارب النطق وزالت الفوارق فأصبحت : أيي وأيا آآي وحسيت صحيت والبارح أم بارح و ( آ جنا) ب يا ود فقد تسيدت الساحة لغة أواسط السودان أو لهجة العاصمة المثلثة وهذا بعض ما يسمونه الانصهار في بوتقة وبه يتحقق التجانس علي نار هادئة وربما بطفرات تصنعها الضرورات .
والذين هاجروا بصغارهم إلي بلاد الضباب يفاجأون بأطفالهم قد أتقنوا لغات تلك البلاد بسرعة فائقة وبقي من عربيتهم القليل مثل : افتح الباب يا ولد ، جيبي موية يا بت . وبعد قليل تتري أسئلة الصغار المزعجة بعد أن انهالت لغات الفرنجة علي مفردات العربية قتلاً: دادي عربية يعني شنو ؟ فتنقلب البهجة بإتقان لغة القوم حيث هم ،إلي إنشغال ممض بما ستأتي به الأيام وما أعجب ما تأتي به الأيام!
قال أحدهم كانوا يلزمونا التحدث بالعربية في فناء المدرسة في منطقنا النوبية في الشمال وكل من يخالف فيتحدث بالنوبية يعطونه ورقة تظل تجول في أوساطنا فكل من خالف ونطق بغير العربية يعطي الورقة ومن بقيت لديه حتي نهاية اليوم أكل علقة بالسوط. قال شريف تنمر عليّ أحدهم في حضرة أمه و عندما وجدته مرة بلا حماية قلت أؤدبه فضاعت العربية في سورة غضبي فقلت مذكراً إياه : " انتا قبيل شنو منو ؟!" عبارة كما ترون لا تفيد معني كانت مقدمة للانتقام!
abuasim.khidir@gmail.com