دراسة نقدية وشذرات من سيرة غيرية مع قصة قصيرة
عمر الحويج
14 June, 2024
14 June, 2024
بقلم / عمر الحويج
دراسة نقدية مع الكاتب والناقد الاستاذ / إدريس محمد سيد أحمد
نشرت بجريدة الخرطوم " القاهرية" بتاريخ الأربعاء ه مايو ٢٠١٠م .
أعادتتي المجموعة القصصية ( إليكم أعود وفي كفي القمر) التي أصدرها صديقي عمر الحويج وأهداني نسخة منها ، أعادتني إلى سنوات الصبا الباكر في مدينة عطبرة ، حيث كنا عمر الحويج والحسن على تكروني وأنا لا نفترق .
يالها من أيام ويا لها من مدينة ، في تلك السنوات الخضراء الزاهية ، في منتصف الخمسينات ، حين كانت البلاد تتنسم نسمات الإستقلال الندية . كنا حينها طلاباً صغاراً في بداية المرحلة المتوسطة ، وقد اعتدنا أن نقضي أيام العطلة المدرسية في مكتبة البلدية الغنية بالكتب في ذلك الزمان .
في تلك السن المبكرة قرأنا كل روايات نجيب محفوظ وعبد الحميد السحار ويوسف السباعي واحسان عبد القدوس وعبد الرحمن الشرقاوي ومسرحيات توفيق الحكيم وقصص يوسف ادريس القصيرة وبعض كتب طه حسين والعقاد والتي كنا نستطيع فهمها وشهرزاد وخاصة الأيام حيث كانت مقررة علينا في المرحلة المتوسطة . عندما انتقلنا إلى المرحلة الثانوية تطورت قراءاتنا فشملت روايات شارلز ديكنز وتليستوي ودوستفيسكي وجان بول سارتر وكافكا وكلون ولسون ومسرحيات شكسبير . وهكذا تفتحت أمامنا عوالم الأدب الأوربي ، ثم الأدب الأمريكي ، ممثلاً في روايات وليم فوكنر وارنيست همنجواي وجون اشتاينيبك ومسرحيات ارثر ملر .
وفي المرحلة الثانوية ايضاُ اتجهنا لأول مرة نحو الأدب السوداني وخاصة الشعر ، فقرأنا بشغف واعجاب شعر التجاني وادريس جماع وصلاح أحمد ابراهيم ومحي الدين فارس وجيلي عبد الرحمن والفيتوري وتاج السر الحسن ، وذلك بجانب أشعار بعض الشعراء العرب من أمثال أمل دنقل وصلاح عبد الصبور والبياتي وبدر شاكر السياب ونزار قباني ، وبجانب ذلك كنا ندوام على قراءة المجلات الأدبية الشهرية الواردة من بيروت والقاهرة ، أمثال الأداب والكاتب والطليعة ، إلى جانب المجلات الاسبوعية المصرية وخاصة روز اليوسف وصباح الخير التي كنا نجدها في مكتبة دبورة الشهيرة في سوق عطبرة الكبير ، وفي هذه المكتبة أيضاً كنا نجد الصحف السودانية اليومية ، امثال الأيام والرأي العام والصراحة والميدان والطليعة ، ومن هذه الصحف كنا نطلع على مجريات السياسة السودانية .
ولكن ثقافتنا السياسية الحقيقية ، كنا نتشربها يومياً مما يحدث أمام أعيننا في مدينة عطبرة ، فقد كانت هذه المدينة معقلاً رئيسياً للحركة النقابية ممثلة في نقابة عمال السكك الحديدية ، وكانت عاصمة لها ويطلق عليها أيضاً مدينة الحديد والنار ، ويتركز فيها أكثر من ثلاثين ألف عامل .
وكنا طلاب في المتوسطة والثانوية كثيراً ما نشهد الليالي السياسية التي تقيمها هذه النقابة ، ونشاهد بأعيننا القيادات العمالية الشهيرة من أمثال الشفيع أحمد الشيخ وقاسم أمين والحاج عبدالرحمن وكنا نشاهد هؤلاء الرموز يخطبون ليلاً ، ويقودون المظاهرات الحاشدة نهاراً . وكانت عطبرة مركزاً هاماً لنشاط الحزب الشيوعي السوداني ، وكان كل من هذا الحزب ونقابة عمال السكة حديد ، يسيطران على الحياة السياسية في مدينة عطبرة ، وكان تأثيرهما قوياً حتى في العاصمة الخرطوم ، فقد كان إضراباً واحداً لنقابة السكة حديد ، أو منشوراً واحداً من الحزب الشيوعي تهتز له كراسي الحكومة في الخرطوم خاصة بعد أن وقعت البلاد في قبضة إنقلاب ١٧ نوفمبر ١٩٥٨م.
في هذه الأجواء السياسية العاصفة كنا نواصل دراستنا الثانوية وكانت عطبرة حينها تموج بالإضرابات العمالية وتقود المقاومة العنيفة لحكومة عبود ، وكنا نحظى في بعض الأحيان بحضور كبار السياسيين من العاصمة لإقامة الليالي السياسية من أمثال عبدالخالق محجوب وحسن الطاهر زروق والوسيلة ومبارك زروق واسماعيل الازهري .
وهكذا تشبعنا بالإضافة لثقافتنا الأدبية بثقافة سياسية ، وتحت هذه الأجواء العمالية والسياسية بدأنا أنا وعمر الحويج أولى محاولاتنا في الكتابة الأدبية .كانت محاولات عمر في مجال القصة القصيرة ومحاولاتي في مجال الشعر والمقالة الصحفية . كانت الصحافة من هواياتي المبكرة فقد كنت أصدر مع أحد زملائي في الصف ، في المرحلة المتوسطة صحيفة حائطية منتظمة بأسم المنار ، ومنذ ذلك الوقت كنت أحلم بأن إمتهن الصحافة في المستقبل لكن الأقدار حملتني إلى مهنة التدريس كما حملتنا أنا وصديقي عمر إلى دنيا الاغتراب فيما بعد .
كان عمر يطلعني على ما يكتبه من قصصه القصيرة منذ وجودنا في عطبرة ، وعندما استقر بنا المقام في العاصمة أثناء الدراسة الجامعية بدأ عمر ينشر بعض القصص في الصحف ، خاصة بعد إنضمامه إلى جماعة (أبادماك) ، أما أنا فلم أحاول نشر محاولاتي الشعرية ، ولكن كنت أنشر من حين لآخر مقالات أدبية وسياسية في الصحف .
ينبغي عليّ هنا أن أتوقف عن سرد هذه الذكريات القديمة ، وأعود للهدف الأساسي من هذه المقالة وهو تسجيل بعض الانطباعات عن مجموعة (إليكم أعود وفي كفي القمر ) وبالطبع ليس هدفي كتابة دراسة نقدية ، فلست بناقد ولكن مجرد متذوق للأدب أعجبته قصص هذه المجموعة ، وهو اعجاب لم يبدأ اليوم بل بدأ منذ ولادة هذه القصص ، وقد كنت شاهداً على ذلك .
أبدأ بقصة (الإبن والدم والأحلام) بطلها هو هذا العامل البسيط الذي يحلم أن تمنحه زوجته إبناً بعد أنجبت له خمس بنات وكان يتمنى أن يصبح الإبن رئيساً للعمال ، هذه هي أكبر طموحات العامل الذي كانت أحلامه لاتستوعب شيئاً أكبر من هذه الوظيفة ، فهي تذكره بصلف الخواجات الذي عانى منه ، ولكن عقله الباطني من خلال أحلامه ، يرسم لإبنه مستفبلاً آخر ، زعيم عمالي ثوري ، يعقد الإجتماعات في منزله ويقود المظاهرات ويصاب بالرصاص وتسيل دمائه ، هذا الحلم هو في الحقيقة الواقع الذي كان يعيشه عمال السكك الحديدية في عطبرة وقد قام عمر كمبدع بصياغة هذا الحلم أو الواقع الحلم وتقديمه إلى القارئ .
وفي نفس السياق تأتي قصة (وردية الليل) فالبطل هو عامل من أصول ريفية يعيش ظروف الفقر والعوز ، التي تعيشها الطبقة العاملة في عطبرة ، وهو نفس العامل المثقل بالأطفال والذي يعيش مع زوجة صبورة مطيعة ، وكذلك الإبن الثائر الذي يخفي المنشورات في المنزل والأب لسان حاله يقول (أنا ما عارف الأولاد ديل عايزين شنو ؟ ما قالوا عايزين حكم ولاد البلد زمان عملو للانجليز كدة ، أبراهيم العطشقي دا من زمن الإنجليز وهو يرمو فيه في السجن دحين اليومين دي ما قاعد أشوفو ، أكيد دخلوه السجن ، والله الانجليز كانوا أخير من ولاد البلد كانوا بيصرفو لينا البونص ، وديل غير يدخلو الأولاد السجن ما عندهم شغلة) كلمات تجسد ما كنا نراه امام أعيننا من حكومات وطنية تطارد الثوريين وتزج بهم في السجون وتهمل واجبها في تحسين أحوال العمال .
وفي قصته (وحتى الصغار) يرسم عمر الحويج لوحة رائعة لأحداث ثورة اكتوبر من خلال طفلين أحدهما شمالي والآخر جنوبي ، يحملا صندوقا ورنيش عليهما صورة الشهيد أحمد القرشي وفي القصة رمزية واضحة لخلفية ثورة أكتوبر وارتباطها بمشكلة الجنوب وهكذا عبر بنا عمر من كفاح الطبقة العاملة في عطبرة إلى كفاح المثقفين والطلبة في العاصمة ، وأحداث ثورة اكتوبر ومجزرة شارع القصر ، وكلها أحداث عشناها معاً ساعة بساعة وقد قرأتها مجسدة في هذه القصة .
ويعود بنا عمر في قصة (حين إنفتحت البوابة) إلى ذكريات عطبرة ، وكفاح الطبقة العاملة وذلك من خلال عرضه لحياة عامل بسيط تحول من عامل بالورشة إلى خفير يحرس إحدى البوبات التي تفصل بين المارة وخط السكة حديد ، كانت مهمة هذا الخفير أن يحرك ذراعاً حديدياً ويضعه في وضع أفقي ، يجعله يمنع المارة من عبور البوابة أثناء مرور القطار ، مثل هذه البوابة وعبرها يمر بها الناس في مدينة عطبرة كل ساعة ولكن قلم عمر شديد الحساسية التقط حياة هذا الخفير وصورها لنا في هذه القصة بكل تفاصيلها الدقيقة مثل معاناته مع اجتماع الصافرتين ، صافرة خروج العمال من الورش وتوجههم إلى منازلهم عبر هذه البوابة وغيرها وصافرة القطار وهو قربه من البوابة ، وهنا يحاول بعض العمال التسلل من تحت الذراع الحديدية وذلك قبل أن يصل بها الخفير إلى وضعها الأفقي ، وهنا يسمع كلمات السباب التي يطلقها نحوه الناس الذين لم يتمكنوا من المرور بلا ذنب جناه ، ثم ينتقل عمر إلى تصوير معاناة أخرى لهذا الخفير وهذه المرة تتعلق بوضعه الأسري ، موت إبنته وإضطرار زوجته لبيع (اللقيمات) وحاجيات الأطفال وترك أحد أبنائه للدراسة وكان يعول كثيراً على دراسته وأخيراً هذا الانتهازي الذي جاء يساومه على عدم الإشتراك في الإضراب مقابل إعفائه من ديونه ، ولكن الرجل الإنتهازي لم يعفيه من ديونه ، بل زاد على ذلك بأن وشى بابنه لدي الحكومة مما جعلها تطارده بالإعتقال والسجن . ولكن هذا الخفير البسيط أحس بالفرح يغمره مع إنفجار ثورة اكتوبر التي إقتصت له من ذلك الإنتهازي بادخاله السجن . وهكذا يقول لنا عمر لقد أصبح الصبح وتحرك قطار الثورة وأنفتحت بوابة الأمل .
بجانب التصاق عمر الحويج في قصصه في الستينات بالعمال البسطاء والثوريين ، فقد لاحظت جانب آخر يتجذر بعمق في هذه القصص وهو ذكريات القرية والجبل والنهر ويشكل الحد بأقاصيصه الشيقة القاسم المشترك بين هذه الأشياء الثلاثة ويظهر ذلك في قصة(عام الصوت) و(وحلمك الكبير يا بت شيخنا) و (الكربة) . ففي هذه القصص يستفيد عمر من الأحاجي والموروثات الشعبية وممارسات أهل القرية في الأفراح مثل الدلوكة والعرضة ويرسم لنا صورة شخصيات القرية مثل حامد الحفيان وبت شيخنا وحمدان الجنيدابي . بالإضافة إلى ذلك إستفاد عمر من الاساطير الشعبية ، مثل حكاية تلك الحشرة الزاحفة التي يقال أنها تنظف الأرض من الأوساخ إستعداداً لعرس القمر وأيضاً تلك الحكاية عن الصراع بين الجد والتمساح .
وهكذا استمتعت بقصص عمر في الستينيات ووجدت فيها نفسي وأعادتني لتلك السنوات الجميلة .
أما قصصه في التسعينيات فقد طور فيها تكنيك الحكي وبث فيها لغته الشاعرية الأنيقة والتكرار اللغوي المحبب أو إعادة تدوير العبارة مما سماها الاستاذ أحمد الطيب عبد المكرم .
وكقارئ وجدت فيها المتعة مع التجارب الإنسانية .
أخيراً لصديقي عمر الشكر على هذه الساعات التي قضيتها مع مجموعته الرائعة وأدعوا النقاد للإقبال على هذه المائدة الدسمة .
***
قصة قصيرة
وردية الليل
بقلم / عمر الحويج
الدفء كان يشمله، وهو داخل الورشة، أما وقد خرج، بعد انتهاء ساعات عمله، فقد نفحته موجة من البرد و... "الزيفة"، جعلت أوصاله ترتجف.. لفّ عمامته القصيرة نوعاً.. أوصلها بعد "مباصرة" إلى ما تحت أذنيه.. قاد دراجته. عشرون عاماً وهي معه.. يرأف بها.. وكأنها من أفراد أسرته لا يستغلها، إلا من البيت إلى الورشة.. فقط، وبالعكس.
الأرض مبتلة.. ما زالت سحابة تتقيأ ما بجوفها من مياه.. إنه صار عجوزاً، لا يتحمل حتى زيفة المطر هذه.. زمان أيام "الصَّبْيَنَة" كان يقطع "البَحَر" عائماً، في عز الشتاء، لكي يلحق بحفل "الدَّلُّوكَة" المُقام في الضفة الأخرى من قريتهم.. "الرحيمة" أبداً لم تكن تفوته " دلوكتها".. يبتسم في مرارة.. هيه.. أيام!!.. يُدخل يده في جيبه، بغرض بعث الدفء فيها.. تصطدم يداه بشيء.. يتذكر بقايا تمر أعطاه إياه، الشيخ عبد الباقي.. يخرجه في لهفة.. "كنجدة عاجلة" يمضغه بشغف، الدم يتدفق في شرايينه.. قليل من الدفء يحسّ بسريانه في جسده.. إنه لا يحب "وردية الليل"، وخاصة في هذا الخريف.. بل أصبح يكره الخريف نفسه.. وتذكر صلاة الاستسقاء في قريتهم، عندما يتأخر هطول المطر.. كان يحب الخريف... اتفو!!.. يبصق، ربما على المدينة بمعكوساتها التي جعلته يكره ما يحب، ويُجبر على حب ما يكره.
ابتعد عن الورشة.. كثيراً. من بعيد يأتيه صوت صافرة قطار.. قطارات "الوردية" هذه تعوى طوال الليل، كأنها كلاب حراسة. دخل أزقة المدينة.. الصمت يلفها من كل ناحية.. الناس هنا تنام في موعد نوم دجاجها.. مركبة عجلات دراجته، وهي تتدحرج على الأرض المبتلة برزاز المطر، تهتك صمت المدينة.. الطين والحجارة، تتطاير من حولها مذعورة.. ربما يحتضنها "الأفرول" ولكن لا يهم.. الزيوت والشحم، لم تترك مكاناً.. لمزيد.
الكلاب تتحرك، تنبح.. حتى المطر والبرد لا يسكتان هذه الكلاب.. دائماً، مخلصة هذه الكلاب.. ربما تكون أكثر إخلاصاً من أصحابها. أخيراً يصل إلى بيته.. يدخل، على الحائط "يتْكِل" دراجته، بحيطة وحذر.. وبرفق كذلك.. من "السرج" الخلفي، يفك، بعض قطع الخشب، المربوطة بحبل، هي بقايا يجمعها من تحت أرجل النجارين، لتساعد زوجته في أعمال المنزل.. فهم لا يستطيعون ملاحقة أسعار الفحم، لأنه كما تقول زوجته "الفحم.. كِرِهْتُو.. غالي غلاة التَّابَانِي".
يدخل الغرفة.. الأم وأولادها، كلهم نائمون.. أحمد، أصبح يتمتع بـ"عنقريب" يرقد عليه بمفرده، منذ أن سافر أخوه الأكبر إلى الخرطوم، ليلتحق بالجامعة هناك.. الآخرون كل اثنين في "عنقريب" حتى هو يرقد بجانبه ابنه زكريا.
يضع الخشب على الأرض.. زوجته تصحو، دائماً هكذا، "في وردية الليل"، تستيقظ لوحدها.. رغم محاولاته تجنب إيقاظها.. كأنما أحد داخل نومها، يخبرها بقدومه.. "إنت جيت"؟.. "أيوه.. قومي ولِّعي نار بالحطب ده، خلينا ندفأ، البرد كتلنا".
تنهض بهدوء وحذر، كيلا تزعج الرضيع، الذي ينام في حضنها.. "سوي لينا عشا، بَطُنّا تكورك.. من الجوع".
"ما فضل عشا.. قدر الفي، أكلوه الأولاد".. "يعني أبيت القوا في الليل الطويل ده، سوى لينا جنى جداد".. "الجنى جداد، مودِّياه السوق باكر.. أجيب لي قريشات.. أصلوا باكر قهوة سيدي الحسن، عشان شايلا نذر أسويها لي ولدي صلاح، أكان كراعو الانكسرت في الكورة دي، جبرت..".
ينظر إلى ولده صلاح، في حنان، وفي خوف.. "المدرسة قربت تفتح، يقوم الولد يتأخر من قرايتو، غايتو البصير فك الجبيرة، وقال الولد كراعو جبرت، أيام ويمشي عليها.. أتفو على الكورة، العملوها جديدة دي، حمت الولاد القراية".
زوجته تضع الحطب في "الكانون"، تشعل فيه النار، تحمل "الكانون" تضعه تحت أقدام زوجها. "يا وليه شوفي لينا حاجة ناكلها". "في كسرة بايته أجيبها ليك؟". "أيوه.. جيبيها".
يفرك يديه في لهب النار.. الدفء يسري في جوانبه.. سرح بخياله.. "يا ربي الولد في الخرطوم عمل شنو، رسل جواب قال بفتش لي شغل، ويواصل القراية بالليل. ود الحاج خوفني، قال ناس الخرطوم ما بشغلوا الزول الدخل السجن". وانقبض قلبه. "أبوي لقيت الورقة دي في كتب اخوي". كان ذلك في العام الماضي، حينما جاءه ابنه الصغير يجري وهو يحمل هذه الورقة، وكأنه أحس بخطورتها. انغرزت، ساعتها، في قلبه السكين.. يومها تذكر السجن، والبوليس الذي يدخل البيوت ليفتشها، وإذا وجدوا شيئاً أو لم يجدوا شيئاً يأخذون معهم من جاءوا لأجله.
"أنا ما عارف الأولاد ديل عايزين شنو.. ما قالوا عايزين حكم ولاد البلد.. زمان عملوا للإنجليز كده.. إبراهيم العطشجي ده من زمن الإنجليز، وهو يرموا بيه في السجن.. دحين اليومين دي، ما قاعد أشوفوا.. أكيد دخلوه السجن.. والله الإنجليز، كانوا أخير من ولاد البلد، كانوا بصرفوا لينا "البونص" وديل غير يدخلوا الأولاد في السجن، ما عندهم شغلة".
زوجته تحضر له الكسرة، إنها ناشفة، ولكنه جوعان، أخذ يمضغها، صوت خشن، كصوت برميل يتدحرج تحت قدميه في الورشة، حين يفلته أحدهم، في غفلة منه. أحس بعدها، أن بطنه قد امتلأت.. إنه شبعان الآن.. "غايتو سكتت من الكواريك". تذكر الفرن في الورشة الذي يوقدونه عادة بالفحم، ولكنهم في بعض المرات يرمون فيه الحجارة.. ولكنه أيضاً.. يسخن ويستمر في تأدية عمله.. ابتسم لهذه المقارنة.. غسل يديه، أخذ يفركهما في بقايا لهب النار، التي بدأت تخبو.. شعر بسرور يغمره.. أخرج "حُقّة" الصعوت.. فارغة يجدها.. لا يهم، يدقها على باطن يده عدة مرات.. ذرات سوداء تتناثر.. يكشحها في فمه.. يلمها بلسانه.. ويكورها، تحت شفته السفلى.
نظر إلى زوجته، التي عادت إلى مرقدها، لتنام.. امرأة طيبة.. إنها أول من دخل منزله.. ثم دخلت بعدها الدراجة، إنه وزوجته والدراجة أقدم ما في هذا البيت!!.. ابتسم لهذه الخاطرة.. إنه فعلاً مسرور. نظر إلى زوجته، مرة أخرى.. إنها تحاول أن تضع ثديها في فم ابنها الرضيع، الذي استيقظ، دون أن يصرخ كعادته، تركته لأنه أغمض عينيه ونام.
لماذا لا يكون أبناؤه تسعة أو عشرة.. إنه يحب أولاده، يحب الأطفال، إنهم زينة الحياة الدنيا.. قومي يا بتول شيلي زكريا من جنبي، رقديه في عنقريبك.. قالها برقة، وهو يبتسم.. إنها تعرف ما يعني"سمح" قالتها في حياء.. هي دائماً تعرف.. وهي دائماً مطيعة لا تعصي له أمراً.
omeralhiwaig441@gmail.com
دراسة نقدية مع الكاتب والناقد الاستاذ / إدريس محمد سيد أحمد
نشرت بجريدة الخرطوم " القاهرية" بتاريخ الأربعاء ه مايو ٢٠١٠م .
أعادتتي المجموعة القصصية ( إليكم أعود وفي كفي القمر) التي أصدرها صديقي عمر الحويج وأهداني نسخة منها ، أعادتني إلى سنوات الصبا الباكر في مدينة عطبرة ، حيث كنا عمر الحويج والحسن على تكروني وأنا لا نفترق .
يالها من أيام ويا لها من مدينة ، في تلك السنوات الخضراء الزاهية ، في منتصف الخمسينات ، حين كانت البلاد تتنسم نسمات الإستقلال الندية . كنا حينها طلاباً صغاراً في بداية المرحلة المتوسطة ، وقد اعتدنا أن نقضي أيام العطلة المدرسية في مكتبة البلدية الغنية بالكتب في ذلك الزمان .
في تلك السن المبكرة قرأنا كل روايات نجيب محفوظ وعبد الحميد السحار ويوسف السباعي واحسان عبد القدوس وعبد الرحمن الشرقاوي ومسرحيات توفيق الحكيم وقصص يوسف ادريس القصيرة وبعض كتب طه حسين والعقاد والتي كنا نستطيع فهمها وشهرزاد وخاصة الأيام حيث كانت مقررة علينا في المرحلة المتوسطة . عندما انتقلنا إلى المرحلة الثانوية تطورت قراءاتنا فشملت روايات شارلز ديكنز وتليستوي ودوستفيسكي وجان بول سارتر وكافكا وكلون ولسون ومسرحيات شكسبير . وهكذا تفتحت أمامنا عوالم الأدب الأوربي ، ثم الأدب الأمريكي ، ممثلاً في روايات وليم فوكنر وارنيست همنجواي وجون اشتاينيبك ومسرحيات ارثر ملر .
وفي المرحلة الثانوية ايضاُ اتجهنا لأول مرة نحو الأدب السوداني وخاصة الشعر ، فقرأنا بشغف واعجاب شعر التجاني وادريس جماع وصلاح أحمد ابراهيم ومحي الدين فارس وجيلي عبد الرحمن والفيتوري وتاج السر الحسن ، وذلك بجانب أشعار بعض الشعراء العرب من أمثال أمل دنقل وصلاح عبد الصبور والبياتي وبدر شاكر السياب ونزار قباني ، وبجانب ذلك كنا ندوام على قراءة المجلات الأدبية الشهرية الواردة من بيروت والقاهرة ، أمثال الأداب والكاتب والطليعة ، إلى جانب المجلات الاسبوعية المصرية وخاصة روز اليوسف وصباح الخير التي كنا نجدها في مكتبة دبورة الشهيرة في سوق عطبرة الكبير ، وفي هذه المكتبة أيضاً كنا نجد الصحف السودانية اليومية ، امثال الأيام والرأي العام والصراحة والميدان والطليعة ، ومن هذه الصحف كنا نطلع على مجريات السياسة السودانية .
ولكن ثقافتنا السياسية الحقيقية ، كنا نتشربها يومياً مما يحدث أمام أعيننا في مدينة عطبرة ، فقد كانت هذه المدينة معقلاً رئيسياً للحركة النقابية ممثلة في نقابة عمال السكك الحديدية ، وكانت عاصمة لها ويطلق عليها أيضاً مدينة الحديد والنار ، ويتركز فيها أكثر من ثلاثين ألف عامل .
وكنا طلاب في المتوسطة والثانوية كثيراً ما نشهد الليالي السياسية التي تقيمها هذه النقابة ، ونشاهد بأعيننا القيادات العمالية الشهيرة من أمثال الشفيع أحمد الشيخ وقاسم أمين والحاج عبدالرحمن وكنا نشاهد هؤلاء الرموز يخطبون ليلاً ، ويقودون المظاهرات الحاشدة نهاراً . وكانت عطبرة مركزاً هاماً لنشاط الحزب الشيوعي السوداني ، وكان كل من هذا الحزب ونقابة عمال السكة حديد ، يسيطران على الحياة السياسية في مدينة عطبرة ، وكان تأثيرهما قوياً حتى في العاصمة الخرطوم ، فقد كان إضراباً واحداً لنقابة السكة حديد ، أو منشوراً واحداً من الحزب الشيوعي تهتز له كراسي الحكومة في الخرطوم خاصة بعد أن وقعت البلاد في قبضة إنقلاب ١٧ نوفمبر ١٩٥٨م.
في هذه الأجواء السياسية العاصفة كنا نواصل دراستنا الثانوية وكانت عطبرة حينها تموج بالإضرابات العمالية وتقود المقاومة العنيفة لحكومة عبود ، وكنا نحظى في بعض الأحيان بحضور كبار السياسيين من العاصمة لإقامة الليالي السياسية من أمثال عبدالخالق محجوب وحسن الطاهر زروق والوسيلة ومبارك زروق واسماعيل الازهري .
وهكذا تشبعنا بالإضافة لثقافتنا الأدبية بثقافة سياسية ، وتحت هذه الأجواء العمالية والسياسية بدأنا أنا وعمر الحويج أولى محاولاتنا في الكتابة الأدبية .كانت محاولات عمر في مجال القصة القصيرة ومحاولاتي في مجال الشعر والمقالة الصحفية . كانت الصحافة من هواياتي المبكرة فقد كنت أصدر مع أحد زملائي في الصف ، في المرحلة المتوسطة صحيفة حائطية منتظمة بأسم المنار ، ومنذ ذلك الوقت كنت أحلم بأن إمتهن الصحافة في المستقبل لكن الأقدار حملتني إلى مهنة التدريس كما حملتنا أنا وصديقي عمر إلى دنيا الاغتراب فيما بعد .
كان عمر يطلعني على ما يكتبه من قصصه القصيرة منذ وجودنا في عطبرة ، وعندما استقر بنا المقام في العاصمة أثناء الدراسة الجامعية بدأ عمر ينشر بعض القصص في الصحف ، خاصة بعد إنضمامه إلى جماعة (أبادماك) ، أما أنا فلم أحاول نشر محاولاتي الشعرية ، ولكن كنت أنشر من حين لآخر مقالات أدبية وسياسية في الصحف .
ينبغي عليّ هنا أن أتوقف عن سرد هذه الذكريات القديمة ، وأعود للهدف الأساسي من هذه المقالة وهو تسجيل بعض الانطباعات عن مجموعة (إليكم أعود وفي كفي القمر ) وبالطبع ليس هدفي كتابة دراسة نقدية ، فلست بناقد ولكن مجرد متذوق للأدب أعجبته قصص هذه المجموعة ، وهو اعجاب لم يبدأ اليوم بل بدأ منذ ولادة هذه القصص ، وقد كنت شاهداً على ذلك .
أبدأ بقصة (الإبن والدم والأحلام) بطلها هو هذا العامل البسيط الذي يحلم أن تمنحه زوجته إبناً بعد أنجبت له خمس بنات وكان يتمنى أن يصبح الإبن رئيساً للعمال ، هذه هي أكبر طموحات العامل الذي كانت أحلامه لاتستوعب شيئاً أكبر من هذه الوظيفة ، فهي تذكره بصلف الخواجات الذي عانى منه ، ولكن عقله الباطني من خلال أحلامه ، يرسم لإبنه مستفبلاً آخر ، زعيم عمالي ثوري ، يعقد الإجتماعات في منزله ويقود المظاهرات ويصاب بالرصاص وتسيل دمائه ، هذا الحلم هو في الحقيقة الواقع الذي كان يعيشه عمال السكك الحديدية في عطبرة وقد قام عمر كمبدع بصياغة هذا الحلم أو الواقع الحلم وتقديمه إلى القارئ .
وفي نفس السياق تأتي قصة (وردية الليل) فالبطل هو عامل من أصول ريفية يعيش ظروف الفقر والعوز ، التي تعيشها الطبقة العاملة في عطبرة ، وهو نفس العامل المثقل بالأطفال والذي يعيش مع زوجة صبورة مطيعة ، وكذلك الإبن الثائر الذي يخفي المنشورات في المنزل والأب لسان حاله يقول (أنا ما عارف الأولاد ديل عايزين شنو ؟ ما قالوا عايزين حكم ولاد البلد زمان عملو للانجليز كدة ، أبراهيم العطشقي دا من زمن الإنجليز وهو يرمو فيه في السجن دحين اليومين دي ما قاعد أشوفو ، أكيد دخلوه السجن ، والله الانجليز كانوا أخير من ولاد البلد كانوا بيصرفو لينا البونص ، وديل غير يدخلو الأولاد السجن ما عندهم شغلة) كلمات تجسد ما كنا نراه امام أعيننا من حكومات وطنية تطارد الثوريين وتزج بهم في السجون وتهمل واجبها في تحسين أحوال العمال .
وفي قصته (وحتى الصغار) يرسم عمر الحويج لوحة رائعة لأحداث ثورة اكتوبر من خلال طفلين أحدهما شمالي والآخر جنوبي ، يحملا صندوقا ورنيش عليهما صورة الشهيد أحمد القرشي وفي القصة رمزية واضحة لخلفية ثورة أكتوبر وارتباطها بمشكلة الجنوب وهكذا عبر بنا عمر من كفاح الطبقة العاملة في عطبرة إلى كفاح المثقفين والطلبة في العاصمة ، وأحداث ثورة اكتوبر ومجزرة شارع القصر ، وكلها أحداث عشناها معاً ساعة بساعة وقد قرأتها مجسدة في هذه القصة .
ويعود بنا عمر في قصة (حين إنفتحت البوابة) إلى ذكريات عطبرة ، وكفاح الطبقة العاملة وذلك من خلال عرضه لحياة عامل بسيط تحول من عامل بالورشة إلى خفير يحرس إحدى البوبات التي تفصل بين المارة وخط السكة حديد ، كانت مهمة هذا الخفير أن يحرك ذراعاً حديدياً ويضعه في وضع أفقي ، يجعله يمنع المارة من عبور البوابة أثناء مرور القطار ، مثل هذه البوابة وعبرها يمر بها الناس في مدينة عطبرة كل ساعة ولكن قلم عمر شديد الحساسية التقط حياة هذا الخفير وصورها لنا في هذه القصة بكل تفاصيلها الدقيقة مثل معاناته مع اجتماع الصافرتين ، صافرة خروج العمال من الورش وتوجههم إلى منازلهم عبر هذه البوابة وغيرها وصافرة القطار وهو قربه من البوابة ، وهنا يحاول بعض العمال التسلل من تحت الذراع الحديدية وذلك قبل أن يصل بها الخفير إلى وضعها الأفقي ، وهنا يسمع كلمات السباب التي يطلقها نحوه الناس الذين لم يتمكنوا من المرور بلا ذنب جناه ، ثم ينتقل عمر إلى تصوير معاناة أخرى لهذا الخفير وهذه المرة تتعلق بوضعه الأسري ، موت إبنته وإضطرار زوجته لبيع (اللقيمات) وحاجيات الأطفال وترك أحد أبنائه للدراسة وكان يعول كثيراً على دراسته وأخيراً هذا الانتهازي الذي جاء يساومه على عدم الإشتراك في الإضراب مقابل إعفائه من ديونه ، ولكن الرجل الإنتهازي لم يعفيه من ديونه ، بل زاد على ذلك بأن وشى بابنه لدي الحكومة مما جعلها تطارده بالإعتقال والسجن . ولكن هذا الخفير البسيط أحس بالفرح يغمره مع إنفجار ثورة اكتوبر التي إقتصت له من ذلك الإنتهازي بادخاله السجن . وهكذا يقول لنا عمر لقد أصبح الصبح وتحرك قطار الثورة وأنفتحت بوابة الأمل .
بجانب التصاق عمر الحويج في قصصه في الستينات بالعمال البسطاء والثوريين ، فقد لاحظت جانب آخر يتجذر بعمق في هذه القصص وهو ذكريات القرية والجبل والنهر ويشكل الحد بأقاصيصه الشيقة القاسم المشترك بين هذه الأشياء الثلاثة ويظهر ذلك في قصة(عام الصوت) و(وحلمك الكبير يا بت شيخنا) و (الكربة) . ففي هذه القصص يستفيد عمر من الأحاجي والموروثات الشعبية وممارسات أهل القرية في الأفراح مثل الدلوكة والعرضة ويرسم لنا صورة شخصيات القرية مثل حامد الحفيان وبت شيخنا وحمدان الجنيدابي . بالإضافة إلى ذلك إستفاد عمر من الاساطير الشعبية ، مثل حكاية تلك الحشرة الزاحفة التي يقال أنها تنظف الأرض من الأوساخ إستعداداً لعرس القمر وأيضاً تلك الحكاية عن الصراع بين الجد والتمساح .
وهكذا استمتعت بقصص عمر في الستينيات ووجدت فيها نفسي وأعادتني لتلك السنوات الجميلة .
أما قصصه في التسعينيات فقد طور فيها تكنيك الحكي وبث فيها لغته الشاعرية الأنيقة والتكرار اللغوي المحبب أو إعادة تدوير العبارة مما سماها الاستاذ أحمد الطيب عبد المكرم .
وكقارئ وجدت فيها المتعة مع التجارب الإنسانية .
أخيراً لصديقي عمر الشكر على هذه الساعات التي قضيتها مع مجموعته الرائعة وأدعوا النقاد للإقبال على هذه المائدة الدسمة .
***
قصة قصيرة
وردية الليل
بقلم / عمر الحويج
الدفء كان يشمله، وهو داخل الورشة، أما وقد خرج، بعد انتهاء ساعات عمله، فقد نفحته موجة من البرد و... "الزيفة"، جعلت أوصاله ترتجف.. لفّ عمامته القصيرة نوعاً.. أوصلها بعد "مباصرة" إلى ما تحت أذنيه.. قاد دراجته. عشرون عاماً وهي معه.. يرأف بها.. وكأنها من أفراد أسرته لا يستغلها، إلا من البيت إلى الورشة.. فقط، وبالعكس.
الأرض مبتلة.. ما زالت سحابة تتقيأ ما بجوفها من مياه.. إنه صار عجوزاً، لا يتحمل حتى زيفة المطر هذه.. زمان أيام "الصَّبْيَنَة" كان يقطع "البَحَر" عائماً، في عز الشتاء، لكي يلحق بحفل "الدَّلُّوكَة" المُقام في الضفة الأخرى من قريتهم.. "الرحيمة" أبداً لم تكن تفوته " دلوكتها".. يبتسم في مرارة.. هيه.. أيام!!.. يُدخل يده في جيبه، بغرض بعث الدفء فيها.. تصطدم يداه بشيء.. يتذكر بقايا تمر أعطاه إياه، الشيخ عبد الباقي.. يخرجه في لهفة.. "كنجدة عاجلة" يمضغه بشغف، الدم يتدفق في شرايينه.. قليل من الدفء يحسّ بسريانه في جسده.. إنه لا يحب "وردية الليل"، وخاصة في هذا الخريف.. بل أصبح يكره الخريف نفسه.. وتذكر صلاة الاستسقاء في قريتهم، عندما يتأخر هطول المطر.. كان يحب الخريف... اتفو!!.. يبصق، ربما على المدينة بمعكوساتها التي جعلته يكره ما يحب، ويُجبر على حب ما يكره.
ابتعد عن الورشة.. كثيراً. من بعيد يأتيه صوت صافرة قطار.. قطارات "الوردية" هذه تعوى طوال الليل، كأنها كلاب حراسة. دخل أزقة المدينة.. الصمت يلفها من كل ناحية.. الناس هنا تنام في موعد نوم دجاجها.. مركبة عجلات دراجته، وهي تتدحرج على الأرض المبتلة برزاز المطر، تهتك صمت المدينة.. الطين والحجارة، تتطاير من حولها مذعورة.. ربما يحتضنها "الأفرول" ولكن لا يهم.. الزيوت والشحم، لم تترك مكاناً.. لمزيد.
الكلاب تتحرك، تنبح.. حتى المطر والبرد لا يسكتان هذه الكلاب.. دائماً، مخلصة هذه الكلاب.. ربما تكون أكثر إخلاصاً من أصحابها. أخيراً يصل إلى بيته.. يدخل، على الحائط "يتْكِل" دراجته، بحيطة وحذر.. وبرفق كذلك.. من "السرج" الخلفي، يفك، بعض قطع الخشب، المربوطة بحبل، هي بقايا يجمعها من تحت أرجل النجارين، لتساعد زوجته في أعمال المنزل.. فهم لا يستطيعون ملاحقة أسعار الفحم، لأنه كما تقول زوجته "الفحم.. كِرِهْتُو.. غالي غلاة التَّابَانِي".
يدخل الغرفة.. الأم وأولادها، كلهم نائمون.. أحمد، أصبح يتمتع بـ"عنقريب" يرقد عليه بمفرده، منذ أن سافر أخوه الأكبر إلى الخرطوم، ليلتحق بالجامعة هناك.. الآخرون كل اثنين في "عنقريب" حتى هو يرقد بجانبه ابنه زكريا.
يضع الخشب على الأرض.. زوجته تصحو، دائماً هكذا، "في وردية الليل"، تستيقظ لوحدها.. رغم محاولاته تجنب إيقاظها.. كأنما أحد داخل نومها، يخبرها بقدومه.. "إنت جيت"؟.. "أيوه.. قومي ولِّعي نار بالحطب ده، خلينا ندفأ، البرد كتلنا".
تنهض بهدوء وحذر، كيلا تزعج الرضيع، الذي ينام في حضنها.. "سوي لينا عشا، بَطُنّا تكورك.. من الجوع".
"ما فضل عشا.. قدر الفي، أكلوه الأولاد".. "يعني أبيت القوا في الليل الطويل ده، سوى لينا جنى جداد".. "الجنى جداد، مودِّياه السوق باكر.. أجيب لي قريشات.. أصلوا باكر قهوة سيدي الحسن، عشان شايلا نذر أسويها لي ولدي صلاح، أكان كراعو الانكسرت في الكورة دي، جبرت..".
ينظر إلى ولده صلاح، في حنان، وفي خوف.. "المدرسة قربت تفتح، يقوم الولد يتأخر من قرايتو، غايتو البصير فك الجبيرة، وقال الولد كراعو جبرت، أيام ويمشي عليها.. أتفو على الكورة، العملوها جديدة دي، حمت الولاد القراية".
زوجته تضع الحطب في "الكانون"، تشعل فيه النار، تحمل "الكانون" تضعه تحت أقدام زوجها. "يا وليه شوفي لينا حاجة ناكلها". "في كسرة بايته أجيبها ليك؟". "أيوه.. جيبيها".
يفرك يديه في لهب النار.. الدفء يسري في جوانبه.. سرح بخياله.. "يا ربي الولد في الخرطوم عمل شنو، رسل جواب قال بفتش لي شغل، ويواصل القراية بالليل. ود الحاج خوفني، قال ناس الخرطوم ما بشغلوا الزول الدخل السجن". وانقبض قلبه. "أبوي لقيت الورقة دي في كتب اخوي". كان ذلك في العام الماضي، حينما جاءه ابنه الصغير يجري وهو يحمل هذه الورقة، وكأنه أحس بخطورتها. انغرزت، ساعتها، في قلبه السكين.. يومها تذكر السجن، والبوليس الذي يدخل البيوت ليفتشها، وإذا وجدوا شيئاً أو لم يجدوا شيئاً يأخذون معهم من جاءوا لأجله.
"أنا ما عارف الأولاد ديل عايزين شنو.. ما قالوا عايزين حكم ولاد البلد.. زمان عملوا للإنجليز كده.. إبراهيم العطشجي ده من زمن الإنجليز، وهو يرموا بيه في السجن.. دحين اليومين دي، ما قاعد أشوفوا.. أكيد دخلوه السجن.. والله الإنجليز، كانوا أخير من ولاد البلد، كانوا بصرفوا لينا "البونص" وديل غير يدخلوا الأولاد في السجن، ما عندهم شغلة".
زوجته تحضر له الكسرة، إنها ناشفة، ولكنه جوعان، أخذ يمضغها، صوت خشن، كصوت برميل يتدحرج تحت قدميه في الورشة، حين يفلته أحدهم، في غفلة منه. أحس بعدها، أن بطنه قد امتلأت.. إنه شبعان الآن.. "غايتو سكتت من الكواريك". تذكر الفرن في الورشة الذي يوقدونه عادة بالفحم، ولكنهم في بعض المرات يرمون فيه الحجارة.. ولكنه أيضاً.. يسخن ويستمر في تأدية عمله.. ابتسم لهذه المقارنة.. غسل يديه، أخذ يفركهما في بقايا لهب النار، التي بدأت تخبو.. شعر بسرور يغمره.. أخرج "حُقّة" الصعوت.. فارغة يجدها.. لا يهم، يدقها على باطن يده عدة مرات.. ذرات سوداء تتناثر.. يكشحها في فمه.. يلمها بلسانه.. ويكورها، تحت شفته السفلى.
نظر إلى زوجته، التي عادت إلى مرقدها، لتنام.. امرأة طيبة.. إنها أول من دخل منزله.. ثم دخلت بعدها الدراجة، إنه وزوجته والدراجة أقدم ما في هذا البيت!!.. ابتسم لهذه الخاطرة.. إنه فعلاً مسرور. نظر إلى زوجته، مرة أخرى.. إنها تحاول أن تضع ثديها في فم ابنها الرضيع، الذي استيقظ، دون أن يصرخ كعادته، تركته لأنه أغمض عينيه ونام.
لماذا لا يكون أبناؤه تسعة أو عشرة.. إنه يحب أولاده، يحب الأطفال، إنهم زينة الحياة الدنيا.. قومي يا بتول شيلي زكريا من جنبي، رقديه في عنقريبك.. قالها برقة، وهو يبتسم.. إنها تعرف ما يعني"سمح" قالتها في حياء.. هي دائماً تعرف.. وهي دائماً مطيعة لا تعصي له أمراً.
omeralhiwaig441@gmail.com