أهم تحديات تواجه تحالفات القوي المدنية
طلعت محمد الطيب
28 October, 2024
28 October, 2024
(١)
ظلت قوي ثورة ديسمبر تواجه تحديات كبيرة حيث تعرضت قوي الحرية والتغيير ، تجمع المهنيين ولجان المقاومة إلي خلافات وانقسامات اضعفت مناعة الثورة في مقاومة فيروس الإسلام السياسي ممثلا في الإخوان المسلمين جناح المؤتمر الوطني الذي تمكن من البلاد والعباد لأكثر من ثلاثة عقود.
بعض هذه التحديات داخلية أو ذاتية، والبعض الاخر خارجي يتعلق بالدعاية المضادة لقوي الثورة بواسطة فلول النظام القديم مستندين إلى قدرات مادية واعلامية مهولة. اذ من المعروف أن منظمات الإسلام السياسي لا تتعامل مع المناصب العامة في الدولة الحديثة Public Office كمواقع لخدمة المجتمع كما جرت العادة في عالمنا المعاصر، بل كمواقع ل " اعادة صياغة المجتمع " وشتان ما بين الإثنين.
الاحزاب السياسية عبارة عن منظمات طوعية هدفها خدمة المجتمع بينما التعالي وإنعدام التواضع المتمثل في اعادة صياغة الإنسان السوداني هو ما جعل كيزان السودان يفعلون العكس تماما بالدولة السودانية طوال فترة حكمهم، حيث قاموا بتوظيف الدولة وقدراتها في خدمة اجندة تنظيمهم، فأثرى قادتهم ثراءا فاحشا لدرجة أصبح معها الفساد والمحسوبيه والإقصاء تعتبر من أهم سمات المشروع الحضاري المزعوم.
اما بخصوص الانقسامات في صفوف القوى المدنية فلم تكن لأسباب اثنية كما يظهر اليوم في تداعيات الحرب، رغم أهمية العامل الاثني.
أول انقسام بعد ثورة ديسمبر كان قد وقع في صفوف تجمع المدنيين ثم ق ح ت ثم لجان المقاومة أليس كذلك ؟
الخلاف بين القوي المدنية والاحزاب السياسية قديم ولكن اهم محطاته والني تعنينا هنا ما حدث بعد ثورة اكتوبر قبل ستين عاما مضت ، وازمة الجمعية التأسيسية التي تمثلت في طرد نواب الحزب الشوعي المنتخبين، من البرلمان والذي كان كارثة بكل المقاييس. لكن القيادات السياسية أو ما سمي بجيل الاستقلال كان قد تقاعس عن مهمة فتح حوار حقيقي حول مستقبل التعددية والحكم المدني في السودان.
لكن ماهي ملامح ذلك الحوار المغيب؟
ادعونا أولا نجتهد في تشخيص مرض الانقسامات في حياتنا السياسية السودانية ..
في تقديري أن بالسودان أزمة تمثيل Representation
مزمنة بسبب العلاقات الطائفية، أي تشابك القداسة والسياسة، احزاب عقائدية ومجتمع قبلي وادارات اهلية.
الانقسام مثلا الذي حدث داخل تجمع المهنيين ، ق ح ت ولجان المقاومة يمكن وصفه بالفشل في المحافظة علي وحدة المعارضة المدنية المنهكة بسبب قمع الانفاذ الطويل والممتد لها ، علي الرغم من إنها تواجه خصم اسلاموي مدجج بالمال والسلاح من اعلي راسه حتي اخمص قدميه، اضافة الي المعلومات الاسترتيجية والعلامات الدولية والخبرات التي تراكمت لديه في الحكم منفردا طوال ثلاثة عقود من الزمان .
بمعني آخر وحتي نكون اكثر دقة، فشل المكون المدني في ادراك حجم المخاطر والتحديات التي تواجهه التي تستدعي ضرورة " الإبقاء علي وحدة الاهداف المتعلقة بتأسيس حكم مدني مع السماح لتعدد وسائل تحقيق تلك الاهداف المتفق عليها مثل تفكيك التمكين التدريجي لمحاربة الفساد والامتيازات، والاصلاحات لهيكل الدولة ومؤسساتها الخ ، وهذا هدف مشترك بين الجميع لكن هناك عدد كبير من الناشطين يعتقدون بتعدد وجهات النظر حول كيفية تحقيق تلك الاهداف وينادون بضرورة التعامل بمرونة مع وسائل تحقيق تلك الغايات
أي مبدأ الإبقاء وحدة الاهداف والتعامل بشئ من المرونة مع تعدد الوسائل.
فما الذي حدث ولماذا " حدث ما حدث"؟
اواصل
أهم تحديات تواجه تحالفات القوى المدنية (٢)
جملة اعتراضية تمهيدا مني لتوضيح الفكرة:.
هنا في كندا وفي آخر استطلاعات في الرأي حول مدى ثقة الناخب في العملية الانتخابية،
اتضح إن لجنة الانتخابات Election Canada
تحوز علي اكثر من ٨٠% من ثقة المواطن وذلك بعكس الاحزاب السياسية والتي تحظي بثقة اقل من ذلك بكثير. لجنة الانتخابات منظمة قومية مستقلة تتمتع بقدر واسع من الثقة والإحترام كبقية مفوضيات الانتخابات في العالم الغربي.
وبناءا علي تلك الثقة المتجددة والمستحقة، اصدرت انتخابات كندا " قواعد للسلوك" ، ولكنها لم تفرضها علي الاحزاب السياسية لأن الاوضاع السياسية ليست بذلك القدر من السيولة ..
في السودان كان على الحوار الوطني أن يتجه إلي تعزيز مفوضية الانتخابات في السودان وضرورة فرضها لقواعد سلوك code of conduct علي احزابنا السياسية بحيث لا تتعارض دساتيرها وممارساتها بالتالى مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ويكون ملزما لاحزابنا السياسية.
لكن ما أهمية قواعد السلوك؟
دعونا أولا نجتهد في تشخيص مرض الانقسامات في حياتنا السياسية السودانية ..
اعتقد أن فشل المكون المدني في الممارسة العملية وحدوث انقسامات كان لأسباب بنيوية تتعلق ببنية احزاب المعارضة نفسها خاصة احزاب الشيوعي والبعث بمسمياته.
ماهي خصائص تلك الأزمة البنيوية؟
دستور الحزب الشيوعي علي سبيل المثال ، لا يسمح علي الاطلاق لاعضائه بالاختلاف مع رأي الحزب في المجتمع المدني، أي في المجال الذي يعمل فيه ( ق ح ت ، لجان مقاومة. تجمع مهنيين ونقابات الخ ).
من المعروف أن كل احزاب الدنيا عدا الاحزاب الشيوعية أو العقائدية بشكل عام تسمح لعضويتها بالاختلاف داخل الحزب وخارجه ايضا، لأن ذلك يعتبر من الحقوق الاساسية للأنسان الذي يجب ان يتمتع بالحق في ان يعبر عن رأيه.
الشرط الوحيد هو ان يلتزم عضو أو عضوة الحزب بالتصويت لصالح قرارات حزبه وذلك طبعا بغرض رفع الفاعلية للحزب السياسي .
لكن حتي ذلك الالتزام بضرورة الإبقاء علي فعالية الحزب السياسي له شروط ، والحزب السياسى طبعا في النهاية هو عبارة عن اتحاد طوعي بين أناس يشتركون في الرؤى العامة تجاه قضايا العمل العام. والتصويت لصالح أي حزب ليس مطلقا ، اذ ان بعض القضايا ذات الحساسية تستدعي ما عرف بتصويت الضمير vote of conscious
المعضلة تكمن في أن لائحة الحزب الشيوعي ومثيلاتها من الاحزاب العقائدية تصطدم مع إدعاءات تلك الاحزاب بقبول التعددية الديمقراطية . اذ ان ما هو مسموح به لعضو الحزب ان يقول رأيه فقط داخل وحدته التنظيمية ثم يحسم الأمر بالتصويت ويصبح ملزما له . مع العلم أنه حتي اذا فاز رأيه داخل خليته، فمن السهل جدا ان تقوم قيادة الحزب بفرض رأيها بزعم ان قرارها يحظي برأي الأغلبية( أي أنه يمثل غالبية خلايا التنظيم الاخري).
ولذلك ، وفي جميع الاحوال فإن رأي الحزب الشيوعي ظل علي الدوام يمثل رأي قيادته المتمثلة في المكتب السياسي ( المسؤول السياسي والتنظيمي والمالي والاعلامي) وهم يمثلون اللجنة المركزية التي تجتمع فقط ثلاث مرات في السنة حسب ما تنص عليه لائحة الحزب في أحسن الاحوال ( في واقع الأمر تجتمع ل م مرة واحدة في العام وقد لا تجتمع لمزاعم تأمينية ) مما يجعل التنظيم قي قبضة أفراد المكتب السياسى ، ويصبح كالميت بين يدي الغاسل ..
مآلات مثل هذا الوضع تعتبر ذات مخاطر كبيرة علي المجال او التحالف الذي يعمل الحزب الشيوعي من خلاله كما سوف أوضح.
لابد من التنويه إلي حقيقة ان المنظمات الشمولية مثل الحزب الشيوعي تتبني مبدأ تنظيمي عرف باسم " المركزية الديمقراطية "وهو مبدأ كان قد صاغه لينين قبل اكثر من مائة وعشرين عاما تقريبا في منطقة متخلفة من العالم آنذاك هي روسيا القيصرية ، مهمة المركزية الديمقراطية هي ان تجعل التنظيم مقطع الاوصال بزعم حمايته وتأمينه من الاعداء ، فالتنظيم يتكون من وحدات تنظيمية أو خلايا قاعدية لا يجمعها رابط سوي قيادة الحزب وقبضته المركزية ، الخلايا القاعدية( تتكون من أربعة او خمسة اعضاء في المتوسط)
وهي منفصلة تماما عن بعضها لأن لائحة الحزب تنص علي حظر الاتصالات الافقية، بمعني أنه يحرم علي العضوية آن تجري اتصالات لمعرفة ما دار في خلية أخري بحجة تأمين اسرار التنظيم.
ولذلك لا يمكن للعضو ان يطلع علي الرأي العام للحزب في قضية ما .
وهذا السبب بالذات جعلنى اعتقد أن غالبية الشيوعيين الفاعلين اليوم غير راضين عن مواقف قيادتهم، ولكنهم لا يمتلكون القدرة علي تأكيد ما اذا كان اتجاه الرأي العام داخل حزبهم يؤكد ذلك أم ينفيه .
المركزية الديمقراطية تجعل العضوية تعيش داخل غيتوهات من المستحيل اختراقها.
الاتصالات الافقية تعتبر "تكتل"
التعبير عن الرأي الخاص في المجتمع يعتبر " انقسام".
اتخاذ موقف مخالف لتوجيهات لجنة التنسيق ( الفراكشن الشيوعي سابقا) في تحالف ما ، يعتبر خروج عن خط الحزب. وهنا لا بد من التنبيه لخطورة ما يردده بعض الشيوعيين من أن المهندس صديق يوسف كان يمثل رأي قوي الاجماع الوطني اثناء الحوار والتوقيع علي الوثيقة الدستورية، لانه قول مردود حيث لا تسمح به لائحة الحزب الشيوعي.
وهذي كلها تعتبر من شروط العضوية الواجب الالتزام بها،
لأن الإخلال بهذه الشروط يستدعي الفصل بموجب لائحة الحزب.
اواصل
أهم تحديات تواجه تحالفات القوى المدنية (٣)
في ظروف بلد مثل السودان صارت فيه الهيمنة للقوة والمال علي حساب الحوار العقلاني من أجل المصلحة العامة بسبب سيطرة الإسلام السياسي لأكثر من ثلاثة عقود، يسهل من أمر اختراق القيادات السياسية وقيادة الحزب الشيوعي علي سبيل المثال ليست إستثناء وهي عبارة عن لجنة تنفيذية ( مكتب سياسي ) يتكون من أشخاص بعدد أصابع اليد ، تعلمهم جيدا الاستخبارات العسكرية والاجهزة الأمنية.
وهو أمر كان قد نبه إليه د. الشفيع خضر سعيد في رسالة موجهه إلي عضوية الحزب في المؤتمر السادس ( يمكنك البحث عنها في محرك قوقل).
حيث أكد فيها الشفيع على إمكانية حدوث تغويص ( بناءا علي بلاغ ورد إلي اللجنة المركزيه من مصدر موثوق ).
قيادة الحزب الشيوعي الحالية مثلا تستهون بعضويتها جدا ، تماما مثلما يفعل اعلام الكيزان وغرفهم الاعلامية اليوم من قلب للحقائق وتشويه لها . ذلك لإنها تعلم بأنها محصنة من المحاسبة بسبب وجود لائحة تصادر حقوق العضوية لمصلحة القيادة.
انظر مثلا الى مشاركة الحزب الشيوعي في التفاوض مع العساكر حتي بلوغ الوثيقة الدستورية ثم توقيع عليها بواسطة المهندس صديق يوسف مما يعني الموافقة عليها.
ومع ذلك يتحدث اليوم الحزب الشيوعي عما أسماه ب " شراكة الدم" و " الهبوط الناعم" بكل قوة عين .
في السردية الإسلامية "المجمع عليها " ان "حبر الأمة" عبد الله بن عباس كان قد تنصل من مبايعة الإمام علي بن أبي طالب حينما استدعاه الاخير للتحقيق في تهمة فساد له في بيت المال وهو والي علي الكوفة أو البصرة لا اذكر بالتحديد ، ولكن عبد الله بن عباس رفض المثول أمام الخليفة الراشد وكتب له ما معناه أن تهمة الاختلاس من بيت المال تسهل لأن له فيه حق ، وهي لا تعادل تهمة سفك دماء المسلمين.
هنا ضرب الإمام علي كفا بكف قائلا " سبحان الله ، وكأن إبن عباس لم يكن معنا حينما سفكنا دماء المسلمين"!!
والمثل بالمثل يقال
وكأن الحزب الشوعي لم يكن يوما ما طرفا في شراكة الدم
والهبوط الناعم .
عودة علي بدء:
الحوار الذي غاب عام ١٩٦٥م بعد طرد الجمعية التاسبسية لنواب منتخبين من الشعب بتهمة انتمائهم للحزب الشيوعي رغم ان القضاء كان قد ابطل ذلك الاحراء علي بقرار شهير من القاضي صلاح حسن، كان خطأ فادح. وكان علي جيل الاستقلال فتح حوار حول تقوية strengthen النظام المدني الديمقراطي حتي يستديم وذلك بإتخاذ إجراءات تمنع احزاب يتعارض دستورها مع الحياة الديمقراطية من المنارسة الحزبية والتمتع بالشرعية. وكذلك كان من الواجب الإذعان لموقف القضاء السوداني وإظهار الاحترام له مهما كان الثمن ومهما بلغت درجة الاختلاف معه.
وجود دساتير غير ديمقراطية تحكم الحياة الداخلية لاحزابنا السياسية يعد من أخطر المهددات علي النظام الديمقراطي. فمن سخرية الأقدار ان يدعى حزب ما حرصه علي استرداد حقوق الشعب بينما يضن بتلك الحقوق علي عضويته نفسها، لأن فاقد الشئ لا يعطيه. ومن المؤلم إدعاء حزب سياسى بايمانه وحرصه علي التعددية في البلاد في الوقت الذي يقوم فيه بفرض رأيه علي ممثليه الأمر الذي يساهم في مصادرة التعدد في الرأي واضعاف الثقة والحوار داخل المجال الاجتماعي ، هذا غير الخسائر الاخلاقية في إظهار عضو الحزب لرأى أو موقف هو نفسه غير مقتنع به.!
ذلك الحوار كان سيدفع بكل من جبهة الميثاق الإسلامي والحزب الشيوعي وبقية الاحزاب السياسية إلي إجراء اصلاحات ديمقراطية عميقة تستطيع أن تفتح النوافز وتشرع الأبواب لدخول الشمس والهواء النقي لتبديد عتمة ورطوبة المكان داخل دهاليز تلك الاحزاب.
talaat1706@gmail.com
ظلت قوي ثورة ديسمبر تواجه تحديات كبيرة حيث تعرضت قوي الحرية والتغيير ، تجمع المهنيين ولجان المقاومة إلي خلافات وانقسامات اضعفت مناعة الثورة في مقاومة فيروس الإسلام السياسي ممثلا في الإخوان المسلمين جناح المؤتمر الوطني الذي تمكن من البلاد والعباد لأكثر من ثلاثة عقود.
بعض هذه التحديات داخلية أو ذاتية، والبعض الاخر خارجي يتعلق بالدعاية المضادة لقوي الثورة بواسطة فلول النظام القديم مستندين إلى قدرات مادية واعلامية مهولة. اذ من المعروف أن منظمات الإسلام السياسي لا تتعامل مع المناصب العامة في الدولة الحديثة Public Office كمواقع لخدمة المجتمع كما جرت العادة في عالمنا المعاصر، بل كمواقع ل " اعادة صياغة المجتمع " وشتان ما بين الإثنين.
الاحزاب السياسية عبارة عن منظمات طوعية هدفها خدمة المجتمع بينما التعالي وإنعدام التواضع المتمثل في اعادة صياغة الإنسان السوداني هو ما جعل كيزان السودان يفعلون العكس تماما بالدولة السودانية طوال فترة حكمهم، حيث قاموا بتوظيف الدولة وقدراتها في خدمة اجندة تنظيمهم، فأثرى قادتهم ثراءا فاحشا لدرجة أصبح معها الفساد والمحسوبيه والإقصاء تعتبر من أهم سمات المشروع الحضاري المزعوم.
اما بخصوص الانقسامات في صفوف القوى المدنية فلم تكن لأسباب اثنية كما يظهر اليوم في تداعيات الحرب، رغم أهمية العامل الاثني.
أول انقسام بعد ثورة ديسمبر كان قد وقع في صفوف تجمع المدنيين ثم ق ح ت ثم لجان المقاومة أليس كذلك ؟
الخلاف بين القوي المدنية والاحزاب السياسية قديم ولكن اهم محطاته والني تعنينا هنا ما حدث بعد ثورة اكتوبر قبل ستين عاما مضت ، وازمة الجمعية التأسيسية التي تمثلت في طرد نواب الحزب الشوعي المنتخبين، من البرلمان والذي كان كارثة بكل المقاييس. لكن القيادات السياسية أو ما سمي بجيل الاستقلال كان قد تقاعس عن مهمة فتح حوار حقيقي حول مستقبل التعددية والحكم المدني في السودان.
لكن ماهي ملامح ذلك الحوار المغيب؟
ادعونا أولا نجتهد في تشخيص مرض الانقسامات في حياتنا السياسية السودانية ..
في تقديري أن بالسودان أزمة تمثيل Representation
مزمنة بسبب العلاقات الطائفية، أي تشابك القداسة والسياسة، احزاب عقائدية ومجتمع قبلي وادارات اهلية.
الانقسام مثلا الذي حدث داخل تجمع المهنيين ، ق ح ت ولجان المقاومة يمكن وصفه بالفشل في المحافظة علي وحدة المعارضة المدنية المنهكة بسبب قمع الانفاذ الطويل والممتد لها ، علي الرغم من إنها تواجه خصم اسلاموي مدجج بالمال والسلاح من اعلي راسه حتي اخمص قدميه، اضافة الي المعلومات الاسترتيجية والعلامات الدولية والخبرات التي تراكمت لديه في الحكم منفردا طوال ثلاثة عقود من الزمان .
بمعني آخر وحتي نكون اكثر دقة، فشل المكون المدني في ادراك حجم المخاطر والتحديات التي تواجهه التي تستدعي ضرورة " الإبقاء علي وحدة الاهداف المتعلقة بتأسيس حكم مدني مع السماح لتعدد وسائل تحقيق تلك الاهداف المتفق عليها مثل تفكيك التمكين التدريجي لمحاربة الفساد والامتيازات، والاصلاحات لهيكل الدولة ومؤسساتها الخ ، وهذا هدف مشترك بين الجميع لكن هناك عدد كبير من الناشطين يعتقدون بتعدد وجهات النظر حول كيفية تحقيق تلك الاهداف وينادون بضرورة التعامل بمرونة مع وسائل تحقيق تلك الغايات
أي مبدأ الإبقاء وحدة الاهداف والتعامل بشئ من المرونة مع تعدد الوسائل.
فما الذي حدث ولماذا " حدث ما حدث"؟
اواصل
أهم تحديات تواجه تحالفات القوى المدنية (٢)
جملة اعتراضية تمهيدا مني لتوضيح الفكرة:.
هنا في كندا وفي آخر استطلاعات في الرأي حول مدى ثقة الناخب في العملية الانتخابية،
اتضح إن لجنة الانتخابات Election Canada
تحوز علي اكثر من ٨٠% من ثقة المواطن وذلك بعكس الاحزاب السياسية والتي تحظي بثقة اقل من ذلك بكثير. لجنة الانتخابات منظمة قومية مستقلة تتمتع بقدر واسع من الثقة والإحترام كبقية مفوضيات الانتخابات في العالم الغربي.
وبناءا علي تلك الثقة المتجددة والمستحقة، اصدرت انتخابات كندا " قواعد للسلوك" ، ولكنها لم تفرضها علي الاحزاب السياسية لأن الاوضاع السياسية ليست بذلك القدر من السيولة ..
في السودان كان على الحوار الوطني أن يتجه إلي تعزيز مفوضية الانتخابات في السودان وضرورة فرضها لقواعد سلوك code of conduct علي احزابنا السياسية بحيث لا تتعارض دساتيرها وممارساتها بالتالى مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ويكون ملزما لاحزابنا السياسية.
لكن ما أهمية قواعد السلوك؟
دعونا أولا نجتهد في تشخيص مرض الانقسامات في حياتنا السياسية السودانية ..
اعتقد أن فشل المكون المدني في الممارسة العملية وحدوث انقسامات كان لأسباب بنيوية تتعلق ببنية احزاب المعارضة نفسها خاصة احزاب الشيوعي والبعث بمسمياته.
ماهي خصائص تلك الأزمة البنيوية؟
دستور الحزب الشيوعي علي سبيل المثال ، لا يسمح علي الاطلاق لاعضائه بالاختلاف مع رأي الحزب في المجتمع المدني، أي في المجال الذي يعمل فيه ( ق ح ت ، لجان مقاومة. تجمع مهنيين ونقابات الخ ).
من المعروف أن كل احزاب الدنيا عدا الاحزاب الشيوعية أو العقائدية بشكل عام تسمح لعضويتها بالاختلاف داخل الحزب وخارجه ايضا، لأن ذلك يعتبر من الحقوق الاساسية للأنسان الذي يجب ان يتمتع بالحق في ان يعبر عن رأيه.
الشرط الوحيد هو ان يلتزم عضو أو عضوة الحزب بالتصويت لصالح قرارات حزبه وذلك طبعا بغرض رفع الفاعلية للحزب السياسي .
لكن حتي ذلك الالتزام بضرورة الإبقاء علي فعالية الحزب السياسي له شروط ، والحزب السياسى طبعا في النهاية هو عبارة عن اتحاد طوعي بين أناس يشتركون في الرؤى العامة تجاه قضايا العمل العام. والتصويت لصالح أي حزب ليس مطلقا ، اذ ان بعض القضايا ذات الحساسية تستدعي ما عرف بتصويت الضمير vote of conscious
المعضلة تكمن في أن لائحة الحزب الشيوعي ومثيلاتها من الاحزاب العقائدية تصطدم مع إدعاءات تلك الاحزاب بقبول التعددية الديمقراطية . اذ ان ما هو مسموح به لعضو الحزب ان يقول رأيه فقط داخل وحدته التنظيمية ثم يحسم الأمر بالتصويت ويصبح ملزما له . مع العلم أنه حتي اذا فاز رأيه داخل خليته، فمن السهل جدا ان تقوم قيادة الحزب بفرض رأيها بزعم ان قرارها يحظي برأي الأغلبية( أي أنه يمثل غالبية خلايا التنظيم الاخري).
ولذلك ، وفي جميع الاحوال فإن رأي الحزب الشيوعي ظل علي الدوام يمثل رأي قيادته المتمثلة في المكتب السياسي ( المسؤول السياسي والتنظيمي والمالي والاعلامي) وهم يمثلون اللجنة المركزية التي تجتمع فقط ثلاث مرات في السنة حسب ما تنص عليه لائحة الحزب في أحسن الاحوال ( في واقع الأمر تجتمع ل م مرة واحدة في العام وقد لا تجتمع لمزاعم تأمينية ) مما يجعل التنظيم قي قبضة أفراد المكتب السياسى ، ويصبح كالميت بين يدي الغاسل ..
مآلات مثل هذا الوضع تعتبر ذات مخاطر كبيرة علي المجال او التحالف الذي يعمل الحزب الشيوعي من خلاله كما سوف أوضح.
لابد من التنويه إلي حقيقة ان المنظمات الشمولية مثل الحزب الشيوعي تتبني مبدأ تنظيمي عرف باسم " المركزية الديمقراطية "وهو مبدأ كان قد صاغه لينين قبل اكثر من مائة وعشرين عاما تقريبا في منطقة متخلفة من العالم آنذاك هي روسيا القيصرية ، مهمة المركزية الديمقراطية هي ان تجعل التنظيم مقطع الاوصال بزعم حمايته وتأمينه من الاعداء ، فالتنظيم يتكون من وحدات تنظيمية أو خلايا قاعدية لا يجمعها رابط سوي قيادة الحزب وقبضته المركزية ، الخلايا القاعدية( تتكون من أربعة او خمسة اعضاء في المتوسط)
وهي منفصلة تماما عن بعضها لأن لائحة الحزب تنص علي حظر الاتصالات الافقية، بمعني أنه يحرم علي العضوية آن تجري اتصالات لمعرفة ما دار في خلية أخري بحجة تأمين اسرار التنظيم.
ولذلك لا يمكن للعضو ان يطلع علي الرأي العام للحزب في قضية ما .
وهذا السبب بالذات جعلنى اعتقد أن غالبية الشيوعيين الفاعلين اليوم غير راضين عن مواقف قيادتهم، ولكنهم لا يمتلكون القدرة علي تأكيد ما اذا كان اتجاه الرأي العام داخل حزبهم يؤكد ذلك أم ينفيه .
المركزية الديمقراطية تجعل العضوية تعيش داخل غيتوهات من المستحيل اختراقها.
الاتصالات الافقية تعتبر "تكتل"
التعبير عن الرأي الخاص في المجتمع يعتبر " انقسام".
اتخاذ موقف مخالف لتوجيهات لجنة التنسيق ( الفراكشن الشيوعي سابقا) في تحالف ما ، يعتبر خروج عن خط الحزب. وهنا لا بد من التنبيه لخطورة ما يردده بعض الشيوعيين من أن المهندس صديق يوسف كان يمثل رأي قوي الاجماع الوطني اثناء الحوار والتوقيع علي الوثيقة الدستورية، لانه قول مردود حيث لا تسمح به لائحة الحزب الشيوعي.
وهذي كلها تعتبر من شروط العضوية الواجب الالتزام بها،
لأن الإخلال بهذه الشروط يستدعي الفصل بموجب لائحة الحزب.
اواصل
أهم تحديات تواجه تحالفات القوى المدنية (٣)
في ظروف بلد مثل السودان صارت فيه الهيمنة للقوة والمال علي حساب الحوار العقلاني من أجل المصلحة العامة بسبب سيطرة الإسلام السياسي لأكثر من ثلاثة عقود، يسهل من أمر اختراق القيادات السياسية وقيادة الحزب الشيوعي علي سبيل المثال ليست إستثناء وهي عبارة عن لجنة تنفيذية ( مكتب سياسي ) يتكون من أشخاص بعدد أصابع اليد ، تعلمهم جيدا الاستخبارات العسكرية والاجهزة الأمنية.
وهو أمر كان قد نبه إليه د. الشفيع خضر سعيد في رسالة موجهه إلي عضوية الحزب في المؤتمر السادس ( يمكنك البحث عنها في محرك قوقل).
حيث أكد فيها الشفيع على إمكانية حدوث تغويص ( بناءا علي بلاغ ورد إلي اللجنة المركزيه من مصدر موثوق ).
قيادة الحزب الشيوعي الحالية مثلا تستهون بعضويتها جدا ، تماما مثلما يفعل اعلام الكيزان وغرفهم الاعلامية اليوم من قلب للحقائق وتشويه لها . ذلك لإنها تعلم بأنها محصنة من المحاسبة بسبب وجود لائحة تصادر حقوق العضوية لمصلحة القيادة.
انظر مثلا الى مشاركة الحزب الشيوعي في التفاوض مع العساكر حتي بلوغ الوثيقة الدستورية ثم توقيع عليها بواسطة المهندس صديق يوسف مما يعني الموافقة عليها.
ومع ذلك يتحدث اليوم الحزب الشيوعي عما أسماه ب " شراكة الدم" و " الهبوط الناعم" بكل قوة عين .
في السردية الإسلامية "المجمع عليها " ان "حبر الأمة" عبد الله بن عباس كان قد تنصل من مبايعة الإمام علي بن أبي طالب حينما استدعاه الاخير للتحقيق في تهمة فساد له في بيت المال وهو والي علي الكوفة أو البصرة لا اذكر بالتحديد ، ولكن عبد الله بن عباس رفض المثول أمام الخليفة الراشد وكتب له ما معناه أن تهمة الاختلاس من بيت المال تسهل لأن له فيه حق ، وهي لا تعادل تهمة سفك دماء المسلمين.
هنا ضرب الإمام علي كفا بكف قائلا " سبحان الله ، وكأن إبن عباس لم يكن معنا حينما سفكنا دماء المسلمين"!!
والمثل بالمثل يقال
وكأن الحزب الشوعي لم يكن يوما ما طرفا في شراكة الدم
والهبوط الناعم .
عودة علي بدء:
الحوار الذي غاب عام ١٩٦٥م بعد طرد الجمعية التاسبسية لنواب منتخبين من الشعب بتهمة انتمائهم للحزب الشيوعي رغم ان القضاء كان قد ابطل ذلك الاحراء علي بقرار شهير من القاضي صلاح حسن، كان خطأ فادح. وكان علي جيل الاستقلال فتح حوار حول تقوية strengthen النظام المدني الديمقراطي حتي يستديم وذلك بإتخاذ إجراءات تمنع احزاب يتعارض دستورها مع الحياة الديمقراطية من المنارسة الحزبية والتمتع بالشرعية. وكذلك كان من الواجب الإذعان لموقف القضاء السوداني وإظهار الاحترام له مهما كان الثمن ومهما بلغت درجة الاختلاف معه.
وجود دساتير غير ديمقراطية تحكم الحياة الداخلية لاحزابنا السياسية يعد من أخطر المهددات علي النظام الديمقراطي. فمن سخرية الأقدار ان يدعى حزب ما حرصه علي استرداد حقوق الشعب بينما يضن بتلك الحقوق علي عضويته نفسها، لأن فاقد الشئ لا يعطيه. ومن المؤلم إدعاء حزب سياسى بايمانه وحرصه علي التعددية في البلاد في الوقت الذي يقوم فيه بفرض رأيه علي ممثليه الأمر الذي يساهم في مصادرة التعدد في الرأي واضعاف الثقة والحوار داخل المجال الاجتماعي ، هذا غير الخسائر الاخلاقية في إظهار عضو الحزب لرأى أو موقف هو نفسه غير مقتنع به.!
ذلك الحوار كان سيدفع بكل من جبهة الميثاق الإسلامي والحزب الشيوعي وبقية الاحزاب السياسية إلي إجراء اصلاحات ديمقراطية عميقة تستطيع أن تفتح النوافز وتشرع الأبواب لدخول الشمس والهواء النقي لتبديد عتمة ورطوبة المكان داخل دهاليز تلك الاحزاب.
talaat1706@gmail.com