مخاطر التقسيم في السودان – مآلات الصراع بين الجيش والدعم السريع

 


 

 

بعد مرور عام وأشهر على اندلاع حرب 15 أبريل في السودان، يبدو أن البلاد تقف أمام مفترق طرق حاسم يهدد وحدتها وسلامها الداخلي، مما يطرح تساؤلات حول سيناريوهات التقسيم كأحد الاحتمالات المتزايدة في ظل هذا الصراع. فالصراع الحالي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ليس مجرد مواجهة عسكرية تقليدية؛ بل هو صراع داخلي ضمن بنية نظام سياسي وعسكري متشعب الأطراف والمصالح. إذ يتمركز الصراع حول مركز قيادة المؤسسة العسكرية التي تحتكر القرار الوطني وتسيطر على السلطة والثروة، مما يميز هذه الحرب عن الحروب السابقة، ويجعلها بالغة الخطورة على استقرار السودان ووحدته.
خلفية الصراع: النظام العسكري وتعدد الرؤوس
تعود جذور الأزمة الحالية إلى التداخل بين الجيش والدعم السريع تحت مظلة واحدة، ولكنهما يُمثلان قوتين متنافستين يملك كل منهما رؤيته ومصالحه الخاصة. وقد جاء انفجار الصراع نتيجة لتعاظم نفوذ الدعم السريع ورغبته في حصة أكبر من السلطة والثروة، وهو ما أدى إلى اصطدامه بمصالح الجيش ومراكز القوى الإسلامية التي دعمت تأسيس الجيش والدعم السريع على حد سواء منذ التسعينيات، لضمان بقاء النظام القديم وتجنب المعارضة.
وبعد إزاحة نظام البشير في 2019 عبر ثورة ديسمبر الشعبية، بدا أن القوى الإسلامية ستفقد السيطرة، إلا أن انقلاب 25 أكتوبر 2021 أعاد الإسلاميين إلى المشهد، ومن ثم شهد السودان الحرب الأخيرة التي كانت بمثابة الانفجار غير المتوقع داخل النظام العسكري نفسه، حيث انقلبت معايير القوة وبدأ كل طرف في محاولة التفوق على الآخر. ومع استمرار التنافس بين البرهان وحميدتي، بدأت مخاوف التقسيم تلوح في الأفق.
التقسيم كخيار قسري: الموقف الدولي والإقليمي
قدمت مراكز الأبحاث الدولية الرائدة قراءات متعددة حول هذا السيناريو، مشيرة إلى مخاطر تقسيم السودان إلى دويلات نفوذ، قد يسيطر على كل منها "لوردات الحرب" إذا استمرت الحرب على وضعها الحالي. مجموعة الأزمات الدولية (ICG)، على سبيل المثال، ترى أن تعمق الخلاف بين الجيش والدعم السريع، وتوسع دائرة العنف دون وجود حل سياسي شامل، يجعل من التقسيم خيارًا قد يفرضه الوضع القسري على السودان. وأشارت تقارير المجموعة إلى أن استمرار الصراع دون حل توافقي يضمن تماسك الدولة وإشراك الأطراف المدنية في الحكم، يهدد بتدهور الأوضاع نحو التقسيم.
أما معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، فقد أبرز أن قوة الدعم السريع المستمرة رغم ضربات الجيش تشير إلى أن الوضع قد يتحول إلى دويلات نفوذ بحكم الأمر الواقع، خاصةً إذا استمر دعم الحركات المسلحة لبعض الأطراف الإقليمية والدولية. وذكر المعهد أن هذا السيناريو يلقى دعمًا من بعض القوى الخارجية التي ترى في استمرار الصراع وعدم استقرار السودان فرصة لتمرير أجنداتها الإقليمية.
على الصعيد الإفريقي، معهد الدراسات الأمنية الإفريقية سلط الضوء على المخاطر التي قد تطال دول الجوار كتشاد وإثيوبيا وجنوب السودان، مؤكدًا أن تقسيم السودان يهدد تماسك المنطقة بأكملها، ويفتح الباب على مصراعيه أمام قوى أجنبية للتدخل. ووفقًا للمعهد، فإن هذا السيناريو قد يفاقم الأزمات الإنسانية ويؤدي إلى اضطرابات إقليمية طويلة الأمد في المنطقة.
عوامل تعزز مخاوف التقسيم
أبرزت التقارير أن مخاطر التقسيم تتزايد في ظل العنف المتبادل والخطاب التحشيدي والتحريض المتصاعد، حيث توظف القوى الإسلامية هذا الخطاب لبث الكراهية بين السودانيين أنفسهم وتحقيق أهدافها السياسية، دون اكتراث بسلامة الوطن أو مصلحة الشعب. فالقوى السياسية الإسلامية التي تقف خلف الحرب تستفيد من تفاقم الأوضاع، إذ تراهن على أن انقسام السودان إلى مناطق متصارعة سيجعل من السهل عليها فرض سيطرتها على المناطق التي يتواجد فيها نفوذها الشعبي. ويشكل خطاب الكراهية هذا عاملاً مؤثراً يسهم في تعميق الهوة بين الأطراف المتنازعة.
وعلى الرغم من ضعف هذا الطرح حتى الآن، يظل خيار التقسيم مطروحًا خصوصًا مع بروز مناطق نفوذ شبه منفصلة على أرض الواقع، ومع عجز الأطراف المحلية عن فرض سيطرة شاملة.

نهاية مفتوحة - هل يمكن تجنب السيناريو الأسوأ؟
ورغم وجود هذا السيناريو المظلم، فإن بعض العوامل ما زالت تخلق أملًا في إمكانية تجنبه. فحميدتي، قائد قوات الدعم السريع، ما زال يعلن عن تمسكه بوحدة السودان، وإن كان ذلك الموقف قد يتغير وفق المتغيرات السياسية والعسكرية على الأرض. كما أن دول الجوار لا ترغب في رؤية السودان مقسماً، لما في ذلك من تهديد مباشر لاستقرارها الداخلي، خاصةً تلك الدول التي لديها صراعات إقليمية مثل تشاد وإثيوبيا وجنوب السودان، والتي قد تجد نفسها في مواجهة تداعيات هذا التقسيم.
إجمالاً، يظل مستقبل السودان مرتبطًا بمدى قدرة الأطراف المتنازعة على إيجاد مخرج سياسي يضمن وحدة السودان وسلامته. ففي حال استمرار الصراع دون رؤية واضحة للحل، سيبقى سيناريو التقسيم أحد الاحتمالات التي قد تصبح واقعًا مفروضًا. ولعل الضغط الدولي والإقليمي نحو الحل السلمي، إلى جانب الجهود الشعبية الرافضة للتقسيم، قد تشكل وسائل للضغط على أطراف النزاع للعودة إلى طاولة الحوار وإيجاد صيغة تضمن حماية السودان من التقسيم.

*يمكن الاستناد إلى تقارير وتحليلات مراكز أبحاث بارزة تتابع الشأن السوداني والصراعات الإقليمية. على سبيل المثال-

تحليل مجموعة الأزمات الدولية (International Crisis Group): تتناول المجموعة بعمق الوضع في السودان، حيث أشارت في تقاريرها الأخيرة إلى أن صراع الجيش والدعم السريع له جذور تمتد إلى الخلاف على موارد الدولة والنفوذ السياسي، مما يزيد من خطر التقسيم. وقد حذرت المجموعة من أن الصراع الداخلي بين الجيش والدعم السريع يشكل تهديدًا لوحدة السودان على المدى الطويل، خصوصًا إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق سياسي شامل يضمن تماسك الدولة وإشراك الأطراف المدنية بشكل جدي.

تحليل معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى (The Washington Institute for Near East Policy): يرى المعهد أن تعاظم نفوذ قوات الدعم السريع قد يُسرّع من انقسام السودان إلى مناطق نفوذ محلية أو ما يشبه الدويلات تحت سيطرة أمراء الحرب. وأوضح المعهد أن استمرار الحرب دون حلول يُضعف الجيش ويُفقده السيطرة، ما يدفع بعض القوى العسكرية والمليشيات للسيطرة على مناطق معينة، ويؤدي إلى توسيع دائرة الانقسامات الجهوية في ظل الفوضى السائدة.

معهد الدراسات الأمنية الإفريقية (Institute for Security Studies): يشير هذا المعهد إلى أن الصراع بين البرهان وحميدتي يمثل خطرًا على السلام الاجتماعي في السودان، وأن استمرار الاستقطاب الحاد بين القوى العسكرية يرفع احتمالية تجزئة السودان فعليًا إلى مناطق متنافسة. كما يحذّر المعهد من عواقب هذا السيناريو، كونه قد يحوّل السودان إلى بؤرة صراع إقليمي، خاصة مع تداخل المصالح الأجنبية والتجاذبات الجهوية.

الاستناد إلى هذه التحليلات يجعل من سيناريو التقسيم أكثر مصداقية، حيث يتفق الخبراء على أن استمرار الحرب والتعبئة العنيفة يدفع بالبلاد نحو التفكك.

zuhair.osman@aol.com

 

آراء