اسماعيل الكيماوي!!

 


 

 

abdullahaliabdullah1424@gmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم
ارتبط اسم الكيماوي بعلي حسن المجيد الضابط العراقي المتهم باستخدام السلاح الكيميائي ضد ابناء الشعب العراقي في حلبجة، وايضا هنالك شبهات باستخدامه في الحرب العراقية الايرانية. ومبرر هذه الارتباط هو التاثير المدمر لهكذا سلاح ليس علي الابرياء وحدهم، ولكن علي البيئة بكل ما تحتويه من كائنات حيوية. ومن هنا ايضا اتت التهمة باستخدام وحيازة اسلحة الدمار الشامل التي اودت بصدام ونظامه الدموي، ومن بعدها لم تقم للدولة العراقية قائمة، عقب احتشادها بالملشيات ذات الارتباطات الخارجية.
اما اسماعيل عبدالله الذي لم يتحرج من الدعوة لاستخدام ما هو اكثر ابادة وحقارة وتفاهة من السلاح الكيميائي (مليشيا الجنجويد)، فهو اضل سبيلا! لان دعوته اتت عقب عملية ابادة وانتهاكات واسعة ارتكبتها هذه المليشيا ضد بسطاء قري الجزيرة. اي كتقليل من هول الفاجعة ومعاقبة الضحايا بالاستخفاف بمأساتهم والسخرية من معاناتهم، وتكريم لجنود المليشيا البربريين! وكان المتوقع من امثاله ممن اطنَّ اذنين بحديث المدنية والديمقراطية والوقوف مع الثورة...الخ من لغو الحديث، ادانة هذه المجازر والانتهاكات الوحشية، او الطلب من المليشيا التي يدعمها من منطلقات عرقية ان تكف اذاها وشرورها عن الابرياء، او اقلاه الصمت (والعمل رايح كما يعمل الكثيرون دون حياء). ولكنه للاسف جراها لساحة السياسة في نسختها الاكثر قذارة، منحرفا بها عن الوجهة الانسانية والاخلاقية والحقوقية التي تندرج فيها! وسنعرف السبب لاحقا؟! اي بعد المرور علي ما خطاه قلمه الذي يقطر سما زعافا، وينذر بالويل والثبور وعظائم الامور من مخططات المليشيا البربرية في قادمات الايام:
اولا، عقد المقارنة مع الاسلامويين غض النظر عن صحتها او عدمه، تعامي عن حقيقة بائنة كضوء الشمس، بحيث لا يمكن اخفاءها او تلبيسها والتنكر لها. وهي ان المليشيا صنيعة النظام الاسلاموي، بل هي اقذر ادواته، وظلت مرتبطة به في المنشط والمكره حتي فرَّق بينهما صراع الاستفراد بالسلطة. والحال ان ما رشح من معلومات عن اتفاق حميدتي مع كرتي علي التآمر علي الثورة، يؤكد ان حميدتي ومليشياته ليس لهم اعتراض علي الاسلامويين، سواء كتنظيم شيطاني او ممارسات اجرامية او فساد شامل، ولكن الاعتراض حول النصيب في كيكة السلطة، والاصح عكس الآية، اي بدل ان يخدم حميدتي سلطة الكيزان، علي الكيزان ان يخدموا سلطة حميدتي!
وعليه، كل الاضرار والامراض والانحرافات والتشوهات الي تعرضت لها الدولة ومؤسساتها وانشطتها وثرواتها ومواردها وغيرها مما تحدث عنه الكاتب بسبب الاسلاموييين، هي نفسها وان بشكل اكثر جذرية وتطرف تجسدت في مولودهم السفاح (مليشيا الجنجا). اي هي الثمرة السامة لشجرة الفساد الانقاذوية كما سلف وذكرت في مرة سابقة. والاخطر ان مجرد وجودها في الدولة يطعن في تكوينها ووظيفتها ويهدد وجودها، اما عندما تعلن الحرب علي الدولة فهي الطامة الكبري ورب الكعبة. وهذه احد اوجه تعقيدات هذه الحرب اللعينة، التي تجعل الاتفاق مع المليشيا الغادرة مغامرة غير مضمونة، والحرب ضدها تهديد لوجود الدولة وتمادي في انتهاكات المدنيين.
والمفارقة ان الاسلامويين الذين خرج جل شباب البلاد في ثورة نبيلة، رفضا لمشروعهم التدميري ووجودهم في السلطة، قد رجعوا بقوة لقيادة المشهد السياسي، بل وحشروا تقدم في الزاوية الضيقة، بعد ان اصبح مطلب الغالبية الباحثة عن الاستقرار والعودة لديارها من التشرد والنزوح، ورد الاعتبار لما اصبها من ظلم وعدوان، هو الموقف المتشدد من مليشيا دقلو الارهابية، التي طغت في البلاد واكثرت فيها الانتهاكات! وهو ما فشلت فيه تقدم التي ركزت جهدها علي العداء للاسلامويين، دون وضع اعتبار لما تشكله جرائم المليشيا من اهانة واذلال لشعب جبل علي الكرامة. خاصة وان المليشيا الاجرامية، جعلت من ممتلكات المواطنين واجساد النساء والتشريد واستسهال القتل وتحويل المدن والمؤسسات الخدمية الي خنادق قتالية، منهجية لحربها القذرة من اجل السلطة. وما زاد الطين بلة، هو وجود حمدوك في الامارات منذ الانقلاب، رغم ثبوت تورطها في تزويد المليشيا بكل انواع الاسلحة والدعم، دون اخفاء اهدافها في هذه البلاد الهاملة! واذا تغاضينا عن كل ذلك، فكيف يمكن التغاضي عن تآمرها علي الثورة التي كان حمدوك نفسه ضحيتها؟! ولكن الحق يقال كيف نلوم حمدوك والجميع يحج لهذه الدولة المارقة، وكلٌ باغراضه رغم انف تصريحات العطا العنترية؟!! فهل بعد كل ذلك يمكن الحديث عن المليشيا علي اعتبارها الدواء لداء الكيزان؟ إلا اذا كان المقصود بالعلاج الانتحار بطريقة همجية؟
والحال كذلك، هنالك سؤال يفرض نفسه، ما راي اسماعيل الكيماوي في الكيزان الذين ينتشرون بكثرة داخل اروقة المليشيا؟ ام من دخل كعبة المليشيا تُغسل ذنوبه وتُقبل توبته وتضمن له جنة السلطة بعد الاستيلاء عليها، وهذا بالطبع اذا ما تبقت دولة، اي بما يشبه اجتماع المتناقضات لدي المختلين والمهووسين؟!
ثانيا، قصة ان الكيزان من بدأ الحرب اصبح ليس لها معني، لانها من جهة، حتي لو صدقت وكما قال احدهم، اذا ما كانت نوايا المليشيا خالصة في رفض الحرب، لاكتفت باطفائها في المدينة الرياضية، بل واتخذتها ذريعة للخلاص من الكيزان، وليس المسارعة بتوسيعها الي القيادة ومطار مروي! ومن جهة، اتضح لكل ذي عينين نوايا المليشيا المبيتة للحرب، سواء من خلال التحشيد العسكري في العاصمة والذهاب الي مروي والتصريحات المستفزة لقادتها قبل الحرب. او بعد الحرب في الاستمرار بالهجوم علي مقرات الجيش وحامياته وولايات البلاد المختلفة، في مسعي للسيطرة علي السلطة وكامل الدولة! اي الثابت في مشروع المليشيا المدعومة امارتيا، هو احتلال الدولة. وطالما تعثر هذا المشروع من دون حرب، فالحرب كفيلة بتحقيقه. والحال كذلك، يبدو ان الخطة الف هي الاستيلاء علي السلطة دون حرب! وعليه، تصبح الخطة باء هي الحرب، إلا اذا كان حميدتي من شدة جهله لا يميز بينهما، او من شدة مكره يصر علي سردية ان الحرب بدأها الكيزان لتحميلهم وزر جرائم الحرب الممنهجة التي تقترفها قواته.
ولكن هذا بالطبع لا ينفي ان الكيزان بدورهم يتطلعون لسحق المليشيا والاستفراد بالسلطة، وفي سبيل ذلك لا يستنكفون عن اراقة كل الدماء وحرق كل البلاد، الشئ الذي جعلهم يرفضون كل دعوات التفاوض. لانهما كما سلف القول (فولة واتقسمت نصين)، احدهما يستبد ويفسد مستغلا جهاز الدولة، والآخر ينهب ويدمر وينتهك ويسترزق بمليشيا خارجة علي الدولة.
ثالثا، كيف يشتكي الكاتب من الكيزان ويستعير نفس اساليبهم؟ وهل احاديث مساعد قائد الجيش او تحريضه علي عرقنة الحرب كما يدعي، تشكل مبرر لتبني ذات الدعوات في الاتجاه المضاد! وقبل ذلك هل تشكل هكذا دعوات منتنة رغبة كل الشعب؟ وحتي لو صح ذلك، الا تقع عليه ككاتب مسؤولية الوقوف ضد هذه الدعوات، وتوضيح مضارها علي المجتمع وخطورتها علي البلاد! ام المسألة لها جانب آخر يتعلق بوهم ان المليشيا بمرجعيتها العرقية اتتها الفرصة للسيطرة علي كامل البلاد، وجدع انوف غيرها من العرقيات، ومن ثمَّ لا يجب افلاتها مهما كان الثمن، ولو كانت بقيادة شخص بمؤهلات والاصح عدم مؤهلات حميدتي (ونحن عرفنا شنو في جنرالات الجيش حتي يجينا جنرال الخلا نافخ اوداجه وشاهر افلاسه)، اي مهزلة ونكبة هذه التي حلت بنا؟!
رابعا، في الحقيقة لم اسمع تجرؤ علي الحق واستهبال بمثل مقولة ان الله غيض مليشيا الجنجويد (المحرمون من دخول ملكوته علي قول الروائي بركة ساكن) لتخليص الشعب السوداني من داء الكيزان! ليس لان الله تنزه عن توظيف من يحاربه وينتهك حرماته في عمل طاهر، لان هكذا منطق ميكافيلي لا يليق بوجهه الكريم. ولكن لشبهة التشبه بالكيزان في التمسح باسم الله، ومن ثمَّ استغلال اسمه في التضليل والفساد في الارض. والاهم لطبيعة وممارسات ووظيفة هذه المليشيا الهمجية (كيان وحشي ارهابي مخصص لحماية الطغاة وتجبرهم وفسادهم، قبل ان يطمع في الحلول محلهم). فهل والحال كذلك هنالك فارق بين الكيماوي والكيزان او (علي قول حميد، ما ضر بيت ابي لهب لو ظل بين المسلمين، لو جاء فينا لما ذهب، يا مؤمنين بغير دين)؟!
خامسا، بصراحة لم يدفعني لكتابة هذا التعقيب علي مقالة اسماعيل الكيماوي (قوات الدعم السريع ـ العلاج الكيماوي لسرطان الاخوان) إلا الفقرة الاخيرة، التي ارتقت لمصاف النزعة النازية! وهي تبرر الحرب بمجمل انتهاكاتها، بخفة وتبسيط لا يليق بعمق الكارثة، ان لم تدفعها لإعماق اكثر انحدار. وهو يتعامل معها كقوانين الفيزياء الخاضعة للطبيعة، وليست كنشاط انساني يكاد يتفلت من كل شيء، او محكوم عليه بالتبدل والتغيير والاستجابة للظروف المحيطة وتأثير التيار الجارف. وخطورة هذا الامر انه يجعل الحرب بكل فظائعها وكأنها فرض عين لابد منه! او هي علاج لمشاكل لا تحل إلا عبر الحرب! وعليه، من يخوضونها مجبرون عليها، فكيف والحال كذلك يتحكمون في تفلتاتها او يحاسبون علي جرائمها؟ اما ما يترتب علي هذه الرؤية النازية الاستاتيكية، ومن ثمَّ يجب التسليم به، فهو قبول آثار الحرب من موت الضحايا والابرياء والمستغفلين، وكذلك (المجازر) التي يموت فيها الناس جماعيا كموت الضأن، وتسيل فيها الدماء (انهارا)، ويحدث فيها الهرج والمرج. اما النتيجة الحتمية لهذه الحرب الوحشية، او ما يشجع علي قبول كوارثها الفظيعة (أي كقرابين)، فهو حلول السلام والامن والامان، هكذا ضربة لازب! اما الاهم فهو شفاء صدور قوم وطنيين (الاصح قبليين حاقدين)!
من يصدق ان مشكلة بتعقيد المشكلة السودانية التي تطاول عهدها، والحرب الضروس التي تفكك اواصر البلاد والمجتمع، يمكن ان تُحل بهذا الاستسهال، ودونما اكتراث لكوارثها علي كافة المستويات الانسانية والمادية والمستقبلية! بل هو من يشجع المليشيا علي اكمال حربها الهمجية حتي النهاية بمظنة القضاء علي الكيزان وآخرين، من غير ان يشرح لنا جانبين يتعلقان بهذه المليشيا، اولها، ما هي المكاسب التي تجنيها من اغتصاب النساء وترويع الاطفال وتهجير البسطاء ليتشتتوا في الفلوات؟ وثانيها، ما هي الفوائد التي جنتها المناطق التي سيطرت عليها المليشيا، حتي يُطلب منها الاستمرار في المعركة للسيطرة علي كامل البلاد؟ ولكن المؤكد اننا لن ننتظر اجابة ممن يعتقد ان الهرج والمرج وسيل الدماء هما الممر لمعالجة كل قضايانا. بدليل ان البلاد التي شهدت هرج ومرج بصورة اقل وحشية ودموية مما لدينا، كاليمن وسوريا وليبيا والعراق ولبنان وكل بلد ابتلي بالملشيات، ما زالت تعاني ولا يُري في الافق القريب حل لمعضلتها (تعايش المليشيا مع الدولة او داخلها). بل الارجح ان الفتن والهرج والمرج تغذي بعضها البعض، ولذلك تنحدر الاوضاع من سيئ لا سوأ باستمرار. وما يؤكد ذلك مقالة اسماعيل الكيماوي نفسها التي اصبحت كصرخة الحكامات وهي تهيج المليشيا علي المزيد من سفك الدماء، وكأن هنالك مساحة تبقت من غير جراح في هذه البلاد المنكوبة ببنيها (ترا العوين الكبرو مليسين، علمن يطير، ان كان هو ما صلح عوج، ما فادنا شئ، ومحق القبيل لمينا هين في هين، علي قول الحكيم حميد). بل لو في دولة في العالم يجب ان تعلم ان الحروب لا تحل قضية، بل تعقدها قبل ان تحمل في ركبها الخراب، فهي دولة السودان التي اكتوت بالحروب منذ استقلالها المشؤوم، ولم تتقدم قيد انملة بعد ذلك، حتي وصلنا مرحلة ان يحكمها البرهان ويتطلع لحكمها حميدتي، وهما ليس اكثر من مجرمين قاتلين.
ورغم ان هنالك رابط محكم بين وجود المليشيا والفوضي (الهرج والمرج)، وذلك ليس تجنٍ عليها، ولكن لان المليشيا اصلا مولود نتاج الفوضي، ولذلك محكوم عليها بالعمل في البيئة الفوضوية، إلا ان الكيماوي يراهن عليها لاحداث الاستقرار! والمفارقة ان حميدتي يعلم ذلك، ولذلك رفض الدمج وهدد بالفوضي (خيار بقاء) في حالة محاولة دمجه القوة. ولكن كل ذلك لا يكفي حتي يقفز الكاتب مباشرة من تحديد او مجرد الاشارة للمتسبب في الفوضي، الي تبريريها كوسيلة للعبور! وبالطبع إلا اذا كان المقصود العبور الي جهنم.
ولكن لماذا يصر الكاتب علي ركوب هذا المركب الصعب؟ وهنا ناتي لمربط الفرس (الرغبة في التشفي ولو كان ثمن ذلك دماء ابناء عرقيته البسطاء)! والذي مهد له الكاتب بجملة تترسب داخل لا وعيه وتفضح كل التواء، وهي تعبير الخونة والعملاء والماجورين منذ ما يقارب القرن ونصف القرن، ولكنه للاسف لم يحدثنا ماذا كان يحدث قبل ذلك من الوطنيين؟! ولا عن علاقة الامارات الراعي الرسمي لحميدتي ومليشياته بماذا تُسمي؟! اما المقصود تحديدا فهم الجلابة! وهذه العقدة المستحكمة التي يقاربها الكاتب وامثاله بطرق مختلفة ومداورة عدة، وكذلك تنتمي لها بالاصالة سردية الهامش وغيرها من الاطروحات المشابهة، نجدها تنتهج في تفسير كافة المشاكل اي كان نوعها (سياسية اقتصادية تنموية ثقافية ...الخ) وطبيعتها وظروفها المحيطة، نهج واحد يتصل بالعرق او الجهة، بل عرق وجهة محددان!
وكما كررت اكثر من مرة ان هكذا نهج معطوب لا يعجز عن التفسير فحسب، ولكنه يعكس اشكالات نفسية وكسل فكري ومصادرة علي المطلوب كما يقول المناطقة. اي لماذا نجهد انفسنا في الفهم ومقاربة الحلول الموضوعية، طالما المشكلة معلومة (الجلابة) وحلها كذلك محسوم (الخلاص منهم)، وما تبقي مجرد غطاء يغلف الرغبة المستعرة؟!
ومشكلة هذه النماذج المأزومة، تفترض سلفا ومجانا ان الجلابي مميز، ولكنه لا يستحق هذا الامتياز، وهي مهما نالت من مكاسب لا تستحقها او تؤهلها لاستحقاق الامتياز، طالما مجرد وجود الجلاب يفسد كل ذلك! اي شئ شبيه بعلاقة النخبة السياسية التقليدية السودانية بالمصريين، الذين يشعرون تجاههم بالدونية، لدرجة ان مجرد اعتراف مصري غض النظر عن قيمته، باي انجاز او مبدع سوداني لهو اهم من الانجاز او المبدع نفسه! وهو احساس انهزامي جعل الحكام السودانيين يقدمون كافة الخدمات للحكومات المصرية دون مقابل او حتي انتظار كلمة شكر! وحتي حينما يحدث اعتراض او معترض علي هذه العلاقة غير الندية، فاعتراضه يشوبه الهياج والانفعال والكره وليس الثقة والتعقل والتفهم (كما ينسب لسبينوزا).
لذلك ظلت المشكلة من دون حل لانها تجري وراء الثابت (ميلاد الشخص جغرافية الدولة اللذان لا يد فيهما) وتترك المتغير (شروط الحياة وفرصها وتحدياتها)! وهذا لا يعني انه ليس هنالك ترسبات تاريخية سلبية او ثقافة عنصرية وقبلية في مجتمع تقليدي كالمجتمع السوداني، ولكن الاشكال ياتي من مقاربتها بذات الثقافة والادوات التقليدية التي افرزت المشكلة! اي المعضلة في كيفية الانتقال من ضيق الثقافة التقليدية الي وسع الحياة الحديثة، ومن ضمنها بالطبع معيار القيمة والاعتبار الذي ينزاح من العرق والنسب واللون والجنس والعقيدة الي الكفاءة والابداع والتاثير الايجابي في المجتمع؟ وذلك بدلالة ان المكتسبات الحديثة علي بساطتها، من تعليم ومصانع واحزاب ومنظمات مجتمع مدني ورياضة ومختلف ضروب الابداع والانشطة المجتمعية المدينية، خلقت صلات وروابط جديدة لا تعترف الا بالزمالة والزوق والاحساس والاهتمام المشترك وغيرها من الاستعدادات الفردية، كتشجيع هلال مريخ او زيارة جبل مرة او البركل، او الاستماع لوردي او عبدالقادر سالم او عمر احساس. اي كل ما يمت للحداثة بصلة نجده يتجاوز كل الاشكالات التاريخية بطريقة تكاد تكون عفوية.
ولكن كما هو معلوم الطريق للحداثة ظل يتعرض للاجهاض من قبل الحكومات الاوليغارشية، المسنودة من المؤسسة العسكرية، بل والمستثمرة في التناقضات المجتمعية، ومن ضمنها تكريس النزاعات والروح القبلية. والحال كذلك نجد اسماعيل الكيماوي وقع في الفخ، ليتحول الي مسعِّر للحرب، عوض العمل علي اعادة الحياة لمشروع الحداثة المجهض، والذي ازداد عسر وتعثر بدخول مليشيا الجنجويد علي الخط، بما يمثل ردة حضارية. اي بدل هَم الكيزان والانظمة الانقلابية ووصاية قادة الجيش القاصرين وهشاشة وقصر الفترات الديمقراطية، انحدرنا لمجرد الحفاظ علي ما تبقي من كيان الدولة وحفظ ارواح وكرامة اهلها باي ثمن، وكل ذلك بسبب وجود مليشيا الجنجويد.
ويبدو ان ارتباط عرقنة الفكر بدارفور منزعه الصراع القبلي المتفشي بدارفور لاسباب عرقية، عكس الشمال والوسط اللذان اختفت فيهما هذه النوعية من الحروبات، بسبب انخفاض منسوب العرقية، بما ينسف منهجية التحليل العرقية من جذورها (حرب الكل ضد الكل منذ الاستقلال). وخطورة الصراع العرقي انه يتخذ طابع الابادة، لانه مسبوق بخفض قيمة الآخر وشيطنته، وعلي الاخص من القبائل العربية الاكثر استعلاء وعنصرية، والتي ينتمي لها معظم مقاتلي الجنجويد (وما سردية شيطنة الجلابة الي محاولة للانسلال من دائها). لترتبط العناصر المقاتلة والشريرة من هذه القبائل بافظع جرائم في التاريخ الحديث، بدءً من المجزرة البشعة ضد الدينكا اواخر الثمنينات والتي وثق لبشاعتها دكتور بلدو ودكتور عشاري (وللمفارقة هنالك فديو متداول يحرض فيه احد ضباط الخلا بالمليشيا لتكرار ذات السيناريو)، ومرورا بجرائم الابادة ضد قبائل دارفور ما قبل الحرب الراهنة، واردمتا بعدها، وليستمر ذات مسلسل الابادة بخروج هذه المليشيا من دارفور الي البيئات الحضرية بذات سلوكياتها الهمجية (مجزرة الاعتصام ود النورة سنار وقري شرق الجزيرة).
وبناء علي ما سلف، تصبح صيحات اسماعيل الكيماوي هلموا الي الحرب وسيلان الدماء والهرج والمرج، هو امتداد لتقليد عتيد تورطت فيه هذه المليشيا وانصارها، في فترات تاريخية مختلفة، يعتمد اقصي درجات العنف والنهب والاذلال لفرض السيادة علي الآخرين. ومن هنا تصبح دعاوي الحرب علي الفلول وغيرها من مبررات واهية مجرد تمويه وتضليل للبسطاء والكارهين للكيزان، وما يحدث علي الارض من استهداف للمدنيين وممتلكاتهم يؤكد ذلك، اذا ما تجاوزنا بالطبع المغالطات البلهاء.
وعموما، لم يورد البلاد الهلاك، إلا سوء النية والفهم والتدبير، لمعظم من تصدي للشأن العام من منطلقات ضيقة سواء حزبية او عقائدية او مناطقية او مهنية او مصلحية. وما زاد الطين بلة ان الحرب الراهنة علي تهديدها لبقاء الدولة وابادتها للمواطنين، الا انها لم تغير في المشهد الاستقطابي الذي عهدناه شيئا او نتعلم منها شيئا او هنالك امل للاستفادة منها باي شئ.
وغالبا جزء من هذه المعضلة يرجع للنقص المريع في الحكمة والحكماء، وان وجدو لن يستمع اليهم احد (بروف مهدي التوم)، ان لم يحاربوا ويقتلوا في خصومات سياسيه بئيسة (محمود طه). اما الغالبية المنخرطة في الشأن العام، فتتفاوت حظوظها اخلاصا وانتهاذا في انحيازها لبقية المواطنين، ومدا وجذرا في متاهة تعليم حديث لم يُمَّلكهم مضمون الحداثة، وتقليد راسخ لم يحتفظوا بارفع قيمه. والمأساة ان هؤلاء هم من تحكم في مصير البلاد والعباد منذ الاستقلال، رغم ان نسبتهم علي احسن الفروض لا تتعدي ال5% من مجمل سكان البلاد. وهذه النسبة الاخيرة التي تشكل الغالبية الطاغية من السكان سواء في الغرب او الشرق او الشمال او الجنوب او الوسط، يكاد يربط بينها جميعا امرا واحدا، وهو البحث عن الامان والاستقرار وتدبير سبل العيش الكريم، ولا تشغلها مماحكات السياسيين او تنظيرات المثقفين او احقاد الموتورين. اي دونما حاجة لحذلقات وتنظيرات وصراعات، ولكن مجرد توفر حكم وحاكم لا يختلفان في شئ عن ادارة رب اسرة مسؤول لبيته، وقليل من الكياسة للتعامل مع الجيران وزملاء العمل.
ولكن الاقلية المتصدية للشأن العام من سياسيين ومثقفين ومستشارين (حكامات) وعلي الاخص من جنرالات، لم يبرعوا في شئ بقدر براعتهم في الشعارات والتشاكس والصراعات واثارة الفتن. الشئ الذي افسح المجال لتسيده بواسطة اساطين الفتن والفساد (الكيزان)، وليختموا المشهد بهذه الحرب الكارثية، بعد اختلاف وتنافس اشر خلق الله (كيزان وجنجويد) علي السلطة المغتصبة.
وهذه الوقائع الاخيرة تحكي عن مفارقة عجيبة، ينطبق عليها المثل الدارج (الناس في شنو والحسانية في شنو). فالنخبة التي تدعي المعرفة والاحاطة بكل شئ وتعتبِر الغالبية (حسانية ما عارفة شئ)، هي نفسها لدي الغالبية (حسانية لا تدري شئ عن مطالبها وحاجاتها الاساسية). واقرب مثال كما سلف ذكره، هذه الحرب اللعينة التي تدور رحاها وسط المدنيين، والتي يدعي اسماعيل الكيماوي ان الخلاص فيها من الكيزان علي يد مليشيا الجنجويد، وتقدم تري الكيزان هم الهم والخطر والمعضلة الاساس. وغض النظر عن صحة او خطأ هذه المقاربات، إلا ان ما يشغل الغالبية ليس العودة لحياتها الطبيعية باسرع ما تعجل فحسب، ولكن انتهاء الحرب والجنجويد معا، بعد هذه الفظائع التي اقترفتها بدم بارد!
اما ما يثير الاسف والازعاج ويتطلب رفع البطاقة الحمراء بالادانة والتجريم، ما يتعرض لها ما يسمي متعاونون من اعدامات دون محاكمات في اماكن سيطرة الجيش، الذي يتحمل المسؤولية كاملة. فليس هنالك مسوغ لتحميل المواطن المدني اخطاء الجيش في كل مرة، لانه من سمح للكيزان بامتطاء ظهره وللمليشيا بالوجود والنمو، بل والسيطرة بعد الحرب علي نصف البلاد! فكيف والحال كذلك يدفع المواطن الضحية الثمن في كل مرة، دون حتي مساءلة قادة الجيش ناهيك عن محاسبتهم، وكل هذه البلاوي من (تحت رؤوسهم الفارغة). اما ما يجهله الجيش، انه لوكتب له الحاق الهزيمة بالمليشيا، لن يكون ذلك بسبب القوة العسكرية، ولكن لافتقاد المليشيا للقضية والاخلاق الحربية ومراعاة الاعراف المجتمعية. ولذا عندما يشاركها الجيش ذات الممارسات لن يكتب الانتصار لاحد. وله في المليشيا المثل الاسوأ، بعد ان تحولت كل انتصاراتها العسكرية الي خسائر فادحة علي سمعتها ومستقبلها.
واخيرا
تعودنا من مناصري الجنجويد ان لا ينبسون ببنت شفة عن انتهاكات المليشيا الهمجية، او يخففون من وطأتها بادراج الجيش في ذات السياق، وهذا في حال لم ينكرونها جملة وتفصيلا. اما ان يصل الحال بالكيماوي الي مرحلة موت الضان والهرج والمرج كقدر مقدر علينا، وانذارات وتهديدات، وكأننا دراويش ينتظرون السلاح الناري الانجليزي للقضاء عليهم! وكل ذلك حتي لا يقول جملة من بضع كلمات يعلن فيها مواساته لاهل الجزيرة ويدين فيها الانتهاكات! والحال كذلك اذا افترضنا جدلا ان الآية قد عكست، وتعرض اهل الكيماوي ومنطقته لذات الانتهاكات (وهو ما لا نتمناه ان يحدث في اي مكان)، فهل سيكون موقفه نفس المقالة السالفة الذكر؟! اشك في ذلك، بدلالة شكايته واتهاماته الظاهرة والمستترة للجلابة بالسيطرة علي البلاد والتسبب في كل ما اصابها، ومؤكد هذه التعميمات والاتهامات المرسلة لا تعني شئ، مقارنة بنموذج انتهاكات المليشيا في الجزيرة.
كنا نظن وبعض الظن اثم، ان الكيماوي من الذين اذا ما خيروهم بين بقاء الكيزان لثلاثة عقود اخري، وبين اغتصاب فتاة او تقطيع اطراف طفل كفارس او دمار مشفي تتعلق به ارواح بشر، لاختار بقاء الكيزان، وواصل نضاله السلمي لازاحتهم، لصالح نظام ديمقراطي ودولة مواطنة. نسال الله ان ينجينا من الفتن ما ظهر منها وما بطن. ودمتم في رعايته.

 

آراء