حرب السودان إلى أين؟ (٢)

 


 

 

تمهيد:
(في مقال سابق لي كان تحت عنوان " أهم تحديات تواجه تحالفات القوي المدنية"، تناولت بشئ من التفصيل المبدأ التنظيمى الذي يحكم الحياة الداخلية للحزب الشيوعي الذي فصلته لائحة ذلك الحزب. وقد أوضحت مدي تجاوزات تلك اللائحة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان لأنها تصادر حق العضوية مثل حقوق الحركة والتعبير داخل الحزب وداخل المجتمع مما اثر سلبا علي التحالفات السياسية التي يكون طرفا فيها وذلك بالمثابرة في فرض رأي قيادة الحزب وإلا فإن سلاح التخوين يكون شاهرا في وجه المجتمع المدني ومنظماته ، وهو ما عشناه في تجربة تجمع المهنيين ولجان المقاومة وتحالف قوي الحرية والتغيير.
كذلك كنت قد تعرضت في الجزء الأول من هذا المقال إلى ما توصل إليه المفكر الألماني الشهير ايمانويل كانط في عدم قدرة العقل البشري علي ادراك " الشئ في نفسه " وسماه النيومينون
Noumenon
لأن العقل قادر فقط علي دراسة خواص الموضوع المراد التعرف عليه بإستخدام الحواس الخمس وكلما من شانه رفع قدرات تلك الحواس ) .

الحقيقة ان الديالكتيك أو جدل المتناقضات لايولد معرفة، وما هو إلا نوع من التصوف او الشعوذة mysticism، وقد لاحظ كانط محقا أن الحوار بين اثنين له حدود، وفي العادة لا ينتهي بنفي احد الطرفين لرأي الاخر نفيا تاما كي يفسح المجال لفكرة جديدة تماما.
ثم جاء بعده مباشرة الفيلسوف الالماني جورج هيجل الذي أعلن، وخلافا لكانط، امكانية معرفة "الشئ في ذاته " وذهب إلي القول بأن حرية الافراد تحققها الدولة وهي شرط لتلك الحرية كي تتحقق، ثم البسها لباسا مقدسا بالقول ان الدولة تباركها العناية الإلهية State Providence. وهي ممارسة شبيهة بمواقف الإسلام السياسي في عالم اليوم. فاذا كانت الكنيسة قد انزوت عن الحياة العامة إلي حد كبير بعد عصر النهضة والتنوير ، فإن الإسلام السياسي قد فعل العكس حيث أصبحت الدولة هي " كنيسته الخاصة" ولم تعد المساجد مكان للعباده الحقيقية وقد أصبحت لديهم بمثابة وسائل للتحشيد لا اكثر.
يمكن رصد ملامح تطور فلسفات الهوية بعد هيجيل وماركس لأنها عملت علي تهيئة المناخ الفكري والنفسي والمزاجي لدي الشعب الألماني لتقبل الافكار الفاشية والنازية والمشاركة في كل جرائمها الكبري. ذلك إنها اشترطت ان الحرية مفهوم جماعي يمر عبر الجماعة.
من المعروف أن مجتمعات الهوية تحرص علي أن تكون هوية الجماعة هي المهيمنة علي الأفراد وتفرض الوصاية عليهم بالتضييق علي حقوق الافراد وحرياتهم الشخصية واعتبارها " رجس من عمل الشيطان" يجب إجتنابه تماما، لدرجة ان تم تصويرها وكأنها مؤشرا علي التحلل والانحرافات الاخلاقية.
ان العلاقة الضرورية بين المعرفة والفعل عند كل من هيجيل وماركس سواء أكانت تحركها الروح في صيرورة تاريخية تزعم بان التاريخ واعي بذاته self conscious عند الاول ، او معرفة الضرورة عند الاخير حيث الصراع الطبقى يعتبر المحرك للتاريخ ، هو ما جعل الممارسة السياسية تقوم علي السيطرة والوصاية والتحشيد حيث يتم في ظل هذه المعرفة " اليقينية المزعومة" حشد الناس والاشياء كالقطيع وكأدوات instruments في تحقيق وجهة التاريخ الحتمية كما يتصورون ، ولذلك فانها تستند الي نوع من العقلانية يعرف ب " العقلانية الاداتية instrumental rationality في الفكر الديمقراطي العالمي، وهذا ما يفسر لنا السر من وراء خنق الحقوق والحريات الشخصية في داخل نصوص الدستور الخاص بالحزب الشيوعي حتي كاد ان يكون شبيها بنصوص وبممارسات احزاب اليمين المتطرف مثل الاخوان المسلمين.
شهدنا قبل أيام كيف ووجهت زيارة رئيس الوزراء السابق د.عبد الله حمدوك الي لندن ضمن جهود تنسيقية تقدم التي تقود حملة من أجل وقف الحرب وحماية المدنيين في السودان، بالمقاطعة والاحتجاجات والتنديد وحتي العنف في بعض الأحيان من قبل الكيزان وفرع الحزب الشيوعي بلندن.!
في هذا الظرف التاريخي العصيب الذي يموت فيه المواطن يوميا في السودان وينهب من قبل أفراد مليشيا الدعم السريع أو من قبل مليشيات ما عرف مجازا بالجيش السوداني بسبب تهم التعاون مع أحد الاطراف، وفقط لمجرد ان المواطن المغلوب علي أمره حاول ان يتعايش مع هذا الطرف أو ذاك.! ، فمثل هذه المآسي تستوجب علينا التلاحم كمدنيين من أجل توسيع وتفعيل الجبهة المنادية بوقف الحرب.
هذا المقال يجتهد في نقد ثقافتنا السياسية المتوارثة تقليدية كانت أم حداثوية طالما انها تقوم علي الوصاية والتحشيد والسيطرة وترسيخ روح القطيع.
لابد لثقافتنا السياسية ان تنتقل من نموذج مجتمع الهوية إلي نموذج للمعرفة يقوم علي اللغة، اي علي احترام الافراد وصيانة حقوقهم لأن المعرفة لا تقوم علي " السيطرة والهيمنة " . بل إن المعرفة الحقيقية تتم عن طريق لغة الحوار وتوفر شروط وإجراءات لذلك الحوار ، كالحرص علي بسط الحريات العامة حتي يتم التلاقح والمحاججة بشفافية في الشان العام من اجل تحقيق المصلحة العامة، ومن أجل الوصول الي معرفة هي الاقرب إلي الواقع وهذا ما نسميه ب " الاجماع " consensus بدلا عن مفهوم "الصراع" الذي تأسست عليه فلسفات الهوية.
وما أحوجنا اليوم لمثل ذلك الاجماع، فمعركتنا في السودان أصبحت معركة وجود ، والسودان اليوم يكون أو لا يكون !

talaat1706@gmail.com

 

آراء