التعليم رافعة الاقتصاد والتنمية

 


 

 

د. عمر محجوب محمد الحسين

يعتبر التعليم استثمارا في رأس المال البشري لأنه ينقل المعرفة والمهارات إلى الناس، وتهيئتهم لفرص العمل واحداث التغيير الإيجابي في مجتمعاتهم، ومن المتوقع أن يسفر هذا الاستثمار عن نتائج من شأنها أن تسهم في تحسين الاقتصاد والتنمية، وتؤكد كثير من الأبحاث أن زيادة الاستثمار في التعليم تؤدي إلى زيادة النمو الاقتصادي، ويشمل ذلك زيادة رواتب الأفراد، وزيادة فعالية القوى العاملة، وزيادة الناتج المحلي الإجمالي. نظرية الاستثمار في رأس المال البشري وإن بدأت تظهر عقب الحرب العالمية الثانية، لكن ملامحها تعود إلى كتابات آدم سمث فيو كتابه ثروة الأمم (Wealth of Nations)، وتبعه في ذلك كثير من الاقتصاديين. ظهر علم اقتصاد التعليم كعلم أكاديمي منذ بداية الستينيات؛ صحيح أن اقتصاديات التعليم بالعمليات التي يتم بها انتاج التعليم وتوزيعه بين الأفراد والمجموعات المتنافسة، وتحديد حجم الانفاق على التعليم، وطرق اختيار أنواع التعليم، وناتجها وكفايتها الكمية والنوعية لم تكن واضحة إلا في القرن العشرين. لكن اقتصاديات التعليم مربوط بالمحصلة النهائية للتعليم وأثره على المجتمع وعلى الإنتاج والاقتصاد. تتفاوت نسبة الأمية في الدول النامية، قد تصل إلى أكثر من 60% من مجموع عدد السكان وهو ما يفسر الأوضاع الاقتصادية لتلك الدول، حيث ان الأمية تعتبر عقبة رئيسة في سبيل تحقيق التنمية الاقتصادية، وتقف حائلا دون أداء القوى البشرية لدورها في الإنتاج ومتطلبات التنمية بسبب عدم إدراك الأمي ما يحتاجه للنهوض بمستواه المعيشي، وعدم إدراك ومعرفة بمتطلبات دوره الإيجابي في الإنتاج وواجباته تجاه المجتمع والاقتصاد.
إن التعليم ينبغي أن يستند على عملية تعلمية ناجعة تشتمل على معلم يتميز بالكفاءة، ومناهج أعدها أفضل المختصون والاستثمار في المناهج القائمة على الكفاءة، وبيئة تعلمية تتوفر فيها كل سبل التعلم وتوسيع نطاق الوصول إلى التكنولوجيا. خلال القرن العشرين، أصبح التعليم والمهارات وتأمين المعلومات عوامل حاسمة في تحديد كفاءة الفرد والشعوب، ويمكننا أن نطلق على القرن العشرين عصر رأس المال البشري بمعنى أن العامل الأساسي الذي يحدد مستوى معيشة أي دولة هو مدى نجاحها في خلق واستخدام المهارات والمعلومات، وتعزيز الرفاهية، وتعليم غالبية مواطنيها، خاصة وأنه مع اتساع المعرفة والدعوة إلى ما يعرف بالتربية الحديثة التي تُعنى بتهيئة الظروف من التعليم لتنمية الفرد، واعداد المتعلم القادر على التفاعل مع تطور العصر، واحداث التغيير الايجابي من خلال التفكير والاسهام في الابتكار والابداع وريادة الأعمال.
لا شك أن التعليم وحده لا يكفي لإحداث تحول ايجابي في الاقتصاد والتنمية، ذلك أن كمية ونوعية الاستثمار المحلي والأجنبي، إلى جانب سلامة البيئة السياسية والتشريعية، تشكل العوامل الأخرى المهمة التي تحدد كفاءة الأداء الاقتصادي، بالإضافة إلى أن مستوى التنمية البشرية يتأثر بمستوى تعليم كل من صناع السياسات والمديرين؛ فضلاً عن ذلك فإن حجم الاستثمار المحلي والأجنبي من المرجح أن يكون أكبر حجما عندما يكون المتوفر من رأس البشري يتميز بالتعليم والكفاءة، ومن المؤكد أن جودة صنع السياسات وقرارات الاستثمار يعتمد على رأس المال البشري.
تؤكد كثير من الأبحاث أن زيادة الاستثمار في التعليم تؤدي إلى زيادة النمو الاقتصادي، لذلك التخطيط للتنمية الاقتصادية يجب أن يشمل التخطيط لإعداد القوى البشرية وتدريبها وتأهيلها وفقا لمتطلبات سوق العمل وعمليات التنمية وأهدافها، ونسبة الأمية (الموائمة بين مخرجات العملية التعليمية ومتطلبات الاقتصاد الوطني). العلاقة بين التعليم والنمو الاقتصادي واضحة في الدول التي تتمتع باقتصادات قوية، على سبيل المثال من خلال دراسة أجريت في الولايات المتحدة الامريكية للفترة 1909م- 1957م، وجد أن 10% من النمو الاقتصادي للمدة 1909م-1929م يرجع للتحسن في مستوى التعليم، وأن نحو 21% من النمو الذي حدث في الفترة 1929م-1957م يرجع إلى تأثير التعليم أيضا. ووفقًا لتقرير لمعهد XQ الامريكى فإن زيادة التحصيل الطلابي بمرور الوقت ستضيف 70 تريليون دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي، والناتج المحلي الإجمالي يتكامل مع جميع المتغيرات التعليمية، مما يؤكد هذه العلاقة الإيجابية، وأن زيادة معدلات التخرج من المدارس الثانوية من شأنها أن تؤدي إلى زيادات كبيرة في الوظائف الجديدة، الناتج المحلي الإجمالي، الأرباح السنوية، الإنفاق السنوي، الإيرادات الضريبية.
لقد كشفت دراسة أجرتها وكالة (The Learning Agency)الامريكية عن العلاقة بين التعليم والنمو الاقتصادي، جاء فيها التأثير الاقتصادي ليس فقط على معدلات التخرج من المدارس الثانوية، بل على مستوى مهارة الخريجين، وأظهرت النتائج التي توصلت إليها أن الزيادة في مهارات الرياضيات والقراءة والكتابة ترتبط بزيادات كبيرة في الرواتب -علاوة على ذلك- فإن هؤلاء العمال ذوي المهارات العالية أكثر فعالية في وظائفهم وأعمالهم مما يؤدي إلى زيادة الإبداع والإنتاجية، ويعود بالنفع على الاقتصاد ككل، إن الارتباط الإيجابي بين التعليم والنمو الاقتصادي يتخطى ما هو أبعد من المدرسة الثانوية ويمتد إلى نتائج ما بعد المرحلة الثانوية، توضح دراستان أجراهما (Brookings Institute ) هذه العلاقة؛ أولاً، تعد الدرجة الجامعية في أي تخصص أمرًا بالغ الأهمية لزيادة إمكانات الشخص في الكسب، ثانيًا، لا تقتصر المكاسب الاقتصادية للتعليم ما بعد الثانوي على الأفراد. وجد المعهد أن حامل درجة البكالوريوس في المتوسط يساهم بحوالي 278,000 دولار في الاقتصادات المحلية أكثر من خريج المدرسة الثانوية من خلال الإنفاق المباشر على مدار حياتهم، ويساهم حامل درجة الزمالة بمبلغ 81,000 دولار أكثر من خريج المدرسة الثانوية؛ وأظهرت هذه الدراسات مجتمعة التأثير الإيجابي القوي للتعليم على النمو الاقتصادي، كما أشارت إلى ثلاث مجالات محددة لكيفية تأثير التعليم الثانوي على الاقتصاد على وجه الخصوص. ويحدث النمو الاقتصادي عندما تكون معدلات التخرج من المدرسة الثانوية مرتفعة، وعنما يمتلك خريجو المدارس الثانوية مهارات تؤهلهم للعمل، وعندما يواصل خريجو المدارس الثانوية إكمال تعليمهم بعد المرحلة الثانوية، حيث يُعرَّف التعليم العالي على نطاق واسع بأنه أحد المحركات الرئيسة لأداء النمو والازدهار والقدرة التنافسية.
إن التعليم لا غنى عنه للتنمية الاقتصادية، ولا يمكن تحقيق أي تنمية اقتصادية دون تعليم جيد. ولتحسين جودة التعليم ينبغي زيادة مستوى وفعالية المدخلات التعليمية، من خلال الصرف على التعليم من ناحية تجهيز المدارس والجامعات والمعاهد، ومن ناحية أجور المعلمين والاداريين وتأهيلهم. كما يجب تفعيل على اقتصاد التعليم الذي يختص بحساب تكاليف التعليم وحساب الوحدة التعليمية، وتمويل التعليم وتوزيع اعبائه من خلال تحديد مردود التعليم على الفرد وعلى اقتصادنا الوطني. ويهتم اقتصاد التعليم بدراسة العائدات الاقتصادية التي تشمل زيادة الدخل القومي والفردي، والعائدات المرتبطة بالتعليم والناتجة عنه.
إن الاقتصادات التي تتمتع بأعداد كبيرة من العمالة الموهوبة، والتي يتم الوصول اليها من خلال التعليم الرسمي والتدريب المهني المستدام، قادرة على الاستفادة من هذه القوى البشرية من خلال تطوير المزيد من الأعمال ذا ت القيمة المضافة، مثل التصنيع عالي التقنية. ويتعين على الحكومة أن تضمن من خلال التشريعات وبرامج التوظيف حصول جميع المواطنين على التعليم والتدريب اللازمين لرفع مستوى المتخصصين والشركات والاقتصاد بأكمله، ويجب على المؤسسات المالية والشركات تطوير هيكل ائتماني يخصص للطلاب. إن التعليم بكل معنى الكلمة هو أحد العوامل الأساسية للتنمية. ولا يمكن لأي دولة أن تحقق التنمية الاقتصادية المستدامة دون استثمار كبير في رأس المال البشري. إن التحول للاستثمار في التعليم وتحويله إلى نتائج ليس بالعملية والمهمة السهلة، لكن الأمر يستحق العناء من أجل جيل المستقبل في بلادنا.

مر محجوب محمد الحسين

omarmahjoub@gmail.com

 

آراء