أيُّ خوفٍ او مطمعٍ يدفع القاهرة للوقوف ضد تطلُّعاتِ الشعب السوداني

khirawi@hotmail.com
علاء خيراوي
في اللحظات الفاصلة التي يتحرك فيها العالم لإعادة رسم خرائط الإقليم، لحظات يُعاد فيها تعريف المصالح والأدوار وموازين القوة، لا يكون الخطر في فوهات البنادق وحدها، بل في الكلمات التي تُقال بثبات بارد أمام الكاميرات ثم تُساق لتصبح سياسات تقرّر مصائر الشعوب. والتصريحات الأخيرة لوزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي تنتمي إلى هذا النوع من عباراتٍ خادعة المظهر، ناعمة الإيقاع، لكنها تحمل في جوفها انحيازاً يضرب صميم ما ناضل السودانيون من أجله منذ ديسمبر ثورة ديسمبر ٢٠١٨ المجيدة.

وحين يعلن الرجل أن الحل يجب أن يكون “عملية سياسية شاملة لا تستثني أحداً”، فليس في كلامه شمول وطني ولا بحث عن وفاق، بل إعادة فتحٍ للأبواب التي أغلقها السودانيون بوعيهم الجمعي حين أسقطوا مشروع الإسلام السياسي من جذوره، وإحياءٌ لتيار لفظته ثورة ديسمبر بكل وضوح. فالحركة الإسلامية بالنسبة للسودانيين الذين خرجوا بالملايين، ليست “مكوناً سياسياً” يمكن استعادته، بل هي التجسيد الحيّ لثلاثة عقود من الخراب، والشرارة التي أعادت إشعال الحرب والعزم الذي يرفض وقفها. ولذلك فإن أي دعوة لعودتها صراحة أو مواربة، ليست شمولاً، بل انقلاباً على إرادة شعب قد قرر، ونهائياً، أن لا مكان لها في مستقبل السودان.

فهذا التصريح لم يأتِ معزولاً عن سياقه، بل انبثق في لحظة تتقاطع فيها جهود الرباعية الدولية، الولايات المتحدة والسعودية والإمارات، لوضع حدّ لحرب أنهكت البلاد، وصياغة مسار واضح يبدأ بهدنة إنسانية ويمضي نحو انتقال مدني كامل. ومع ذلك، ورغم أن القاهرة كانت جزءاً أصيلاً من الوثيقة التي نصّت صراحةً على استبعاد الجماعات الإسلامية المرتبطة بالإخوان المسلمين، تعود اليوم لتطرح خطاب ما تسميه “الشمول” وكأنها لم توقّع على تلك الخارطة، وكأن مأساة السودان لم تُغذِّها شبكات التمكين ذاتها التي تحاول الحركة الإسلامية إعادة تدوير نفوذها عبرها. وهكذا بدا تصريح عبد العاطي أقرب إلى محاولة لإعادة تشكيل ميزان القوى داخل الرباعية نفسها، لا دفعًا لمسار السلام، بل سعياً لاستعادة النفوذ السياسي الذي ظلت الحركة الإسلامية تمثّل رافعة له داخل المؤسسة العسكرية، رغم سقوط مشروعها في الشارع السوداني وتكشّف بنيته للعالم بأسره.

في هذا السياق يصبح لافتاً أن القاهرة وهي عضو أصيل في الرباعية، تعود وتقول عبر وزير خارجيتها إن المسار يجب أن يكون “لا يُقصي أحداً”. وعندما تُطلق القاهرة هذه العبارة بالتزامن مع حديثها عن دعم “المؤسسات الوطنية” في السودان، فإن الرسالة كما تُفهم ليست دعوة للسلام بل دعوة مبطنة لخلط الأوراق ولفتح الباب للإسلاميين من “جديد تحت راية” الوحدة الوطنية

وجوهر المفارقة؛ ان الدولة التي صنفت الإخوان تنظيماً إرهابياً منذ ٢٠١٣، واعتقلت قياداته وأغلقت المجال السياسي أمامه لأنها رأت فيه تهديداً لاستقرارها، هي نفسها التي تريد، حين يتعلق الأمر بالسودان أن تُشرك الجماعة ذاتها في العملية السياسية. كيف يصبح “الإرهابي” في مصر “شريكاً سياسياً” في السودان؟

الجواب لا يكمن في السياسة السطحية بل في البنية العميقة للتفكير الاستراتيجي المصري تجاه الجنوب. فالقاهرة، بحكم إرث الدولة المركزية الثقيلة، اعتادت أن ترى السودان امتداداً للأمن لا شريكاً للمصالح. وتربّت مؤسساتها على معادلة تختزل العلاقة في ثلاثة مخاوف؛ المياه، الحدود، واستقرار الدولة المركزية. ولذلك ظل السودان في الوعي الاستراتيجي المصري “ملفاً أمنياً” لا “دولةً ذات سيادة مستقلة”، ومن هنا فضّلت القاهرة دوماً التعامل مع “الرجل الأقوى”؛ مع عبود حيناً، ثم نميري، ثم البشير، ثم البرهان.

وفي كل تلك المحطات كانت القوى المدنية السودانية، من النقابات، إلى المثقفين، إلى تيارات الوسط الحديثة، تمد يدها للقاهرة، مقدمة مشاريع سياسية ناضجة تحترم مصالح مصر وتطلب في المقابل احترام مصالح السودان. لكن القاهرة كانت دائماً تتردد. لم يكن ذلك جهلاً بالقوى المدنية، بل لأن المؤسسة المصرية ترى أن الشريك القادر على حماية مصالحها هو من يمسك بالبندقية لا من يمسك بالشرعية.

إنها عقلية دولة تخشى التحوّل، وتخشى الديمقراطية حين تأتي من الجنوب، وتخشى انتقال “عدوى الحرية” إلى داخل حدودها. ولذلك فضّلت القاهرة دوماً التحالف مع النخب العسكرية، حتى وهي تهتز من داخلها، على التحالف مع القوى المدنية، حتى وهي تحمل فكراً أكثر استقراراً للبلدين.

وهنا يكمن الخطأ التاريخي الأكبر؛
لأن القوى المدنية السودانية كانت عبر سبعين عاماً الأكثر احتراماً لمصالح القاهرة، والأكثر قدرة على بناء شراكة طويلة المدى، والأكثر إدراكاً بأن أمن مصر يبدأ من استقرار السودان لا من إضعافه. ومع ذلك لم ترغب القاهرة يوماً أن ترى هذا السودان الذي يُحسن إليها، بل رأت السودان الذي يجب أن يبقى تحت السيطرة الأمنية.

فهل تريد القاهرة تنفيذ خارطة الرباعية كما وُقّعت؟ أم تريد الاحتفاظ بمسار موازٍ يعيد الإسلاميين إلى المشهد باسم “المؤسسات الوطنية”؟

إن الموقف الأميركي، السعودي، والإماراتي من قضية إبعاد الحركة الإسلامية السودانية لم يأتِ من فراغ، بل من إدراك متأخر لحقيقة ظلّ السودانيون يصرخون بها منذ سقوط البشير؛ أن الحرب لن تتوقف ما دام المشروع الإسلاموي قابعاً في قلب المؤسسة العسكرية يحرّك الخيوط من وراء الستار. الأميركيون، عبر مسعد بولس، لم يكتفوا بإعلان خارطة الطريق، بل حمّلوها روحاً جديدة تتجاوز سردية “وقف النار” لتصل إلى إعادة بناء الدولة نفسها؛ دولة مدنية، مُحصَّنة من عودة الإسلاميين، خالية من الهياكل التي أعادت إنتاج الخراب على مدى ثلاثة عقود. ولهذا أصرّ بولس في كل جولات التفاوض على بند فصل الجيش عن الإسلاميين، واعتبار “الجماعات المتطرفة” غير صالحة للحياة السياسية، ليس لأسباب أيديولوجية، بل لأن وجودها كما أثبتت الحرب هو الوصفة الأكيدة لانهيار أي انتقال.

السعودية، التي تمثل قلب الرباعية ورئتها النابضة، تعاملت مع الملف بوضوح أكبر مما اعتادته في سنوات سابقة. فقد أدركت الرياض أن استقرار البحر الأحمر لن يتحقق بوجود حركة إسلامية تعيد إنتاج الفوضى كلما اشتدت قبضة الدولة. ولهذا وقفت مع نص الرباعية كما هو؛ إبعاد الإسلاميين، وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، وفتح الباب أمام انتقال مدني كامل. وليس صدفة أن يكون محمد بن سلمان هو الذي أقنع واشنطن في لحظة تاريخية بأن السودان لم يعد يحتمل المساومات، وأن الحرب تُدار من داخل شبكة إسلامية يجب رفع يدها عن الجيش ليولد سلام يمكن الاعتماد عليه.

أما أبوظبي، التي ظل الإعلام يختصر موقفها في العلاقة مع الدعم السريع، فقد اتخذت موقفاً أكثر صراحة حين تعلق الأمر بخارطة الطريق؛ لا عودة للإخوان، ولا دور لأي جماعة متطرفة في عملية الانتقال. هذا الموقف ليس حباً في المدنيين ولا قناعة ديمقراطية، بل لأن الإمارات ترى في المشروع الإسلاموي خطراً استراتيجياً كامناً يعيد تشكيل المنطقة في صورة لم يعد الخليج مستعداً لدفع ثمنها. لذلك أيدت الورقة كما صاغها بولس، ورأت فيها الفرصة الوحيدة لبناء انتقال لا يخضع لابتزاز الإسلاميين ولا لهيمنتهم داخل الجيش.

هذا الثالوث، واشنطن والرياض وأبوظبي لم يتفق على شيء بقدر ما اتفق على هذه النقطة؛ أن السودان لن يعرف الاستقرار إذا عاد الإسلاميين إلى المشهد، وأن أي تسوية لا تبتر يد الحركة الإسلامية من الجيش ومفاصل الدولة ستعيد الحرب بعد شهور. ولهذا جاءت خارطة الطريق صارمة وواضحة، ولهذا وُضِع الإسلاميون مباشرة تحت بند “الجماعات المتطرفة” ولهذا أيضاً اصطدمت المؤسسة العسكرية بالورقة منذ يومها الأول؛ لأنها رأت بعين صائبة هذه المرة أن الخطة تستهدف مصدر نفوذها الأكثر عمقاً؛ النفوذ الإسلاموي الذي يتغذى من الجيش ويتغذى عليه.

من منظور سوداني يصبح الأمر أكثر خطورة. فالحرب التي قتلت عشرات الآلاف وشردت أكثر من ١٢ مليوناً ليست خلفية لخطابات سياسية بل مأساة وجودية. ولذلك فإن أي حديث عن “حل شامل لا يستثني أحداً” بلغة القاهرة، يُقرأ فوراً على أنه محاولة لجلوس القاتل والضحية على الطاولة نفسها، ومحاولة لإعادة تدوير الحركة الإسلامية بأسماء جديدة وأزياء جديدة.

ولم ينس السودانيون أن القاهرة انحازت عبر التاريخ للمؤسسة العسكرية لا للشعب مع البشير ضد الثورة، مع البرهان ضد المدنيين، ومع الحركة الإسلامية حين تحصّنت داخل الجيش. ولذلك فإن خطاب “الاستقرار” الذي تُروّج له القاهرة يُقرأ في الخرطوم على أنه “استقرار للمؤسسة” لا “”استقرار للشعب.

والأخطر أن هذا الموقف يهدد بانقسام داخل الرباعية نفسها. فالرباعية لم تُبنَ على فكرة “الشمول المطلق”، بل على فكرة إغلاق الباب أمام الإسلاميين كي لا تُعاد إنتاج المأساة. وإذا بدأت القاهرة تعيد تعريف الشمول بطريقة تمنح الإسلاميين مقعداً، فإن المسار كله سينهار، وستعود البلاد إلى نقطة الصفر.

وفي نهاية المطاف لا يُقاس موقف الدول بما تُصرّح به، بل بما تفعله حين يقترب التاريخ من لحظة الحسم. والسودان الآن يقف على أعتاب تسوية لا يمكن أن تُبنى على أكتاف الإسلاميين. والرباعية رغم تناقضاتها تدرك أن عودة الحركة الإسلامية تعني عودة الحرب. فأين تقف القاهرة؟ مع الشعب الذي يريد الحرية والسلام والعدالة؟ أم مع “المؤسسة العسكرية ومن خلفها “التنظيم الإرهابي” الذي يريد استعادة مشروع سقط بثورة

إن القاهرة تستطيع أن تكون شريكاً حقيقياً في صناعة سلام عادل في السودان، لكن ذلك لن يحدث عبر الكلمات التي تتساهل مع من دمّروا الدولة، ولا عبر شعارات “الشمول الكاذب” التي تُستخدم كممر لعودة الإخوان، بل عبر احترام نص الرباعية وروح ديسمبر معاً؛ لا مكان للإسلاميين… لا مكان للحرب… ولا مكان لمن يريد إعادة تدوير الخراب باسم الوحدة.

والتاريخ لا ينتظر المترددين. إما أن تقف القاهرة مع السودانيين كما هم، لا كما تتخيلهم، أو ستجد نفسها مرة أخرى في الجهة الخطأ من النهر… والجهة الخطأ من التاريخ.

وفي النهاية، لا يحتاج السودان إلى وصاية أحد، ولا ينتظر شهادة حسن سلوك من عاصمةٍ تخشى التغيير أكثر مما تخشى الدم. إن ما يريده السودانيون اليوم ليس شمولاً يخفي القتلة، ولا استقراراً يُشيَّد فوق ركام القبور، بل شراكة أخلاقية تُعيد الاعتبار للإنسان قبل المؤسسة، وللعدالة قبل السياسة، وللثورة قبل المصالح الضيقة. لقد صبر هذا الشعب طويلاً، وطهرته النار حتى صار يرى الحقيقة بلا ضباب؛ أن المستقبل لن يبنيه سوى أبنائه، وأن أي دولة تمد يدها للسودان من بوابة المصالح وحدها دون احترام لروحه وثورته ستفشل مهما بلغت قوتها. فالأمم لا تُقاد بالخوف، ولا تُحكم بالإنابة، ولا تُستعاد من أيدي الخراب إلا حين يقرر شعبها أنه أكبر من محاوره، وأقوى من جلاده، وأعمق من خرائط الآخرين.

وسيأتي يوم وهو أقرب مما يتخيل الجميع تُدرك فيه القاهرة، وكل العواصم التي راهنت على البنادق، أن السودان لا يُدار بعقلية “الحديقة الخلفية”، ولا يُختزل في ملف أمني، ولا يُختطف تحت شعار الشمول. سيأتي يوم يعرفون فيه أن عزّة هذا الشعب ليست طارئة، وأنه حين ينهض يغيّر المعادلة لا في الخرطوم وحدها، بل في الإقليم كله. وحين يحدث ذلك وحتمًا سيحدث لن ينسى السودانيون من وقف معهم، ومن وقف ضدهم، ومن التزم بالحقيقة، ومن اختار أن يراوغ. والتاريخ، كما عوّدنا، لا يكتب سطوره بالحبر… بل بميزان العدالة التي لا ترحم من يخذل الشعوب في ساعة الحقيقة.

عن علاء خيراوي

علاء خيراوي

شاهد أيضاً

منّْ يُخْضِعُ منّْ؟ الرباعية والكيزان في معركة الإرادات المفتوحة

علاء خيراويkhirawi@hotmail.com في لحظةٍ تتقاطع فيها خيوط الحرب بالسياسة، وتتعثر فيها الحقيقة بين ضجيج البنادق …