دور دارفور فى الحركة الوطنية السودانية الحديثة
د. حسين أدم الحاج
7 January, 2009
7 January, 2009
(1/2)
helhag@juno.com
د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية
تمهيد:
إحتفلت البلاد مطلع هذا العام بإعياد الإستقلال, وبهذه المناسبة المتكررة سنوياً يجدر بالمؤرخين والمهتمين بدراسة علوم التاريخ والعلوم السياسية أن يتبصروا فى الجوانب المخفيَّة من تاريخنا الوطنى إجمالاً, لأنَّ التاريخ نفسه هو علم الروايات الخبرية والجزئيات الزمنية المختلفة التى تعتمد التحليل الدقيق للظروف موضع النظر, والعوامل التى أدَّت إلى خلقها ثم الإستنتاج المنطقى للنتائج المصاحبة لها, وربطها بسلسلة الأحداث الماضية واللاحقة, ومن هنا تنبع أهمية دراسة الجزئيات الصغيرة وتنقيب الجوانب المهملة من الوقائع فقد يكمن التاريخ الصحيح فيها, وبقدر ما يتم من إستنكاه هذه الجزئيات المبعثرة والخبريات الصغيرة بقدر ما تزيد المعرفة عن الموضوع الأكبر الذى يراد بحثه, وفى هذا المجال فإنَّ دراسة الجوانب التاريخية لإستقلال السودان من الحكم الثنائى الإنجليزى المصرى يجب أن تتم عبر نظرة شاملة لكل أجزاء الوطن ومكونات المجتمع السودانى, بل قد يكون من المفيد لو إلتفت المؤرخون لسبر دور كل فرد أو مجموعة أو منطقة من مناطق السودان المختلفة فى حركة الإستقلال, وتسليط الأضواء عليها كجزء من التاريخ السياسى الشامل لمرحلة النضال الوطنى, والنظر أيضاً إلى الأشارات الصغيرة والمبهمة مثل دور أمريكا فى إستقلال السودان مثلاً والتى أشار إليها الأستاذ أحمد سليمان المحامى فى مكالمة هاتفية مع كاتب هذا المقال ذات مرة, وبالنظر إلى كل ذلك, لو تم بصورة إجمالية, يمكننا تكوين منظر قومى عام سيختلف حتماً عن الصور المبتورة والمحنَّطة التى لا نسمع عنها أو نتأملها إلاَّ فى فترات موسمية تتزامن مع نهاية كل عام وبداية العام الذى يليه, وهى غالباً ما تعكس أولاً وأخيراً دور العاصمة القومية ولا تهتم بالأقاليم السودانية الأخرى كأنما ليست لها إسهامات تذكر.
سنتطرق فى هذا المقال لدور دارفور فى الحركة الوطنية السودانية الحديثة والتى قادت إلى إستقلال البلاد من قبضة الإحتلال الإنجليزى المصرى والتى دامت نيف 57 عاماً من الزمان فى السودان ونحو 39 عاماً فى دارفور, وسنكتشف من خلال سرد الأحداث التى مرَّ بها إقليم دارفور, والتحليل المصاحب, مدى قوة مشاركة أهل دارفور فى رفد الحركتين الوطنية والإستقلالية بمساهمات مقدرة قد لا يعرفها الكثير من المثقفين السودانيين أو حتى بعض أهل دارفور أنفسهم, ونحن إذ نفعل ذلك لا ندعى الإحاطة بالمعرفة المطلقة بخفايا هذا الموضوع, بقدر ما هو محاولة بحث بسيط تجمعت لى فيها بعض المعلومات والدلالات وددتُّ أن أشرك قراء هذا الموقع الأنيق فى مطالعتها, وأتمنى أن أجد من يصحح خطئى حول معلومة ما أو إضافة جوانب أخرى خفيت عنى فلست بمؤرخ, كما أنَّ مقصدى يهدف أيضاً لإثارة الموضوع وحث العارفين عنه بالمساهمة وإثراء النقاش, وعطفاً عليه فإننى أرحب بكل جهد نحو ذلك سواء عن طريق الكتابة فى هذا الموقع أو الإتصال بى عن طريق بريدى الإلكترونى أعلاه فقد يساعدنى ذلك فى تنقيح الموضوع برمته وتثبيته كجزء من عملية توثيق عريض بشأن دارفور.
الإطار الزمانى لبداية الحركة الوطنية السودانية:
نشر المؤرخ الدكتور جعفر ميرغنى, مدير معهد حضارة السودان, سلسلة مقالات جيدة بعنوان "المك نمر والحركة الوطنية الأولى" بجريدة الرأى العام السودانية خلال شهرى يونيو ويوليو من عام 2001م على ما أذكر, أورد فيها الكثير من المعلومات الدقيقة عن الفترة التاريخية للمك نمر إجمالاً, وفنَّد الكثير من الرويات التى صاحبت سيرة الرجل, لكن ما يهمنا فى مقالاته تلك هو أنَّه قد وصف حادثة قتل المك نمر لإسماعيل باشا إبن الخديوى المصرى "بالحركة الوطنية الأولى" الشيئ الذى يعنى عنده كمؤرخ, أو إستنتاجنا من ذلك, أنَّ تأريخ الحركة الوطنية السودانية يبدأ منذ العام 1821م, عام إحتلال جيش محمد على باشا للسودان, وبناءاً عليه فإنَّ فترة الدولة المهدية ومقاومتها للتدخل الأجنبى تدخل أيضاً تحت ذات التصنيف, بحكم إطارها الزمانى, إضافة إلى المقاومة الوطنية اللاحقة للمستعمر وحتى خروجه من البلاد. وربما عنى الدكتور جعفر إعتبار "سودان محمد على باشا" آنذاك مجازاً ب "السودان الدولة", وربما يكون محق تماماً كون أنَّ سودان اليوم قد تأسس بنسبة كبيرة على تلك الدولة المصنوعة بالرغم من عدم خضوع مناطق أخرى تحت رايتها مثل دارفور, التى ظلت ولمدة 54 سنة مستقلة عنها, وحتى بعد أن أخضعها الزبير باشا ود رحمة ظلت ثائرة وفشل الأتراك فى السيطرة عليها ولم يمكثوا بها أكثر من 9 سنوات مضطربة إنهاروا بعدها على أيدى المهدويين. كما يجدر بنا فى إطار ذلك كله ألاَّ نغفل دور الممالك والسلطنات والكيانات التى تأسست عليها سودان محمد على, والتى سبقتها فى الوجود بفترات زمنية مختلفة بعضها شاسعة, فقد كان للعديد منها حركاتها الوطنية الداوية أيضاً والخاصة بها مثل ممالك كوش ومروى والبجاة والفونج والزغاوة وسلطنات دارفور القديمة واللاحقة والنوبة وقبائل الجنوب, وهى كلها مجالات ما تزال تنتظر الكثير من التمحيص الدقيق والمتأنى لمعرفة عمق إسهاماتها فى شأن الحضارة الإنسانية وأثرها فى تشكيل الهوية والوجدان القومى لسودان اليوم, ولعلَّ المعهد الذى يديره الدكتور جعفر ميرغنى سيكون له دور كبير فى العناية بهذه المهمة القومية الصعبة.
تأسيساً على ذلك ينبغى أن ننظر إلى الحركة الوطنية السودانية إجمالاً من خلال زاويتين, مختلفتين زمنياً, لكنهما متداخلتين عضوياً, هما الحركة الوطنية السودانية عبر القرون وتمتد فترتها من ساحق العصور وإلى لحظة مغرب الشمس خلف جبال كررى إيذاناً بنهاية عصر الدولة المهدية وإيذاناً بدخول البلاد فترة الإنتداب الإنجليزى المصرى. أمَّا الزاوية الثانية فتبدأ من تلك اللحظة وإلى مطلع شمس الأول من يناير عام 1956م, هذه الفترة يمكن تمييزها عن سابقتها بالحركة الوطنية الحديثة التى قادت البلاد إلى فجر الإستقلال. ولعلَّ المقال التاريخى التحليلى الممتاز الذى كتبه الدكتورعبدالرحيم محمد خبير رئيس قسم الآثار بجامعة جوبا بعنوان "الدولة السودانية وذكرى الإستقلال" والمنشور بصحيفة الرأى العام بتاريخ 6/1/2004م, فيه توضيح مهم لتطور الدولة السودانية فقد أشار فيه إلى توالى خمس دول على النحو التالى: الدولة السودانية الأولى «كوش», الدولة السودانية الثانية «الممالك المسيحية», الدولة السودانية الثالثة «الكونفدرالية الإسلامية أو الفونج», الدولة السودانية الرابعة «المهدية», ثمَّ الدولة السودانية الخامسة «الحكومات المتعاقبة 1956 - الوقت الحالي», وإذا قرر الجنوبيون الإنفصال, لا قدَّر الله, فحتماً سيكون هنالك الدولة السودانية السادسة وتبقى كل الإحتمالات مفتوحة بعد ذلك.
بالنسبة لهذا المقال إذا كانت دارفور معروفةً فى التاريخ القديم بسلطناتها المستقلة وعلاقاتها الدولية, فإنَّها لم تنتظر كثيراً, بعد ضمها لسودان محمد على باشا عام 1874م, لتؤكد مقدار ثقلها فى بناء القومية السودانية ورفدها الإيجابى للحركة الوطنية, متمثلاً فى دورها الحاسم فى قيام ودعم الثورة والدولة المهدية مما يعنى ضمنياً, حسب تقدير الدكتور جعفر ميرغنى للإطار الزمانى للحركة الوطنية السودانية, إعتبارها لاعباً رئيسياً فى مرحلة الحركة الوطنية آنذاك وفيما بعد, غير أنَّ ذلك لا يهمنا فى هذا المقال ولا نود المضى فى تفصيلها, فقد نعود إليها فى مقالات أخرى, بقدر ما يهمنا هنا التوثيق لدور دارفور فى الحركة الوطنية الحديثة تحديداً والتى تبلورت منذ سقوط الدولة المهدية وإلى يوم إستقلال البلاد.
تاريخ الحركة الوطنية الحديثة بدارفور
السلطان على دينار:
أنهارت الدولة المهدية بعد معركة كررى الشهيرة فى 5 سبتمبر 1898م, وإنتهت كلية بمقتل الخليفة عبدالله ورهطه بمنطقة أم دبيكرات فى 24 نوفمبر 1898م, سعى الأميرعلى دينار أثناءها لإستعادة عرش دارفور, وبالفعل تمَّ إعلانه سلطاناً رسمياً عليها فى سبتمبر 1898م وإستمر يحكمها لحين مصرعه بقرية كولى بجبل مرة فى 6 نوفمبر 1916م, طيب الله ثراه.
يعتبر بعض الكتاب أنَّ فترة حكم السلطان على دينار ونجاحه فى النأى بدارفور ولمدة سبعة عشر عاماً عن الخضوع المباشر للحكم الإنجليزى المصرى, والذى وطَّد أركانه آنذاك فى كل أرجاء السودان بعد إنهيار الدولة المهدية, جزءاً من الحركة الوطنية السودانية الحديثة ضد الإستعمار, وربما يكون ذلك صحيحاً من زاوية خضوع دارفور سابقاً للدولة التركية ثمَّ الدولة المهدية بعدها, لكنَّ نظرة فاحصة لأهداف السلطان على دينار تؤكد أنَّه قد قام بحركته تلك على أساس بعث سلطنة مستقلة كإمتداد لسلطنة أجداده من الفور الكيرا, أو سلطنة دارفور الإسلامية, ولم يكن ضمن أهدافه أبداً أن تكون تلك السلطنة جزءاً من دولة السودان فى ذلك الوقت, يدعم ذلك قوله للسلطان حسين أبى كودة, الذى سبقه لإعلان دولة الفور بعد إنهيار حكم المهدية ثمَّ تسليمه مقاليد الحكم فيها لعلى دينار عند وصوله من أمدرمان: "كتَّر الله خيرك يا أبو كودة, طردت المغتصبين وحفظت لى دارى وأعدت لأهل دارفورعزََّّتهم وكرامتهم وحكمت فيهم بالعدل, نسأل الله أن يقوينا فى طاعة الله وحكم الرعية بالكتاب والسنَّة" (أحمد عبدالقادرأرباب, تاريخ دارفور عبر العصور, 1998م, صفحة279). لذلك وبكثير من الذكاء وحنكة التفاوض مع حاكم السودان الإنجليزى الجنرال كتشنر, إضافة إلى الظروف المحلية والدولية ذات العلاقة, تمكن من إعادة إستقلال سلطنة دارفور كسابق عهدها وبعث ذلك التراث الهائل من ثقافة الحكم والإدارة الأهلية وتأكيد هوية الإقليم إضافة إلى بناء علاقات دولية مرنة مكنته من وضع إسم دارفور فى مكانة بارزة على مستوى العالم المعاصر آنذاك وهنا تتجلى عظمة السلطان على دينار تحديداً. لقد إستلمت بالأمس القريب رسالة إلكترونية من أحد القراء يبدو أنَّه ليس من أهل دارفور يندب فيها ما يحدث فى دارفور من خراب, جاء فيها: "إنَّ مايحدث فى دارفور مهما كان حجمه هو أمر يجد منا كل إستنكار لأنَّه يمس أرض وأهل وصل خيرهم إلى خير البقاع حيث الحرمين الشريفين, إنَّ أهل دارفور هم إعزَّ الناس عندنا فهم كساة البيت الحرام وحراس حجاجه كما يعرف الكثيرون, فالتاريخ يحفظ للسلطان على دينار رحمه الله إرساله الجند لحماية حجاج بيت الله الحرام إبَّان حكم الشريف حسين فى مطلع القرن الماضى, كما أتاحت لى الظروف أن أعاشر العديد من أبناء دارفور على مختلف مشاربهم فوجدتهم نعم الصحبة, وجاورنا منهم الكثيرين فكانوا الجار الذى تأمنه على كل شى, فهم أرفع الناس خلقا إذا ما قيسوا بغيرهم, قوم هكذا أخلاقهم لا نتمنى لهم شيئا سوى أن يؤمِّن الله روعاتهم ويعيد إليهم الأمن فى أرضهم الرحبة ويقارب فيما بين أهلها الكرام".
وتأكيداً لحديث هذا الأخ الكريم فقد أوردت صحيفة الأنباء السودانية قبل فترة معلومات عن دور سلاطين دارفور فى ترسيخ مكانة دارفور بين دول العالم جاء فيها: "أنَّ السلطان إبراهيم قرض، قد واظب علي إرسال «المحمل» و«صرّة الحرمين الشريفين» لكسوة الكعبة, كما كان يواظب علي إرسال عطايا منه للقائمين بأمر الكعبة ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلَّم, وكان يخصّ بالعطاء، شريف مكّة الحسين بن عليّ (جدّ الملك حسين بن طلال ملك الأردن), كما إشتهرت الميرم زمزم, أخت السلطان, ببناء المساجد, وقد تفرّد السّلطان الشهيد علي دينار بأعمال الأوقاف في الحجاز، خدمة للحجيج ضيوف الرّحمن, ومن أوقاف السّلطان علي دينار في الحجاز، «آبار عليّ» علي مشارف المدينة المنوّرة, ويشهد التاريخ للسّلطان علي دينار بحرصه علي بقاء الخلافة الإسلاميّة رمزا لوحدة المسلمين, كما كان السّلطان علي دينار عَلَماً في «فقه الموالاة», فقد كان يوالي أهل الإسلام ولايوالي أعداء الإسلام" (الأنباء 25/12/2003م). عند قراءتى لهذا المقطع إكتشفت لأول مرة سر إهتمام ملك الأردن الراحل الملك الحسين بن طلال بدارفور, وذلك حين أمر بإرسال بعثة طبية متكاملة ترابطت بمدينة كاس بجبل مرَّة طيلة فترة الثمانينات من القرن الماضى, ولم تقتصر مهمتها على علاج الناس فقط بل تنوعت مهامها عبر بعثات أردنية أخرى أمتدت لتعمير المدينة عبر إنشاء محطة للكهرباء وشبكة للمياه النظيفة وإقامة مستشفى عصرى, خاصة لطب العيون والجراحة العامة, وكان الناس يقصدونها من الخرطوم طلباً للإستشفاء والترويح بمناظر جبل مرَّة الساحرة, ما فعلته تلك البعثة بمدينة كاس لم تفعله أى من الحكومات السودانية المتعاقبة فى أى مدينة أخرى بدارفور. وهكذا نرى أن نفحات سلاطين دارفور ما زالت تتواصل من عمق التاريخ إلى الحاضر كما كانت تتواصل من عمق دارفور إلى الأراضى المقدسة والخلافة الإسلامية ومصر وليبيا وفرنسا, لقد عبَّر سفير فرنسا بالخرطوم دومينيك رينو قبل فترة عن تضامن بلاده مع سكان دارفور ودعمها لهم فى محنتهم الحالية نسبة للعلاقات التاريخية الوثيقة التى تربط دارفور بفرنسا (الصحافة 21/10/2003م). ولا ننسى أيضاً أن ندعو بالمغفرة والرحمة للملك حسين ونشكر الأردن قيادة وشعباً على رد الحسنة بمثلها مما يدل على نخوة كريمة وشهامة متأصلة, ولا نشك أيضاً فى أنَّ دارفور موعودة بإستثمار كل ذلك الرصيد الهائل من العلاقات التاريخية الثرة فى إعادة تعميرها وتطوير مستقبلها والبناء عليها فى مقبل الأيام.
وعلى العموم فإنَّ تاريخ السلطان على دينار مكتوب, خاصة فى المصادر الأجنبية أكثر منها فى المصادر السودانية, مما يؤكد قولنا السابق بضرورة بعث نهضة تاريخية يزيل هذا الصدأ والغشاوة التى تعترى تاريخنا الصحيح, ويمكننا بناء على ما ورد أعلاه ومن المصادر التاريخية المختلفة أن نقرر أنَّ فترة السلطان على دينار تدخل فى صميم الحركة الوطنية الحديثة فى مقاومة الأجنبى, وكفاحه فى سبيل المحافظة على كيانه, وتأكيد مبدأى الحرية والإستقلال عملاً قبل أن يكون قولاً, ومدِّ عرى الصداقة والخير والبركة إلى أنحاء بعيدة فى العالم قد لا يفهم مغزاها الكثير من الحكام الذين تقلبوا على حكم السودان بعد إستقلال البلاد.
تاريخ الحركة السياسية الحديثة بدارفور بعد ضمِّها للسودان:
يمكن التأريخ للحركة السياسية الحديثة بدارفور فى نطاق السودان الحديث بالفترة الزمنية التى أعقبت إزالة السلطنة وإعلان ضم دارفور رسمياً لدولة السودان الإنجليزى المصرى فى الأول من يناير عام 1917م, حيث ران بعدها على الجو هدؤ ثقيل نتيجة للشكوك المتبادلة بين الأهالى والحكام الإنجليز الجدد الذين أبدوا صرامة شديدة من أجل ترسيخ أركان الحكم, لقد إعتقد الإنجليز أنَّ مقتل السلطان على دينار تعنى نهاية السلطنة لكن رفض شعب دارفور لوجودهم ومقاومتهم لهم تعددت أدواتها ووسائلها وتمثلت فى ثورات القبائل ومحاولات التمرد إذ ظلَّت فكرة إستعادة السلطنة هدفاً ثابتاً لدى السكان, ونتيجة لذلك لم تلبث أن إنفجرت الاوضاع بعد بضعة سنوات فى شكل ثورة عارمة قادها الفقيه عبدالله السحينى عام 1921م وحررت مدينة نيالا بعد أن قتلت مفتش المركز وكل جنوده إلاَّ من فرَّ, وبالرغم من إخماد القوات الإنجليزية لتلك الثورة وإعدام قائدها شنقاً بسوق نيالا إلاَّ أنَّ الثابت فيها هو تجاوب الناس معها بالرغم من معاناتهم والضغوط التي تعرضوا لها من قبل المستعمر. إنَّ ثورة السحينى كانت دينية فى منشأها وأهدافها كإمتداد للثورة المهدية عبرت عن عدم الخنوع للمستعمر إلاَّ أنَّها تفجرت وسط مجموعة من الأحداث المحلية والعالمية, فعلى الصعيد المحلى سبقتها بقليل من قيامها سقوط سلطنة الفور عام 1916م, كما سبقتها قبلاً ثورة الفقيه عبدالقادر ود حبوبة عام 1908م بقرية الحلاوين بالجزيرة وقد أشتهر الرجل بإخلاصه وحبه الشديد للمهدية, لكن الثورة إنتهت بإعدامه شنقاً أيضاً, وقد شهدت تلك الفترة أحداثاً مهمة على الصعيدين المحلى والعالمى مثل قيام مشروع الجزيرة وبروز قضية السودان من خلال أطروحات جمعية الإتحاد السودانى وجمعية اللواء الأبيض التى حلت محلها, أمَّا على الصعيد العالمى فبجانب الحرب العالمية الأولى وهزيمة ألمانيا والنمسا وسقوط الأمبراطورية العثمانية فقد تفجرت ثورة 1917م الروسية البلشفية وثورة 1919م المصرية, وعليه لا بد من أن تكون تلك الأحداث قد أثرت فى تطور الوعى السياسى السودانى إجمالاً بقضايا التحرر من المستعمر الشيئ الذى إنعكس فى تزايد وتائر المطالبة بالحريات والتوجهات القومية.
وإن إنتهت ثورة السحينى بمآلاتها إلاَّ أنَّ جذوة الثورة لم تنطفئ فى دارفور, وظلَّت صدور الناس تعتمل ضد الحكم الإنجليزى الذى تعامل تجاهها بذكاء عن طريق تثبيت الإدارة الأهلية ودعمها مثلما كانت فى عهد السلطنة, وإستعمالها بحنكة وحكمة لكى تعينها فى ضبط الأمور. ومن جانب آخر فإنَّهم, أى الإنجليز, لم يسعوا مطلقاً لنشر التعليم الحديث وآليات الوعى الجماهيرى بل تركوا الناس وشأنهم فى تعليم الخلاوى وحفظ القرآن ولم يفكرو فى إنشاء المدارس الحديثة إلاَّ عام 1936م بإفتتاح مدرسة إبتدائية واحدة فقط لكل الإقليم, حاولوا تخصيصها لأبناء الملوك والشراتى والنظار والعمد والشيوخ كمكافئة لتعاونهم معهم وتمَّ منع أبناء الفقراء وعامة الشعب من الإلتحاق بها, فزاد نفور الناس منهم ومن التعليم الحديث بسبب ذلك, وزاد تعلقهم بخلاويهم وبالتعليم الدينى التقليدى المتجذر بين الأهالى كرد فعل طبيعى, ولذلك فقد كان أطفال الخلاوى يسخرون من أبناء مدرسة الحكومة, ويصفونها بمدرسة الكفرة, يعيِّرونهم بها, ويتهكمون عليهم عندما يرونهم فى الشوارع ويترنمون فى لذة:
عيال مسيك جنَّة قريب ... عيال مدارس نارهم حارس
والمسيك هو الخلوة, كناية عن الكراهية, فينعقد ألسنة أطفال المدرسة الحكومية ويلوون أدبارهم فى صمت وحيرة لا يملكون رداً, لكن لم يدر بخلدهم أنًّ من يضحك أخيراً سيضحك كثيراً.
بالرغم من ندرة التعليم إلاَّ أن الذين تخرجوا فيما بعد من تلك المدارس القليلة, إضافة إلى الذين وفدوا من الأزهر بمصر ومن داخل السودان, بدأوا يؤثرون بفعالية فى إزدياد الوعى بين أهاليهم, خاصة الوعى السياسى وما يتعلق بحقوقهم, ساعد فى ذلك توسع التعليم فى مناطق السودان الأخرى وتنامى الوعى الوطنى الذى ساد البلاد عقب ثورة عام 1924م وقيام مؤتمر الخريجين.
سياسة الإنجليز فى حكم دارفور:
لقد إعتمد الإنجليز فى حكم إقاليم السودان نمط من الإدارة يختلف عما طبقوه فى دارفور, ففى تلك الأقاليم كانوا يعتمدون على شيوخ القبائل والإدارات الأهلية فى إدارة مناطقهم بالدرجة الأولى, ثمَّ على الموظفين التنفيذيين المختارين لمساعدتهم فى الإشراف على الخدمات العامة, أى عبر خليط من الهياكل الإدارية التقليدية والمستحدثة, أمَّا فى دارفور فقد وجدوا عند إحتلالهم لها إدارة أهلية راسخة نضجت وتوطدت عبر قرون من الممارسة والتطوير وتجاوزت الأطر الهيكلية التقليدية إلى الإرتباط الوثيق بوجدان الناس وتراثهم بل وكيفية حياتهم, فتركوها وشأنها وأوكلوا لها مهمة القيام بمعظم المهام المتعلقة بخدمات المواطنين وضبط المجتمع, وإذا تطلب الأمر خبرات إضافية فإن المفتشين ومساعدوهم يقومون بتنفيذ ذلك بأنفسهم, وما يزال كبار السن من أهل الإقليم يذكرون كيف كان المفتش الإنجليزى يمر عليهم راكباً حصانه يحادثهم بحزم فى كل ما يتعلق بحياتهم أمَّا إذا تطلب الأمر تنفيذ شيئ فإنَّه يشير لشيخ المنطقة لفعل ذلك, ولعلَّ السر فى ذلك قد يكون مردَّه للفارق الزمنى بين إحتلالهم للمنطقتين, أى جلِّ السودان (1898م) ودارفور (1916م), ثم فى درجة الوعى النسبى وسهولة التحرك فى أرجاء السودان الأخرى بخلاف دارفور, حيث ما زال الوضع على ما هو عليه, ولذلك فقد جهد الإنجليز كثيراً فى تحويل ولاء الزعامات القبلية لتكون ممثلة لسلطتهم وليست لأهاليهم, ومن ثمَّ إستخدام ذلك كأداة لنشر آراء وسياسة الحكومة, خاصة بهدف خلق حائط صد يحول دون تمكن المتعلمون من أبناء الإقليم من التأثير الإيجابى على أهاليهم البسطاء.
لقد كتب الدكتور إبراهيم الأمين مقالاً توثيقاً شيقاً بعنوان "الوصاية" عن فلسفة الإدارة الإنجليزية للسودان, نشرته جريدة الرأى العام قبل عدة أشهر, جاء فيه أنَّ مدير مديرية دارفور بالفاشر كتب تقريراً إلى السكرتير الإداري بالخرطوم أشار فيه إلى إنتشار الروح الفردية عند الأجيال الجديدة وهو أمر خطير في نظره يدعو للأسى, وقال إنَّ ذلك يرجع إلى حد ما إلى أنَّ «أصل وأساس أي تنظيم أفريقي يقوم على العائلة» وإذا إنهار النظام القبلي لا يستطيع البريطانيون إدارة البلاد, كما عبر أيضاً عن كراهيته وعدم ثقته في المتعلمين والصفوة الضالعة في السياسة, وذهب إلى الرأي القائل بإستخدام السلطات القبلية للحد من تطلعات المتعلمين وتطوير سلوكهم، وذلك لأن ميلاد ونشوء فئة فصيحة من أشباه المتعلمين ومن المثقفين تشبه الـ«حدأة» دون ذيل.. وهي طبقة مثل معظم أشباه المتعلمين الأفريقيين تبالغ كثيراً في وزنها كما إنها على إستعداد لإقحام نفسها في أي أمر يسهم في إسقاط النظام الراهن أملاً في نيل بعض المكاسب في الوضع الجديد (الرأى العام 6/9/2003م). إنَّ هذا المقطع يعكس بوضوح تبرم المدير الإنجليزى بدارفور وسخطه من نشاط المتعلمين من أبناء الإقليم فى ذلك الوقت على الرغم من قلتهم, بل ويمثل تماماً عدم رغبة الإنجليز البته فى السماح لبروز أى دور يلعبه هؤلاء المتعلمون من أبناء الإقليم فى تنوير مجتمعاتهم حتى لا يؤدى ذلك إلى تنمية مشاعر مهددة لوجودهم وسلطتهم المستعمرة, كما يعبر أيضاً عن سر قوة الإدارة الأهلية التى وجدت المجال متاحاً لبسط سيطرتها وتعميق نفوذها بين فئات المجتمع إلى درجة أنَّ نفوذ شيخ القبيلة قد يصل إلى مرحلة يصير فيه الشيخ رمزاً للقبيلة كلها فيسير الركبان بقصص قوة شخصيته وكرمه وخصاله الفريدة.
قيام مؤتمر الخريجين بدارفور:
وبالرغم من السياسات المختلفة التى إتبعها الإنجليز لكبت تطور الحس الوطنى بدارفور إلاَّ أنهم فشلوا فى وقف تصاعد الوعى السياسى نتيجة للتطورات الجارفة على المستوى القومى, فناضل المتعلمون والمثقفون, خاصة فى مدينة الفاشر, وتهيئوا تماماً ليتفاعلوا مع بدايات الحركة الوطنية الحديثة فى الوسط ممثلة فى مؤتمر الخريجين العام بأم درمان, والذى بدوره أفرز قيام جمعية سرية تمثل مؤتمراً للخريجين بمدينة الفاشر فى نهاية الثلاثينات من القرن الماضى, وقد تزامن ذلك مع نشؤ شريحة متعلمة من أبناء الإقليم تلقوا التعليم الدينى المنظم ووفدوا من مؤسسات دينية هامة فى ذلك الوقت مثل المعهد العلمى القديم بأم درمان وجامعة الأزهر, حيث ما يزال "رواق دارفور" فاعلاً حينذاك, وقد تزامن إفتتاح أول مدرسة إبتدائية فى الفاشر عام 1936م مع حراك وطنى ضاغط على المستوى القومى أثمر عن قيام مؤتمر الخريجين العام بأم درمان فى العام التالى, وبالتحديد فى ثانى أيام عيد الأضحى المبارك من عام 1937م, وبالرغم من أنَّ هذا المؤتمر ظلَّ ساكناً فى السنوات الأولى من تأسيسه وإقتصر مهامه على تحسين أوضاع الموظفين السودانيين الخدمية مع الحكومة, إلاَّ أنَّه بدأ يتشكل سياسياً ويلعب دوراً مؤثراً خاصةً بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية وبروز نزعة بين المثقفين السودانيين تدعو لتحديد مستقبل البلاد السياسى تمخضت عنها مذكرة مؤتمر الخريجين الشهيرة عام 1942م والتى إحتوت على مطالب وطنية أهمها إعطاء السودانيين الحق فى تقرير المصير, وبالرغم من رفض الحاكم العام الإنجليزى إستلام تلك المذكرة إلاَّ أنَّ أثرها إنداح سريعاً خارج العاصمة إلى الأقاليم حيث تلقفتها جمعيات وفروع المؤتمر فى أرجاء البلاد, وأخذت تواصل إجتماعاتها السرية والعلنية لإتخاذ الإجراءات والقرارات التى تدعم موقف المؤتمر الأم بأم درمان, وقد كان لمؤتمر الخريجين بالفاشر, والذى تأسس عام 1939م, دوراً ملحوظاً ومؤثراً فى تأسيس و قيادة الحركة الوطنية بدارفور, حيث إتخذ من "نادى الفاشر" معقلاً يمارس من خلاله ومن على مسرحه الرحيب نشاطاً سياسياً وإجتماعياً دافقاَ لرفد الحركة الوطنية وخلق منبر لنشاط الفعاليات السياسية المختلفة, لقد كان نادى الفاشر, والذى تأسس عام 1936م, يحتوى على مسرح وفضاء واسع ومبنى فخم متعدد الغرف والقاعات لعب دوراً مؤثراً فى بلورة الحركة الوطنية وتحول لمنتدى أساسى للسياسة والأدب والفن والمسرح والمعارض القومية, وظلَّ يؤدى دوراً رائداً حتى وقت قريب حيث حلَّ محله مبنى المجمع الثقافى الحالى فى عام 1976م, وفى الحقيقة قام هذا النادى فى جزء منه كرد فعل لمقابلة "نادى دارفور" الحكومى والذى مثَّل, وربما إلى اليوم, ملتقى للقيادات الحكومية المتنفذة والرسميين من المفتشين وكبار الموظفين يندر أن يتواجد من بينهم من هم من الأهالى العاديين, إذ ظلَّ هناك دائماً نوعاً من التمييز والجفوة المستترة بين الجانبين.
لقد ضمَّ مؤتمر الخريجين بالفاشر ما يمكن أن نسميه بلغة اليوم الطبقة الوسطى من أهل المدينة إذ إنضمَّ إليه قطاع حى من التجار, كثيرون منهم من الجلابَّة, والمثقفون الذين تلقوا دراساتهم بعيداً عنها أمثال يوسف أبو شوة, محمد الحاج الأمين, مصطفى خليل, محمد إبراهيم أبو القاسم, محمد على أبو سم (أبو زهرة), والأستاذ محمد فضل المولى أول ناظر لمدرسة الفاشر الأهلية الوسطى, والأستاذ محمد فضل, والد البروفسير على محمد فضل مدير جامعة الخرطوم الأسبق, أول ناظر سودانى لمدرسة الفاشر المزدوجة الأولية, وبجانب ذلك فقد كان هنانك كوادر محلية متعلمة من المعلمين وصغار الموظفين وبعض الأهالى من الشباب الذين عاشوا لفترات فى مدينتى ود مدنى وأم درمان فعادوا للإقليم يحملون بشريات وأفكار التحرر الوطنى وأطروحات مؤتمر الخريجين ما لبثوا أن عكفوا على الاختلاط بالناس فى قاع المجتمع من باب تعليمهم شتى المهارات فى الميكانيكا والبناء والنجارة والحدادة والحياكة والأعمال الكتابية والمحاسبية فتطوروا مع الزمن، وبالضرورة ، كتيار متميز فى نهر التوعية الجماهيرية، وتعاطوا بشكل إيجابى مهمة تنوير الأهالى من خلال مشاركاتهم الإجتماعية الواسعة وعن طريق الفن الغنائى والرياضة ومناسبات مجتمع أهل المدينة الثرة, مثل بشر سعيد ومحمد الخضر أبو دماغ وحسن كفتيرة, وظلوا يشكلون ولوقت طويل الصوت المعبر للمؤتمر وينشطون سراً وجهراً فى مقاومة المحتل الأجنبى خاصة وأنَّ ذكريات السلطنة ما زالت طرية فى وجدان المواطنين يذكرونها بفخر ويطربون لها من خلال قصص المسنين وذكرياتهم عن تلك الفترة.
ومن أجل خلق بعد إجتماعى لمؤتمر الخريجين, وربما تحت تأثير العلاقات والصلات المتبادلة مع صلب الحركة الوطنية فى وسط السودان النيلى, فقد إتجه المؤتمر لتبنى بعض المشروعات التعليمية والإجتماعية فأنشأ مدرسة الفاشر الأهلية الوسطى عام 1945م كأول مدرسة وسطى على الإطلاق بدارفور, تبعها بمعهد الفاشر العلمى الدينى فى عام 1946م, ثمَّ شارك بقوة مع قطاعات مجتمع المدينة لبناء الجزء الأساسى من جامع الفاشر الكبيرعام 1947م قبل أكتمال التوسعة الكبرى فى شكلها الحالى عام 1957م والذى يمكن مشاهدة منارته العالية من مدى أميال بعيدة عن المدينة, كما برزت نتيجة لذلك نهضة ثقافية متينة فى المدينة إنعكست فى شكل نشاط فكرى وسياسى وإجتماعى زاخم صاحبها وعى مبكر بمفاهيم الوطنية والسيادة ومتابعة تطورات الشئون العالمية التى أخذت تتفاعل بإيقاع متسارع مع إنتهاء فترة الحرب العالمية الثانية, ولقد تأثر أهل المدينة بصورة إيجابية من ذلك الحرب من خلال التعامل مع وخدمة القوات الإنجليزية التى ظلت تنزل فى مطار المدينة بصورة مستمرة خلال فترة الحرب, فقد تحول مطار الفاشر حينها إلى ما يشبه قاعدة عمق خلفية للقوات البريطانية فى حربها ضد قوات المحور الألمانية النازية التى كانت تتقدم شرقاً من شمال إفريقيا بإتجاه مصر والتى إنهزمت وتم القضاء عليها فى معركة العلمين الشهيرة, لقد شارك فى تلك المعركة الكثير من أهل دارفور الذين إلتحقوا بالخدمة العسكرية مع القوات الإنجليزية آنذاك ما يزال العديد منهم أحياء يرزقون, وقد تم تصميم ذلك المطار, وهو مطار الفاشر الحالى, بعناية فائقة قبل بدء الحرب بوقت وجيز ليكون فى وقته أهم مطار وقاعدة جوية بالبلاد تنطلق منها طائرات التحالف إذا لزم الأمر لمهاجمة قوات المحور الألمانى بشمال أفريقيا, وكانت الطائرات العسكرية من الطراز القديم, ذات المروحية الواحدة, تهبط فيه بإستمرار طوال اليوم إذ يقوم عمال متخصصون بإشعال نيران فى مواقد خاصة على جانبى المدرج خلال الليل لتمكن الطائرات من تحديد المدرج والهبوط, كما كان هؤلاء العمال يقومون أيضاً بإدارة عنفات محركات تلك الطائرات لمساعدتها على الدوران قبل الإنطلاق, ونسبة لقوة تصميم ذلك المطار وهندسته الرفيعة فإنَّ الحكومات السودانية التى توالت بعد الإستقلال لم تحتاج ولفترة طويلة أن تضيف شيئا لتلك المبانى أوالمدرجات إلاَّ فيما يختص بالصيانة والترميمات العادية, لكن تم زيادة طول المدرج الشمالى الجنوبى إلى مسافة ثلاثة كيلومترات إجمالاً فى منتصف الثمانينات وتمًّ إنشاء مدرج جديد بإتجاه الجنوب الغربى- الشمال الشرقى بذات الطول فى بداية التسعينات, فتوسع بحيث أصبح اليوم من كبرى المطارات الدولية السودانية, وبجانب ذلك فقد تأثر أهل دارفور أيضاً بتجربة أهاليهم المقاتلين الذين خدموا فى وحدات الجيش وقاتلوا جنباً لجنب مع القوات البريطانية فى معارك الصحراء, كان بعضهم متمكنين من اللغة الإنجليزية فصاروا بعد عودتهم مصادر معلومات لمجتمعاتهم عمَّا شاهدوه ولمسوه فى معاملتهم مع الأنجليز وبقية الأجانب وما قد يسمعونه عبر المذياع عن التطورات السياسية العالمية وردود فعل الدول التى لا تزال ترزح تحت تسلط الإستعمار ومحاولات شعوبها للتحرر والإنعتاق, ولذلك لم يكن الناس بعيدين عما يحدث من تطورات فى العالم الخارجى.
دعم القضية الفلسطينية:
نتيجة لإزدياد الوعى, وعند إندلاع الحرب بين الفلسطينيين واليهود عام 1948م أثر إعلان قيام دولة إسرائيل, بناء على وعد بلفور بإعطاء اليهود وطناً لهم فى فلسطين, إندلعت المظاهرات فى كل أرجاء الوطن العربى وإرتفعت الأصوات فى كل مكان تنادى بالجهاد ضد اليهود وتحرير فلسطين, وقد كانت لجماهير دارفور نصيباً فى ذلك فقد تدافعت جماهير مدينة الفاشر للتطوع للحرب وإقيمت الندوات الكبرى فى نادى الفاشر لتبصير المواطنين بمأساة فلسطين بجانب خطب صلاة الجمعة فى المساجد التى تناولت ذات الموضوع تدعو للجهاد, كما قامت حملات لجمع التبرعات المادية والعينية لدعم الحرب وقد تبرع الناس بالغالى والنفيس حتى أنَّ طالباً إسمه محمد معروف من حى "تمباسى" بالفاشر خلع جلبابه أمام الجمهور وتبرع بها لدعم حرب تحرير فلسطين.
مظاهرات الفاشر ضد المجلس الإستشارى لشمال السودان والجمعية التشريعية:
فى عام 1944م, وكرد فعل لمطالب مؤتمر الخريجين العام لتحديد المستقبل السياسى للسودان كثمرة لوقوف السودان مع الحلفاء وإنتصارهم فى الحرب العالمية الثانية, خاطب حاكم السودان العام السير هيوبرت هدلستون السودانيين عبر المذياع مباشرةً بأنَّ حكومته ستتدرج بالسودانيين نحو الحكم الذاتى على أن يتحقق ذلك فى عشرين سنة, ثم بدأت الحكومة فى تنفيذ خطوات فى إتجاه ذلك بتكوين المجلس الإستشارى لشمال السودان على أن يظل الجنوب على ما هو عليه, وتَكَوَّن المجلس برئاسة الحاكم العام ينوب عنه السكرتيرين الثلاثة, الإدارى ثم المالى ثم القضائى, بالإضافة إلى عضوية شرفية لكل من السيدين عبدارحمن المهدى وعلى الميرغنى, كما ضم المجلس كذلك أعضاء من مجالس مديريات السودان الشمالية بواقع ثلاثة أعضاء لكل مديرية مَثَّلَ دارفور فيه كل من الناظر إبراهيم موسى مادبو ناظر قبيلة الرزيقات والسلطان محمد بحرالدين سلطان دار المساليت والمقدوم عبدالرحمن آدم رجال مقدوم المقدومية بنيالا, لكنَّ مؤتمر الخريجين شكك فى نوايا حكومة السودان وأعلن أنَّ الهدف الحقيقى من تكوين المجلس الإستشارى لشمال السودان هو أن يكون خطوة مبدئية لفصل جنوب السودان والإنفراد به تمهيداً لضمه إلى أحد البلاد الأفريقية المجاورة والواقعة تحت النفوذ البريطانى, وبناءاُ عليه قرر المؤتمر مقاطعته للمجلس كما قاطعه أيضاً السيد على الميرغنى وأغلبية المثقفين السودانيين فسقط المجلس بعد تكوينه مباشرة إذ لم يكن يمثل غالبية الشعب, وقد أدَّى ذلك إلى تعديل الحكومة لخطتها لفصل الجنوب خاصة وأنَّ الجنوبيون أنفسهم رفضوا دعوة الإنفصال وتمسكوا بالسودان الموحد. لقد ساهم التيار المتنامى لحزب الأشقاء بفعالية فى سقوط ذلك المشروع إذ كان حزب الأمة والجبهة الإستقلالية يدعمونها بإعتبار أنها خطوة نحو الحكم الذاتى والتدرج نحو الإستقلال بإشراف الحكومة البريطانية, لكن معارضة المؤتمر وحزب الأشقاء كان لافتاً على المستوى القومى الشيئ الذى إنعكس على الحركة السياسية الفاعلة بمدينة الفاشر أيضاً إذ نشأ فيها تيار قوى غالبيته من شريحة الطبقة الوسطى خاصة قطاع التجار بقيادة الطاهر إبراهيم وحسن محمد صالح ومحمد على الصديق وغيرهم.
عطفاً على ذلك مضت الحكومة فى تنفيذ خطة مغايرة لكى تضمن عبرها سيطرة مطلقة على مجريات الأحداث, فطرحت مشروعاً جديداً تمثلت فى قيام جمعية تشريعية ومجلس تنفيذى بهدف السير بالسودان نحو الحكم الإدارى وتقرير المصير, وبرغم رفض غالبية القوى السياسية لها إلاَّ أنَّ الحكومة مضت فى تنفيذ تلك الخطة فتم قيام الجمعية التشريعية من 79 عضواً, منهم 42 منتخباً إنتخاباً حراً مباشراً فى المدن الكبيرة, وقد فاز من دارفور كل من الملك رحمة الله محمود (وسط دارفور, رئيس محكمة الفاشر), أبوالقاسم على دينار (شمال دارفور, من الأعيان), إبراهيم ضو البيت (شرق دارفور, رئيس المحكمة), إبراهيم موسى مادبو (جنوب دارفور, رئيس المحكمة), عبدالحميد أبَّكر إبراهيم (غرب دارفور, ناظر الرزيقات), أبُّو عبدالرحمن بحرالدين (دارالمساليت, سلطان دار مساليت), وبالرغم من قيام هذه الجمعية إلاَّ أنَّ موقف القوى الوطنية تجاهها ظلَّت ليس بأقل من موقفها السابق تجاه المجلس الإستشارى لشمال السودان, فقاطعتها أيضاً, وأطلق الزعيم إسماعيل الأزهرى قولته المشهورة: "لن ندخلها ولو جاءت مبرأة من كل عيب" تعبيراً عن موقف تلك القوى, وعلى أثر ذلك تكونت الجبهة الوطنية من الأحزاب الإتحادية وبعض المستقلين وكان شعارها مقاطعة الجمعية التشريعية ومقاومتها بكل السبل, وهكذا تطورت الأمور إلى مواجهة مباشرة مع حكومة السودان البريطانية وتمددت من العاصمة إلى مدن السودان الكبرى لتتحول إلى مقاومة شرسة ضد الجمعية التشريعية تمثلت فى المظاهرات والمسيرات الهادرة والليالى السياسية خاصة فى المدن الكبرى مثل ودمدنى وعطبرة والأبيض وبورتسودان وكسلا والفاشر, ومن الناحية الأخرى قررت الحكومة إستخدام العنف والقوة فى تفريق المظاهرات حيث تم إستخدام القنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه وضرب المتظاهرين بالهراوات.
أما فى مدينة الفاشر فقد تحرك الناس بتلقائية ضد قيام الجمعية, ويصف ذلك المؤرخ أحمد عبدالقادر أرباب فى كتابه سابق الذكر (صفحة 333) بقوله: وكان فى مقدمة المعارضين شباب المدينة وطلبة معهد الفاشرالعلمى بإيعاز من الأستاذ سراج الدين أحمد جابر, الذى قاد إضراب معهد بخت الرضا فى تلك الأيام, فتكونت خلية نشطة لقيام مظاهرات سياسية كبرى عام 1948م, وبالفعل قامت أول مظاهرة من فناء الجامع الكبير وجابت السوق والطرقات حيث إنضم إليهم عدد كبير من المواطنين وتوجهت المظاهرة إلى المدرسة الأهلية الوسطى بالقرب من سوق المدينة حيث خرج الطلاب من الفصول وإنضموا إليها, ثم إتجهت منها إلى المديرية حيث مقر مدير مديرية دارفور, وكانت الهتافات داوية تصدت لها قوات البوليس بعنف وفرقتها قبل أن تصل إلى هدفها, وإعتقلت قادتها وبعض المواطنين المشتركين فيها وقدم المتهمون منهم لمحاكمات فورية حيث صدرت أحكام بالسجن والجلد بحقهم, والذين تمت محاكمتهم هم: عباس محمد نور عالم (والد الشاعر والأديب الأريب عالم عباس), أبو القاسم حاج محمد (خطيب الفاشر المفوَّه), محمد على عنقال, بشر سعيد, صديق صالح أبو اليمن, محمود التجانى عبدالماجد, حسن محمد صالح, الطالب سيد شدَّاد, إبراهيم بابكر فضل, ومحمد على الصديق.