الهجرات العربية إلى السودان قبل الاسلام … بقلم: د أحمد الياس حسين

 


 

 

ahmed.elyas@gmail.com
1 - 4
  بعض ما ورد في المؤلفات الحديثة
يلاحظ على الكتاب فى العصر الحديث أنهم عمموا استخدام كلمة عرب وأطلقوها – قبل الاسلام - خطأً على الجماعات السامية من سكان شمال شبه الجزيرة العربية والشام الذين كانت لهم صلات قديمة بافريقيا. فكلمة "عرب" كانت تطلق علي كل القبائل البدوية في تلك المناطق. فعندما استخدم الأشوريون أو العبرانيون أو اليونانيون كلمة عرب أرادوا بها القبائل البدوية، وإذا أرادوا الحديث عن غير البدو في المنطقة أشاروا إلي من يريدون بالاسم الذي كان يعرف به كالحميريين والأنباط والعبرانيين.
ولذلك فاطلاق لفظ العرب من قبل الكتاب في العصر الحديث علي تحركات الشعوب البدوية أو غير العربية في المنطقة قبل الاسلام إطلاق غير دقيق، ولا يحمل أى معنىً واضحاً بل يؤدي إلى الخلط وطمس الحقائق. مثل نص عبد المجيد عابدين الذي أشرنا إليه في حلقة سابقة والذي جاء فيه:
"بالرغم من حديث مؤرخي العرب الأوائل من أن لفظ نبطي يدل على الذم وأنهم من غير العرب وأن لغتهم فاسدة تشبه الرطانة ... إلا أن العلماء أثبتوا عروبتهم "  بالطبع لم يوضح الكاتب كيف أثبت العلماء عروبة قومٍ في وقتٍ لم يكن لمدلول كلمة العرب أي مفهوم قومي بل كانت تعني البدو، فهل قصد المؤلف أن العلماء اثبتوا بداوة الأنباط؟
وأعتقد أن كثيرا من الكتاب الذين استخدموا لفظ "العرب" للدلالة على تحركات كل السلالات السامية قبل الاسلام يدركون أن استخدامهم خطأ، ولكنهم يتعمدون ذلك الخطأ للاستدلال به على أحكامهم المسبقة. وسنحاول أن نخاطب كل سلالة بما عرفت به في تلك الفترة، وفي نفس الوقت نحاول ما أمكن أن نفهم أي السلالات البدوية السامية أُطلق عليها لفظ العرب. 
ويمكن إلقاء نظرة سريعة على المادة التي وردت في بعض المؤلفات الحديثة  عن العرب بصورة عامة بتناول بعض النماذج التي وردت عن صلاتهم بافريقيا للتجارة أو الغزو أو الهجرة أولاً عبر البحر الأحمر ثم ثانياً عبرصحراء سينا.
أولاُ: البحر الأحمر 
تمثلت المادة التي وردت تحت هذا القسم في الصلات الطبيعية عبر البحر الأحمر بصورة عامة، والصلات بين الساحل اليمني والساحل الافريقي بصورة خاصة. ولعل في عبارات شوقي الجمل تحت عنوان: العرب وبلاد السودان قبل الاسلام خير مثال لما ورد عن الصلات الطبيعية عبر البحر الأحمر حيث قال:
"البحر الأحمر بحر هادئ ضيق ولما كانت الأحوال الاقتصادية في الجزيرة العربية فقيرة وطاردة امتد نشاط العرب الى سواحل البحر الأحمر السودانية واستقر كثير من سكانها بالنوبة الشمالية واشتغلوا كوسطاء في التجارة أو في مناجم الذهب واختلط العرب المهاجرون بالسكان الأصليين وأثروا فيهم وتأثروا بهم" 
  وأود أن أبدا بالملاحظة التالية عن سواحل البحر الأحمر:
 سواحل البحر الأحمر السودانية أيضا فقيرة وغير جاذبة مثل سواحله العربية المواجهة للسودان، وربما لهذا السبب لم يجعل شوقي استقرار العرب الذين قال انهم عبروا البحر الأحمر على الساحل مخالفاً بذلك أغلب الروايات التي تجعل الاستقرار في بلاد البجة أو صحراء مصر الشرقية. وجعل شوقي استقرار الهجرات في بلاد النوبة التي تفصلها مناطق صحراوية قاحلة طاردة. ولم يوضح شوقي كيف تم الانتقال من سواحل البحر الأحمر السودانية إلى بلاد النوبة.
وإلى جانب فقر سواحل البحر الأحمر السودانية فمناطق الداخل القربية من الساحل فقيرة أيضا ولا تساعد في تزويد الساحل باحتياجاته، ولذلك لم تشتهر الكثير من المواني والمراكز التجارية على طول سواحل البحر الأحمر الغربية، فلم يزد عدد المواني والمراكز التجارية الهامة - في عصر واحد - على طول سواحل البحر الأحمر الغربية أصابع اليد الواحدة.
 وإذا نظرنا إلى سواحل شرق افرقيا الواقعة على المحيط الهندي نجد أن العرب قد انشأوا المراكز التجارية وأسسوا الممالك قبل الاسلام في مناطق كينيا وتنزانيا الحاليتين وتركوا بصماتهم الواضحة عليها. وبالطبع فإن تأثيرهم السابق للاسلام على الحبشة غني عن البيان. ولذلك لا وجه للمقارنة بين نشاط العرب على ساحل شرق افرقيا والحبشة وأنشطتهم على سواحل البحرالأحمر الغربية إذ لا توجد آثار للعرب على سواحل البحر الأحمر السودانية أو لمصرية قبل الاسلام مثل آثارهم في الحبشة وشرقي افريقيا.
ولا يرجع السبب في اتصال واستيطان العرب سواحل شرق افريقيا إلى امكانية توافر السلع التجارية في دواخل تلك المناطق أكثر منها في الدواخل السودانية بقدر ما يرجع إلى طبيعة المناطق الساحلية والداخلية وما تتميز به من موارد تجعل الاستقرار والاتصال بالداخل سهلاً. فسواحل البحر الأحمر السودانية ساهمت بسلعها في تجارة المنطقة وكانت أغلب تلك السلع تأتي من أعالي  النيل الأزرق ومناطق نهرعطبرة والقاش وخور بركة وامتداداته شرقا، أي أن أغلب سلع تلك المواني كانت تأتي من داخل حدود السودان وأرتريا. فالسلع كانت متوفرة وكانت تصل بانتظام إلى سواحل البحر الآحمر إما عن طريق التجار المحليين أو عن طريق التجار العرب والمصريين والهنود وغيرهم.  
فالعرب عبروا البحر الاحمر وقامت موانى هنا وهناك على سواحل الغربية من أقدم العصور، وساهمت تلك الموانى في خدمة التجارة العالمية. ولكن لم تتكون مستوطنات أو ممالك عربية أو مراكز تجارية  كثيرة علي سواحل البحر الأحمر السودانية مثل تلك التى قامت على سواحل شرق افريفيا.
وقد جاء في أغلب المؤلفات الحديثة أن الصلات بين العرب والسودان قبل الاسلام تم أغلبها عن طريق العبور من سواحل اليمن إلى الحبشة أولا ثم إلى السودان إما سلمية من أجل الاستقرار و التجارة أو من أجل الغزو. وبالطبع فقد سهل مضيق باب المندب العبور بين ساحلي البحر الأحمر. ويمكن النظر إلى عاملين أثرا على طبيعة تحرك سكان جنوب شبه الجزيرة العربية أولهما: أن جنوب شبه الجزيرة العربية غني بموارده المائية والزراعية إذا ما قيس بمناطقها الوسطى أوالشمالية، ثانيا: ارتبط سكان جنوب شبه الجزيرة ارتباطا قويا بالنشاط التجاري في المحيط الهندي والبحر الأحمر.
هذين العاملين جعلا ارتباط اليمنيين ببلادهما قويا ولم يكن البحث عن المهاجر البديلة أولوية في كل الأحوال. فقد أسس عرب الجنوب مراكز تجارية وكانت لهم جاليات في مناطق كثيرة على سواحل المحيط الهندي ولكن اريباطهم بالوطن الأم كان قويا، بمعني أن النشاط التجاري لليمنيين لم يكن وسيله للهجرة بل كان عاملا لانتعاش سواحلهم التي كانت توفر سبل الحياة والثروة اكبر بكثير مما توفره سواحل البحر الأحمر الغربية أو المناطق الداخلية لتلك السواحل. وربما فسر ذلك انحصار الأثر العربي على مناطق اثيوبيا الغنية بمواردها الزراعية. فقد لاحظ المؤرخون ذلك من خلال الهجرات اليمنية المبكرة في القرون السابقة لميلاد المسيح والتي استقرت في المناطق الزراعية في الهضبة الأثيوبية.  
  ولذلك لم توثق المصادر العربية المبكرة هجرات تاريخية قديمة لعرب الجنوب ألا بعد انهيار سد مأرب. وقد انتشرت قبائل الجنوب فيها داخل شبه الجزيرة والعراق والشام. ولم ترد أي اشارة إلى دخول أولئك المهاجرون افريقيا. والعلومات التي وردت في المصادر العربية المبكرة عن دخول عرب الجنوب افريقيا ارتبطت فقط بغزو ملوك التبابعة لافريقيا، وقد ناقشناها في مقال سايق (سكان افريقيا في المصادر العربية المبكرة) وخلصنا أنه لا أساس تاريخي لتلك الروايات.
 ومن أمثلة ما ورد في المؤلفات الحديثة عن هجرة القبائل العربية لوادي النيل قبل الاسلام ما كتبه أحمد الحفناوي ص 46) بدون ذكر لمصدره جاء فيه الآتي:
"في الألفي سنة قبل الميلاد هاجرت جماعات عربية من جنوب غربي الجزيرة العربية إلى الحبشة، وبلغت هذه الهجرات أقضاها في عهد دولتي معين وسبأ، وحمل المعينيون والسبئيون لواء التجارة في البحر الأحمر ووصلوا في توغلهم غربا إلى وادي النيل ... ولحق بهم عدد من أقاربهم وأهليهم."
الجزء الأول من النص "هجرة عرب الجنوب إلى الحبشة" تؤكده الكثير من الأدلة الأثرية حيث ورد في الآثار اليمنية والحبشية ما يؤكد تلك الصلات، كما يؤكد تلك الصلات أيضا العلاقة بين اللغتين الحبشة والعربية فكلاهما ينتمي إلى مجموعة اللغات السامية. كما هوثابت في التاريخ أيضا نشاط عرب الجنوب في التجاري مع سواحل الحبشة سواء تم ذلك عبر البحر الأحمر أو المحيط الهندي.
ولكن ما يصعب أثباته هو باقي النص المتعلق المتعلق بوادي النيل. ومثل هذا النص يتكرر كثيرا في المؤلفات الحديثة ويأتي في أغلب الأحيان بدون مصدر كما ورد هنا، أو تأتي الإحالة إلى مرجع آخر حديث ويفتقر بالتالي إلي مصدر لتوثيق الخبر. وحتى مايرد منها مذيلا بمصدر لا يؤكد الإحالة المشار إليها الموضوع المطروح تأكيداً مباشراٍ ومقطوع بصحته، بل تكون الإحالة قابلة إلى الكثير من التأويلات التي لا يُشارإليها، كالاحتجاج بهجرات العرب الى صحرا مصر الشرقية ووادي النيل بما ذكره سترابو من تكاثر العرب في تلك المناطق.
وقد يكون الكاتب المـُستدِل بالنص على علم بمعنى "عرب" الوارد في النص (أي البدو كما وضحنا) ولكن لا يشير إلى ذلك لكي يجد السند لوجهة نظره. وقد سبق أن وضحنا أن روايات المصادر العربية المبكرة عن هجرات قبائل العرب لافريقيا قبل الاسلام – رغم تناقضها ورفض ابن خلدون لها – فانها ارتبطت فقط بالمغرب والصحراء الكبرى، أي أن وادي النيل وبالأخص السودان لم يكن مسرحا لتلك الروايات.
ويلاحظ على نوعية مثل هذا النص التعميم، فالمؤلف يشير إلى وادي البيل بصورة عامة ولكن من سياق الحديث يرجع النص بالضرورة إلي المنطقة موضوع النقاش. فالمؤلف يسعى إلى تأكيد عروبة السودان في كتابه المعنون بـ" سودان وادي النيل في ظل الإسلام" فوادي النيل في النص إطلاق عام يصدق على مناطق القاهرة وأسوان وحلفا والخرطوم وسنار وملكال وجوبا وغيرها من مناطق وادي النيل خارج حدود السودان.
ولم يوضح النص أي الطرق سلكتها تلك الهجرات إلى وادي النيل، وكيف استقرت تلك الهجرات؟ وكيف كانت الأوضاع السياسية للمناطق التي وصلتها تلك الهجرات؟ هل اسقرت استقراراً سلميا، أي قبلها السكان المحليون، أم سيطرت تلك الهجرات بالقوة؟ فوصول واستقرار الهجرات حدث كبير في التاريخ لا يحدث بدون آثار كبرى تدون أحداثها ليس في مناطق الهجرات فقط، بل وكذلك في الناطق المجاورة، يتجاوز المؤلف كل هذه الأسئلة ويقفذ إلى الستنتاج المطلوب وهو أن تلك الهجرات أدت إلى تعريب سودان وادي النيل.
فأحداث السودان في الألفي سنة السابقة للميلاد مدونة في الآثار المصرية والسودانية ومن غير المعقول أن لا تدون مثل تلك الهجرات التي لم تكن هجرة واحدة فقط بل كانت هنالك موجة أو موجات كما هو جاء في النص "ولحق بهم عدد من أقاربهم وأهليهم" ومن الواضح أن مثل هذه النصوص قُصد بها – بغض النظر عن السبب – خدمة قضية الكاتب المطروحة للنقاش والتي يحتاج إلى توثيقها بحثا عن الحجة لدعم موقفه.
وإذا رجعنا إلى نص د. شوقي الجمل السابق والذي جاء فيه أن كثيراً من العرب استقروا بالنوبة الشمالية واشتغلوا بالتجارة واختلطوا بالسكان الأصليين نجد أن مثل تلك الهجرات ذات التأثير السكاني والاقتصادي لا بد وأن تترك آثارها الواضحة على تاريخ المنطقة. ود. شوقي درس في كتابه "تاريخ سوداب وادي النيل" تاريخ السودان الشمالي منذ عصور ما قبل التاريخ حتى العصر الاسلامي ولم يشر في كل المراحل التي درسها إلى وصول أيّ هجرة عربية أو أيّ نشاط عربي في تلك الناطق، بينما أشار كثيراً إلى الهجرات التي وصلت من الصحراء الواقعة إلى الغرب من النيل واستقرت في مناطق النوبة وغيرها شمالاً وجنوباً على وادي النيل.

 

 

 

 

آراء