دراسة عن العنف الأسرى في السودان ، أنماطه وأسبابه بقلم: د. عوض محمد أ حمد
3 February, 2009
hotmail.com@Awad_sd
مقدمة
يُعرَّف العنف بأنه سلوك تجاه الآخرين ، خارج نطاق الأعراف المقبولة اجتماعياً ، ينطوي على إمكانية تسبب الأذى المعنوي أو البدني(1) والأشكال الرئيسية للعنف تشمل عنف الدولة، جرائم الحروب ، العنف الأسري (موضوع دراستنا) وإساءة معاملة الأطفال وكبار السن.
في كل مراحل التاريخ وفي معظم المجتمعات تحتل المرأة ، اجتماعياً ، مكانة أقل بكثير من الرجل(2). أن القيمة الدنيا لمكانة المرأة التي تواضعت عليها كثير من المجتمعات تترجم على الأرض في شكل مؤشرات بائسة مثل ارتفاع نسبة الوفيات نتيجة للأمومة ، ارتفاع نسبة الأمية ، القيود على الحرية الشخصية وانعدام المساواة مع الرجل في الحصول على الخدمات الحكومية مثل فرص العمل وغيرها. ونتيجة لتلك العوامل صارت المرأة ، عبر القرون ضحية دائمة للعنف من قبل الأسرة والمجتمع والحكومات. إن أشهر أشكال العنف ضد المرأة تشمل ضرب الزوج ، الاغتصاب ، التحرش الجنسي من قبل المخدمين ، الدعارة بالإكراه ، الختان الفرعوني وقتل الأجنة.
أن مصطلح (العنف الأسري) يستعمل عادة للإشارة للعنف الموجه ضد المرأة بواسطة أحد أفراد الأسرة وفي الغالب يكون هذا الفرد هو الزوج(1) ويمكن رؤيته ، أي العنف الأسري كحالة قهر نفسي أو اقتصادي (نتيجة للحوجة) أو جنسي، يقود إلى تهديد جدي أو استعمال فعلي للعنف البدني(3). وتتدرج أشكال العنف الأسري من الدفع باليد أو الصفع وحتى استعمال الأسلحة النارية. لكن الأدهى ان العنف الأسري قد ينظر له كوسيلة ضبط أو تأديب للمرأة مقبولة اجتماعياً وتدخل في صميم أعراف كثير من ثقافات الشعوب مما يدفع الضحايا إلى الاستسلام المستدام لجلاديهم(4).
أن العنف الأسري ينتشر بنسبة كبيرة وسط جميع الأسر في كافة المجتمعات سواء العالم الأول أو الثالث وفي جميع الطبقات غنيها وفقيرها ، ووسط المتعلمين والأميين. إن الدراسات الأمريكية والبريطانية تثبت حدوث العنف الأسري بنسبة 40% في تلك المجتمعات(5) (6) (7) .
كما أن حوالي ثلث النساء اللائى حضرن لتلقى العلاج في المؤسسات الصحية كن ضحايا ، بصورة أو بأخرى ، لممارسات العنف الأسري. كما تلقي ممارسات العنف الأسرى بتأثيرها على الاقتصاد حيث تكلف المعالجة الطبية للأذى البدني الناتج عنها قرابة المليار دولار سنوياً (8). بل وأنه في عام 1992م ، في الولايات المتحدة ، كانت حوالي 12% من جرائم القتل نتيجة لخلافات أسرية(9).
إن العنف ضد المرأة هو محصلة نهائية لتفاعل عوامل عديدة على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع (Society) والجماعة (Community). على مستوى الفرد فإن تلك العوامل تشمل التعرض للعنف في الطفولة أو مشاهدة ممارسته على نطاق الأسرة ، كما تشمل أيضاً غياب أو إهمال الآباء لدورهم في التنشئة أو إدمانهم للمخدرات والكحول. على مستوى الأسرة تمثل الخلافات الزوجية والهيمنة التامة للزوج على شئون الأسرة المالية وغيرها محددات قوية لظهور العنف(10). وعلى مستوى المجتمع والجماعة فإن عوامل ظهور العنف تشمل الفقر ، والعطالة والعزل الاجتماعي على الأسرة أو المرأة ، وربط مفهوم الذكورة أو الرجولة بقوامة الزوج أو سيطرته على المرأة ، وقبول العنف (أو التأديب بمفهوم المجتمع) كوسيلة لعلاج الخلافات وبالذات العنف ضد الزوجات(10). إن العنف ضد المرأة قد ينشأ من الأعراف الاجتماعية لكل من دور الرجل ودور المرأة في المجتمع (gender norms) فالرجل هو سيد الأسرة (وبالتالي المرأة) لأنه يتفق عليها مادياً. أما المرأة فمسئولة عن إعداد المنزل ورعاية الأطفال وإظهار الطاعة التامة للزوج في صورة أشبه بالرق أو السخرة. وبالتالي فإن أي تقصير من قبل المرأة أو أي تمرد لتحدى (حقوق) الزوج فإنه يقابل تلقائياً بالعنف (المقبول اجتماعياً وربما وجد له بعض ضيقي الأفق من رجال الدين تخريجاً فقهياً بالفهم المتعسف لبعض النصوص الدينية).
يؤدى العنف ضد المرأة إلى نتائج وخيمة عليها على كل المستويات ، صحياً واجتماعياً بالإضافة إلى الأذى الجسدي المباشر الناتج عن العنف ، فقد ينتج عنه عاهات دائمة والاكتئاب النفسي والحمل غير المرغوب فيه والانتحار والأمراض الجنسية(11). ويؤدى العنف إلى النزاعات الزوجية وتعويق الدور الاقتصادي والاجتماعي للمرأة في تطور مجتمعها(12). ويزداد الأمر سوءً برؤية الرجل لأي تطوير لقدرات المرأة المهنية أو الشخصية (Empowerment) كتهديد محتمل لدورهم (أو قوامتهم) (12).
على مستوى العالم ، يتزايد الانتباه والاهتمام بمشكلة العنف الأسري منذ صدور أول تقرير منشور عنها في منتصف السبعينات(13). منذ ذلك الحين بدأت تظهر ، في الدول المتقدمة منظومات من قطاعات مختلفة (منظمات طوعية ، أطباء ، جهات حكومية ... الخ) لمساعدة ضحايا العنف الأسرى. بينما في الدول النامية فإنه باستثناء جهود فردية محدودة لا يوجد أي اهتمام سواء من جانب المنظمات الطوعية أو من الحكومية أو حتى من قبل الأكاديميين لدراسة هذه المشكلة. وبالتالي تنعدم لحد كبير أي وسائل لمساعدة الضحايا. في السودان يبلغ عدد النساء حوالي نصف السكان وكنتيجة للأعراف الاجتماعية والقيود القانونية المفروضة عليها يعانين من جملة من المشاكل والصعاب على الأصعدة الشخصية والمهنية ، وبالتالي يصرن ضحايا محتملات لممارسات العنف الأسري. تهدف هذه الدراسة لتقصى وجود ودراسة أنماط العنف الأسري وسط شريحة من النساء اللائى كن يراجعن أحد المراكز الطبية في مدينة أم درمان.
طريقة البحث
أجريت هذه الدراسة على مجموعة من النساء اللائى كن يراجعن أحد المراكز الطبية في مدينة أم درمان في السودان في خلال عام2002م. يعنى المركز برعاية الأمراض المزمنة مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري ويستقبل مراجعيه من داخل مدينة أم درمان وضواحيها. تستهدف الدراسة فقط شريحة النساء المتزوجات واللائى يجدن القراءة والكتابة (ذلك حتى يتمعن بالحرية الكاملة والسرية في ملء الاستبيان الخاص بالدراسة). تمت الاستعانة بثلاث من مساعدات الأبحاث وذلك للمساعدة في اختيار المبحوثات ومساعدتهن في إكمال ملء الاستبيان. تم تزويد كل امرأة بفكرة عن طبيعة وأهداف البحث وما قد يتضمنه من أسئلة قد تتناول جوانب حساسة في علاقاتهن الزوجية.
أعطيت كل امرأة وافقت على الاشتراك في البحث استبيان خالٍ من الإشارة إلى الاسم ويملأ بواسطة المبحوثة بنفسها في غرفة معزولة مع توفير كل ضمانات السرية والخصوصية. لأغراض الدراسة تم تعريف العنف الأسري بأنه (حالة إيذاء بدني أو إكراه أو تهديد من قبل الزوج) (14). تم تقسيم حالات العنف إلى ثلاثة أشكال تهديدات لفظية ، سلوكيات تأديبه (Controlling Behaviours) ، وحالات إيذاء بدني. تم تصنيف شدة حالات الإيذاء إلى ثلاثة أقسام: أذى خفيف مثل القذف بأدوات المنزل أو الدفع بالأيدي، و أذى متوسط ويشمل الضرب بالعصى أو تسبيت جروح وكسور متوسطة وأذى جسيم متسبباً في حدوث نزيف داخلي أو كسور في الرأس. يتضمن الاستبيان الحصول على معلومات عن:
أ-معلومات عن الحالة الاجتماعية - الاقتصادية كالعمر والعمل ومستوى التعليم والدخل السنوي للزوج والزوجة ، وإذا ما كان الزوج مدمناً للخمور أو المخدرات.
ب-تم توجيه سؤال مباشر للمبحوثات إذ ما مورس عليها أي نوع أنواع العنف من قبل الزوج (حسب التعريف والتصنيف أعلاه) خلال عام كامل. وتم الاستفسار عن وسائل الضبط أو التأديب التي يمارسها الأزواج مثل الصياح والزجر وتقييد تحركاتها أو مراقبتها. وتم سحب الأسئلة عن العنف المرتبط بالأمور الجنسية نظراً لما سببه من حرج عند أوائل المبحوثات.
ج- تم السؤال في البحث عن السبب المباشر الذي أفضى لحدوث حالات العنف ، وعن عدد مرات حدوثه وعن كيفية تفاعل المرأة ورد فعلها مع العنف ، وإذا ما سعين للحصول على معالجة طبية أو الاستعانة بأحد الأقرباء أو الأصدقاء.
كل النساء اللائى لم يتعرضن لأي عنف تم اعتبارهن مجموعة ضابطة للبحث (Control group) وتمت الاستعانة بالوسائل الإحصائية عند التحليل النهائي لنتائج البحث في كلا المجموعتين (اللائى تعرض للعنف والمجموعة الضابطة).
النتائـج
تم اختيار 492 امرأة مؤهلة للدخول في الدراسة وأعطت 394 منهن موافقتها على الاشتراك بنسبة استجابة بلغت 86.8%. من بين هؤلاء أقرت 164 امرأة بنسبة (41.6%) بتعرضها لمرة أو أكثر لممارسات عنيفة من قبل أزواجهن خلال عام من مدة الدراسة (وسوف تسمى مجموعة العنف). أما باقي النساء (230 امرأة بنسبة 58.4%) فتم اعتمادهن كمجموعة ضابطة للدراسة خصوصاً من ناحية الخواص الاجتماعية - الاقتصادية ودورها في تحديد حدوث العنف.
يبلغ متوسط عمر مجموعة العنف 29 عاماً (بزيادة أو نقص 11 عاما) بينما يبلغ عمر المجموعة الضابطة 36عاماً (بزيادة أو نقص عشر أعوام). بالنسبة للمستوى التعليمي لمجموعة العنف فقد أكمل 74 منهن التعليم الأساس (45.1%) وأكمل 79 (48.2%) التعليم الثانوي وأكملت الجامعة 11 فقط (6.7%). إما بالنسبة للمجموعة الضابطة فقد أكملت 39 منهن التعليم الأساسي (17%) و 160 (69.6%) التعليم الثانوي و 31 (13.4%) التعليم الجامعي). يبلغ متوسط مدة الزواج 6 سنوات في مجموعة العنف و9 سنوات في المجموعة الضابطة. بالنسبة لمتوسط دخل الأسرة السنوي فإن 133 امرأة من مجموعة العنف (81.1%) يقل الدخل عن 2500 دولار (حد الكفاف) بينما في المجموعة الضابطة فإن 122 (53.1%) يقل دخلهن عن 2500 دولار. بالنسبة للعمل فإن 122 امرأة من مجموعة العنف (74.4%) لا يعملن على الإطلاق بينما تعمل منهن أعمال دائمة (18.3%) والباقي يعملن بعض الوقت في أعمال هامشية ، أما بالنسبة للمجموعة الضابطة فإن 134 منهن (58.3%) يعملن في وظائف دائمة بينما 61 منهن (26.5%) لا يعملن.
تم في الاستبيان السؤال عن خصائص الأزواج في كلا المجموعتين. يبلغ متوسط أعمار أزواج مجموعة العنف 34 عاماً (بزيادة أو نقص 6 أعوام) مقارنة بـ 38 عاماً (بزيادة أو نقص 9 أعوام) بالنسبة لأزواج المجموعة الضابطة. بالنسبة للمستوى التعليمي فقد أكمل 39 من أزواج مجموعة العنف (23.8%) تعليمهم الأساسي و98 (59.7%) الثانوي و27 (16.5%) الجامعي بينما في أزواج المجموعة الضابطة أكمل 17 (7.4%) التعليم الأساسي و 171 (74.3%) الثانوي و 42 (18.3%) الجامعي. أما بالنسبة للعمل فإن 63 (38.4%) من أزواج مجموعة العنف لا يعملون بينما في المجموعة الضابطة يبلغ العدد 21 (9.1%). بتناول 78 (47.5%) من أزواج مجموعة العنف الخمور أو المخدرات بانتظام.
بالنسبة لأنماط العنف الذي مورس ضد مجموعة العنف (164 امرأة) فيمكن تفصيله كالآتي:
أ- سلوكيات ضابطة أو تأديبه من قبل الزوج وقد تعرض لها 122 امرأة (68.3%) ، تشمل هذه السلوكيات: الانتهار بصوت عالي، الزجر أمام الآخرين ، تقييد الأنشطة الاجتماعية مراقبة التحركات وعدم الإنفاق عليها.
ب- تهديدات جدية: وقد تعرضت لها 119 امرأة (72.6%) وتشمل القذف بأدوات المنزل ، التهديد بقبضة اليد ، أو حتى بالأسلحة أو بإيذاء الأطفال.
ج- حالات إيذاء بدني: تعرضت 79 امرأة (48.2%) لحالات إيذاء بدني يتدرج من الدفع باليد والركل بالأرجل والخنق والحرق واستعمال الأسلحة النارية.
بالإضافة لعنف الأزواج فإن 42 امرأة من مجموعة العنف قد أقرت بتعرضها لسلوكيات عنيفة من قبل أفراد أسرة آخرين (غير الزوج) كالأب والأخ وغيرهم. كما أن ثلث أفراد مجموعة العنف قد تعرضوا لعنف قبل الزواج. أما الأسباب المباشرة لحالات العنف فتشمل عدم طاعة أحد أوامر الزوج أو مناقشتها ، عدم العناية بالمنزل، رفض إعداد الطعام، التشكك في سلوك الزوجة ، الخروج من المنزل بغير إذن الزوج ومناقشة الزوج في دخله أو عمله أو علاقاته النسائية. كما أنه في10% من الحالات لا توجد أسباب ظاهرة لحالات العنف.
أما ردود أفعال ضحايا العنف فكانت الاستسلام وعدم اتخاذ أي إجراء عند 89 امرأة (54.3%) ، البكاء عند 32 امرأة (19.3%) ، المقاومة عند 18 امرأة (11%) ، أخطار أحد الأقارب عند 12 امرأة (7.3%) ، طلب الطلاق عند 10 نساء (6.1%) وإبلاغ البوليس عند 3 نساء (1.8%). وقد أقرت 27 امرأة (16.5%) بحدوث عنف تجاههن خلال الحمل لكن لم يتم الإبلاغ عن حدوث حالات إجهاض نتيجة لذلك.
مناقشة
تعطي نتائج هذه الدراسة دليلاً واضحاً على الحجم الكبير لمشكلة العنف الأسرى في المجتمع السوداني. أن نسبة حدوث هذا العنف في هذه الدراسة البالغ 41.6% شبيه بما توصلت إليه الدراسات الشبيهة في العالم (14،15) مع أنه في بعض الدراسات سجلت نسب تجاوزت الـ 60% (16). كما أنه يمكننا الزعم بأن هذه النسبة أقل من الواقع نسبة لحساسية هذا الموضوع وتحرج الكثيرات من مناقشة هذا الأمر. لكن نسبة الاستجابة العالية وسط نساء البحث للمشاركة فيه تبين رغبة كثير من النساء في التحدث في هذه الأمور متى ما توفر جو من الثقة والسرية والرغبة في مساعدتهن (17). وهذا يعطي أملاً للمجموعات والمنظمات الطوعية الراغبة في إجراء برامج استكشاف حالات (Screening) أو برامج تدخلية (Interventional).
أنماط العنف
بالمقارنة مع الدراسات الغربية فإن استخدام العنق الشديد بواسطة السلاح الناري نادراً ما يستخدم في السودان. أن ممارسي العنف هنا يفضلون استخدام وسائل لا تسبب أذى جسيم. أن الاستخدام الواسع لوسائل الأذى المعنوي مثل الزجر والانتهار يعود إلى أنها مقبولة ثقافياً في مجتمعنا. النمط النموذجي للعنف عندنا يكون مزيجاً من الانتهاء والتهديد والإيذاء. أما معدل حدوث حالات العنف فهو شبيه مما وجد في الدراسات الأخرى في الدراسات الأخرى في العالم(17،18). أن تكرار حدوث حالات العنف على نفس الضحية يعود إلى وجودها على دوام بالقرب من الجاني ولأن هذه الممارسات عادة داخل الجدران ولأن الضحايا لا يبدون مقاومة.
ردود الفعل تجاه العنف
أن رد فعل المرأة التي تتعرض للعنف محكوم بحجم الخيارات المتاحة أمامها. أن السبب الأقوى ، هنا وفي الخارج ، الذي يدفع المرأة لقبول العنف والاستمرار في علاقة زوجية تعرضها باستمرار له هو الحوجة الاقتصادية(19). فكما وضح في الدراسة فإن غالبية هؤلاء النساء تلقين القليل من التعليم ولا يتمتعن بمهارات كافية تمكنهن من الكسب الذاتي ولا فرص أمامهن للتوظيف سوى المهن الهامشية ذات الدخل المحدود من جهة والمطاردة باستمرار من قبل السلطات المحلية. والمحصلة النهائية هو استسلام الضحايا باستمرار لشروط الأزواج ورغباتهم وعنفهم في دورة خبيثة (فقر يؤدى إلى عنف ، استسلام وصمت الضحايا يؤدى إلى مزيد من العنف). وغني عن الذكر أن هذا العنف المستدام يؤدى إلى وقوع الضحايا فريسه لسلسلة من الأمراض والمشاكل العضوية والنفسية(20)؟.
قد يخطر في ذهن القارئ (وخصوصاً غير السوداني) تساؤل عن لم لا تطلب أمثال هؤلاء النساء الطلاق؟ فللأسف الشديد. فإن الطلاق في مجتمعنا (أو حتى مجرد البقاء دون زواج) أمر غير مقبول في مجتمعنا. وتعاني المطلقات ما يشبه العزل والحصار الاجتماعي وربما العنف من قبل أفراد أسرتها. كما أن الطلاق ليس دائماً سهل المنال ، فحق الطلاق حسب قوانين الشريعة الإسلامية هو بالكامل في يد الرجل. ويرفض ممارسي العنف باستمرار تطليق ضحاياهم.
لكن ليس كل الضحايا دائماً في حالة استسلام لممارسات العنف. حيث يسعى بعضهن لطلب العون من الأقارب أو طلب العلاج من الأذى البدني (رغم الخوف عما يعتبره المجتمع فضيحة). كما إنه في حالات قليلة خصوصاً في الأذى الجسيم يتم إبلاغ البوليس (خصوصاً إن إبلاغ البوليس هو شرط لابد من تنفيذه قبل أن تقبل المؤسسات الصحية تقديم العلاج الطبي لهم).
محددات العنف (Risk Factors)
توضح دراستنا بجلاء أن محددات حدوث العنف في مجتمعنا تشمل صغر سن الزوجة،الفقر ، العطالة ، محدودية التعليم ، الحمل ، وإدمان الكحول و المخدرات من قبل الزوج. إن العنف الأسري يحدث أكثر في حال وجود فارق كبير في العمر والتعليم بين الزوجين. لكن تلك المحددات ليست مطلقة (Absolute). فأي زوج يمكن أن يكونه عنيفاً وأي زوجة يمكن أن تكون ضحية. لكن في وجود تلك المحددات فإن أي تصرف تافه مثل التذمر (النقنقة) أو عدم إعداد الطعام في وقته يمكن أن يؤدى ببساطة إلى العنف.
خلافاً للدراسات الغربية فإننا سوف نركز على دراسة العوامل الثقافية والأعراف الاجتماعية التي تؤدى إلى حدوث أو قبول العنف الأسري. إن الدين الإسلامي يعطي القوامة للرجل ويهبه الحق في تأديب النساء (الناشزات) كما أن تقاليدنا الاجتماعية التي تعطي الرجل حق ملكية المرأة تهيئ المرأة للعنف حيث أن الذكورة هي شرف الأسرة والقبيلة وأن المرأة في مرتبة أدني من الرجل ويجوز استعمال العنف حيالها. وهذا المفهوم ليس قاصراً على السودان بل يسود في بيئات ثقافية عديدة حول العالم(21،22).
وتتفق نتائجنا مع دراسات عالمية عديدة في إن معظم النساء المتعرضات للعنف هن في سن صغيرة (في العقد الثاني أو الثالث) (18،23). إن الزوجات كبيرات السن (خصوصاً أكبر من 45 سن) أقل تعرضاً للعنف. وإذا وقع العنف في هذه السن فإنه يكون ذا نتائج مأساوية للمرأة حيث أن أسرة أبويها تكون في كثير الأحوال قد تلاشت بموتهما أو قد يكونون غير قادرين على مد يد المساعدة لها ، كما أنها يكون لديها عدد كبير من الأطفال وتكاد تنعدم فرص العمل أو الكسب أمامها.
بالرغم من أن العنف الأسري يحدث في كل الطبقات الاجتماعية إلا أن كثيراً من الدراسات بما فيها دراساتنا تربطه بوجود الفقر(24،25). إن الفقر وما يرافقه من شعور باليأس والإحباط يزيد وتيرة المشاحنات الزوجية ويزيد من شعور الزوجة بالمهانة(26). كما إن الفقر يزيد من شعور الرجل بالإحباط خصوصاً لجهة فقدانه لدوره كممول للأسرة. كما أن الوضع بتفاقم أكثر حين يحرم الأزواج نسائهم من المال كوسيلة تأديبية. أن المأساة هي أن الفقر في آن مسبب للفقر وفي الوقت نفسه سبب كاف للضحايا لعدم التفكير في الانفصال من هذه الشراكة البائسة.
إن العطالة (لفترات بسيطة أو طويلة) وهاجس البحث عن وظيفة يزيد من احتمال حدوث العنف الأسرى(27،28). كما ترتبط العطالة بازدياد إمكانية إدمان الخمور والمخدرات وكلاهما يفاقم إمكانية حصول العنف الأسرى(23). كما أن صلة العطالة بالفقر معلومة. إلا أن بعض الباحثين يرى أن مجرد إيجاد الوظيفة قد لا يمنع وقوع العنف الأسري(29). إذ أن الإجهاد والصعوبات المهنية أثناء العمل ربما تقود إلى العنف(28). كما أن زيادة فرص عمل المرأة قد تولد ضغوطات ربما تزيد في معدل المشاحنات الزوجية(29). ففي مجتمع محافظ مثل مجتمعنا فإن عمل الزوجة مع عطالة الزوج ربما تمثل تهديداً لدوره الموروث ثقافياً كممول وحامٍ للأسرة وبالتالي تتولد الصراعات بينه وبين زوجته.
من محددات العنف الأخرى محدودية أو عدم التعليم(27). إن صلة العنف بالتعليم يعود إلى سوء مهارات التواصل لبن الزوجين خصوصاً في حالة وجود فارق تعليمي كبير بينهما (30). كما إنه في مجتمعنا تعتمد فرص الحصول على وظيفة على مستوى التعليم.
وهناك عوامل أخرى مثل إدمان الخمور والمخدرات تلعب دوراً كبيراً في حدوث العنف(27). فبالإضافة لآثارهما الكيمائية والبيولوجية في تهيئة المدمن وجعله أكثر اندفاعاً للعنف فإنها تقود إلى فقدان الوظيفية والفقر وبالتالي تزداد وتأثر المشاحنات الزوجية(23). كما هناك تقارير تشير أن فترة الحمل تزيد مخاطر حدوث العنف وتجعل الأذى الناتج عنه أشد(31). وقد وجدت دراسة أمريكية أن حوالي 41% من النساء المراجعات لأحد مراكز رعاية الحوامل قد تعرضت لحوادث عنف أثناء فترة الحمل(31). وقد تكون التغييرات الهرمونية التي تحدث نتيجة للحمل سبباً للعنف حتى مع أبسط التصرفات من قبل المرأة مثل رفض الممارسة الجنسية أو التقصير في واجباتها المنزلية.
وتبقى كلمة عن الأزواج الذين يمارسون العنف. فبالمقارنة مع غيرهم فهم يكونون أصغر سناً وفرصهم في العمل أقل كما أنهم يعانون من مشاكل مثل الإدمان والأمراض النفسية أو ذوى شخصيات غير سوية(24). لكن هذه العوامل ليست العوامل الوحيدة المحددة للعنف عند الأزواج فأي رجل يمكنه أن يمارس العنف ، كما أن هناك من ممارسي العنف من يعيش حياة سوية تماماً سواء في عمله أو في محيطه الاجتماعي!
خاتمة:
إن العنف الأسري مشكلة ملحة في مجتمعنا. وتبدو الحاجة ماسة لاجتراح برنامج قومي متعدد التخصصات للتعامل مع هذه المشكلة بمشاركة الأطباء ، المنظمات الطوية ، الجامعات والمصالح الحكومية ذات الصلة مثل الصحة ، الشئون الاجتماعية والجهات العدلية وغيرها. هذا البرنامج يجب أن يهدف لزيادة وعي الرأي العام والجهات ذات الصلة بوجود وحجم المشكلة ، ويهدف أيضاً لتوفير الخدمات الطبية والدعم المعنوي والمادي والعون القانوني للضحايا. ويجب أن ننوه إنه لما لم تظهر للعيان فوائد ملموسة للضحايا فأنهن سوف يترددن في التعاون مع هذا البرنامج (إذا كان دوره سوف ينحصر في مجرد كشف الحال!) كما يجب أن نقترح إجراء تعديلات في مناهج الكليات الجامعية ذات الصلة بالمشكلة مثل كليات الطب والتمريض العالي والبوليس وأقسام علم الاجتماع بإدخال كورسات عن العنف الأسرى وتقترح كحل إسعافي عاجل بإصدار دليل قومي للأطباء لكيفية كشف والتعامل مع ضحايا العنف الأسري في مختلف التخصصات الطبية.
أما بالنسبة للباحثين المهتمين بهذا الأمر فإننا نقترح إجراء دراسات على مستوى المجتمع ككل (Community - based) لتقصي وجود ومحددات العنف الأسري مع تطبيق مناهج بحثية لتقليل الحصول على نسبة حدوث أقل من الواقع (Under-reporting) مثلاً بإدخال نساء الريف والنساء الأميات. كما نرجو أن تشمل دراسات المستقبل تأثير نوع الشخصية وغيرها من الخواص السيكولوجية على ظهور العنف كما نرجو أن تشمل أيضاً الحالات النادرة للعنف الذي يقع على بعض الأزواج من زوجاتهم.
د. عوض محمد أ حمد
أستاذ مشارك كلية الطب ، جامعة بحر الغزال ، الخرطوم
للمراسلة
تلفون: 0912344936.
hotmail.com@Awad_sd