حاشية على متن كراسات كمال الجزولي … بقلم: عالم عباس محمد نور
3 February, 2009
(أم درمان تأتي في قطار الثامنة)
amohamedNor@isdb.org.sa
كراسات أربع ضمنها الشاعر كمال الجزولي في مجموعته التي اتخذت اسم (أم درمان تأتي في قطار الثامنة)، وهو نفس عنوان الكراسة الثالثة. الكراسة الأولى (من دفتر يوميات أم درمان)، والثانية (القصيدة الجبلية)، والرابعة (عزيف الريح خلف بوابة صدئة).
تتميز المجموعة بأناقة الطباعة وجمال الحرف والضبط اللغوي الدقيق، مما يكشفي عن جهد وعناية فائقة، بذلها كل من الشاعر والناشر. هذا عمل يعتبر أنموجاً لما ينبغي أن يكون عليه مستوى النشر بعامة، والشعر بخاصة.
يقدم الشاعر إضاءة مهمة عند مفتتح كل كراسة، تشكل بوصلة باتجاه قراءتها. ومن المحاسن التي تعين على استيعاب الكراسات أن كل قصيدة أثبت الشاعر تاريخها. وهنا تنبغي ملاحظة أن الكراسات لم تتبع نهجاً تقويمياُ (كرونولجياً)، فقصائد الكراسة الأولى تتناثر مابين الأعوام (1970 -1984)، الثانية (1967 – 1988)، الثالثة (1969-1992) والرابعة (1989-1999). لذا فالإضاءة التي تفتتح بها الكراسات، ربما لمَّحت إلى فهم منهج التقسيم، ومضمون كل كراسة.
المجموعة بصفحاتها الثلاثمائة، إلا اثنتين، وبقصائدها الخمس والخمسين تشكل عالم كمال الشعري المتنوع الزاخر، سواء باللغة أو التصوير، أوالغنائية العالية، والثورة، والوفاء للوطن ولشعبه، واتخاذ المواقف، والرؤية والتأمل، والبعد الإنساني والفلسفي، في أحواله المتقلبة، الثائرة، والحائرة، والمتأملة والمتفاعلة. في حنينه وعشقه، وصفائه، في حنوه وأبوته، وتبعُّله، ومصافاته وصداقاته، في غضبه وانحيازه ومؤاخاته ومعاداته، وكل ذلك في شعر يمتاز بأسلوب فريد وبلغة لا تشبه إلا لغة كمال. ينفلت من قيود الأوزان الصارمة، ولكن لا يفارقها إلا ريثما يعود إليها. يلازم شعر التفعيلة، ثم ينسلخ عنها، ثم يلتزم بأوزان الخليل، ثم لا يلبث أن يقلع عنها ، ربما تأليفاًً:
هـذا المسـاء تـشابه البقـرُ قد صـد عصفك عن آذانها الوقرُ
فاشـدد إليك صباحك، لا يعتمه شـبه الرجـال بآلاء له كفـروا
وإذا أصابك مما أنت فيه أذى فاصبر جميلاً، وقل: طوبى لمـن صبروا
(ص165)
أو تضميناً:
جدار الدجى أعمى عيوني وفي يدي تهافت مصباحي كدمع مبدد
وأين بلادي؟ كل وجه رايته قناع وأخشى صدق وجهي المجرد
متى عزلتي تنجاب عني وترتضي عيونيَ صبحاً، ضوءه لم يقـيد
(ص 187)
أو ربما خلع كل ذلك، والتجأ إلى موسيقى من صنعه، مما يتحسسه قارئ هذه المجموعة في أكثر من مكان في ثنايا الشعر المبثوث. وقد يلحظ القارئ عناية كمال بالصورة الشعرية، ففي طيات القصيد، مهما كانت درجة إحكام اللغة( وشاعرنا شديد الصرامة في هذا الأمر)، تجده ربما فضَّل اللفظ الدارج، أو الأقل فصاحة، ولا يبالي إذا كان يصور ما يريده بشكل أفضل كقوله:
(هيا
إقبل
مرحب .. وحبابك ألفين
إن لم يحملك الرأس، أشيلك فوق
الكتفين)! (ص 132)
يمتاز كمال بتوليداته اللغوية والتصويرية، مما يكاد ينتج قاموساً خاصاً به، فمثلاً تجد تعبيرات مثل: (صار كلانا أكثر حزناً من كلينا) ، (عيونهم تفاصحت باللغة الوحيدة)، (مشبوحة العيون فوق النيل)، (جلجلة الحق أم لجاجة المماطلة)، (صبية صأوا كما القرود)، (شلالاً من اللهب المجلجل في العيون)، (تيممنا حجر اليأس)، (ياورد القبر وشوك الشِعر)، (أغرابٌ موتى، يا ضيف الموتى الأغراب)، (فلتحموا لاءاتكم كي لا تكون ثغرة)، (الأرضة ما زالت تمضغ التراب)، (شاخت الكلمات في شرخ الصبا الرقراق، جف دم القوافي البكر)، (بيارق الأكفان)، (سواحر شمط)، (الشؤم غرغر في لهاة الفجر)، (ما كل رجّاس بشقشقة)، (يربدُّ صفو النهر، ينهد صلد الصخر)، (الزمن الراكد في إغماءته)، (أخجل حتى يخجل خجلي من خجلي)، (صليل العتمة)، (عينا سيدتي تتقدان الآن ثمارا)، (صوان النشيد، أسياف اليقين، صهباء الحنين)، ( وكثير شجوك في الأسى شجن قليل)، (المأسور في جلباب سقطته العظيمة)، (الرعود المستغيثة كالولايا النادبات)، (أرامق طيفك الساري)، (نحن أمسينا حريقاً رائعاً)، (وغيمة الدخان إذ تقرمدت)، (نشق ثوب هذا الحلم نذرو غزله للريح)، (كالنثيث يا حبيبتي ننهلُّ من نوافج المطر)، (هشاب اليُتْم)، (ترجرجين بالرفيف العذب وحشة السكون)، (تثقبين الحلم بغتة، كنصل عشبة)، (عن"فيش" القوس، و"بصمة" الوتر)، (كنجمة ساخنة)، (تشهق نخلة في الماء)، (قيامة النوار قامت، أول الشدو استفاق)، (مرجانة الغناء)، (مرايا الصلف البللوري)، (كالوشم الناتئ فوق جباه الفرسان الدينكا)، (كحفاوة شيخ ملحاح، وأذان مسيدٍ بيَّاح، وكلثغة بنت ريفية)، (رقائق البكاء)، (صيدحين من بواشق البروق)، (الأضابير المزنرة)، (بيضة العدل)، (تطلق أحصنة البرق صهيلها الفضي)، (تلاصفت في الشمس رايات النحاس)، (موكب النصر الزنيم)، (تبرطم أو تشنشن بالمعاذير الكسيفة)، (نشْعُ القرنفل في رئة المدار البعيد)، (وكل جنرالٍ تميمة من النحاس والحزمة الملونة)، وربما يجد القارئ أكثر مما أوردت.
ستجد في دروب شعر كمال الكثير من المفارقات الطريفة والمقابلات المتناقضة، فهو يستخدم اللفظ مكان الصورة، أو هو بالأحرى يرسم لوحة سينمائية بالكلمات ويستعين بالجرس الخافت، في الغالب، حتى لاتطغى موسيقى الكلمات على الصورة التي يرسمها أو يرصدها في الواقع، وستجد اثر القرآن الكريم واضحاً في غير ما مكان من قصائده، ليس فقط استدعاء معانٍ وتعبير، مثل ما جاء في قصيدة (دون كيشوت يحاور ظله):
(جاءوا عصبة،
ليست تزاور عن زوايا كهفهم
شمس،
ولا كلب لهم ..
بسط الذراعين المعبأتين
نوماً
بالوصيد)
أو في قصيدة (شهقة النضار):
(فيا جبال أوّبي،
ويا طيور قرن في وكونكن،
ويا حديد لِن،
ويا عيون القطر،
إن القطر ظامئٌ إلى المسيل)
بل ويورد نصوص آيات كاملة يضمنها مقوسة، في جسد القصيدة، فستقرأ الآيات41، 42 و 43 من سورة يونس، مثل رقية أو تعويذة تحرس القصيدة، كما جاءت في (خمس رقيات ضد الغفلة ، ص 101).
ثمة العديد من الجوانب التي يمكن استكشاف الشاعر كمال من خلالها، فلسفية أو سياسية، جدلية المكان والزمان، وغيرها، فالمجموعة تغري بالنظر والدراسة.
وأما الحديث عن الناس والشخوص والأماكن في شعر كمال، فهذا يحتاج إلى مبحث بحاله، وربما تصدى لذلك بعض الدارسين، فهو مبحث غني يحتاج إلى سبر وتحليل وحس نقدي لماح. على أني أختصر تأملاتي في جزء منه، فأتقصى أثر أم درمان وأهلها وشخوصها بين ثنايا هذه الكراسات الأربع.
أثر ألق المكان وعبق الزمـان في
تشكيل القاموس الشعري للمجموعة:
(أم درمان ليست تغتصب
أم درمان ليست مومساً
رهن الطلب،
أم درمان عطر الروح، روح العطر، بذل القادرين،
تميمة الدنيا ومفتاح القصيد،
ولهذا نحن،
يا شعبي العنيد،
نولد كل يومٍ في ملاحم رفضها العاتي،
ونطلع في أناشيد الغضب)!
(نقوش مستعجلة على هوامش منشور سري ص199)
أم درمان عطر الروح، روح العطر! ربما كان من المناسب أن أتخذ المطلع أعلاه، بوّابة للولوج إلى أم درمان عبر كمال، فهنا، تتجاوز أم درمان، حيزها الجغرافي والتاريخي لتتحوّل إلى جينات يتخلق منها الشاعر جسداً وروحاً، حتى إذا نأى، مهما نأى لم تفارقه، فهي ممزوجة بدمه، هي أمه! وهذه اعترافات الفتى الشقي المتمرد المارق، يعترف في الساعات الحرجة ببعض فضلها، فيناجيها بحنو وانفعال وغضب:
(أسرج العشق حصانه
فعرفت أنك أميَ الدرُّ الأمانة،
وعرفت أنك أمّيَ الدرُّ الخيانة،
وعرفت أنك أميَ الدرُّ الذي وشّى
أراجيح.. المشانق،
فلتغني الآن
ما شئت
على
قصف الصواعق
ولتدوري الآن ما شئت
على وهج الحرائق
أنتِ
يا وطني المسجى
بين أعصابي
وفوهات البنادق!)
(الركوب على ستة جياد في زمن واحد ص173)
تتجلَّى ملامح أم درمان في شعر كمال في الناس والأماكن. فأما الأماكن فيرسم كمال لوحات ، بعضها اختفت هذه الأيام ولم تبق منها إلا صور وذكريات وأحاديث يتسامر بها أهل أم درمان يجترون بهاء ماضيهم الذي كان، وبعض علامات ما تزال باقية مثل أطلال الطابية والقبة والخور! ولما كان سوق أم درمان، حتى أوائل السبعينات، ذا معالم أمدرمانية خالصة، اندثرت اليوم وحل محلها ما لا يشبهها، فانظر قول كمال هنا:
(شغل السوق كان يرى
بالعين
من أول المقاهي،
حتى آخر الطواقي .. كان
يرى
بالعين
من أول الجلود.. حتى آخر السروج
كان يرى ..
بالعين
من أول الصاغة .. حتى آخر الزريبة،
.......................
.......................
والآن ..
تنبت المكاتب
المريبة
فوق هشاشة الدكاكين، فتنبت ..
المصيبة)
(الشغل ص 41-42)
أو صورة الجامع العتيق:
(في أخريات الليل
تحت سور الجامع الكبير
يزحف مجذوم واهن .. إلى
صدر مجذومة واهنة
ويعتنقان ..)
لا يقتصر الأمر إذن على المعالم التاريخية، وأم درمان عبق التاريخ السوداني بلا ريب، بل يتعداه إلى الحركة اليومية. وهنا يلاحظ المرء أن شخوص كمال تتحرك ليلاً، بصفة خاصة، وتكاد أغلب الصور التي يرسمها لأم درمان تكون صوراً ليلية، أو أوائل الفجر، ولعل أكثر المشاهد إثارة (وقد اختفت الآن، كما أظن)، منظر الأبقار في الهزيع الأخير من الليل، وهي تساق، في مراح كبير وجلبة، لتعبر الجسر، من أم درمان أو إليها، وهو الزمن المسموح آنئذٍ لها بالعبور. ذاك مشهد في غاية الدراما، والإثارة، يعالجها كمال بذات الإثارة:
(في
هدأة الهزيع الأخير
وقبل
أول الفجر
تتدفق الأبقار والثيران في سكة ..
الجسر،
مظاهرة
من
القرون
والأفخاذ
والحوافر
تراطنت
على ظهورها
السياط
والحناجر
......................
......................
أيتها المدينة النائمة،
أيتها المدينة المستكنة .. في ذاتها،
ويا امرأتي الحبلى ..
بسرها الخطير
عليكِ،
تُرَى
أم على القطيع
تستثار، في مثل هذه الساعة ..
الخناجر)؟!
(رؤيا ص 75-77)
هذا المشهد الليلي، يتكرر كثيراً في شعر كمال، ذلك أن النشاط الحقيقي لأم درمان يبدأ بذاكرة الشاعر في تلك الساعات. وقد تحدثنا بإيجاز حول وقت حركة الشخوص، فماذا عن الشخوص ذاتها،؟ من هم؟
من الوهلة الأولى تجد الشاعر ينسرب إلى الأعماق البسيطة الكادحة التي تمثل في الواقع روح أم درمان، وهم سكانها رقيقو الحال (البسطاء) في معاناتهم اليومية، وكدهم من أجل الحياة، تحركهم روحهم السمحة ونبلهم وأخلاق الفرسان (التي تكاد تنقرض الآن)، حيث اللصوص لا يتعدون على ضعيف قليل الحيلة، وحيث سفهاء القوم لهم مثل يحترمونها، وضوابط لا يحيدون عنها، حتى وإن أجرموا( أخلاق روبن هود والهمباتة وهلم جرا). شخوص كمال تشبه، بل هي نفسها الشخوص التي كتب عنها علي المك في أقاصيصه وحكاياته، تلك الشخوص التي تحدث عنها كثيراً الأستاذ شوقي بدري في كتاباته التوثيقية الرائعة، وهم أشبه ببؤساء (فيكتور هيجو)! هؤلاء البؤساء، تجد فيهم روح الترفع والمروءة، وتجد فيهم العفة، وسماحة النفس، ويتتبعهم كمال في أحوالهم العديدة، عسساً و(حرامية، صُيَّاع) ومرضى ومجذومين، أنماطاً، وأخاليط وسحنات وقبائل عديدة مما استوطنت المدينة فشكلت منها نسيجاً فريداً. تعال نتتبعهم مع كمال:
(هذا الهزيع
نلتقي اللصوص المساكين ..
يسألوننا
- أو نسألهم-
عود ثقاب؟!
نبصر البيوت الموصدات في وجوهنا
نعرفها،
باباً
فباب
دورية البوليس
من فوق الجياد الناعسات
تسأل عن وجهتنا
وكلاب الحي،
حولنا
تستنبح الكلاب)!
(سهرة ص 18)
هذا المشهد الليلي يستمر حتى إذا انبلج الصباح، أو أوشك:
(تتفتح الأزقة عن أول الراكضين
فَعَلَة، رجالِ شرطة، خفراء عائدين،
ربما من عمل الليل،
أو يلحقون، ربما،
بالنوبة الأولى..
وصبية غافين، مثلما حطب الوقود
في مقلب القمامة،
يحلمون
بالإله،
ونسوة يتركن في أسرّة الحبال،
رُضَّعاُ
مبللين كالمناشف
يركضن،
دغش الفجر،
خلف الخبز ياترى؟!
أم ترى يركضن للصلاة؟!
وباعة اللبن المغشوش فوق حمير..
ساهمة
تنابحت
من حولها
كلاب هائمة!)
(جري الوحوش ص 22-23)
هذه الحياة في بساطتها المتناهية، بل فقرها المدقع، ومنظر باعة اللبن المغشوش، والأمهات اللائي ليس لأطفالهن سوى فراش خشن من حبال من السعف مجردة، دون مهاد أو دثار، لحظة وينطلق كلُ سعياً في الرزق معزين أنفسهم بالمثل الساير ( تجري جري الوحوش، غير رزقك ما تحوش)!
(حزمٌ من التكرور
والنوير،
حزم من..
الفُور،
والشُلُكْ
حزم من الدينكا
ومن
النوبا،
ومن البدو.. النازحين من كل الجهات،
حزمٌ من
الألسن
والهموم
والسحنات
تكدسوا في مدخل البنك العتيق،
ينتظرون رزقهم
تأتي به السماء .. في هذا الصباح،
ولم يفكوا، بعد، ريقهم)!
(إغتراب ص 29-30)
و(البنك) عند كمال، وقد تردد ذكره ثلاث مرات في هذه المجموعة، لا يرد إلا رمزاً للاستغلال والجشع مع اللصوص والسماسرة، والذين يعبدون المال، فهم عكوف عليه ساجدين (كرري ص 35) ـ (خمس رقيات ضد الغفلة ص 100).
شخوص كمال فيهم الأطفال المشردون، الذين تستقوي عليهم الدولة بكل جبروتها، وتحجم عن ذوي النفوذ وأهل الفساد:
(بالسياط
وبالألسن الحداد كالسياط،
وبالقاضي المهيب، والشرطي
والسجان،
رأيتها
الدولة
تركض خلف نشال صغيرٍ
لتحفظ الأمان،
وخلف صبية صأوا ..
كما القرود
كراً .. وفراً
في محطة الوقود
بنَشَقٍ يجود العامل الليلي .. ربما
أو لا يجود،
وخلف باعة زغب تقافزوا
في زحمة السوق الكبير .. كالجرذان)!
وأم درمان كمال، ترقب فيها زائر الضريح أو القبة، وهنا يتخير كمال لفظاً زاخر المعنى في القاموس الأمدرماني .. لفظ (المهاجر)، وإسقاطاته العديدة، فالمهاجر، فيما تختزن الذاكرة، يعني الذي يهاجر لقراءة القرآن (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة..)، ويعني أيضاً من هاجر إلى نصرة المهدي عليه السلام. والمهاجر يعني زائر ضريح الإمام من الأقاليم المختلفة، وربما من الجزيرة أبا! كمال يصور هذا المهاجر في ذروة نشوته الروحية الطاغية:
(مهاجر
كسيح
على عكازتيه
شبَّ
عانقت أشواقه أهلة الضريح
وحالما ارتوى، واحتقنت عروقه بفضة ..
القباب
ثوى،
كالجرو،
في التراب
فانطلقت،
بملء شجنها الشفيف،
روحه،
تعبِّق،
بالصهيل العذب
جامع الخليفة الفسيح)!
(تلاشي ص 68-69)
عبق المكان يفوح وينداح، ويرسم لنا كمال صورة حية تلقطها العين الشاعرة، وتحس إحساسها وتفردها فتشمل حتى الكلاب والقطط، فحتى مواء قطط أم درمان، لها نبرة متميزة:
(القطط الهزيلة السوداء
تقافزت
من
حائطٍ
لحائطٍ
في
أول
المساء
وحالما صدح الأذان
في جلاله
ونشر الفضاء خلفه غلالة المغارب
الحمراء،
قفّعت أطرافها
ومططت أعناقها
وانسلَّ جارحا، من جوفها الخاوي ..
المواء،
كما العرائض البليغة المرفوعة .. للسماء)!
(بلاغة ص 69-70)
ومجالس أم درمان حاضرة، ولكن كمالاً ينظر إليها نظرة كاريكاتيرية نافذة، من خلالها يفضح أخلاق الناس، دون موعظة، فقط بتقديم صورة سينمائية لواقع يدين نفسه من سلوك بعض الذين، حتى في جلال الموت، لا يتورعون عن سقط القول والكلام الذي لا يليق مع المناسبة، ولكن هذه سمة من سمات مناسبات أم درمان! ولقد سبق كمالاًً من قبل الشاعر صلاح أحمد إبراهيم في إحدى قصائد غابة الأبنوس حين قال:
(.. ..
مات ولم يترك تذكار
مات، وهاأنذا أسمع صوت مناحته في الدار
مات وشيعناه، وصلينا
واستغفرنا وأنبنا
بعد بكاء حار،
وأتى من لم يعنيه الأمر ولم يحزن
جاء ليشرب قهوتنا،
يغتاب الناس وينتهك الأسرار)!
هي نفس الصورة، ونفس العادات، وما تزال! هو ذا كمال يرسم بكلماته صورة كاريكاتورية إذ يقول:
(صلينا،
وتناجينا،
في كرة القدم، خبايا الجنس، مضار
التبغ، مذاق القهوة، قفشات الظرفاء،
وآخر أسرار الوزراء،
المدراء
الأغوات
ثرثرنا، وتجشأنا، وتمخطنا، ما شاء الله لنا،
ثم هجعنا
وتساعلنا،
وتثاءبنا،
برئات السم القاتل،
ضاجعنا،
كقطيع سلاحف،
فوق فراش الموت
الزوجات!)
وفي مثل هذه المناسبات، لا يغفل كمال أن يتحفنا ببعض الشخصيات النمطية التي تشكل هذه المدينة الفريدة، فمنهم هؤلاء المتحذلقون كثيرو الجعجعة، قليلو الفعل، الحالمون دون أي همَّةٍ سوى ليّ باللسان و(تمليس) الكلام وتزويقه، أو كما يسمى عندنا (ود أب زهانة)، وهنا لا يكتفي كمال بإيراد اسمه كما اعتاد الناس أن يسمونه، بل استحدث له اسماُ يتماشى مع تقعره ويمثل شخصيته الفارغة كما يجب (ألم أقل إن كمال يصوّر باللفظ؟)، فبدلاً من (ود اب زهانة!!)، سمَّاه (ابن أبي زهانة)! وتبدو المفارقة صارخة في مدلول الاسم ومنطوقه!
ويستطرد كمال في رسم شخصياته الأم درمانية الكاريكاتورية، فيسخر من الذين سماهم العسس الوعاظ:
(...
رأيت العسس الوعاظ
يحلبون التيس، جهرةً
ويدخلون
الجمل
في سم
الخياط)!
(تركية ص 59-61)
وللطغاة المستبدين صورة أمدرمانية تشبههم في أفاعيلهم وألفاظهم، وأدوات التنكيل التي يمارسونها في عباد الله:
(كاهنك تمترس..
خلف الأسلحة البيضاء، وخلف الأوراق
الصفراء
اصطنع
أناجيلاً للمنع، الصفع، الركل، السحل، الذبح، النفخ،
السلخ، الملخ، الشنق، الخنق، الشدّ، المدّ، العضّ،
تربص عند الناحية الأخرى
بامرأة زائغة النظرات
تسمى الأرض)!
...
(لا بأس ..
قدري أن أهتف للأعور:
أعور،
أن أعلن، زمن الشدة والتضييق:
البغل
الأسود
في
الإبريق)!
(البغل الأسود في الإبريق ، ص143-144)
شخصيات كمال دائماً مع المستضعفين، ينجذب إليهم جبلةً، ولعل أوضح صورة لانحيازه نحوهم سجية، ، تفصح عنها بجلاء عميق مرثيته للشاعر الضخم محمد المهدي المجذوب، والتي اعتبرها شخصياً، من أفضل المراثي التي قيلت في رثاء شاعر الشعب، وأشجاها وأغناها. وعند النظر في هذه القصيدة نجد أن كمالاً، لا يرى المجذوب إلا من خلال تغلغله والتحامه بالناس في أعماقهم النقية، شيخاً منهم يحمل راية الصدارة فيهم، (شيخهم)، ومن خلال بؤسهم النبيل، كمال يناجي المجذوب، ويستغرب:
ـ (كيف يفرش أرهف العشاق فروته الرهيفة ..
وسط هذا الحصرم المسموم،
والجمر المنقى،
والحتوف المسرعة!):
ـ (الله .. يا شيخ الصعاليك اليتامى)!
ـ (الله .. يا شيخ القضايا الخاسرة)!
ـ (الله .. يا شيخ الرؤوس الحاسرة)!
ـ (ويا شيخ القلوب الواجفة،
من قدرة الشعب
ويا شيخ الصفا.. والعاصفة)!
ـ (الله .. يا شيخ الصدور العارفة)!
ـ (الله .. ياشيخ الهموم الناقعة)!
ـ (الله .. البشارة من زمان الواقعة)!
ـ (وقل لي ..
يا نديم السهد، والتذكار،
والأرق المقفى)!
ـ (الله .. ياقلباً تلظى
في سعير الصدق،
والموت الزؤام ،
فما يكون الموت نزفا)؟!
ذلكم من بعض شخوص كمال في أمدرمانه. على أن المرء، ربما يلحظ في هذه الكراسة أمدرمانيين غابوا هنا، كأصدقاء كمال من حي المسالمة، جيرانه في الحي، الأقباط والهنود، وهم نكهة أخرى في أمدرمانيات كمال، ربما ذكرهم كثيراً نثراً في مقالاته العديدة، وربما غابت ملامحهم في جوف أم درمان الواسع، وانمحت ملامحهم داخل تيار القصيد الأمدرماني العظيم، أو ربما اختبأوا في قصائد أخرى لم تظهر لنا بعد.
"أم درمان تأتي في قطار الثامنة" عمل شعري رفيع. ولئن احتلت أم درمان من هذه المجموعة كل هذا القدر، فلأن أم درمان، وقد غنى لها الشعراء ما غنوا، ما تزال تلهم وتستأثر بالغناء، وترفده بالمعاني العظيمة. فهي ليست مدينة، وليست حيزاً زمكانياً، أم درمان روح يسري في أنفس عاشقيها فتفتنهم كما فتنت كل من غنى لها من (فتيح للخور للمزالق)، وفي طقس لا يتم إلا بطريقة الدراويش التي تقمصها خليل فرح (قدلة يا مولاي حافي حالق، في الطريق الشاقيه الترام)! أو كما قال كمال:
(شكراً لكم يا سيدي!
.......................
.......................
ومضيت
يعلكني الرصيف!
.......................
.......................
كيف انتظارك
يا أسى القلب اللهيف؟!
كيف انتظارك،
كنت أنت ،
ولا تزال
متوجاً في خاطري
رجع الصدى،
تمتد،
تشمخ..
-" لي ربوع أم در جبال ..
آل
آل
وتقوم جسراً ..
-" من جنان شمبات حبال ..
آل
آل!
متوحداً،
تهمي عيونك ..
- "في حزا الخرطوم قُبال
آل
آل
وأنا .. أنا،
فوق المحطات العتيقة،
كنت .. كنت،
ولا أزال،
طمبورك المجبول من عرق الجبين الحر،
من نشع الدعاش،
ومهرجانات الخريف،
كيف انتظارك .. يا أسى القلب اللهيف)!
(ام درمان تأتي في قطار الثامنة ص 234-235).
عالم عباس
جدة/ 25/أغسطس 2007