من بلاد العم سام: خواطر وزكريات (2)
شهاب الدين محمد علي
14 March, 2009
14 March, 2009
شهاب الدين محمد علي/أيوا/الولايات المتحدة
قصة شهادتين
(مهداة إلي القائمين بأمر التعليم العالي في بلادي)
جامعة نورثن أيوا.تأسست عام 1876. هكذا تعلن اللافتة العملاقة المنحوتة علي برج في فنائها الواسع. قادتني إليها قدماي الشقيتان ألتمس من علمها علما . كان الجليد يغطي كل شيء . الشوارع، أسطح المباني العتيقة وحتي أعالي الأشجار كانت قد نالت حظها الوافر من الجليد الأبيض. لكن ياسادتي هذه قصة اُخري كما يقول أديبنا وحبيبنا الراحل المقيم الطيب صالح ،أنزل الله شآبيب رحمته علي قبره بقدر ما كتب فأبدع وحكي فأمتع.
إستقبلني رئيس القسم المعني. كان رجلا تخطي الكهولة ويخطو نحو الشيخوخة بخطي حثيثة. سألني: كيف يمكنني مساعدتك؟. أفضيت إليه برغبتي. طلب شهاداتي. أعطيته أياها. قام بنفسه وعمل نسخا منها. قال لي أنه سيعمل التقييم اللازم في مثل هذه الحالة وسيخبرني بقراره. وقد كان. لم يمض وقت طويل قبل أن يحمل إليَ البريد ذات يوم قراره. قال أن ما تحصلت عليه من درجات في بلادي السودان لاتؤهلني للإلتحاق بالجامعة، لاسيما أنه قد مضي ما يقارب العقدين من الزمان منذ تخرجي. لكنه بعثني لمديرالقسم الثاني. قام هذا الأخيربمشاورة بروفسور آخر.بعد مشاورات عاجلة أبلغوني قرارهم. قالوا: نحن لانعتقد أنك يامستر ألي (علي) تستطيع أن تتنافس مع طلبة نالوا أعلي الدرجات ومنذ فصل دراسي واحد فقط وأن تعود لمقاعد الدراسة بعد كل هذه السنين. حتي وقتها درجاتك كانت (مش ولابد). قلت لهم أنني سوف أُحاول كل ما في وسعي كي أنجح. قاطعني رئيس القسم الأمريكي ، وهم قل ما يقاطعون، قال:( نووو مستر ألي) ، لايكفي أن تحاول، أنت يجب أن تفعل كل ما في وسعك كي تنجح. أضاف: علي العموم، مستر ألي أنا لن أقف في سبيل طموحاتك. سأوافق علي قبولك بالبرنامج لسبب واحد: أن تثبت لي أنني كنت مخطئا حين قلت لك أنك لن تستطيع معنا صبراَ. قلت: قد قبلت التحدي. وتم قبولي طالبا تحت الإختبارلمدة فصل دراسي ريثما أثبت لهم جدارتي للدراسة في البرنامج. وقد كان. كنت من بين الطلبة القلائل الذين إجتازوا البرنامج بنجاح من أول مرة. حتي أن بعض الزملاء الأمريكان كان يسألونني كيف جاوبت علي هذا السؤال أو ذاك. (وطبعا ده مش فشخرة لكن الشئ بالشئ يذكر). الطريف في الأمر أنه في نفس يوم قبولي في الجامعة عدت فرحاً مسروراً إلي مسكني الذي إستأجرته. كان يشاركني فيه طالب أمريكي أبيض في الدراسات العليا. تعرفت عليه. و بعد( حق الله بق الله) سألني كم عمرك؟ عندما رميت له بالقنبلة قال ببساطة هذا بالظبط عمر والدي. ولكن، مرة أُخري، هذه قصة أُخري لن أعود إليها مرة أُخري، أوعدكم.
المهم ياسادتي أنني تخرجت في أقصر مدة ممكنة في زمن البرنامج. بعدها، عزمت علي أن أمضي في ذات السبيل، سبيل العلم، لكن هذه المرة في بلادي ، سوداننا الحبيب. وهنا تبدأ قصة الشهادة الأُخري.
أول يوم هبطت فيه في بلادي هرولت صوب (الجميلة والمستحيلة) التي تشرفت بالتخرج فيها منذ عقدين ونيف من الزمان. طلبوا الشهادات الأمريكية موثقة. كانت جاهزة بالطبع. طلبوا إذناً بتقييم هذه الشهادات من الخدمة الوطنية. نصحني البعض أن أبحث عن واسطة. وقد كان. ظابط برتبة لواء في القوات النظامية. أرسلني إلي صديق له برتبة عقيد. هذا بدوره أرسلني إلي نقيب والنقيب إلي نقيب آخر. أخيراً أنتهيت إلي شخص في ملابس مدنية. أعطيته شهاداتي التي أٌريد تقييمها. مد أليَ اُرنيكا جاهزاً وطلب مني كتابة إسم الجامعة بالعربية ففعلت.وهكذا بعد أربعة أيام حسوم كان إذن التقييم في يدي. فرحاً بالإنجاز الرهيب طرت إلي الجامعة.
طلبوا بالطبع مقترح البحث. جهزته سريعا.طلبوا شهادات جامعة الخرطوم موثقة. كانت جاهزة وموثقة كمان منذ عقدين من الزمان. ثم طلبوا الشهادة السودانية موثقة. كانت جاهزة وموثقة منذ مايزيد علي ربع قرن. فقالوا أن هذه الشهادات قديمة ولايمكننا قبولها. قلت الحل؟ يجب أن تذهب وتستخرج شهادات جديدة. ذهبت حيث أمروني. قالوا تذهب إلي الخدمة الوطنية وتستخرج إذن إستخراج شهادة جامعية و ثانوية. ثاني؟ عندهاغامت الدنيا في عيني وطاف بذهني مناظر صفوف الطلبة الواقفين علي الأبواب والشبابيك لإستخراج مثل هذه الشهادات. وتذكرت بداية رحلتي مع هذه الأبواب والشبابيك. وكيف لي أن أبدأ من بدايتها وقد أتيت بفترة زمنية ضيقة؟ قلت بيني وبين نفسي (ده طرفي منكم). وإن الله الغني.
من الغرائب أن موظف تقييم الشهادات طلب مني في ما طلب أن أقدم مايثبت له أنني كنت مقيما بصورة شرعية في أمريكا. وقد كان.لكن هب أنني كنت مهاجرا غير شرعي وإستطعت أن أدرس وأتحصل علي شهادة جامعية، مادخل هذا بتوثيق الشهادة؟ هل لاحظت عزيزي القارئ أن البروف الأمريكي لم يطلب مني هذا الطلب؟ في مرحلة لاحقة طلبوا بالطبع إثبات الإقامة. بعد التخرج أرسلت الشهادات إياها إلي وزارة الخارجية الأمريكية للتوثيق عن طريق البريد. بعد أيام حمل إلي البريد الشهادات موثقة وعليها توقيع (كوندي) شخصيا. وبما أنني كنت قد نسيت أرفاق رسوم التوثيق اللازمة فقد وجدت منهم خطابا رقيقا ينبهني علي أن أرسل الرسوم في أقرب وقت ممكن. وقد كان. هل لاحظت عزيزي القارئ كيف يتعامل هؤلاء القوم بسهولة ويسر؟ وهل هذا يفسر كل شيء كما يقول الراحل المقيم أستاذنا الطيب صالح؟
shihabedin@hotmail.com
شهاب الدين محمد علي/أيوا/الولايات المتحدة