مناحة الإنقاذ وسُـرادق العـزاء وحوائط المبكى بعد الجنائية الدولية … بقلم: عبدالماجد موسى
عبدالماجد موسى
15 March, 2009
15 March, 2009
بالرغم من الضغط على الأعصاب والبرود الذى تحاول حكومة الإنقاذ التظاهر به إلا أن ( المناحة ) التى أطلقتها وسرادق العزاء التى نصبتها وحوائط المبكى التى أقامتها تـُكذِّب ذلك خاصة بعد ورود الأنباء من لاهاى والتى أصبح فيها رئيس أكبر دولة أفريقية مطلوباً ومطارداً من قـِبل العدالة الدولية إلى جانب الوزير أحمد هارون والزعيم المليشيي كوشيب بتهم أقلها إنتهاك حقوق الإنسان وتعريض حياة الناس فى دارفور للخطر على مدى ست سنوات دون إجراء محاسبة أو مسائلة أو( لفت نظر بسيط ) وإن كان لمجرد ( تأنيب ضمير ) حتى هذا لم يجد طريقه للقضاء السوداني ( النزيه ) بل على العكس تماماً تحدّت الإنقاذ الجميع بطريقة سافرة ومتهورة ولم تراع ِ مشاعر الضحايا وحقوقهم أو تلتفت إلى سمعة هذا الوطن وإلام يؤدى هذا الطريق أو إلى أين يُفضى .
شئ مؤسف ومحزن ومؤلم حقاً أن نرى ما آلت إليه هذه البلاد بسبب عقلية الإنقاذ المتكلسة والصدئة هذه فى زمن يتوجب فيه الشفافية وجلي الحقائق على الأقل أمام هذا الشعب ، ولكن هذه الحكومة دائماً ما تتعامل بردود الأفعال والحمق والطيش والتحدي الفارغ وليس الفارق وتأخذ المسألة برمتها وتحصرها فى كلمتين هما ( يا غالب يا مغلوب ) فى حين أن من يحكم أو يترأس إتحاداً طلابياً أو وفداً أو قبيلة يجب أن يُراعي مصلحة الجميع ويستمع إلى العقلاء والحكماء منهم وينفذ توصياتهم أو مقترحاتهم دون تردد أو تأخير فما بالك بوطن كالسودان ؟
الإنقاذ الآن تثير الغبار حول نفسها وحول الجميع لطمس الأسباب الحقيقية وراء الملاحقة الدولية وإستطاعت أن تجر خلفها الكثير من المتشدقين والمنادين بإحقاق الحق لأنفسهم بالقفز فوق الحقائق وغض النظر عن الجرم الحقيقي فى دارفور وذلك بمطالبة الجنائية الدولية بمحاكمة الأمريكان والإسرائيليين والسوفيت ، ولكن ما أن ينقشع ذلك الغبار حتى تدرك هذه الحكومة ومن حولها ومن يقف خلفها أنها لن تجنى إلا ما زرعت وسممت حتى لو رفعت شعار الإستهداف أوأثارت حمية الجاهلية أو دغدغت مشاعر الوطنية التى لا نسمع عنها إلا فى وقت الكروب والأزمات ، وكل هذه الحشود المحشوة لم ولن تنفى حقيقة الموت والدماء والتشريد والجنون الذى حدث فى دارفور .
فتحريك العواطف بهذه الطريقة الضبابية بخلط الحق بالباطل والنفخ والنفث على المشاعر الدينية وإثارة القبلية هي السمات الطاغية فى مسيرة الإنقاذ العشرينية والنتيجة الحتمية لمثل هذه السياسات العوراء هو ما نراه الآن من الإهتياج والغليان والصياح والتهديد ثم الركود ونسيان كل شئ بعد إنقشاع الأتربة وسقوط الأقنعة وبزوغ شمس الحقيقة وكشف ستائر التضليل والمراوغة ، ففى كل الزيارات التى قام بها البشير ( داخل السودان ) وخاطب فيها الجماهير طوال ما يقرب من العشرين عاماً التى مكثها فى سدة الحكم لم يتجرأ يوماً فى مخاطبة عقول الشعب أو المنطق فيهم بل حرص وثـلته على تغييب ذلك العقل تماماً وإبعاده قدر المستطاع عن التفكير والقراءة المتعمقة والتحليل السليم للأحداث والتاريخ البعيد والقريب ليشارك بصورة حقيقية فيما يجرى أو يدور فى وطنه وظهر ذلك جلياً الآن بما نشهده من تحريك للعواطف التى لم تحل قضية ً فى يوم ٍ من الأيام أو تربطها .
لازالت الإنقاذ تتخبط حتى بعد مرور عشرة أيام على مصادقة الجنائية الدولية على مذكرة أوكامبو كعهدنا بها وكأنها كانت تتوقع من القضاة اللاهيين رفض المذكرة بعد التهديدات بحرق المنطقة وإثارة القلاقل فيها وعندما صدرت المذكرة طار صوابها وهرعت تتسائل فى إندهاش كما تسائل فى عبط ٍ من قبلهم هؤلاء الذين قالوا :
من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم ؟
لم يدرك المؤتمر الوطني أنه هو من قام بذلك أو أنه يدرك ما فعل ولكنه ( يتغابى ) وهاهو الآن بعد المذكرة الجنائية يحرك قياداته وأنصاره وسماسرته ولم ينتظر حتى تشرق شمس اليوم التالى من هول الصدمة وبدأ فى الصياح بأن الأمر كيدٌ دولي ضد السودان وساق حججاً لا تقنع إلا المستفيدين بصورة مباشرة من نظام الإنقاذ ثم ساق تلك الأكذوبة إلى الشارع وتبعها الموالون والفضوليون وكذلك فعل الذين كانوا بالأمس القريب يقاتلون الإنقاذ فى الشرق لأنها سدت عليهم أبواب التهريب والتهرب من الضرائب الذى أصبح الآن قانونياً وتحت حماية الدولة ( كمان ) وإلا فليفسروا لنا ما سر الأسعار ( الواقعة فى التراب ) هذه فى سوق الرشايدة بكسلا لدرجة تشعر أنك فى حلم إذا قارنت الأسعار فى هذا السوق وبقية أرجاء المدينة قاطبة وبالطبع هذا ليس سوى عدم دفع الضرائب والجمارك الذى أصبح مقنناً وإلا ستعود الأسود الحرة إلى القتال إن إعترضها معترض .
إندهشت كثيراً وتساءلت عن كيف يتسنى لمتمرد سابق لما يُسمى بالأسود الحرة وأعنى به ( مبروك مبارك سليم ) الذى أصبح بقدرة قادر وزير دولة بوزارة النقل والطرق والجسور فى جلسة مجلس الوزراء العاجلة أن يصرّح نصاً وهو يخاطب الرئيس ( من حقك أن تحمى هذه البلاد وهذه العباد ـ نحن معك وسوف نشد من أزرك )
شئ عجيب ما يحدث فى هذه البلاد !
فهذا الرجل الذى كان بالأمس القريب من المخربين والمهربين الذين ألحقوا ضرراً بليغاً بإقتصاد السودان وجنوا أموالاً طائلة جراء ذلك وعندما ضربتهم الحكومة الإنقاذية ( بيد ٍ من حديد ) وهي نفس الحكومة التى يشد من أزرها اليوم وصادرت سياراتهم ذات الدفع الرباعي صرخوا طلباً للنجدة وأثاروا حمية العرب فى الإمارات والكويت والسعودية وحملوا ملفهم الإجرامي إلى العقيد الليبي للتوسط لهم ورد الظلم الذى وقع عليهم وعلى أهلهم من طرف الحكومة الإنقاذية المجرمة كما وصفوها آنذاك !!
فأي مفارقة هذه ؟
وأي سخف هذا الذى يحدث فى هذا الوطن ؟
لقد أتيحت للإنقاذ ما لم يتح لغيرها من الحكومات التى مرت على السودان قاطبة ، فقد جرى فى عهدها المال الذى كان سيحفظ هذا الوطن من المكايدات والمؤامرات والأنفاق دون خسارة روح واحدة وينتشله من كل عثراته السابقة ويرقى به إلى مصاف الدول الآمنة على الأقل ولكن ذلك لم يحدث أبداً ولازالت الإنقاذ تمن كل صباح على الجميع قائلة :
نحنا بنينا 124 مدرسة فى دارفور
ورسمنا دستة كبارى
ونحنا الزحينا العشش من الخرطوم
ونحنا المسحنا صفوف العيش وكسرنا صفوف البنزين
ونحنا الحتينا الجراد
ولكنها لم ولن تتجرأ يوماً أن تسأل الأسئلة من شقها الثانى مثل :
ماذا عن الحريات الصحفية
والإعدامات الرمضانية
والبطش بالمتظاهرين وسحقهم ؟
وماذا عن السجن والتنكيل لمن خالفكم الرأي ؟
وماذا عن الفساد المالي والإداري ؟
وكم عدد المختلسين الذين شيدوا عمارات كاملة وامتلكوا سيارات فارهة وقد كانوا حتى الأمس القريب يأكلون وجبتين فقط فى اليوم إحداهما ( بوش )؟
ثم ماذا عن الأمراض التى تفتك بالناس شرقاً وغرباً ؟
كم كان عدد القتلى قبل مجئ الإنقاذ وما هو عددهم اليوم ؟
وأخيراً ماذا عن سمعة هذا الوطن من الجرائم والإنتهاكات التى حدثت فى دارفور ؟
وإذا طـُرحت أسئلة مثل هذه سيتضح للجميع أن حجم الخسارة والضرر الذى لحق بهذه البلاد ومستقبلها فى حكم الإنقاذ أكبر بكثير من الربح أو الإنجازات التى يرفعونها فى وجه الجميع على الريق كل يوم .
كل الذى تريده الإنقاذ من عروضها تلك أن يقول الناس أن الحال أحسن من سابقه ( واحمدو ربكم ) وهو تهديد مبطن لصرف الناس عن البحث فى سيادة القانون وبسط الحريات وإقامة دولة ترتكز على قوائم مستقبلية ثابتة لتنهض دون علل أو مزايدات ، ولا أعتقد أن حكومة تتطلع للأفضل والأكرم والأرقى لمواطنيها أن تتدثر بمثل هذه الترهات والديكورات لأنها بكل بساطة حقوق للإنسان السوداني فى المقام الأول وواجبات للحكومة ولم يدفع أياً من المسؤولين فلساً واحداً من حر ماله أو مما ورثه عن أجداده ليتباهى بأنه فعل كذا أو إفتتح كذا ، وليتأكد الجميع أن الحكومة إذا عبّدت طريقاً واحداً فإن تكلفة سبعة طرق أخرى قد دخلت جيوب المفسدين والفاسدين يعنى (راحت فى غضب الله ) .
وإن كانت الإنقاذ تعتقد أنها تغطى على جرائمها بتشييد السدود أو بناء الجامعات التجارية والبنايات الشاهقة فهي مخطئة ولتعلم أن مقتل شخص واحد لا يقاس بكل ما تظن الإنقاذ أنها قدمته للسودان بل يظل صفراً على الشمال لأن قيمة الإنسان والحفاظ على حياته لا تقارن بمثل هذا المنطق الردئ وإلا لكان قتل نصف عدد السودانيين ليعيش النصف الآخر فى ( بحبوحه ) مطلب شعبي ودستوري أيضاً !
أستعجب كثيراً للذين يربطون قضية ملاحقة البشير ونظامه بسبب دارفور بقضايا كل ٍ من فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان فى إصرار ٍ مفضوح ويتسائلون ليس عما حدث فى دارفور من إنتهاكات وموت وتشريد وتهجير وحرق بل عن السبب الذى لم يُقدم فيه مجرمون آخرون إلى ساحة العدالة الدولية كما حدث للبشير ؟
وسؤالى إلى هؤلاء هل إذا تمت ملاحقة من تشيرون إليهم لملاحقتهم دولياً هل تقرون بملاحقة البشير ونظامه ؟
إذا كانت الإجابة بنعم تكون مساندتكم الحالية للبشير نفاقاً وكذباً وضلالاً ليس إلا وإن كان ردكم بلا فكيف إذن تطالبون بالعدالة لكم وترفضون نفس العدالة لغيركم ؟
بالرغم من قناعتى التامة بأن ما حدث فى دارفور لا يشبه أياً مما حدث فى تلك الدول من قريب ٍ أو بعيد لأنها جريمة غير مسبوقة بكل المقاييس من نظام ٍ دموي يقتل ويُشرد ويُهجر مواطنيه ويحرق قراهم ثم يجبرهم للقدوم من تلك المعسكرات البائسة للهتاف له وهم يرقصون مذبوحين من شدة الألم تحت الشمس والهجير فقط ليثبت هؤلاء اللاجئون والنازحون والمشردون ( والمرمدون ) فى بلادهم للعالم الخارجي أن البشير برئ ( بالتلاته ) مما نـُسب إليه !!
أن يوفد النازحون واللاجئون متحدثاً بإسمهم ( كما ذكر أحدهم ) فى الزيارة الأخيرة التى قام بها البشير للفاشر بعد مذكرة الإعتقال بأنه جاء ليؤكد للرئيس أنهم بخير تحت حماية الحكومة الرحيمة لم أجد له تعبيراً غير أنه وصمة عار فى جبين البشير وحكومته وواليه ( كـِـبــِرْ ) الذى ذكر بأن البشير حكم وعدل ولكنه لم يقل لنا هل يستطيع البشير أن ينام تحت ظل شجرة قرير العين كما فعل بن الخطاب عمر ؟
دعك من النوم هل يستطيع البشير أن يسير فى طرقات دارفور وأزقتها دون حراسة المروحيات والجيوش الأمنية التى تصاحبه أينما حل أو توجه ؟
بل دعك من البشير يا ( كـِـبــِـرْ ) هل تستطيع أنت أن تسير على أقدامك مطمئناً فى شوارع الفاشر وبين ( الرواكيب ) فى المعسكرات كما يسير مئات الآلاف من الفقراء والمشردين الذين لا حول لهم ولا قوة ولا يرونكم خارج السيارات المكيفة الهواء أو المظللة إلا إذا كانت هناك حاجة ملحة إلى هتافهم وتصفيقهم ورقصهم .
كلما إدلهم الأمر على الإنقاذ تردد بأن الطريق الذى إختارت مسلكه تعلم تماماً بأنه طريق إبتلاءات ، وهذا القول مردود عليهم لأنه جاء لقلب الحقائق حتى يتماشى مع ما ترتكبه من حماقات وطيش وعدم مسؤولية ، فالإبتلاءات دائماً ما تكون فى حالة أنك لم تظلم ولم تقتل ولم تشرد ولم ترتكب أدنى جرم فى حق الغير كشخص فما بالك بأن تكون حاكماً أو رئيساً ؟
وما يحدث الآن ليس إبتلاءات وإنما هو نتيجة مباشرة للجرائم التى تم إرتكابها فى السودان بصفة عامة ودارفور على وجه الخصوص ولم يمثل مرتكبوها أمام القضاء حتى اليوم .
فلتفق الإنقاذ من نومها وليس من غفوتها فقد ولى زمن ترميم الأخطاء ورأب الصدع ومقولة عفى الله عما سلف ، وإنتهى كذلك زمن إلقاء اللوم على الآخرين وزمن الضحك باسم الدين وزمن الفرعنة والتجبر وزمن ( الفتوات ) وزمن هضم الحقوق والتنصل من الواجبات وزمن وضع الناس تحت الجزمة أو إلقائهم من الشباك ، لقد ولت تلك الأزمان جميعها وعرف الناس حقوقهم ومن أين وكيف يأخذونها .
الإنقاذ الآن لا تدرى بالضبط من هو عدوها حتى تحاربه ولو فكرت قليلاً لحاربت نفسها لأنها عدوة نفسها أولاً وأخيراً ولكنها بالرغم من ذلك فتحت أبواب المعسكرات كما تقول للتدريب والإستعداد وياله من إستعداد !!
الإنقاذ لا تدرى ماذا تفعل غير التهديد وطرد بعضاً من منظمات الإغاثة التى قالت أنها بؤر للتجسس لصالح المحكمة الدولية وأن الحكومة لديها أدلة تثبت ذلك ولكنه لم تأت بها وحتى سفير السودان لدى الأمم المتحدة عبدالمحمود عبدالحليم ( دخل فى أضافرينو ) عندما سئل عن الدليل بتورط منظمات دولية فى أنشطة غير قانونية رد بأنه لم يأتِ به الآن ولكنه موجود وسيأتى به فى المرة القادمة يا ترى هل هذا سفير أم كاتب ( عرضحالات ) ينسى قلمه تارة وحقيبة يده تارة ً أخرى .
شئ عجيب حقاً أن يتحدث سفير السودان لدى الأمم المتحدة بمثل هذه التهم الخطيرة ولا يملك فى تلك اللحظة مجرد وريقة صغيرة تحتوى على دليل أو أرقام وتواريخ بتورط مثل هذه المنظمات الإغاثية فى حين أن الحكومة ذكرت بأنها كانت تراقب تلك المنظمات منذ فترة طويلة أى أنها تملك رزم من الأدلة وبالرغم من ذلك لم تستطع أن تمرر تلك الأدلة للسيد السفير فى الأمم المتحدة حتى لا يظهر بتلك الصورة المهتزة كلما أطل منتفخاً أمام أجهزة الإعلام ، لو كانت منظمات الإغاثة الدولية متورطة فى أنشطة غير قانونية كهذه وبالدليل القاطع كما تقول الحكومة فلـِم تطردهم ؟
يجب عليها أن تجرهم من نواصيهم إلى المحكمة وتدينهم ليكونوا عبرة لغيرهم من المنظمات أليس كذلك ؟
ولكن يبدو أن الحكومة الإنقاذية لا تملك أي أدلة وإن إختلقتها فستكون أوهن من بيوت العنكبوت ، والشئ الأخير هو إن وجود أكثر من مائة منظمة إغاثية دولية فى دارفور فقط هو فى حد ذاته عار آخر يُضاف لصفحة هذه الحكومة الشائهة.
عبدالماجد موسى / بريطانيا
seysaban@yahoo.co.uk