الحركة … و البركة … بقلم د. عمر بادي
18 May, 2009
في زيارة لي الي السودان قبل أعوام قلائل , سمعت في حينا في حلفاية الملوك عن نبأ الزيارة التي قام بها أحد قياديي الحركة الشعبية لتحرير السودان عند حضوره الي الخرطوم , بعد إتفاقية السلام في نيفاشا , الي منزل اللواء حسن بشير نصر وزير شؤون الرئاسة و نائب القائد العام في حكومة الرئيس إبراهيم عبود , و سمعت عما دار بينه و بين أبناء العم حسن بشير يرحمه الله .
كعادة المسافرين القادمين في حينا , و نحن جميعا أهل و ذوو قربي , خرجت كي أدور علي البيوت معزيا في من لم أحضر وفاته و مهنئا من فاتتني مناسبته و متفقدا لأحوال الجميع . دخلت منزل العم حسن بشير و قابلني إبنه الأخ محمد و إبنته الأخت رشيقة , و بعد السؤال عن الحال و الأحوال تطرقت الي موضوع تلك الزيارة من القيادي بالحركة الشعبية . قالا لي : ( طبعا سمعت بيها طوالي ! ) . سألتهما عن التفاصيل فعرفت الآتي كما روياه لي : في ذلك اليوم حضر شخص عليه علامات الزهو مع آخرين يرافقونه و قال إنه يريد زيارة منزل اللواء حسن بشير نصر . إستقبله الأخ محمد أحسن إستقبال و أدخله ( الصالون ) و أشرف علي ضيافته و من معه خير ضيافة . قال القيادي متحدثا انه كان قد آل علي نفسه منذ زمان مضي أنه عند دخوله الي الخرطوم سوف يقوم فورا بالذهاب الي منزل اللواء حسن بشير ليعرف حقيقة ما قاله بعد إنقلاب 17 نوفمبر 1958 من أن حل التمرد في الجنوب في ذلك الوقت يكون في حرق كل الجنوب ! الأخ محمد أقسم بأغلظ الإيمان أنه لم يسمع شيئا من ذلك من والده , بل زاد إنه يعلم علم اليقين أن لوالده كانت مساع لحل مشكلة الجنوب من خلال جنوبيين معتدلين كانوا معهم في السلطة و أنهم كانوا يسعون الي تنمية الجنوب و تطويره , و حكي في ذلك حكايات كثيرة .
أثناء ذلك كانت الأخت رشيقة تسترق السمع من وراء الباب لكنها لم تتمالك نفسها و هي المدرسة المثقفة فاندفعت داخل ( الصالون ) و بدأت تتحدث عن الإشاعات المغرضة و الإدعاءات المضللة و أن والدها كان مهجوسا بالهم السوداني في أمنه و حمايته و تنميته و ان ما فعلوه من تنمية في ست سنوات لم يحدث مثله في السودان في عقود عدة و أنهم لا يمكن أن يكونوا عنصريين أبدا . إلتفت إليها القيادي بالحركة الشعبية و قال لها : ( يعني لو قلت ليك تتجوزيني بترضي ؟ ) , ردت عليه بكل حزم : ( و ليه لا ؟ بس بالأول تسلم و بعدين نعرف بعض ) . ضحك القيادي و جذب نفسا عميقا و إستأذن للمغادرة و نهض و إلتفت تجاه الجزء الآخر من ( الصالون ) فشاهد صورة بالحجم الطبيعي للواء حسن بشير بزيه العسكري قائمة علي الركن , فتوجه نحوها ووقف ( إنتباه ) تجاهها و رفع يده بالتحية العسكرية و ضرب الأرض بقدمه ! بعد ذلك رافقاه الي باب المنزل فودعهما وهو منشرح الصدر .
أختي آمنة التي نشأت معنا في جنوب السودان في مدينة واو و ووالدتها غير والدتي و لكن لم نكن نحس فرقا في ذلك , قد تزوجها في واو العم محمد عبد الرحمن عبد الباقي و هو أحد التجار الجلابة و كان دكانه في قرية إسمها ( مكواك ) و هناك عاش وسط قبيلة الدينكا و صارت آمنة ( ترطن ) مثلهم تماما , و عندما كبر العم محمد عادوا الي الشمال و معهم مجموعة من أبناء الجنوب . بعد إفتتاح مكاتب الحركة الشعبية في الخرطوم توجهت أختي آمنة الي مكتب الحركة في الحاج يوسف و هناك طلبت تسجيل إسمها في عضوية الحركة . سألها مسؤول الحركة إن كانت لها صلة بجنوب السودان فانطلقت تتحدث معه بلهجة الدينكا فتفاجأ كل من كان حاضرا !
الحركة و البركة .... تقول الحكمة عندنا : ( لكل حركة بركة ) و هي تدعو الي التحرك و عدم الجمود . إن العمل في نفسه حركة , و التحرك فيه التغيير و التقدم بما يحتويه من أفكار و مشاريع جديدة تعقبها بركات تعم الناس , و لذلك فالحكمة تقال لكل متقاعس متراخ يعيش علي الأماني لا علي الأفعال , و لكي يكون الفعل بركة لا بد أن تسبقه الرؤية و أن ترافقه المهنية .... الحركة الشعبية إجتمعت و حللت و تلمست و أيقنت ثم خرجت الي الناس بقرارها بالتحول الي حزب سياسي مدني لا علاقة له بالمليشيات العسكرية و بالنضال المسلح و بالبيانات الميدانية , فتحولت الي البيانات الجماهيرية السياسية و التنظيمية و الي المعترك السياسي . لقد ظهر ذلك في منتدي المائدة المستديرة للولاة الذي إنعقد في مدينة واو قبل أيام مضت و ثمن فيه النائب الأول لرئيس الجمهورية و رئيس حكومة الجنوب و رئيس حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان سلفاكير ميارديت الدور الجديد لحزب الحركة الشعبية و النهج الديموقراطي في تداول السلطة في السودان الموحد .
هنا لا بد لي من التذكير بعدم العودة الي الوراء مرة أخري , و التخلي كليا عما كان من إجترار للأحقاد و نشر لسياسة الكراهية بين الشمال و الجنوب , و قد كتبت عن ذلك في ألم بادٍ مرات كثيرة قبل الآن .... كنت دائما أضع نصب عيني تجربة المناضل العظيم و الأسطورة نيلسون مانديلا الرئيس الأسبق لجمهورية جنوب أفريقيا و السجين السياسي السابق لمدة سبعة و عشرين عاما في أعتي السجون في جزيرة ( روبين ) , و رغم ذلك و حين حانت له فرصة الإنتقام من البيض و سياسة ( الأبارتايد ) , نظر الي بلاده و الي مستقبلها فارتضاها بتشكيلها القوس قزحي وطنا للجميع يحكمه القانون و تعادل الفرص و الإنتخابات الحرة النزيهة , فالديموقراطية كفيلة بإحقاق الحق و إبطال الباطل .
هنا تحضرني دعوة الأخ عبد العزيز خالد بعد إعلانه لتكوين حزب التحالف الوطني السوداني بأنه يدعو الي تحالف ( قوس قزح ) من جميع أحزاب المعارضة للإلتقاء علي الحد الأدني و التنسيق لخوض الإنتخابات متكتلين ضد حزب المؤتمر الوطني المهيمن علي الساحة . إنها دعوة سبقتها دعوات مشابهة من بعض أحزاب المعارضة , و هذا هو المتوقع أن ينقسم الجميع الي كتلتين كبيرتين أو ثلاث تضم كل الأحزاب التي وصل عددها نيف و خمسين حزبا , و في ذلك مصلحة للسودان حتي نخرج من دائرة تكوينات الحكومات الإئتلافية و تلاعب الأحزاب الصغري في إسقاط الحكومات بالخروج من إئتلاف و الدخول في آخر . ليكن حالنا كحال الدول المتقدمة يكون التنافس بين أحزاب أو تكتلات حزبية قليلة يكون في مقدورها تكوين الحكومات بمفردها دون إئتلافات حتي تستطيع بذلك تطبيق برنامجها الإنتخابي و الخضوع للمساءلة بموجبه . هذه المرة لن تكون للدعاية الثيوقراطية دور و للتقسيم بين الديني و العلماني , فتجمعات الحكومة و تجمعات المعارضة تضم معا الدينيين و العلمانيين . مثلا حزب المؤتمر الوطني يضم الإسلاميين و المسيحانيين و الباقانيين , و لكي لا يحدث إلتباس للقاريء بين الباقانيين و الإنتساب الي السيد باقان أموم أمين عام الحركة الشعبية لتحرير السودان أوضح أنني أقصد بالباقانيين الوثنيين الكجوريين حسب معني الكلمة الإنجليزية . نفس الشيء في تكتلات أحزاب المعارضة سوف تكون أيضا فيها كل تلك الفئات , لكن سوف يكون الفرق في البرامج الإنتخابية , و في تبني قضايا الشعب المسحوق الذي عاني طويلا و تجوهل كثيرا , و في العمل بكل موضوعية و كل شفافية و كل نزاهة لإقناع المقترعين بأن هناك من يلبي تطلعاتهم و يحرك فيهم فعل الذهاب الي مراكز الإنتخابات , خاصة المقترعات منهم لما لديهن من ثقل إنتخابي هذه المرة و هذا يستدعي تثمين دورهن و بذل الجهد لرفع مستواهن , و الإحتفاء بالودودات الولودات المتكبدات لمشاق الحياة في الحروب و النزاعات و الجاعلات عدد سكاننا يقارب الأربعين مليونا حسب التعداد الأخير . طيب , عندما يعم السلام و الرخاء ربوع الوطن , حيبقي عدد سكاننا كم ؟
المواطن السوداني قد صار أكثر وعيا عما سبق , و سوف يكون الجميع مؤهلا لخوض الإنتخابات بعد إنتهاء أزمة دارفور إنشاء الله , و لن تنفع هذه المرة إغراءات الماضي ب ( برطمانات ) المربة و العسل و المأكولات الأخري و المصاريف مع القسم علي الكتاب المقدس بالتصويت للمعنيين ! الإغراءات هذه المرة سوف تكون بكينونة السودان و بمستقبله الزاهر مع دولة العدل و المساواة و الفرص المتكافئة .
أخيرا لا بد لي من الإحتفاء بقناة ( إيبوني ) الجنوب سودانية في بثها التجريبي , فهي كما أراها معززة للسودان الجديد الموحد . لقد إختاروا لها إسم الأبنوس و هو إسم شجرة أطلقه الإغريق القدماء عليها و معناه ( ثمرة الآلهة ) و كانوا يصنعون من خشبها كؤوسا للشرب لإعتقادهم أنها تبطل السموم , و خشب الشجرة يتميز بقوته و نقاوته و سواد لونه و غلاته و تصنع منه العصي الفاخرة و صفارات الأبنوس شجية الصوت و يستعمل أيضا للزينة , و قد إختار الشاعر الملهم و الملم صلاح أحمد إبراهيم لديوانه الأول إسم ( غابة الأبنوس ). أري أن الإخوة في جنوب القطر قد توفقوا في إختيار إسم قناتهم الفضائية .