النميري ألبوم صور

 


 

 


31/5/2009
بالأمس ذهب النميري إلى عفو ربه. غادر الدنيا وهو على بُعد أربعين عاما من انقلابه أو ثورته، وستة وسبعين عاما من مولده. النميري كشخص لن يبقى منه بعد اليوم إلا شاهد وحيد على قبره الذي لازالوا يتحاججون في مكانه, أما النميري كرئيس ستبقى على مر التاريخ، شواهد شتّى على عصره.
عصر النميري عاشته أجيال من السودانيين غنّت له، وقاتلته، وانتفضت عليه، وستشيّعه اليوم. عصر صاخب مليء بالأحداث والحكايا والروايات. عصر لن تسطيع أربعة أجيال من السودانيين أن تنجو من آثاره، ولذا فالذين حاولوا كنس آثاره استعصى عليهم أمرها، وذلك لأنه بعضٌ منهم، فكيف يكنسون بعضا من أنفسهم وذاكرتهم وذكرياتهم؟.
سيحتار المؤرّخون وهم يتصفحون البوم النميري. نميري ليس تاريخا واحداً صلدا، بل هو جماع تواريخ متعددة حتى يحار المرء كيف جُمعت تلك التواريخ وهاتيك الشخوص كلها داخل جلباب عصر واحد!!. سيختار كل من عاصر النميري من ذلك الالبوم صورة تناسبه، وتعلق بذاكرته في طفولته أو صباه أو حتى كهولته. لابد أن لكل منا صورة يهواها أو يبغضها في ذلك الالبوم، حتى المايويين كرهوا صورا وأحبوا أخرى.
ستبقى في ذاكرتي صور شتّى من البوم مايو. أولها صورتي وأنا ارتدي زي طلائع مايو البهي، أقدل به في أزقة الدويم، وأنا أترنم بأهازيج مايو، وأحمل صورة قائد الثورة الظافرة على صدري. كان أهلي الاتحاديون يستنكرون فعلي هذا ويضحكون. لا أتذكر تلك الأهازيج الآن، ولكنها غالبا ماتكون نشيدا من أناشيد الثورة البديعة التي أثرت في أجيالنا ولازالت في ذاكرتنا. كان لمايو أناشيد وغناء جميل استهوانا على مر السنين ولايزال. على الرغم من تقلبات مايو السياسية ظلت أناشيدها منحوتة في ذاكرتنا، وخاصة تلك التي ارتبطت بالنميري كشخص (ياحارسنا وفارسنا, أب عاج أخوي).
بدأنا نتعرف على النميري وعصره حقيقة بعد العام 1979 وهو عام عبورنا إلى فضاء النشاط بجامعة الخرطوم. بالرغم من أجواء المصالحة الوطنية إلا أن الجو كان عدائيا ضد النميري. كان للجميع تارات شخصية معه. معارضة النميري هي السوق الذي يشعل أركان النقاش والندوات في الجامعة. في هذا السوق المنتعش تسوّق الأحزاب نضالاتها وتتربح من دماء شهدائها. صور الشهداء تملأ أركان الجامعة. الشيوعيون يرفعون صور عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وجوزيف قرنق. الأنصار ينشرون صور الشهيد الإمام الهادي. الاتجاه الإسلامي المشارك في النظام آنذاك يطبع ويوزّع صور الذين استُشهدوا في مقاومة النميري من منسوبيه!! كانت صور محمد صالح عمر وعبد الإله ميرغني وبرشم وغيرهم تملأ زوايا الجامعة. لم يفت الاتحاديين هذا السوق فعلّقوا صور الأزهري ولاحقا الشريف حسين. كنت في حيرة من أمر هذه الصفوف المتراصة للشهداء المتناقضين. لو وضعت صور هؤلاء الشهداء جنبا إلى جنب لأعطتك تاريخا كاملا لعصر النميري. فلقد قاتلهم النميري جميعا وصالحهم أيضا. اولئك الشهداء كان بعضهم يوما أصدقاء خُلص لنميري أو رفقاء سلاح أو هم معارضون أشداء عانقوه، وعملوا تحت إمرته في واحدة من أزمان تلك الصور المتقلبة. معرض الصور يعبر على ذهنك وتتداعى ذكرياته وأحداثه على مدى ستة عشر عاما.
ذاك عصر عجيب لن تجد في تاريخ السودان قديما وحديثا مثله. افتح البومه وانظر لصور العسكريين في ذلك العصر ثم أعد الكرّة وانظر لصورة السياسيين ودقّق النظر في صور المثقفين والتكنوقراط الذين استقطبهم النميري, اقلب الالبوم وامعن النظر في صورة الجماهير وارهف السمع لصوتها في مبتدأ ذلك العصر ومنتهاه.
 العسكريون الذي جاء بهم من خور عمر هُم الذين انقلبوا عليه في نهاية الأمر. السياسيون الذين جاؤوا به إلى السلطة أقام لهم حمامات دم، وآخرون حولهم لموظفين في صالون حكومته!!.
المثقفون والتكنوقراط الذين أعانوه على حقه وباطله تقلبت صورهم بحسب قوالب نظامه التي تعددت وتكاثرت وتلوّنت. فلو استعرضت البوم وزراء النميري لذُهلت من المئات الذين عبروا دهاليز الثورة الظافرة من المثقفين الذين مالبثوا إلا قليلا، فقلبوا عليها المائدة رأسا على عقب، حين تبدل الزمان وتغيرت الصور وتبدلت المواقع.
الجماهير التي حملت أغصان النيم وهي ترقص في الشوارع على إيقاع غناء وشعارات الثورة الظافرة (انظر لصورة موكب العمال في ميدان عبد المنعم)، وتهتف للقائد الملهم، هي نفسها الجماهير التي نهضت تحمل ذات أغصان النيم صبيحة السادس من أبريل 85 (انظر لصور موكب شارع القصر) تنادي بسقوطه. لابد أن النيم قد سجل حيرة كبرى في أمر تلك الجماهير (حيّرتو النيم) تماما كما ستحتار أجيال قادمة من تضاد صور ذلك الالبوم.
ألا رحم الله النميري. ذهب إلى ربه يحمل البومه بيمينه، ويوم يُنفخ في الصور وتُنشر الصور سيقف وقتئذٍ بين يدي حكم عدل لايُظلم عنده أحد. نسأل الله أن يغفر له خطاياه يومئذٍ ويجعل الجنة مثواه.

 

آراء