د. عثمان أبو زيد: سوف يحدث تنافس داخل المؤتمر الوطني نفسه على أساس قبلي أو شخصي .. حوار صلاح شعيب

 


 

 

الدكتور عثمان أبو زيد:

 

سؤال الهوية يوضع أحياناً للتناوش الآيدلوجي وتبرير التعالي على الآخر

 

لا بد من حل ينبع من الضمير الوطني ليمنح أهل دارفور حقوقهم

 

السودان الجديد شعار فضفاض ولم يعد مركز استقطاب أساسي في مناقشة التغيير

 

هناك كثير من المشتغلين بالسياسة لا يمتون إلى الثقافة بأدنى سبب

  

حوار: صلاح شعيب

  

شغل الدكتور عثمان أبو زيد رئاسة المجلس القومي للصحافة والمطبوعات من عام 95 حتى 2000، وقبلها كان أمينا عاما للمجلس نفسه، كما عمل في الحكم الاتحادي وزيرا للتربية والتعليم في الولاية الشمالية لمدة عامين. لديه (7) مؤلفات، وكتاب "صور قلمية" تحت الطبع. وآخر بحوثه المنشورة بحث ميداني عن تقييم استخدام الهاتف الجوال في توعية الحجاج، وقد أجري البحث بتكليف من معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج ضمن بحوث حج عام 1429هـ.

  

يعمل الدكتور عثمان أبو زيد عثمان حاليا مستشارا إعلاميا في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة. مثلما عمل من قبل أستاذا جامعيا في كل من جامعة أم درمان الإسلامية، وجامعة النيلين، وتقلد فيهما مناصبا إدارية، وآخر رتبة علمية في الجامعة شغلها كانت أستاذ مشارك. (منتدي الأحداث) طرح اسئلته على الدكتور عثمان أبو زيد وهذا نص الحوار:

  

*هل ترى أن هناك أزمة في فهم الهوية السودانية ما دعا النخب المتعلمة إلى الفشل في إنجاز مشروع الدولة السودانية؟

  

(ـ) نعم هناك إشكالية في فهم الهوية السودانية، ولكن هل نجعلها أزمة تقعد بنا وبمسيرة الحياة. لا يمكن أن نؤخر الحياة حتى تنتهي النقاشات التي لا تنتهي. لكي أضع مسألة الهوية في إطارها الإيجابي انظر إليها جزءاً من أزمات التنمية السياسية التي واجهت مجتمعنا النامي دفعة واحدة؛ أزمة الشرعية وأزمة الهوية وأزمة الوحدة الوطنية وأزمة التواصل وغيرها.

  سؤال الهوية عندما يوضع في إطار وعي الذات على المستوى الشخصي وعلى مستوى الجماعة الوطنية، يصبح سؤالاً بسيطاً، ولكن السؤال يوضع أحياناً للتناوش الأيدلوجي وتبرير التعالي على الآخر أو تأكيد الانقسامات والصراع. المفارقة أن مسألة الهوية ذات ارتباط بمواقع مثيريها، مما يؤكد أن سؤال الهوية قد يكون أداة لإثبات الوجود. من غير المبرر أن يعتقد طرف من الأطراف أنه ليس بالإمكان عمل شيء من نهضة أو تطور قبل الفراغ من مسألة الهوية.    

أميل إلى فهم الهوية إطاراً جامعاً لقوى الجماعة وحاضناً لها. هو الذي يجمعها ويحافظ على تعددها وتنوعها في الوقت نفسه، تعبيراً عن وحدة الجماعة من حيث الخطوط العريضة للمكون الثقافي العام، ومن حيث إدراك المصالح العامة لهذه الجماعة دون أن يخل ذلك بإمكانات التعدد والتنوع والخلاف داخل هذه الوحدة. هذا أنا آخذه من المفكر المصري طارق البشري الذي يبشر بالتيار الأساسي للأمة في أطروحة له نشرت منذ أيام في موقع الجزيرة نت. وتكلم عن إمكانية للوصول إلى هذا التيار عندما تكون لدينا القدرة والصياغات الفكرية والتنظيمية التي تمكن من تأليف أكثر ما يمكن من خصائص كل القوى والفئات الثقافية والسياسية والاجتماعية، فضلا عن الطوائف والمهن والجماعات المختلفة ذات الثقل، وعندما تكون لدينا القدرة أيضا على وضع صيغة للتوازن بين مختلف القوى والجماعات.

  

*كيف تقرأ المستقبل السوداني على ضوء مجريات الواقع السياسي، هل هناك ما يدعو إلى التفاؤل في ما يتعلق بالوصول إلى حل للإشكال المجتمعي السوداني التاريخي؟

  

(ـ) كل نظام سياسي يتعرّض لـ "امتحان " كبير في مدى زمني لا يزيد على عشرة أعوام. ونحن ظللنا في بلادنا منذ الاستقلال نمر بهذا الامتحان الذي انتهي بانهيار النظام ثلاث مرات. في العشرية الأولى للإنقاذ تمثل الامتحان في ذلك الصراع القيادي الذي أوشك أن يطيح بمنظومة الإنقاذ كلها، وخلال العشرية الثانية جاءت مشكلة دارفور التي ما تزال تتفاعل داخلياً وخارجياً.

  

في تقديري أن النظام السياسي في الإنقاذ فيه قابلية لتجديد نفسه من الداخل، وهاهو الأفق السياسي ينفتح بالمصالحات واتفاقيات السلام وما يتيحه الرجوع إلى الشعب عبر صناديق الاقتراع. فلتكن الانتخابات امتداداً للحوار الإيجابي وفرصة لتوفير الفرص المتكافئة واستقطاب المشاركة الشعبية. ودعني بالمناسبة أقول إنني شاهد على أن الحوار نهج لم يتخلف طوال العقدين الماضيين. كنت عضواً عن المؤتمر الوطني في لجنة الحوار مع البعثيين، وكانت خبرة نافعة جداً على المستوى الشخصي، إذ بالحوار مع الآخر تستطيع أن تفهم نفسك. وظللت في حوار مدة خمس سنوات عند وجودي في مجلس الصحافة ، تعاملت مع شتى أطياف المجتمع السوداني، وتبين لي أن الاختلاف يسير جداً في الشخصية السودانية ، ولا يكاد الانتماء السياسي يفرق في السمات الشخصية بين السودانيين إلا من بعض الأمور الشكلية. إنني أعلق آمالاً على الإرادة الوطنية في هذه المرحلة التاريخية، ويضاعف من هذا الأمل أن جيلاً من الشباب الطامح يتطلع إلى المشاركة السياسية بحماسة ونشاط، وتتأهب المرأة إلى أخذ دورها بحصة تضمن لها ربع المجلس النيابي على أقل تقدير.

  

*ما هي تصوراتكم لحل أزمة دارفور، وكيف يمكن الوصول إلى سلام دائم؟

  

(ـ) دارفور تعرّضت لإنفلات أمني كبير، وحصلت مشكلات إنسانية كبيرة. حدث بعض هذا في دارفور من قبل، وقد ضاعف من الأزمة ترابط العالم بعضه ببعض، ورغبة في الضغط على السودان، إلى جانب الصراع التقليدي على السلطة في الداخل.

  

قلت ذات مرّة في مكان يجمعنا بالسيد رئيس الجمهورية أن دارفور بعد نجاح الثورة المهدية خرج العشرات من الناس يدّعون المهدية ، ولعل نجاح الحركتين الإسلامية والحركة الشعبية للوصول إلى الحكم بتحكيم السلاح هو ما أحدث هذه الطفرة من الحركات في دارفور.

  

لا نختلف في تحليل وفهم ما يحدث، وقد لا نختلف كثيراً في تصور الحل، بدليل أن غالبية السودانيين ارتضوا حلاً شاملاً للمشكل. يسهم تنازع الإرادات في تعقيد الموقف. والحل في نظري يبدأ من توحيد الإرادة الوطنية، وأن يسهم أهل دارفور أنفسهم بالقسط الأوفر من الحل.

  

لا شك أن جميع الأطراف وصلت إلى مرحلة الإعياء من مشكلة دارفور، وتوجد مؤشرات بالحل، وهو حل ينبع من الضمير الوطني يمنح أهل دارفور حقوقهم في كرامة ويحفظ للوطن وحدته وسيادته.

  

*هل ترى أي غياب في القيادة السياسية الوطنية المجمع عليها والقادرة على وضع التصورات الفكرية لما ينبغي أن يكون عليه واقع الدولة السودانية؟

  

(ـ) لا تنقصنا التصورات الفكرية لما ينبغي عليه واقع الدولة السودانية، بقدر ما تنقصنا الإرادة السياسية لإنزال هذه التصورات إلى أرض الواقع. هل قرأت الإستراتيجية ربع القرنية؟ أنا شخصياً لم أقرأها وإن كنت قد حضرت درسين بليغين عنها. أرى أن الإستراتيجية محتاجة إلى بعد اجتماعي وفكري ولا أقول فلسفي لكي تتنزل على الشعب وتصبح جزءاً من وجدانه ومشاعره. أعني أنها تحتاج إلى لمسات إنسانية وثقافية.

  

يردد الأطفال في مدارسنا صياغات من الإستراتيجية، هذا جيد، لكننا نرغب في المزيد الذي يشحذ الشعور العام في الإعلام والشعار السياسي والبرنامج اليومي في الحقل والمصنع. لا يكفي أن تسمع كلاماً جميلاً في الخطاب السياسي وعندما تأتي إلى دوائرنا وأعمالنا تجدها تدور في الروتين اليومي ، دون أن تفهم الأسباب التي تعوق تطور الأداء.

  

حدثنا الدكتور عبد الوهاب عثمان في محاضرة له عن منهجية التنمية الاقتصادية والاجتماعية أن الإنجليز كانوا يضعون مشروعات دون ربطها بأهداف، وأن الحكومات الوطنية نهجت هذا النهج ، فكانت الخطة الخمسية الأولى عبارة عن تجميع مشروعات عفواً من غير أن تبنى على برامج وأهداف.

  

أما على المستوى السياسي العام، فإن تاريخ السودان فيه موقف يلهم بالحكمة، ، ذلك التحالف التاريخي الذي حصل بين عمارة دنقس وعبد الله جماع وأنهى فوضى (القيمان). في واحدة من جولات الحوار الوطني استلهمنا فكرة "الكتلة التاريخية" من التحالف بين دنقس وجماع. السودان لا يمكن أن يحكم إلا بتحالف استراتيجي بين العناصر المكونة للأمة، تحالف يتميز باستقلال الذات الحضارية، مع وجود بوصلة ترشد إلى القبلة الصحيحة.

  

كنا نتطلع إلى تأسيس شراكة حقيقية بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية حسب اتفاقية السلام ، أرى أن ذلك التطلع يذوي الآن مع حمى الخلافات بين الشريكين المتشاكسين. بعض السياسيين يفكرون بالعمل السياسي وكأنه مجرد إدارة للأطماع ، وهذا تفسير الانشقاقات التي تضرب أحزابنا وتجعلها قليلة الحيلة. ومن المؤسف أن بعض القوى راحت تستند إلى الدعم الأجنبي بعد أن كانت الحركة الوطنية السودانية ترى في الاستعانة بالأجنبي خطاً أحمر.

  

نحن نعيش عصر المواطن المعولم الذي يعيش بهويتين ويتنقل بجوازي سفر. حكومة أفغانستان بعد وقوع الاحتلال ، ضمت ستة من الوزراء مزدوجي الجنسية بمن فيهم الرئيس نفسه.

  

*الانتخابات القادمة في فبراير 2010 ، هل تستطيع أن تحدث تغييرات جوهرية في طبيعة العمل السياسي الحكومي والمعارض، خصوصًا إذا دخلت قوى المعارضة في تحالف ضد المؤتمر الوطني؟

  

(ـ) تغييرات جوهرية لا، قد نتوقع تغييراً في وجوه بعض المتنفذين. على الرغم من أن البلاد تمر بمرحلة انتقال هائلة في الاقتصاد والاجتماع والسياسة، فإن النقلة لا يرجى لها أن تكون كبيرة. وربما أن الانتخابات تفضي إلى الأحجام الطبيعية لبعض القوى التي وصلت إلى السلطة على أسنة الرماح. ينذر هذا بمخاطر ومشكلات لا بد من التحسب لها. أزمة كاربينو كوانين ومحاولة احتلال مدينة واو جاءت بعد ظهور نتائج انتخابات، وكان حظه فيها قليلاً، فبدأ بالاستيلاء على عربة الوالي الفائز في الانتخابات ومنعه من السفر للخرطوم لأداء القسم.

  

قوى المعارضة لا تستطيع أن تتحالف جملة ضد المؤتمر الوطني، ولكنها ستتحالف تحالفات ظرفية للتنافس في دوائر معينة، وسوف يكون لذلك أثر. هناك حالة سيولة سياسية بسبب انقسام الأحزاب ، حزب الأمة وحده فيه أصناف مختلفة قومي ووطني وفدرالي وهلم جرا... ولربما نشهد تناصر المنقسمين بعضهم ببعض. سوف يحدث تنافس داخل المؤتمر الوطني نفسه على أساس قبلي أو شخصي. وهذا حديث شخص يجلس خارج الملعب ولكنه يكشف الميدان.

  

*الاستفتاء على تقرير المصير: إلى أي مدى يمكنك التفاؤل بنتيجته فيما خص وحدة السودان، وإذا قدر للجنوب الانفصال ، هل تتوقع أن تموت فكرة (السودان الجديد) التي دعا إليها الزعيم السوداني الراحل جون قرنق؟

  

(ـ) السودان الجديد شعار فضفاض ولم يعد مركز استقطاب أساسي في مناقشة التغيير في بلادنا. لقد تعلقت آمال قطاع من المواطنين بفكرة المخلص أو المنقذ، وما يزال الكثير من الناس يفكر بهذه الطريقة، منتظراً مهدياً أو عائدا يحمله إلى بر الأمان.

  

في أيام الانتفاضة منتصف الثمانينيات، كان هناك حديث كثيف عن عودة قرنق، ورأى البعض أن عودته هي نهاية المشاكل في البلاد. أذكر أن الأستاذ محمد إبراهيم نقد قال كلمة (غليظة) في ذلك: لا تظنوا أن عودة قرنق هي نهاية المشاكل، لا يوجد يوم قيامة في السياسة!

  

أما نتيجة الاستفتاء كيف تكون فإني لا أعرف، كلما سألت  شخصاً ألتمس عنده المعرفة في شمال أو جنوب وجدت جواباً مختلفاً، فالعلم عند علاّم الغيوب ، والمهم أن لا يعود الناس إلى دورة جديدة من دورات العنف؛ فإما "إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان".

  

*هل أضعف بروز التيارات والأفكار (الاثنية أو الجهوية) إلى سطح العمل السياسي الهمة القومية في كل مناحي الحياة، وهل ترون أن هذه التيارات والأفكار ستختفي في حال الوصول إلى سلام دائم في كل أنحاء القطر عبر تسوية قومية؟

  

(ـ) الاثنية يمكن أن تكون قيمة إيجابية وكذلك الجهوية ، الله تعالى خلق الخلق شعوباً وقبائل "لتعارفوا" ، والتعارف معنى عام يتمثل في التعايش والحياة المشتركة. في المجتمع السوداني نماذج حضارية ممتازة للتعارف والاندماج ، في الحياة العامة والتجارة والسفر والتصاهر بين القبائل. اذهب إلى أي مكان في السودان لن تجد في الثقافة الشعبية والدماء والأعراق إلا ذلك التكامل القومي.

  

يقوم الصراع  على المصالح ، وبعد أن ينشب الصراع يوظف الفرقاء إثنياتهم وحتى أديانهم التي تدعوهم للمحبة والسلام في تأجيج الصراع.  أحد مثقفي دارفور وصف صراع دارفور بأنه صراع بين "الجرون والقرون". وجعلنا الاثنية أو الجهوية أساساً لتقسيم الغنائم أو عندما نحدد للمواطن دوره السياسي والاجتماعي، حتى داخل المؤسسات العلمية التي ينبغي أن تكون مثالاً في الموضوعية ظهرت هذه الجرثومة. ويبقى السؤال دائماً لماذا فلان وليس علان؟

  

ذكر لي أحد الإخوة أن الأستاذ الكبير مهدي إبراهيم تحدث عن أخيه محمد صالح عمر في برنامج تلفزيوني فقال إنه من أبناء البني عامر في شرق السودان. لم يكن أعضاء الحركة الإسلامية يهتمون في تعارفهم المشهود بمعرفة من أي القبائل ينحدرون. وأنا أقول إن رواة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يسألون عن السند في أول أمرهم حتى انتشرت الفتنة!

  

لا شك أن بروز الاثنية والجهوية بهذا التوجه السلبي ، مثبط للهمة القومية، أما إذا كان التوجه على أساس التمييز الإيجابي كالذي نراه في جنوب إفريقيا وفي ماليزيا فهذا شيء مطلوب.

  

الاثنية والجهوية من حقائق الوجود لا يمكن أن تختفي ، والمطلوب أن نكفكف آثارها السلبية عبر الحوار والتسويات.

  

*فكر الأحزاب والتنظيمات السياسية: هل يتحمل نتيجة الفشل السياسي، أم أن قواعد هذه الأحزاب تتحمل أسباب ضمور هذه الأحزاب ما أدى إلى فشل قياداتها؟

  

(ـ) لا أدري إن كان البحث العلمي في جامعاتنا يتوجه إلى دراسة الواقع الحقيقي لأحزابنا والكشف عن العلاقات الداخلية فيها. الذي أعرفه أن هناك توجه جيد لتسجيل مذكرات السياسيين وذكرياتهم ، وقد وقفت أخيراً على عدد من الكتب الجيدة. نحتاج إلى رؤية الواقع في حالة التغير والحركة. أحزابنا قليلة الحظ في توثيق عملها واستخلاص العبرة والفكرة لمسيرتها.

  

وهذا الجهد المبذول من صحيفتكم لاستنطاق النخبة وذوي الخبرة ، عمل ذو قيمة إذا ما كان القصد واضحاً وموضوعياً. لا شك أننا في مسيس الحاجة إلى حراك ثقافي يرفد عملنا السياسي والتنفيذي ، ويمكن للصحافة أن تؤدي دوراً ممتازاً في تعيين أهداف واقعية وشاملة تستند إلى الخبرة العلمية، والأحزاب السياسية مؤمنة بدور الصحافة والدليل على ذلك اهتمامها بقانون الصحافة الذي لا أرى له أهمية تضارع ذلك الاهتمام

 

إن الخبرة الحزبية في بلادنا هي انعكاس لحقائق الواقع الاجتماعي السوداني قوة وضعفاً ، وكيفما تكونوا يولّى عليكم.

  

*أيهما أقوى تاريخيًا في تجربة دولة ما بعد الاستقلال: صراع الهوامش الجغرافية مع الدولة المركزية، أم صراع الآيدلوجيا والدولة؟

  

(ـ) وهل يمكننا الفصل بين صراع الآيدلوجيا وصراع الهوامش؟ إذا وضعنا رسماً تخطيطياً لمؤثرات الصراع في دولة ما بعد الاستقلال، لوجدناه في شكل (بصلي)، فهناك مجتمع محلي ومجتمع قومي ومجتمع إقليمي ومجتمع دولي، ولكل منه أثر مستقل بعضه على بعض.

  

عايشنا في الأيام السابقة انتخابات لبنان، ليس من السهل أن تفصل ما يحدث هناك عن إطاره الإقليمي أو الدولي. من إيجابيات سودان ما بعد الاستقلال أن الحكومة المركزية ظلت قوية ، وأظن أن القوى الإقليمية والدولية التي تتعامل مع السودان الآن تضع في اعتبارها قوة الحكومة المركزية وتعول على ذلك. إن ضعف الحكومة يؤذن بأن يتحول السودان إلى منطقة "غير محكومة" على غرار الصومال وأفغانستان. ونشاهد ما يجنيه العالم من مشكلات بسبب الفوضى في تلك المناطق. لولا قوة المركز، بعد مشيئة الله، لكانت المشكلات والحرب التي استمرت سنوات طويلة كفيلة بانهيار كياننا الوطني.

  

*المثقف السوداني ؛ ما هي حسناته وعيوبه وهل يتحمل بعض الوزر في فهم كيفية العلاقة بين السلطة والمثقف ما بعد فترة الاستقلال؟

  

(ـ) يتعلق جدل السلطة والثقافة بترتيب المواقع الاجتماعية ، فقد يتبادل المثقف ورجل السلطة مواقعهما ، وإذا شئنا المفهوم الواسع لكلمة سياسة ، فلا أتصور سياسياً حقيقياً غير مثقف. أحياناً تكون التصنيفات حرفية، كأن نقصد بالمثقف المشتغل بمجالات الآداب والفنون وحده دون سواه.

  

ولا يفهم من كلامي أن جميع السياسيين مثقفين ، بل هناك كثير من المشتغلين بالسياسة لا يمتون إلى الثقافة بأدنى سبب

.  

لدي مقال ينشر في مجلة بحوث الصحافة التي تصدر عن المجلس القومي للصحافة ناقشت فيه هذه النقطة المتعلقة بظاهرة تبادل المثقفين والسياسيين مواقعهم، ونظرة (الندية) عند بعض الصحفيين إزاء زملاء لهم في (السلطة) العمل السياسي أو العسكري ممن كانوا معهم في قاعات الدراسة. كثير من قادة العمل الصحفي وكتاب الصحافة هم أجيال المثقفين الذين ناضلوا ضد المستعمر ثم تقلدوا المسؤوليات السياسية بعد الاستقلال، وهؤلاء ظلوا يتبادلون الأدوار ما بين الحكم والمعارضة، تجد أحدهم اليوم وزيرًا وغدًا كاتبًا صحافيًا. وقد تسمع صحفيـا يقول لـك : "هذا، أنا أقدم منه في الخدمة، وذاك كان معي في المكتب السياسي في الحزب، وذلك أزاحني من إدارة النادي"! ومع أن هذه الأمور قد تبدو أموراً شخصية فإنها ذات تأثير في الفهم والممارسة. وكنت أدعو في هذا المقال إلى الابتعاد عن فهم حرية الصحافة في إطار الحرية الشخصية للصحفي؛ وأن تفهم الحرية في إطار مؤسسي؛ أي حرية المؤسسة الصحفية أن تقرر كافة القرارات المتعلقة بعملها ونظامها، فالمؤسسية تقتضي وجود ترتيبات معينة من الأدوار والأوضاع التي تتميز عن الأفراد.

  

المثقف السوداني فيه حسنات الشخصية السودانية وعيوبها. وأرى أكبر عيب فيه نزوع البعض منهم إلى التعالي على المجتمع. سوف يمضي وقت طويل حتى يرضى المثقف المعاصر بالعيش بشروط الحياة في مسقط رأسه. ولذلك كانت شخصية مصطفى سعيد في موسم الهجرة إلى الشمال شخصية مثيرة للانتباه.

  

المثقف بحكم تكوينه حالة تجاوز للواقع وتحريض للمستقبل ، غير أنه قد يغالي في القطيعة التي تغذي النزاع العدائي والعنف. وبذلك تفقد الثقافة وظيفتها في إشاعة السلام الاجتماعي وحل المشكلات ، ويتخلى المثقف عن دوره في حفظ كيان المجتمع ولحمته.

  هناك ملاحظة تقال من أن المثقف السوداني لا يحسن فن التسويق، وأن فيه قدراً كبيراً من التواضع السلبي مما يقعد به عن المساهمة الإيجابية في صناعة الحياة. وهذه حقيقة ، يصير الواحد منا في المقدمة ظهوراً ونجاحاً ، ليس بالضرورة لأنه أكثرنا ثقافة وعلمًا ، بل ربما لأنهم الأكثر نشاطاً والأعلى صوتاً ، أو كما قال شاعر: ولم يك أكثر الإخوان علماً ولكن كان أكثرهم نهوضا!

 

آراء