صديق محيسي: السماء السياسية حبلى بأمطار الدول الجهوية الصغيرة … حوار: صلاح شعيب

 


 

 

 

 

        منتدى الأحداث

الكاتب والصحفى صديق  محيسي: (1ــ2)

السماء السياسية حبلى بأمطار الدول الجهوية الصغيرة

الانقاذ طرحت مشروعها الإقصائى الذي زاد من حدة "الأبرتايد الدينى"

لن تستطيع  قوى المعارضة مجتمعة أو متفرقة هزيمة المؤتمر الوطنى

الصيغة الجديدة التي يقودها الترابى بأجندة باطنية لا تعدو كونها محاولة يائسة

الأمة والإتحادى، مهما طليا نفسيهما، بلون الحداثة فإنهما يبقيان تعبيرا متخلفا عن أزمة الهوية

حوار: صلاح شعيب

الأسئلة التي يثيرها (منتدى الأحداث) تهدف إلى معرفة آراء الخبراء، والأكاديميين، ونشطاء المجتمع المدني في بعض القضايا والمواضيع التي فرضت نفسها على واقع الجدل السياسي، بعضها منذ الإستقلال وأخرى جاءت في السنين الأخيرة، ولا زالت معلقة ولم تجد حلولا ناجعة من قبل الحكومات المتعاقبة. في الأيام السابقة إستضفنا عددا من الناشطين، كل في مجاله، لمعرفة تصوراتهم ورؤاهم حول الكيفية التي بها يمكن معالجة هذه القضايا، وإشباع هذه المواضيع حوارا بين النخب المتعددة في مشاربها الفكرية والسياسية والإثنية والثقافية والإجتماعية. وسنواصل هذه الحوارات بأمل خلق مساحة لحرية التداول، تتنوع فيها الآراء ليحدد القراء مواقفهم من الإجابات المطروحة بكل حرية وموضوعية سواء من المنتمين إلى هذه التيارات السياسية أو تلك. وإنطلاقا من قاعدة (الحرية لنا ولسوانا) نأمل أن نتيح الفرصة لكل ألوان الطيف السياسي والثقافي دون إنحياز، كما نأمل أن تجد كل هذه الآراء طريقها للنشر ليستخلص القراء الكرام المفيد منها في معرفة عمق التباين في أفكار ومرجعيات النخب السودانية في تحليلها عند الإجابة على هذه الاسئلة. وفي هذه المساحة نقرأ معا إجابات الكاتب الصحفى صديق محيسى،على أسئلة (منتدى الأحداث).

ضيفنا اليوم صحافى وباحث وناقد من جيل الستينات أسهم فى الحركة الثقافية والسياسية، وكان له دور مميز فى الصراع الذى خاضته نقابة الصحفيين الشرعية ضد نظام جعفر النميرى الى ان احلها الاخير بقرار جمهورى. اصدر  صديق محيسى فى المنفى  هو ويحى العوض  صحيفة الفجر المعارضة  لنظام الجبهة الاسلامية وله كتابان تحت الطبع الاول بعنوان (الصحافة السودانية والانظمة الشمولية)  والثانى بعنوان (حروب الترابى) ويعكف الان على اعداد كتاب بعنوان (صحفيون سودانيون فى المنفى).

*هل ترى أن هناك أزمة في فهم الهوية السودانية ما دعا النخب المتعلمة إلى الفشل في إنجاز مشروع الدولة؟

(ـ)كانت قضية الهوية السودانية أحد أهم المشكلات التي واجهت المثقف السوداني  في مرحلة ما بعد  الاستقلال، والمقصود  بالمثقف هنا وبشروط ذلك الزمان هو السياسى الذي نال قسطا من التعليم  الاستعمارى الذى لم يتوافر لكل الناس، ولكن دعنا نتساءل عن طبيعة تلك المواجهة، أو بمعنى آخر ماهو  فهم نخبة  ذلك الجيل  لهذه القضية التي  تبرز اليوم  بهذا الحضورالقوى ؟  ثمة عيب مرجعى ساد العقل المثقف ذاك عندما نظر الي الهوية من منظور عنصرى واحد هو منظور العروبة  والاسلام  باعتبار أن أي مفهوم  آخر خارج أسوار هذا التصور هو محض إنكار لحقائق الواقع، بل هو فى معظم الاحايين كفر بقيم المجتمع، وإلى ذلك سادت مفردة السودانى (عبد) ومفردة العربى الشخص المسلم  النقى عرقيا، أى أنه كانت هناك معايير خاطئة في الحكم على الانتماء الوطنى الذى  لاتزال آثاره باقية، لكن هذه المفردة (عربى) نفسها لاتجد إلا السخرية في المدينة عندما يوصف المواطن الآتى من الاقاليم الى المدينة بأنه عربى، أي أنه ساذج وغوغائى ولايحسن التعامل مع  قيم المدينة، وهنا يصاب الموضوع كله بالارتباك المفهومى فيؤدى إلى أغرب تمييز بيولوجى (عب  مقابل حلبى ) وإلي عهد قريب كانت الأسر ترفض تزويج  بناتها  للعبد (اسود) او للحلبى (ابيض)  ويبرز هنا مأزق كبير لا يمكن حل رموزه إلا بالرجوع الى القبلية التصريح الوحيد للتصنيف للنوع، بهذا المشهد الرمادى كان الفشل في بناء مشروع الدولة الحاضنة للجميع، الدولة التى تظلل الكل دون تمييز جينى، وإذا ألقينا نظرة سريعة لكل حكومات ما بعد الاسقلال، فلن نجد فيها إلا عددا قليلا جدا من ابناء الجنوب، او الغرب، او الشرق، وهذا ماحدا بكل هذه الاطراف الى رفع البندقية في وجه هذا المفهوم الاستعلائى والذى زاده الاسلامويون الجدد استعلاء حينما وظفوا الدين كعنصر جديد في قضية الانتماء الوطنى ومن ثم الهوية، ان فشل انجاز مشروع الدولة السودانية التي تعترف  بالجميع لم يحن بعد أوان تحقيقه، خصوصا  في ظل  فهم الاحزاب التقليدية لدلالة هذه الدولة التي تعتبرها ملكية خاصة للطائفة، وليس مشاعية وطنية لكل الناس، انظر لحزبين كبيريين كحزبي الامة والاتحادى الديمقراطى اللذين مهما طليا نفسيهما بلون الحداثة فأنهما يبقيان تعبيرا متخلفا عن ازمة الهوية التي يعانى منها السودان ومن هنا  يتعين على الاجيال المقبلة ان تواصل الصراع  الذى  بدأناه  لبناء  مشروع  الدولة التي يحلم بها الجميع. 

*كيف تقرأ المستقبل السوداني على ضوء مجريات الواقع السياسي، هل هناك ما يدعو إلى التفاؤل في ما يتعلق بالوصول إلى حل للإشكال المجتمعي السوداني التاريخي؟

(ـ)يتعين علي أى متابع لحالة الدولة السودانية الراهنة ان يربط ذلك بالمتغيرات العميقة التي تحدث داخل مجالها الجغرافى الذى توجد فيه، وعند قراءة المشهد بعيون ناقدة فاننا سنجد أن بعد  الاستقلال ونشوء الدولة الوطنية فى شكلها الايميبى، وتطورها الى الشكل المركزى، كان الحدث  السياسى ُيصنع دائما فى المركز باعتبار ان المركز هو المصنع الذى ينتجه بحكم وجود السلطة ومؤسساتها، ومؤسسات المجتمع المدني التى كان قوامها النقابات والهيئات والاتحادات، وكانت الاقاليم (الاطراف) هى الصدى لأى حدث يقع فى المركز، فمثلا عندما قامت ثورة اكتوبر عام  1964  والتى اطاحت  بحكم الرئيس ابراهيم عبود هرعت الآلاف من جماهير الاقاليم الى العاصمة الخرطوم لتدعم الثورة الشعبية، جاءت هذه الجماهير المؤمنة بالتغيير والمتحمسة له، مؤملة ان يطالها  هذا التغيير تنمية ونهضة يرفعان عنها المظالم التاريخية، غير ان هذه الجماهير  التى ساندت  سلطة النخب السياسية (الثورية) فى المركز سرعان ما اصيبت بالاحباط  لتنكر هذه النخب لها ولتضحياتها، بل ان مشروعهم الآيديولوجى كان اقصائيا الى درجة كبيرة مما فاقم من النزاع،  فتعود الى اقاليمها لتنتظر مجددا المركز كصانع للحدث السياسى، وبحكم الخلل التنموى المستمر والناتج  عن الاهمال وربما التأجيل المتعمد، لجأت الاطراف  الى منطق اخر وهو منطق  العنف، اى  الثورة ضد  ظالمها  ووجدت هذه الاطراف في الحركات المسلحة الجنوبية نموذجا تحتذى به مذكرين بان هذا  الانفجار الجديد برز لاول مرة واخذ يتصاعد بوتائر سريعة في عهد الاسلامويين الذين  استغلوا الدين كمعيار للوطنية والهوية والسلطة والثروة، ومن هنا يمكن القول ان المركز الذى كان يصنع  الاحداث صارهو الذى يتأثر بها وتتحكم فى حركته، وتحولت هذه  المهمة، مهمة صناعة الاحداث الي الاطراف، انظر قضية دارفور وشرق السودان وقبلهما الجنوب .

في غمرة هذا الصراع  ثمة ما يشي الي ان الدولة بشكلها ومضمونها القديمين لم تعد  قائمة  للاسباب التى اشرنا اليها، كما  يبدو واضحا  ان السماء السياسية  حبلى بأمطار الدول  الجهوية الصغيرة، اى  ان الجغرافيا السياسية تنتظر قيام كيانات جديدة الزمن وحده  قصر ام طال هو الذي سيعطى الجواز  الى بروزها .

لعب نطام الانقاذ دورا كبيرا فى هذا التحول، فهو بطرحه مشروعه الاقصائى زاد من حدة الابرتايد  الدينى فصار المتمرد عليه كافرا، والمؤيد له مسلما، لكن حتى اسلامه يخضع الى نظام الدرجات، وتعطى الحرب الطويلة التى خاضها الجنوبيون ضده  مثالا  قويا على هذا التصور، حكى لنا الراحل جون  قرنق وهو مستغرق فى الضحك كيف كان (مجاهدو) الانقاذ  يعدون اسرى الحركة  بالافراج  عنهم إن هم  تركوا ديانتهم المسيحية واعتنقوا دين الاسلام بل وقد حاول المتطرفون منهم ختان من وافقوا خوفا على التخلى عن دينهم، وهنا يتساءل قرنق ألا يحق لمن يسلم ان يكون محتفظا بوضعه  الذكورى دون مساس، ان نظاما  بهذه الايديولوجية سعى دائما لأن يعيد تقويم مواطنيه على اساس  المعيار الدينى، وهو امر يمس الهوية مباشرة بل ويجعلها  تحس بالدونية المقيتة.

*ما هي تصوراتكم لحل إشكال أزمة دارفور، وكيف يمكن الوصول إلى سلام دائم ؟

(ـ)تجيء ازمة دافور مكملة لتاريخ بداياتها، ففى حقبتى  الستينات والسبيعنات كان ينظراليها  كصراع قبلى محض على المراعى لاعلاقة له بالسياسة، وذلك انطلاقا من مفهوم ان الاقليم  الغارق فى الامية لا ينتج سوى تلك الصراعات الدموية والتى لن تتطور ابدا ليتغير مفهومها وتصبح ثورة مسلحة، وفى الوقت نفسه كانت هذه الامية الحاضنة  لبذرة الرفض تحتاج  الي من يوجهها توجيها  صحيحا  ووجدت ذلك  في طلائع الاجيال الجديدة التى نقلت القضية من خانة الصراع علي العشب الي خانة جديدة هى خانة الصراع على السلطة  والثروة، وهو امر لم يكن مطروحا  بهذه الحدة من  قبل، واذا القينا نظرة لأول ديمقراطية بعد سقوط حكم الرئيس الاسبق  ابراهيم عبود ظهر شكل جديد  للاحتجاج تمثل في جبهة نهضة دارفور وقبلها سونى والتي كانت اول رأس رمح لحروب قادمة، غير ان هذه الجبهة  والتى لم تستمر طويلا لم  تستطع  فعل شىء للاقليم  من داخل  قبة البرلمان ،  وراح زعيمها  الشاب احمد  ابراهيم دريج  يجادل  سلطة الخرطوم  متحدثا عن المظالم التي يعانى منها اقليم دارفور، وكانت صيغة الجمعية التأسيسية يومذاك  تبدأ بهل يعلم الرئيس ان المنطقة تلك  تعانى من العطش والمرض ولاتوجد بها شفخانة، وان النساء يمتن فى الوضوع لعدم وجود  قابلة، وكان رد الوزير المسئول  يجيب ( بنعم  نعلم)،من هذه الصورة  نعلم ان جبهة نهضة دارفور كانت تسعى من خلال العمل الديمقراطى لفت انظار سلطة الخرطوم الى خارج العاصمة، غيران الحكومات كانت تكذب دائما على  نهضة ابناء دارفور وجبهة ابناء البجة وبقية الاطراف،وتحيل  كل المطالب الي الميزانية الجديدة ،ليس ذلك وحده بل ان زعيما سياسيا مثل محمد احمد محجوب رئيس اول حكومة بعد  سقوط حكم عبود  كان ينظر باستخفاف  لنواب دافور، وذهب  به الاستعلاء  مذهبا ذم فيه بطريقة استفزازية احمد  دريج وسخر منه لأن الاخير كان ينطق كلمة القروض بقوله( القرود)، جرى ذلك خلال مناقشة الميزانية مما ادى الي انسحاب نواب دافور من الجلسة  بإعتبار ان محجوبا اظهرالجانب العنصرى فيه، وكان ذلك بحق، تركت هذه الواقعة جرحا عميقا في نفوس الدارفوريين وعكست في وجهها الاخر دلالة ان لسان المحجوب عربى مبين، ولسان الدارفوريين الذين يمثلهم دريج اعجمى، وان الذى يجيد نطق العربية فقط هو من يحق له الكلام، وهنا حدد المحجوب  بوعى جاهل معايير المواطنة تداعيا  تنحصر للوصول الى العرق العربى، كان ذلك يعنى ان الدافوريين بعد الجنوبيين هم مواطنون من الدرجة الثانية وان وظيفتهم تنحصر فقط  فى انهم مجال انتخابى  يمدهم بالنواب المختارون فى كل موسم انتخابات، علي هذا النحو  يتحمل حزب الامة تاريخيا  الوزر الاكبر  في قضية دارفور، فلم يكن فى مصلحتة فى يوم من الايام ان يشع النور فى  ذلك الاقليم، ولتتدخل الطائفية كرافعة كبرى لتثّبت ما يمكن ان نطلق عليه المفهوم الاحتكاري للارض والناس معا، اذن فان هذه القضية حتى لو وجدت الحل عبر اتفاق مثل اتفاق نيفاشا يعطى الدارفوريين الحق فى تقرير المصير، وهو المطلب الذى ستطرحه الحركات المسلحة فى اى مفاوضات مقبلة مع الحكومة، فإن بذرة دولة دارفور تكون قد ارتاحت فى تربتها. إن الازمة السودانية هى ازمة عقل سياسى  قبلى  تلافيفه غير قابلة للنمو، ويتجلى ذلك  نموذجا فى فهم رجال الانقاذ  للسلطة كما فهم الصادق المهدى والميرغنى لها.

*الانتخابات القادمة في فبراير 2010 ، هل تستطيع أن تحدث تغييرات جوهرية في طبيعة العمل السياسي الحكومي والمعارض، خصوصا إذا دخلت قوى المعارضة في تحالف ضد المؤتمر الوطني؟

(ـ)لن تستطيع  قوى المعارضة مجتمعة او متفرقة هزيمة المؤتمر الوطنى، وهاهم 17 حزبا  ومنظمة تواثقوا علي ان يكون مرشحهم  لرئاسة الجمهورية واحد لمنازلة البشير واسقاطه، وعلينا ملاحظة  ان من بين هذه الاحزاب حزب الامة الذي وقع اتفاقية ما اطلق عليها التراضى الوطنى مع الحزب الحاكم وهو يتكاتف الان مع المعارضة لاسقاطه،عاد الصادق المهدى كعادته فى فن التراجع والتذبذب ونفى لاخبار اليوم ان تكون مشاركة حزبه في هذا التحالف الجديد الهدف منها اسقاط  البشير، ان من الصعب ملاحقة تحركات الصادق المهدى الذى يريد الاحاطة بكل شىء دون ان يفكر مليا فى كنه كل شىء، ومن عجب ان لا اثر للحزب الاتحادى الديمقراطي ماركة الميرغنى الذى فضل رئيسه البحث عن ابرة فى كومة تبن وفى ظلام دامس والابرة نفسها لاوجود لها، لماذا  لايستطيع هذا التجمع اسقاط المؤتمر؟، والاجابة ببساطة شديدة هى ان هذا الحزب هو السلطة  والثروة معا، ومن يملك هذين العنصرين فكيف لاحزاب مفلسة ان تنازله، هذه القوى السياسية نفسها  هى التي ساندت وعاضدت البشير في معركته مع المحكمة الجنائية،  فبدلا من تقتنص تلك الفرصة  وتحاصر النظام الضعيف يومذاك وتفرض عليه شروط التحول الديمقراطى، وتخرج منتصرة، سارعت الى نجدته تحت شعارات خائبة مثل السودان يتعرض للتفكك والزوال ولابد  من حمايته من المؤامرات الاجنبية، مرة اخرى هل فى مقدور معارضة هذا ديدنها ان تفعل شيئا مفيدا، اليس من المعيب ان تهدد امراة واحدة في بورما اعتى العسكريين بينما معارضونا هنا يشتغلون بنظرية( ده بر وده بره) كان في مكنة حزب كالشيوعى ان يتصدرهذه القوى بماله من تراث مقدر في منافحة الانظمة الشمولية ولكن حزب الطبقة العاملة والمزارعين نراه يتراجع عن قيادة الشارع ربما   لايريد تكرار نظرية وجه المدفع او وش القباحة التى طالما مارسها اكثر من ربع قرن من الزمان  قطف ثمراتها احزاب الظل التقليدية.

ان الصيغة الجديدة التي يقودها  الدكتور حسن الترابى بأجندة باطنية لاتعدو كونها محاولة يائسة مع نظام يمتلك كل القوة مقابل معارضة تمتلك كل الضعف، لايغنى وجود الحركة الشعبية فى هذا التجمع عن جوع، لان سياسة رجل فى الطوف ورجل فى المركب لاتجعل من هذا الكيان جادا الى هذا الحد، لاحظوا معنا  كيف بدأ المؤتمر دعايته الانتخابية منذ الان عبر مشاريع  يحرص البشيرنفسه علي افتتاحها، لاحظوا كل نشرات الاخبار لاتحفل بشىء سوى البشير، لقد وظف االتلفزيون الرسمى وقناة الشروق للمعركة منذ الان، فهل بعد هذا  يمكن التعويل علي معارضة  تلعب فى  الزمن بدل الضائع؟ نعم الانتخابات القادمة يمكن ان تغير من طبيعة العمل السياسي ولكن فى مصلحة الحزب الحاكم. انظرمؤامرات هذا الحزب عبر  بوابة  الدكتور لاما كول الذى يحاول اقناعنا بان حركته  الجديدة من اجل التغييرفقط داخل الحركة الشعبية وليست ضمن  افاعى  الساحر صلاح قوش الحاكم غير المرئى للسودان.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منتدى الأحداث

الاستاذ صديق  محيسي: (2ــ2)

هناك فئة من المثقفين إحترفت الإنتهازية ودعمت الشمولية ومارست البغاء السياسى

سياسيون يغيرون ولاءاتهم من حزب إلى آخر مثلما يغيرون ملابسهم الداخلية

الهمة القومية المفترضة تحولت منذ ثمانينات القرن الماضى إلى همة جمع السلطة المال

هل هناك حزب سوداني بالمعايير والشروط العلمية للأحزاب السياسية؟

قيام الأحزاب فى السودان لم يكن تعبيرا عن رغبة جماهيرية

حوار: صلاح شعيب

الأسئلة التي يثيرها (منتدى الأحداث) تهدف إلى معرفة آراء الخبراء، والأكاديميين، ونشطاء المجتمع المدني في بعض القضايا والمواضيع التي فرضت نفسها في واقع الجدل السياسي، بعضها منذ الإستقلال وأخرى جاءت في السنين الأخيرة، ولا زالت معلقة ولم تجد حلولا ناجعة من قبل الحكومات المتعاقبة. في الأيام السابقة إستضفنا عددا من الناشطين، كل في مجاله، لمعرفة تصوراتهم ورؤاهم حول الكيفية التي بها يمكن معالجة هذه القضايا، وإشباع هذه المواضيع حوارا بين النخب المتعددة في مشاربها الفكرية والسياسية والإثنية والثقافية والإجتماعية. وسنواصل هذه الحوارات بأمل خلق مساحة لحرية التداول، تتنوع فيها الآراء ليحدد القراء مواقفهم من الإجابات المطروحة بكل حرية وموضوعية سواء من المنتمين إلى هذه التيارات السياسية أو تلك. وإنطلاقا من قاعدة (الحرية لنا ولسوانا) نأمل أن نتيح الفرصة لكل ألوان الطيف السياسي والثقافي دون إنحياز، كما نأمل أن تجد كل هذه الآراء طريقها للنشر ليستخلص القراء الكرام المفيد منها في معرفة عمق التباين في أفكار ومرجعيات النخب السودانية في تحليلها عند الإجابة على هذه الاسئلة. وفي هذه المساحة نقرأ معا إجابات الأستاذ صديق محيسى،على أسئلة (منتدى الأحداث).

ضيفنا اليوم صحافى وباحث وناقد من جيل الستينات أسهم فى الحركة الثقافية والسياسية، وكان له دور مميز فى الصراع الذى خاضته نقابة الصحفيين الشرعية ضد نظام جعفر النميرى الى ان احلها الاخير بقرار جمهورى. اصدر الاستاذ صديق محيسى فى المنفى  هو ويحى العوض  صحيفة الفجر المعارضة  لنظام الجبهة الاسلامية وله كتابان تحت الطبع الاول بعنوان (الصحافة السودانية والانظمة الشمولية)  والثانى بعنوان (حروب الترابى) ويعكف الان على اعداد كتاب بعنوان (صحفيون سودانيون فى المنفى).

*الإستفتاء على تقرير المصير: إلى أي مدى يمكنك التفاؤل بنتيجته فيما خص وحدة السودان  وإذا قدر للجنوب الإنفصال هل تتوقع أن تموت فكرة (السودان الجديد) التي دعا إليها الزعيم السوداني الراحل جون قرنق؟

(ـ)ترك غياب قرنق فراغا كبيرا داخل الحركة الشعبية لكون وزنه يتجاوز  صفة  السياسى المقاتل الي صفة المفكرالفاعل، كا ن الرجل بحق يحلم بسودان جديد غير السودانات التى كانت سائدة وشتان  ما بين  الحلم والواقع، فالحلم هو امنيات يتمنى صاحبها ان تتحقق،  ولكن الواقع هو الوحيد الذى  يزيل الضباب من غلالة الاحلام ، فقرنق مات دون ان نختبر حلمه ترجمة وفعلا على الارض، اما اليوم  فليس هناك احد داخل الحركة الشعبية ملزم الان بتحقيق احلام قرنق، فكل ما تبقى من الرجل  هو احتفالات سنوية بذكرى رحيله، وليس بصوابية افكاره يسوقنا هذا الى ان القوميين داخل الحركة  الشعبية لم يكونوا فى يوم من الايام متفقين مع قرنق حول شعاره السودان الجديد ولكن طغيان شخصيتة هى التى جعلتهم لايجاهرون بالرفض  للشعار، فهم ينظرون الى اتفاق نيفاشا بكون الخطوة الاولى الى الانفصال انظر الان لما يقوم به لاما كول  نيابة عن حزب المؤتمر الوطنى فهو  متمرس فى صناعة الانقسامات والقسمة، نجىء الى الحركة الشعبية من باب  قبلى  فنجدها  تركيبة تغلب عليها  قبيلة الدينكا، واذا قال احد ان الكفاح  المسلح  قضى على القبلية فى التنظيم  فسيكون بذلك قفز فوق واقع الجنوب الذى لايزال يقدس السلطان والكجور، داخل هذا المشهد لنا ان نتصورالمعارك الدموية  التي حتما ستندلع  بين القبائل اذا صوت الجنوبيون  للانفصال اوحتى اذا بقوا داخل الدولة الاتحادية المفترضة، فها هو لاما كول قد اطلق البارودة الاولى فى حروب تتجمع  سحبها فوق سماء الجنوب، ان الحديث عن الوحدة الجاذبة  هو شعار انشائى دخل قاموس السياسة بعد  توقيع اتفاق نيفاشا، ومن كثرة ترديدة من طرفى الاتفاق صار مصطلحا  يثير السخرية اكثر من اثارة الحماسة الوطنية، كيف نتحدث عن وحدة جاذبة، وفهم بعض المثقفين والمتعلمين الجنوبيين لها انها تاريخ من اضهاد الشمال، وعلى الشماليين تعويضهم عن ذلك، وبهذه المناسبة علمت من مصادر جنوبية صديقة ان  بعض المثقفين الجنوبيين فى اوربا  يتجهون الى تحريك دعوة تعويض عن تجارة الرقيق التى مارسها ضدهم  بعض التجار الشماليين فى الماضى .

*هل أضعف بروز التيارات والأفكار (الإثنية أو الجهوية) إلى سطح العمل السياسي الهمة القومية في كل مناحي الحياة، وهل ترون أن هذه التيارات والأفكار ستختفي في حال الوصول إلى سلام دائم في كل أنحاء القطر عبر تسوية قومية؟

 (ـ)وفق تركيبة الحكم الحالية فان الهمة القومية المفترضة تحولت منذ ثمانينات القرن الماضى الى همة جمع السلطة المال، انظر كيف تنمو هذه الهمة عن بارونات حزب المؤتمر الجبهة سابقا المتخمين  بالثراء الحرام؟، وانظركيف تنمو فى عقلى المهدى والميرغنى ؟، الحديث عن همة قومية  وافّضل  وطنية لايمكن ان يكون صادقا الا اذا محونا اميتنا السياسية اولا، ثم استطعنا بعد ذلك بناء مجتمع ديمقراطى حقيقى، وهذه مهمة اجيال مقبلة  فشل هذ الجيل فى انجازها، اما الحديث عن سلام دائم فهو امر قد يكون مقبولا  لفظيا، ولكن عمليا، فأن السؤال يصطدم مباشرة بالخلل المفهومى لدى  قيادات الاحزاب التقليدية لقضية الوطن كله  ناهيك عن قضايا اطرافه،  وهذه  تعيد  الى الذهن  مقولة ان القوس والسهم سيكونان بلا معنى اذا كان الرامى لايعرف استخدامهما بدربة عالية، ارى ان  الاثنيات والجهويات ستبرز بقوة  اذا سارت الامور بالايقاع الذى نشهده اليوم. قديما قال المفكر  المارتينكى الاصل فرانز فانون فى كتابه الاشهر ( معذبو الارض)  

 أن هناك (فئات من الناس لا يحملها إمكان ارتفاع راية وطنية وإمكان قيام أمة فتية على التنازل عن امتيازاتها وعن مصالحها. كما يبيت لزاماً على الشعب أيضاً أن يدرك أن هناك أناساً من بني وطنه لا يتمسكون بمصالحهم فحسب، بل ينتهزون كذلك فرصة النضال لتعزيز وضعهم المالي وقوتهم. فهم يتاجرون ويحققون أرباحا طائلة، على حساب الشعب ـ الذات ـ الذي يضحي بنفسه دائما، ويروي بدمه تراب الوطن. إن المناضل الذي يجابه بوسائله البدائية آلة الاستعمار الجهنمية ـ آلة الآخر العالمي ـ يكتشف أنه بقضائه على الاضطهاد الاستعماري يساهم في خلق جهاز استغلالي آخر، وهو اكتشاف مؤلم وشاق ومثير. فقد كان الأمر بسيطاً للغاية في البداية، كان هناك في نظره أشرار من جهة، وطيبون من جهة أخرى. أما بعد الاستقلال الوطني، يحل محل الوضوح الخيالي اللاواقعي الأول ظلام يفصم الوعي. إذ يكتشف الشعب أن ظاهرة الاستغلال الظالمة يمكن أن تأخذ مظهراً أبيضاً أو عربياً (سودانيا) . والخيانة هاهنا ليست وطنية فحسب بل ثقافية  ، لذا على الشعب أن يتعلم كيف يُندد باللصوص. وعليه كذلك في مسيره الشاق إلى المعرفة العقلية أن يترك تلك النظرة التبسيطية الساذجة التي كان يتميز بها إدراكه للمتسلط  )

ان حديث فانون الذي فصله على واقع  الثورة الجزائرية  قبل مايزيد عن نصف قرن من الزمان  يمكن انزاله اليوم على حالة السودان حين نكتشف ان الفكر الاستعمارى يمكن ان يتطور  ليصبح فكرا وطنيا  قائما على الانانية  الطائفية وان بدا للرائى انه مصلحة وطنية، الى ذلك  فان مفهوم الهمة الوطنية التى يثيرها السؤال يتحول  بفعل  ماهو كائن الى حيز هو اربعة جدران هى حزب العائلة وليس حزب كل الناس .

على صلة بموضوع  السؤال دعنا نرصد  قدرة البعض علي تحويل ولاءاتهم  من حزب الى اخر  مثلما يغيرون ملابسهم الداخلية، تلك الظاهرة  التى نشأت فى بداية  ممارسات الاحزاب السياسية تجد  لها امتدادا وراثيا فى الوقت الراهن، عادت الصحف مرة اخرى تنشر اسماء اسر بأكملها  تعلن انضمامها لحزب المؤتمر الحاكم، الى اى خانة يمكن ان نضع  مثل هذا السلوك، والي اي سبب ننسب ذلك، هل هو الحاجة للمال بسبب الظروف الاقتصادية الضاغطة، ام هو عدم الايمان اصلا بطروحات الحزب القديم اذا كان له طروحات اصلا، كم تمعنت اوبالاصح (تمحنت) فى هذه المخلوقات التي يمكن ان تتحول من اليسار الى اليمين او العكس فى لحظة دون ان تهتز لها  شعرة كما نقول، و ليس ادل على هذا مما نشهده  من زحف مقدس تجاه حزب السلطة والمال، والذى يثير  الضحك والحزن فى ان واحد هو ترحيب الحزب الحاكم بالقادمين الجدد  الذين يعلم جيدا ان دوافعهم   ليست اعلاء  راية الاسلام  بقدرما  هى اعلاء راية الكذب والنفاق .

*فكر الاحزاب والتنظيمات السياسية: هل يتحمل نتيجة الفشل السياسي، أم أن قواعد هذه الاحزاب تتحمل أسباب ضمور هذه الأحزاب ما أدى إلى فشل قياداتها؟

(ـ)دعنا نسال انفسنا اولا، هل هناك حزب سياسى بالمعايير والشروط  العلمية للاحزاب السياسية وفق تعريفها  الحقيقى والمتفق عليه علميا وعالميا؟ واستثنى هنا الاحزاب العقائدية فهى الوحيدة التى تمتلك  فكرا، وهل قاعدة الحزب ايا كانت درجة نضوجها  او تخلفها  هى فى حالة  اخذ وعطاء مع قيادتها ؟، يعيدنا هذا السؤال الي وجهات نظر كنا قد قلناها من قبل، فاذا كان التعريف العلمى  للحزب بوصفه  شأنا  شعبيا  هو  الجماعة التى يجمعها  هدف واحد  ورؤية واحدة، او متقاربة على الاقل، فان الحزب فى السودان هو عكس  هذه  النظرية تماما، فهو هو عبارة عن قيادة  تجمعها مصلحة واحدة  وهى الهدف  الاساس من بناء الحزب اصلا، واذا عدنا  الى الوراء  سنجد  ان قيام الاحزاب فى السودان لم يكن تعبيرا عن رغبة جماهيرية  اي ان هذه الاحزاب وخصوصا التقليدى منها  نشأ  فى كنف السيدين لدرجة ان مصطلحا  مثل حكومة السيدين ساد باستسلام بعد الاستقلال، اذن فالحزب السياسيى  كان اداة لحماية مصالح السيدين وهو الان اداة لحماية مصالح  سيدين جديدين راهنة كانت او منتظرة،  ثمة حقائق  جديدة  خلقتها الانقاذ  بعد عمر في السلطة  دام عشرون عاما، من هذه الحقائق واخطرها انها غيرت التركيبة السكانية  التقليدية بدءا من الطبقة التجارية القديمة و انتهاء  بالوسط  السكانى  فى العاصمة المثلثة  والمدن الكبرى فى البلاد،  ولقد عمدت  هذه السلطة  بمكر سياسى مسبق من احلال  قوى ريفية متخلفة  محل قوى سياسية  حديثة  ومستنيرة  فتح  لها الباب لتهاجر خارج  االبلاد، ولاول مرة نسمع بطلبات اهداء اغانى تجىء الي التلفزيون   والقنوات الفضائية والراديو من الولايات المتحدة واستراليا وكندا وهولندا وماليزيا، حتى الصين واليابان وصلتها الدياسبورا السودانية واذكرعندما كنا فى بريطانيا نصدر صحيفة الفجر المعارضة  كانت تصلنا نشرة سياسية منتظمة من فرع التجمع برأس الرجاء الصالح، تصور رأس الرجاء الصالح التى كنا نقرأ عنها فى كتب الجغرافيا لقد نجح  النظام الشمولى فى احداث هجرتين واحدة  الى خارج البلاد والثانية من الريف الى المدينة من اجل خلق وسط شعبى  جاهل  تماما  بامور السياسة، الى ذلك  فأن السكان الجدد  فى عاصمة البلاد ماهم الا كنتونات من الفقر والجهل تحتاج هى نفسها الى محو امية، وهذا بالضبط  مايريده سادة الدين والمال، سلطة مطلقة لايهددها احد، واذا عدنا الى السؤال عن مسئولية قواعد الاحزاب،  فعلينا ان نتأمل  هذه الخريطة الجديدة، يوجد الان اناس جدد بجانب قوى شبابية لا تهتم ابدا بالسياسة.

*المثقف سوداني: ماهي حسناته وعيوبه وهل يتحمل بعض الوزر في فهم كيفية العلاقة بين السلطة والمثقف  مابعد فترة الاستقلال؟

(ـ)هناك  فئتان من المثقفين السودانيين، فئة احترفت الانتهازية ودعمت  كل نظام شمولى من اجل مصالحها الذاتية، وهذه  تمارس البغاء السياسى علنا ولاتستحى ابدا، وجلدها كجلد سلحفاء،  ومستعدة  لتقديم خدماتها الى كل من يدفع اكثر، ولقد شهد السودان منذ الاستقلال وحتى الان سلالات من  المثقفين المتصوفين فى حضرة مصالحهم ، وهؤلاء لهم قدرة  خارقة  فى تغيير اقنعتهم  مثلما يغير الثعبان جلده، او مثلما تفعل الحرباء فى حوض الزرع كانت اكثر العهود ازدهارا بالنسبة للمثقفين  المخصىين  اخلاقيا هى العهود الشمولية وكانت مايو  تحديدا بداية عصر النهضة لهؤلاء،  ثم جاءت ( الانقاذ) وكانت حاضنة  دافئة لهم.  مثقفو بعد فوات الاوان هم  العشبة الضارة التى تنمو وسط الزرع  الطيب يتيحنون الفرص للانقضاض علي نتائج الثورات الشعبية مثل ماحدث فى ثورتى اكتوبر وابريل .

اعيد هنا مرة اخرى ماقلته فى مقالات سابقة ان السودان عانى ولايزال يعاني من نخبة المثقفين الانتهازيين التي تحولت في عهد الانقاذ الي ما يشبه الطبقة بكل ما تحمل الاخيرة من مواصفات  التكوين، ومن كثرة  تدافعها  بالمناكب حول كل حاكم سواء اتي بالبندقية ام صندوق الانتخابات صارت تتناسل مثل القطط، تناول عبد الرحمن الكواكبي  سيرة الانتهازيين من العلماء والكتاب والقراء  في كتابه المعروف  طبائع  الاستبداد  ومصارع الاستعباد  فقال (المستبد يجرب أحياناً في المناصب والمراتب بعض العقلاء الأذكياء أيضاً اغتراراً منه بأنه يقوى على تليين طينتهم و تشكيلهم بالشكل الذي يريد ، فيكونوا له أعواناً خبثاء ينفعونه بدهائهم ، ثم هو بعد التجربة إذا خاب و يئس من إفسادهم يتبادر الي إبعادهم أو ينكل بهم ، و لهذا لا يستقر عند المستبد إلا الجاهل العاجز الذي يعبده من دون الله ، أو الخبيث الخائن الذي يرضيه و يغضب الله. المستبد في لحظة جلوسه على عرشه ووضع تاجه الموروث على رأسه يرى نفسه كان إنساناً فصار إلهاً. الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرّاش، إلى كنّاس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً، لأن الأسافل لا يهمهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أي كانت ولو بشراً أم خنازير، آبائهم أم أعدائهم، وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه، وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته، فكلما كان المستبد حريصاً على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد الدقة في اتخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذمة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة، وهي أن يكون أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفةً وقرباً، ولهذا لا بد أن يكون الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم في الأمة، الموظفون في عهد الاستبداد للوعظ والإرشاد يكونون ـ مطلقاً ـ ولا أقول غالباً، من المنافقين الذين نالوا الوظيفة بالتملق، وما أبعد هؤلاء عن التأثير، لأن النصح الذي لا إخلاص فيه هو بذر عقيم لا ينبت، و إن نبت كان رياءً كأصله )

 اذا جئنا الى الفئة الثانية، فئة المثقف العضوى كما يسميه غرامشى  فهى صراحة نادرة جدا، وتكاد تكون كمعاف وحيد  بين مرضى مجزومين، ان هؤلاء لعبوا دورا هاما فى الحياة  السياسية  وبعضهم دفع سنوات من عمره فى  السجون والمعتقلات  والمنافى  فى مكافحة ومنافحة الانظمة الشمولية        فهم  حقا  نماذج عالية الهمة الوطنية يشغلها مستقبل السودان اكثر مما يشغله مستقبل عيالها. 

 

 

 

آراء