“منبر الدوحة” وكلام غازي والدور المصري الليبي الأميركي

 


 

 

 

محمد المكي أحمد

modalmakki@hotmail.com

 

نشطت بعض العواصم العربية أكثر من أ ي وقت مضى، خاصة خلال خلال شهر أغسطس الجاري ، فشهدت اجتماعات حول أزمة دارفور، كما واصلت الادارة الأميركية الجديدة من خلال مبعوثها الى السودان السيد سكوت غرايشن جولات ولقاءات مهمة  في السودان وخارجه، للبحث في سبل انجاح جولة مفاوضات متوقعة بين أطراف النزاع السودانية ستعقد  في العاصمة القطرية الدوحة قريبا .

 

هذا الحراك السياسي الكثيف يؤكد مجددا أن قضية دارفور تحولت منذ فترة طويلة الى  قضية اقليمية دولية تحظى باهتمام يتصاعد كل يوم.

 

البعد الانساني يضاعف من تحديات الأزمة، في ظل حال التردي في  معسكرات اللاجئين،  كما شاهدت بؤس حالها ومأساوية أوضاعها  في شهر مايو 2008 داخل  معسكري السلام وأبوشوك في  مدينة الفاشر.

 

مشاهد وأوضاع   البؤس والمعاناة في كل معسكرات اللاجئين  هناك  تشكل عنصرا ساخنا  من عناصر الضغط  بشدة  لا على الحكومة السودانية وحملة السلاح من أبناء دارفور فحسب،  بل على الوسطاء أيضا والمجتمع الدولي.

 

في هذا السياق لم ينقطع السعي القطري في سبيل تهيئة الأجواء للجولة المقبلة للمفاوضات في قطر، ويلاحظ أن الدوحة تعمل في إطار  نهج  دبلوماسي هاديء، بعيد عن الصخب الاعلامي و التصريحات الاستهلاكية التي تشكل سمة من سمات السياسة العربية ، وهي سياسة عربية  -في أغلب الأحوال- لا تقترن فيها الأقوال بالأفعال .

 

اللافت في اطار هذه التفاعلات والتحركات المكثفة التي شهدتها عواصم عربية مهمة كالقاهرة وليبيا أن  أصوات عدة تحدث بتفاؤل ملحوظ عن  امكان نجاح الجولة المقبلة للمفاوضات في الدوحة، وبدا ذلك واضحا  في تصريحات صدرت على لسان مسؤولين في الجامعة العربية .

 

الأهم في هذا السياق أنه مع  كثافة  التحركات  المصرية الليبية بشأن ملف دارفور، وأهمية دور البلدين  في دفع آطراف النزاع السوداني الى مرحلة جديدة لانجاح المفاوضات المقبلة في قطر ، فان تأكيدات مهمة وحيوية  وردت على لسان المسؤول الحكومي السوداني عن  ملف دارفور الدكتور غازي  صلاح الدين مستشار الرئيس السوداني.

 

غازي سئل في القاهرة في الثالث والعشرين من أغسطس الجاري عن تعددية المنابر التفاوضية حول أزمة دارفور فجاء كلامه واضحا لا  لبس  فيه.

 

مسؤول ملف دارفور قال وفقا لوسائل الاعلام  إن "التفاوض هو من منبر واحد فقط والذي تشرف عليه دولة قطر بناء على قرار الجامعة العربية ، وفي اطار اللجنة العربية الافريقية التي ترعى هذا التفاوض".

 

وأضاف في مؤتمر صحافي مشترك مع الأمين العام للجامعة العربية السيد عمرو موسى  حسب ما أوردت وكالات الأنباء أن "التفاوض الذي تقوم به دولة قطر نحن ملتزمون به ، والمجهودات التمهيدية لهذا التفاوض، سواء بتوحيد المواقف التفاوضية من قبل الدول المختلفة ، فهذا أمر يمكن أن تقوم به مصر أو الجماهيرية الليبية بالتنسيق مع السودان ، ونحن على اطلاع على هذا الأمر".

 

هذا الموقف ايجابي و يتسم بالمسؤولية والحكمة والوضوح  ، كما  ينسجم أيضا مع نص قرار كان  صدر في القاهرة تم بموجبه تكليف  قطر رئاسة اللجنة العربية الافريقية المعنية بملف دارفور والتي تضم دولا عربية بينها مصر والجماهيرية الليبية، وهما دولتان جارتان للسودان،  وتلعبان ادورا مؤثرة بالأمس واليوم  في الشأن السوداني بحكم علاقات التاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة.

 

إضافة الى  ذلك أشير الى أن   التمسك بمنبر الدوحة التفاوضي هو محل اتفاق بين الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة التي  كانت بادرت  بالتوجه الى الدوحة منذ أشهر  للمشاركة في المفاوضات مع الوفد الحكومي السوداني، وشكل ذلك كما اشرت

 

في مقال سابق نشرته (الأحداث)  خطوة تاريخية مهمة،  تعبر عن وعي سياسي بقيم  الحوار وحتميته ، مهما كانت طبيعة الخلافات الحادة بين حركة العدل  والحكومة السودانية.

 

في آخر جولة للتفاوض بين الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة شهدتها الدوحة في أواخر مايو واستمرت الى أوائل يونيو 2009  أكد الجانبان التزامهما بمنبر الدوحة التفاوضي، وأنهما سيعودان الى قطر لاستئناف المحادثات رغم أن الجولة الأخيرة اصطدمت بمشكلة عدم اطلاق الحكومة  عدد من  الأسرى والمحكومين والموقوفين، كما نص على ذلك اتفاق حسن النوايا وبناء الثقة الذي وقعه الجانبان. .

 

هذا التوافق بين حركة العدل والمساواة  والحكومة السودانية بشأن تمسك الطرفين بالدوحة مقرا للمفاوضات الرئيسية  

 يعكس أيضا موقفا ملتزما بقرار تكليف قطر رئاسة اللجنة العربية الافريقية الخاصة بأزمة دارفور.

 

هذا  الموقف المشترك لم ينبع من فراغ او مجاملة، لكنه نتاج قناعات بحيوية ونزاهة وصدقية الدور القطري، اضافة الى ما يعنيه التزام أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني بالمساهمة الفاعلة في اعمار دارفور كما فعل في جنوب لبنان، وربما أكثر من ذلك، بسبب قساوة الحياة في دارفور وافتقارها لكثير من مقومات الحياة الكريمة، مثل بقية مناطق أخرى في السودان ، وبينها كردفان مثلا.

 

قطر دولة تتمتع بدبلوماسية وسياسة منفتحة على كافة ألوان الطيف السياسي منذ سنوات عدة ، وهذه سمة مهمة، يعرفها السودانيون الذي عايشوا القطريين سنوات طويلة، وخاصة في فترات شهدت أوضاعا ديكتاتورية استبداية في السودان.

 

قطر لم تعامل السودانيين وفق تصنيفات سياسية ضيقة  لمواقفهم من هذا النظام أو ذلك، وكانت الدوحة ومازالت  تعامل السوداني من فهم مدرك لخارطة التعددية السياسية والعرقية والدينية في السودان

 

تلك  الخارطة فشل كل الذين حاولوا داخل السودان أو خارجه القفز على حقائقها التاريخية  أن يمرروا أجندتهم الخاصة ، سواء بالتآمر او بأساليب أخرى.

 

من أرضية الوعي القطري بالتعددية السودانية وخارطة التضاريس السودانية السياسية الصعبة والمعقدة انطلق أيضا القطريون من دون أجندة خفية في مد جسور للتواصل بين المتقاتلين في دارفور، وشمل ذلك الطرفين الحكومي وحركة العدل والمساواة.

 

القطريون سعوا ويسعون  الى أشراك بقية الفصائل الدرافورية في مفاوضات الدوحة، ليأتي الحل شاملا، ولتؤخذ العبرة والدروس النافعة  من اتفاقات ثنائية  سابقة  فاشلة أو متعثرة ، سواء في أبوجا او نيفاشا، مع تأكيدي  على أن نيفاشا وضعت حدا للحرب  بين الجنوب والشمال، وأحدثت انفراجا سياسيا تاريخيا في السودان، لكن المشكلة تظل في ثنائية الاتفاق والتلكؤ في تطبيق عدد من بنوده.

 

من خلال متابعتي على مدى سنوات للسياسة القطرية، وخاصة في هذه المرحلة، أجدد التأكيد على أن تولي قطر ملف دارفور يشكل فرصة تاريخية للسودانيين، ويعود ذلك لأسباب عدة، بينها صدقية ونزاهة الدور القطري وحيويته، ومدى الاحترام والتقدير والدعم الذي تجده قطر من دول كبرى معنية بملف دارفور، وفي صدارتها الولايات المتحدة الأميركية.

 

المؤشرات كما كتبت في "الأحداث" غير مرة تؤكد أن الرئيس الأميركي الجديد باراك اوباما يركز على سياسة الحوار والتعاون مع السودان ودول أخرى لاطفاء الحرائق ، لكن لا أعتقد بأن  في مقدوره أن يتجاهل حقوق الانسان والحريات وقضايا العدل والمساواة في السودان.

 

هذه القيم شكلت منطلقات لحملة اوباما  الانتخابية، وهي تعبر عن فلسفته السياسية وقناعاته حسب ما أكدته أقواله حتى الآن، كما تشكل تلك القيم  قاسما مشتركا بين الادارة الاميركية وأوساط سياسية أميركية أخرى، سواء  تلك  التي تدعو لسياسات  أميركية جديدة "ذكية"  تجاه السودان حسب تعبير السيد  سكوت غرايشن مبعوث اوباما الى السودان، أو الأوساط التي تتخذ مواقف "عدائية" ضد النظام السوداني الحالي، وربما ضد   أنظمة حكم متعاقبة  على مدى سنوات.

 

أخلص من كل هذه التفاعلات  الى أهمية  التكامل بين الأدوار القطرية والمصرية والليبية والأميركية والاوروبية  والأفريقية والعربية والدولية في سبيل انجاح جولة المفاوضات المقبلة في قطرالتي تمثل الموقع الأفضل لاحتضان الفرقاء السودانيين من دون ممارسة ضغوط تحت الطاولة أو فرض املاءات.

 

لكن نجاح الجولة المقبلة لمفاوضات الدوحة  حسب قراءتي لمسار المفاوضات يتطلب "مرونة" تؤدي  لتطبيق اتفاق حسن النوايا وبناء الثقة الذي وقعته الحكومة السودانية وحركة العدل في الدوحة في أول جولة مفاوضات ناجحة بين الطرفين، تمهيدا لاتفاق أكبر يوقف اطلاق النار.

 

أكرر التأكيد على أن حل عقدة تطبيق اتفاق حسن النوايا سيفتح آفاق الحل الشامل لأزمة دارفور، خاصة في ظل توجه محسوس وخطوات  ايجابية شهدتها  ليبيا والقاهرة في سبيل توحيد مواقف تفاوضية لحركات درافورية متعددة المسميات ، وقد أضر هذا التكاثر والانقسام والتناحر  بقضايا انسان دارفور المظلوم الذي يبحث عن "لقمة العيش" والأمن والعدل والمساواة.

 

في هذا الاطار لعل الحكومة تفطن الى درس مرير يتطلب عدم دعم الانشقاق في اوساط الحركات الدارفورية الكبرى، كما فعلت في اوساط الأحزاب.

 

 وهاهو النظام في السودان يدفع الآن ثمن دعمه للانشاق في اوساط "المتمردين" من حاملي السلاح أو القوى السياسية المعارضة، كما يدفع السودان ثمنا باهظا بسبب " تشتت" تلك القوى، كما يعاني الوسيط القطري والوسطاء الدوليون من "الفسيفساء" و" التضاريس" السودانية  .

 

برقية

الكرة مازالت  في ملعب الحكومة السودانية، وحركات دارفور،  وفي مقدمتها حركة العدل والمساواة والقوى السياسية السودانية التي يصعب تجاوزها في أي حل اذا اريد له أن يكون  شاملا ودائما.

عن صحيفة (الأحداث) 28 -8- 2009

 

 

 

 

آراء