قصة رجل قتلته الوثائق الأمريكية وهو حي يرزق ..
6 September, 2009
(الجوكر) أحد ضباط (19) يوليو يخرج عن صمته: نجوت من أنياب الكلاب الجائعة..!ّ
اليمني هو الذي اعتدى على الشفيع .. وأبو القاسم ضرب الأنصاري بكرسي الخيزران
حوار/ ضياء الدين بلال- البراق الوراق
بهدوء ممتع يقوم الصحفي السوداني البارع الاستاذ /محمد علي صالح كبير مراسلي صحيفة الشرق الاوسط اللندنية في واشنطن بترجمة وثائق عن السودان بالغة الأهمية والحساسية وذلك من الوثائق الرسمية الأمريكية التي تنشر بعد مرور ثلاثين عاما.. وحوت تلك الوثائق المترجمة معلومات مثيرة رصدت عبر مصادر مختلفة..ومصدر الاثارة انها تحركت بحرية في مساحات المسكوت عنه في السياسة السودانية..اقتحمت السجلات الخاصة لأبطال المسرح السياسي السوداني، ولم تقف على ذلك بل اخضع حتى أصحاب الادوار الثانوية والكومبارس ،لتنقيب قاسي في سيرتهم الذاتية،الوثائق وما حوت من معلومات كشفت مقدرات وامكانيات السفارات في السودان على جمع المعلومات بسهولة ويسر ، وذلك يرد لطبيعة خاصة بالشخصية السودانية ذات الميل الفطري للاستعراض بالمعلومات...فغالب المعلومات التي وردت في ترجمات صالح يمكن ردها لتلك الخاصية،بمعنى ان بذل المعلومات بسخاء في المجالس كان دوما أكبر معين لرجال السفارات والمخابرات في الحصول على أكبر قدر من المعلومات التي قد يصعب في بعض الاحيان تمييز ثمينها من غثها وصحيحها من كذبها.
في الوثيقة رقم (28) من الوثائق الامريكية التي يقوم بترجمتها صالح..وهي تعرض تفاصيل دقيقة جداً عن الايام الثلاثة لانقلاب (19) يوليو مرسلة من سفير واشنطن بالخرطوم الى وزارة خارجيته..ذكرت الوثيقة عن الاعدامات التي تمت بعد عودة نميري ذكرت الآتي:
(التاريخ: 30-7-1971
من: السفير، الخرطوم
الى: وزير الخارجية
الموضوع: انقلاب السودان
«نفذ حكم الاعدام في:
بابكر النور عثمان، هاشم محمد العطا، محمد احمد الريح، فاروق حمد الله، محمد احمد الزين، معاوية عبد الحي.
عندما وقع انقلاب هاشم العطا، كان محمد محجوب عثمان، عضو مجلس قيادة الثورة الجديد، وشقيق عبد الخالق محجوب، سكرتير الحزب الشيوعي، خارج السودان. نعتقد انه كان في الطائرة البريطانية مع بابكر النور وهاشم العطا.
ايضا، نفذ حكم الاعدام في عسكريين أقل رتباً:
محمد مصطفى عثمان الجوكر، عثمان الحاج حسين، عبد المنعم محمد احمد.
ايضا، نفذ حكم الاعدام في مدنيين:
عبد الخالق محجوب، سكرتير الحزب الشيوعي السوداني، والشفيع احمد الشيخ، سكرتير اتحاد نقابات العمال، وجوزيف قرنق، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ووزير شئون الجنوب في وزارة نميرى الاولى)..! ...»
ورد اسم الضابط محمد مصطفى عثمان الجوكر ضمن الذين تم اعدامهم في محاكمات الشجرة... قبل أيام جاءت معلومة صغيرة تفيد بأن الشخص المذكور حي يرزق يسكن الخرطوم بحي جبرة يعيش بعيداً عن الاضواء....قال عندما التقينا به انه ظل لسنوات طويلة يتابع ما يكتب عن (19) يوليو ويتحسر من جراءة البعض على الكذب وتلوين المعلومات لخدمة رؤيتهم... ومصطفى الملقب «بالجوكر» ولهذا اللقب قصة لا تقل اثارة عن قصة تضمين خبر وفاته في وثائق أهم دولة في العالم اليوم.. كانت تجمعه علاقة وطيدة بأحد قيادات حركة (19) يوليو «الهاموش» وعبر هذه العلاقة كان جزءاً من الحركة في أهم مراحلها صعوبة..وللجوكر علاقة غريبة الاطوار بجعفرنميري سيرويها في هذه الحوارات التي تمثل أولى افادات الرجل في قضية واسعة الجدل كثيرة اللغط...ومع الحوار تنشر الصورة التي التقطت للجوكر وهو يرفع يديه الى أعلى لحظة القاء القبض عليه بعد فشل الانقلاب،الصورة التي تناقلتها وكالات الانباء والصحف العالمية والاقليمية وقتها.. سيروي الجوكر لقراء «الرأي العام» قصته مع 19 يوليو من الألف الى الياء:
------
? أين كنت ساعة بيان (19) يوليو؟
_ كنت أزاول عملي بالكلية الحربية، سمعنا البيان عبر التلفزيون والراديو وبعدها إتصل بنا تلفونياً عبد المنعم محمد أحمد وقال: تعالوا القيادة، ولم نستطع الذهاب ليلتها فلم أكن حينها أمتلك سيارة، كما أن الحركة من وادي سيدنا لم تكن كما هو الحال اليوم ولكننا صبيحة اليوم الثاني توجهنا للقيادة العامة. وكان الهاموش طلبنا بالاسم شخصي، وضابطين: شرف الدين إسماعيل يونس، وعبد الوهاب حسن حسين.
? كنت تعرف أنه إنقلاب شيوعيين؟
- لم يكن معروفاً أنهم شيوعيون، وسأخبرك لاحقاًً باللحظة التي عرفت فيها وماذا قلت. وتابع: اتحركنا جينا القيادة العامة وعرفنا موقفهم مع جنود المظلات والذين تم إعتقالهم ووضعوا في (البركسات) وتم نزع سلاحهم، الأمر الذي كان بالنسبة للعساكر مهيناً.
وركبنا مع عبد المنعم ومشينا الشجرة وشفنا المنظر بتاع الصف والجنود باللواء الثاني الذي كان الآخر مهيناً فأقترحت على عبد المنعم تعيين مجلس عسكري إيجازي عالي يحاكم الناس دي ولو بتهمة الإنتماء لجهات معينة ومن ثم يتركوا لحال سبيلهم ولا يظلوا متكدسين بمكان واحد خيفة ان يحدث منهم شىء في يوم من الأيام فاجابني: لا كلهم بنعرفهم وما بتحصل حاجة.. كانت هناك ثقة زائدة من عبد المنعم وهاشم العطا.
? هل قابلت هاشم قبلها؟
- لا .. ما عدا أن التقيته صبيحة ذات اليوم في القيادة العامة.
? وكيف كان العطا؟
_ كان عادياً جداً وبعد ذلك خرجنا من الشجرة بعد ان سلمنا عبد المنعم مسدسات وقال: ما معروف يحصل شنو؟
? الكلام ده يوم (20)؟
_ نعم .. ورجعنا مباشرة وذهبنا للأركان حرب وطلبنا مقابلة القائد، وفقاً للطريقة العسكرية الصحيحة، والقائد ساعتها كان صاحب ولاء شخصي لواحد من أعضاء مجلس قيادة الثورة الجديد وعندما دخلنا سلم علينا وهنأنا بقوله (مبروك). وأخبرناه بأننا تم أستدعاؤنا وأنه يفترض أن يكون هنالك تأمين، وقال لنا: جداً مافي أية حاجة وأن أي شىء سيتم بالطريقة العسكرية والأركان حرب موجود وإذا حصل شىء أدوني خبر في أى وقت.
? كان القائد موالياً بصورة مباشرة؟
_ مافي أي شك، حتى أنه طلع طوالي وقدم تنويراً للطلبة الحربيين الدفعة (24) حينها، وعمل تنويراً للسرايا المختلفة وكنت حينها قائداً للسرية الأولى، كما عمل تنويراً لسرية البيان العملي وكان قائدها شرف الدين إسماعيل.
في اليوم التالي -كذلك- ذهبنا صباحاً للقيادة العامة وكنا نتحدث عن تأمين حركة التصحيح وكيفية ذلك وقابلت عبد الجليل محمد أحمد، شقيق عبد المنعم وتحدثنا في ذلك الشأن.
? هل بدأتم تستشعرون الخطر؟
_ نعم .. في خطر متمثل في وجود الجنود الذين يحسون بالغبن، وبنفس الطريقة وجود جنود بالمدرعات، وتحليق عدد من الضباط حولهم، وتحدثت مع محمد أحمد الزين (ود الزين)، وأمن على كلامي وأخبرني بأنهم سيجتمعون وهاشم العطا. وفي يوم (22) جئنا الخرطوم وقابلت هاشم للمرة الثانية وأيضاً تكلمت معه عن التأمين ومن ثم وبعد ذلك كله جاء خبر إختطاف الطائرة.
? أين كنت ساعتها؟
_ كنت في الخرطوم مع معاوية عبد الحي - رحمه الله -، وكان ابن دفعتي وصديقي، وعندما التقيته في القيادة العامة، طلب مني مرافقته للقصر وفي حديقة القصر كان يجلس هاشم العطا، وعبد المنعم، وعدد من الضباط وساعتها كانت الطائرة أختطفت طبعاً.
? أشعرت بالخطر؟
- نعم حسينا بالخطر.
? وأين كان الهاموش؟
- كان يجلس بالقرب مني.
? كيف كانت ردة فعلهم؟
_ كانوا متأكدين للغاية بأنه لن يحصل شىء، ولكني قلت لعبد المنعم إن لدي أقتراحاً، فأجابني أنت مالك أقتراحاتك اليومين دي كترت؟! قلت له: الناس المعتقلين جوة القصر عينوا لهم ضابطاً - وانا نفسي جاهز- لنقلهم من القصر الجمهوري لأي مكان آخر ... قال لي نوديهم (شقدم) مثلاً فضحك.
? أي بمعنى أنه لم يكن جاداً؟
- لا ولكن (شقدم) بالجنوب، ما يجعلها بعيدة جداً، فأقترحت عليه عمل حراسة، وإعتقال افراد السفارتين المصرية والليبية فوراً. عبد الجليل أعجب بالفكرة وقال لي: ده أحسن كلام مفيد أسمعه. وقام عبد المنعم بنقل إقتراحي لهاشم العطا الذي خاطبني قائلاً: يا محمد التمّ ده نحنا عندنا ليه إجراءات على مستوى كويس جداً وإن شاء الله ما تحصل حاجة. وهكذا إنتهى الموضوع وبعدها بـ (شوية) إبتدت المواكب تظهر في ميدان الشهداء.
? أين كنت عندما بدأت المظاهرات؟
- كنت لا أزال بحديقة القصر.
? هل عرفتم ذلك بواسطة الصوت أم بطريقة أخرى؟
- نعم، كانت هنالك هتافات بالخارج وأعلام حمراء وفعلاً خرجنا مع هاشم.
ووقفنا مع الشفيع أحمد الشيخ، وسلم عليه هاشم وسلمت عليه وبعد قليل صعدنا على المنصة وهي عبارة عن لوري مرسيدس ضخم . بعدها رجعنا وادي سيدنا وبعد ان وصلناها أبتدأت الأحداث تحصل.
? كيف وصلكم الخبر؟
- بالتلفونات.
اتفاجأنا بحدوث مشاكل في الخرطوم، قلنا : (يا أخوانا نحنا طالعين قبل شوية، حتى أنه تم تعيين عربية لينا من القيادة العامة بواسطة عبد المنعم عشان ترحلنا، ودي واحدة من التهم التي وجهت لي فيما بعد، وأنا وجهت لي (17) تهمة من ضمنها أني كنت راكب عربة ضابط من الضباط الأعلى، وعلى خلفية أنني درست القانون العسكرى بررت بأن العربية دي إتعينت لي من القيادة العامة وأنا ما سقتها براي، المهم جينا وحصل الإعتقال).
? كيف تم أعتقالك؟
- طبعاً ما في زول جاني أعتقلني أنا مشيت القيادة.
? عرفت أن الموضوع خلاص إنتهى؟
- نعم .. الموضوع إنتهى ونميري ظهر في التلفزيون في يوم (22)، وهناك نقطة -ما متأكد منها تماماً- أخبرني بها الأخوان الذين قالوا لي بأن نميري قال: إن من قام بهذه الحركة ضباط أعرفهم جيداً أمثال (الجوكر) وخالد الكد.. والجوكر كان لقبي ولايزال.
جيت القيادة وزوجتي حينها كانت حبلى بابني الأول، وذهبت مباشرة للأركان حرب عبد المنعم زين العابدين وفكيت الحزام بتاعي، وطلعت (الطبنجة الروسية) التي أعطاني لها عبد المنعم محمد أحمد، ومعي شرف الدين، وقعدنا في مكتب الأركان حرب، فحضر قائد الكلية وعدد من الضباط، بل كل الكلية جات للمكتب.
? ديل كانوا مؤيدين أول الأمر لانقلاب هاشم العطا؟
- نعم وفيهم ضباط، ولما نحنا جينا بالعربية ونزلنا منها وكنا نحمل (الطبنجات) عرفوا ما كنا نفعله، وفيهم كان ناس بيترجوا فينا: يا جماعة بعدين ما تنسونا، وخلوا بالكم مننا. المهم هؤلاء كانوا أشد شراسة وإبتدا يكون في لغط وكلام في مكتب القيادة بوجود القائد.
? هل تم الإعتداء عليكم؟
- لا .. الى أن قام واحد من الضباط الكبار (العاقلين) وقال: النظام وين؟ وين الضبط والربط؟ ما ممكن يحصل الكلام والمهاترات والقائد موجود.
? أكانوا يشتمونكم؟
_ نعم هناك من قال لنا: خونة، ودايرين تمسكوا البلد.
? ألم يتم تقييدكم؟
- لا .. تم إعتقالنا في أحد بيوت الضباط (الفاضية) وكانت زوجتي أرسلت لي حقيبة صغيرة فيها (جلابية وعراقي وسروال وفرشاة أسنان وغيرها) وساقونا الصباح بمدرعة الى الشجرة.
? الوقت داك عرفت إنو في عمليات قتل بالشجرة؟
- لم تكن عمليات القتل قد بدأت بعد، وجينا يوم (23) صباحاً للشجرة.. ومن الأشياء التي أريد ان أتكلم عنها والناس لم يذكروها مطلقاً المعاملات التى حصلت بين عدد من الضباط وضباط الصف والجنود، للضباط زملائهم. سواء أكان وقت الإعتقال أو في فترة الإعتقال (فترة السجن) فقد كانت مزرية للغاية، ويخيل لي أن هذا أحدث تحولا كاملا في الجيش السوداني يعني لم يكن في يوم من الأيام من العسكرية..
? (مقاطعة)
هل تقصد بأن هناك أناساً كانت تربطك بهم علاقات جيدة أو هم أصدقاء لك (وقلبوا ليك الوش)؟
- نعم في عدد من الناس (أتقلبوا) ونحنا وصلنا الشجرة لقينا -وعفواً للتعبير- (كلاب جائعة)، فهجم علينا أول حاجة عساكر، ونزعوا العلامات بتاعتنا.
? عساكر فقط أم كان معهم ضباط؟
- نعم عساكر .. ولكن في ضباط كانوا واقفين وشايفنهم. كان في حالة (جنون) والضباط الواقفين ما بيقدروا يوقفوهم، ولم يكن هناك أحد يتجرأ على الكلام، (قلعوا) العلامات التي لا يجوز (قلعها) الا بواسطة القانون وفي ناس دخلوهم معانا مضروبين وهكذا.
? هل تم ضربكم؟
- نحنا ما أنضربنا ولكن في الفترة دي دخلونا في مكتب الخبراء الروس وهو يجاور مكتب الأركان حرب.
? من كان معك؟ والهاموش ورفاقه هل رأيتهم؟
- لا ما شفتهم ولكنهم كانوا في المكتب المجاور لنا وبعد دخولنا بقليل صدر حكم الإعدام في هاشم، وعبد المنعم، وأبو شيبة.
? هل تم ذلك يوم (23)؟
- أيوه .. وكنا قاعدين (23) ضابطاً ومدنياً في غرفة (4 في 4) لدرجة أن سحب قدمك يحتاج أن تستأذن من أخيك (ليشد) رجله قليلاً (زحمة شديدة) وفي نصف مكتب الإعتقال كانت توجد (تربيزة) حديد وواقف جوة جندي حرس علينا ويحمل بندقية (جيم 3) وفيها طلقة في الماسورة.
? يعني شنو طلقة في الماسورة؟
- يعني (معمرة) وجاهزة لإطلاق النار، بالرغم من أن الناس كانوا معتقلين ومتعبين، ومرهقين، ومرّ علينا اليوم الأول فالثاني، مكثنا تسعة أيام في الشجرة كانت عبارة عن تسعين سنة.
? التسعة أيام وأنتم تعانون الإزدحام؟
- مزحومون ولكنه حصل ولو بدرجة قليلة (تسرب)، والمهم أن العسكري كان يضرب التربيزة بـ (القاش) ليمنعنا من النوم والتركيز على ذلك. وأظنه في اليوم الثاني أو الثالث (حتى) جابوا لينا (جردل) بتاع زنك فيه (موية) وبعدها جردل زنك فيه عيش (رغيف) وملاح (فاصوليا).
وداخل الغرفة كان بعض الضباط - لهم وضعهم المميز- يمرون علينا وكان بعضهم يقول: ربنا يكضب الشينة.
? وكيف عرفتم ذلك؟
- بـ (المايكرفون) الذي كان يعلن أنه تم الحكم على الخائن (فلان الفلاني) بالإعدام رمياً بالرصاص (والدروة) كانت على بعد (300) متر منا وكنا نسمع صوت الرصاص وشايفين بالشباك.
الإعدام لم يتم بالطريقة التي نعرفها أو التي سمعنا بها، بل كان بأن يقف طابور بتاع عساكر وأول ما الضابط يجي تنهال عليه (الجبخانة)، وأي عسكري يسمع بالمايكرفون انه تم الحكم على الخائن (فلان)، يجي جاري وبندقيته فوق ثم يطلق كمية من الرصاص.
? كنتم ترون هذا المشهد ؟
- أيوه شايفين.
? وتشعرون أنكم ذاهبون لذات المصير؟
نعم .. حاسين إنو نحنا ماشين لذات المصير وجاهزين ليهو.
متى التقيت بالرئيس نميري بعد القاء القبض عليك وفشل انقلاب ( 19) يوليو؟
_ هو أبتدأ يسأل عن الضباط الـذين التفوا حول الحركة وقاموا بها وبدأ في القيام بإستطلاع الوجوه التي شاركت، واصبح ينادي على الضباط. دخل عليه المرحوم الملازم محمد جبارة وهو من ضباط القصر الجمهوري وقال له نميري: إنت ضابط جبان. فأحتد الشاب وقال له: عارف نفسي حـ أمشي الدروة هسة، ولكني ما جبان، ولو قتلت ناس بيت الضيافة حـ أقول ليك أنا قتلتهم، لأني أصلاً ماشي الدروة، وعشان ما في زول تاني يأخدالعقاب ده. فكررها له الرئيس (جبان يا جبارة) ..فهجم جبارة على الحرس وقبض على (الإستيرلنغ) ووجه السلاح على التربيزة الفيها الرئيس الذي استطاع أن (يتخارج) من الموقف..العساكر الموجودين وقتها ضربوا جبارة بـ (الدبشيك) في رأسه وجروه جراً نحو الدروة.
بعدها جاءت تعليمات واضحة أن أي ضابط يجي للرئيس توجه نحوه بندقية على (كوعه) اليمين وأخرى (لكوعه) اليسار، إضافة لأخرى في الظهر. قاموا بإستدعاء اثنين من الضباط وكنت أنا رقم ثلاثة. نميري يعرفني حق المعرفة رمقني بنظرات قاسية ..وظل لثونٍ ينظر في صمت.
- قال لي: (الجوكر)؟!
فقلت: أهلا يا ريس.
وكانت الى جواره صحفية مصرية.
وقال لها: إنت عارفة سموه الجوكر ليه؟
فأشارت له بالنفي .
فأجابها: ده إشترك في عدة إنقلابات.
قلت له (طوالي): ليه أنا عبد الفضيل الماظ ؟
قال لي: إسكت .
.ووجه لي الكلام وقال: أنت عضو في اللجنة العشرينية للحزب الشيوعي؟
فقلت: لأول مرة أسمع أن الحزب الشيوعي عنده لجنة عشرينية.
قال: إسكت .. أنت بتعرف أكتر مني؟ أنت ما بتعرف ولا حاجة.
وأضاف: ليه أتعاملت مع المجرمين ديل ضدي؟
قلت: والله دي أشياء كان مخطط ليها ومعروفة من بدري حتى أنت يفترض تكون عارفها.
قال: أنا أعرف أنهم حـ يعتقلوني؟
قلت له: أنا لا أتكلم عن الإعتقال أنا بتكلم عن التغيير.
قال: أنت متهم إنك قمت بـ (17) عملاً ضد الحكومة؟
قلت: أنا عندما تم استدعائي يوم (20) تم ذلك بواسطة الضابط الأعلى في القوات المسلحة الموجود في القيادة العامة (وهذا دفع قانوني) وأنا أديت القسم.
قال: إسكت .. وسألني: أنا لو قدمتك لمحاكمة ستبرىء نفسك؟
قلت: نعم.
وهل صحيح إنك إشتركت في محاولات إنقلابية من قبل؟
- أبداً ما حصل لكنه نوع من الإثارة.
ألم يسىء نميري اليك؟
- لا .. هو سألني أشتغلت مع منو؟
رديت: مع قائدي الأول عبد المنعم محمد ومن ثم كنت أنت قائد الكتيبة بتاعتي وأنا أشتغلت أركان حربك وغيره من الكلام.
قال: قفلت مطار قاعدة ناصر ليه؟
قلت: قفلناه لأنو جات تعليمات بذلك لإحتمالية أن تأتي طائرات شايلة القوات السودانية الموجودة في الجبهة وتنزل في مطار وادي سيدنا وأغلقنا المطار بأن أفرغنا هواء إطارات (19) عربة في الرن وي.
قال: إنت ما بتعرف جغرافية البلد ؟ السودان بلد (بور) وممكن للطائرات أن تنزل في أي حتة.
قلت: خلاص نحن أدينا الواجب بتاعنا وكونها تنزل في أي منطقة أخرى ده ما شغلنا.
بعد ذلك رجعت الغرفة وعرفت أن نفس الكلام تم توجيهه لشرف الدين إسماعيل يونس وكان زميلي في وادي سيدنا وتم إستدعاؤنا سوية.
حينها عرفتم ان الهاموش وهاشم اعدما؟
- أيوه .. القتل كان شغال طوالي.
هل تم الاعتداء عليكم؟
=أنا سأتحدث عن حادثين فقط لإبرىء ذمتي أمام الله بإعتباري كنت شاهداً على ما حدث...في وقفتنا (وإذا حبيت سأذكر الاسم ).
نعم..تحدث بذكر الاسماء؟
=أبو القاسم إبراهيم شال كرسي بتاع خيزران وقام بتكسيره فوق رأس حامد الإنصاري وهو مدني وأعزل ومريض فضربه ضرباً مبرحاً وشتمه شتيمة مقذعة.
الثانية: وفي رجوع للمعاملة السيئة كان قضاء الحاجة يتم بإصطحاب حرس للحمام وينتظرك وكان معنا الشفيع أحمد الشيخ، والأنصارى، وجوزيف قرنق وعندما خرج الشفيع من الحمام وأثناء مروره أمام باب غرفتنا تم الإعتداء عليه من قبل أحد الضباط بـ (الدبشيك) فكسر وجناته وأضلاعه وكان يصرخ بأعلى صوته ويردد :(أنـا إنتهيت ليكم من إشاعة اسمها عبد الخالق).
وهل كان يظنه عبد الخالق؟
- أيوه.
وهل تعرف هذا الضابط؟
- ما في داعي لذكر الأسماء .
(للتوثيق فقط) ؟
- هو ضابط مشهور بـ (اليمني).
أثناء ضربه للشفيع جاء أحد ضباط المدرعات وأمسك به من يده وقال له: إنت بتعمل في شنو؟ فرد عليه: بنتهي ليكم من إشاعة اسمها عبد الخالق، فقال له ضابط المدرعات ولكن دا ليس عبد الخالق، فقال ليه ده منو؟ فرد الضابط: الشفيع أحمد الشيخ فأجابه: ديل كلهم سوا.
ودخل الشفيع علينا الغرفة وكان يئن من شدة الألم والوجع والدم يملأ (جلابيته) فزحف على د. مصطفى خوجلي واستفسر عن حقيبة بالغرفة (لا أعرف مصيرها حتى الآن) فقلت إنها تخصني فسألني: فيها جلابية فأجبته: أيوه، فقام بتمزيق جلباب الشفيع، وغرف ماء من الجردل بيده ليعمل ضمادات لوقف نزيف الدم، ومن ثم ألبسوه جلبابي .. وهذه بعض أمثلة عن سوء المعاملة.
قاموا بإخراجهم أيضاً من الغرفة وقتلوهم أمامكم؟
- لا .. ديل ساقوهم سجن كوبر .
المحرر: (المدنيين)؟
- نعم .. وكان جوزيف قرنق تنبأ بهذا الموضوع، فعندما لم يأتنا أحد وسمع الأشياء الـ حصلت مع سورج، والإنشقاق الـ حصل في الحزب الشيوعي، وأن سورج هو من وشى بالناس قال لمن معه: نحنا وقتنا ضيق.
(مقاطعة) .. الكلام كان داخل الغرفة؟
- نعم داخلها.. وعند الساعة الثانية والنصف صباحا جاءوا وبصورة مزعجة جداً قدموا الأسماء: جوزيف قرنق كان شجاعاً للغاية كان يقول: (نحنا ماشين نموت خلاص)، والشفيع أحمد الشيخ كان ساعتها يئن وحول عينيه هالة سوداء وبحالة سيئة جداً.
وفي نكتة ظريفة وهي أن أحد العساكر قال لي جوزيف: يا سيد قرنق شيل شنطتك (وكان لديه حقيبة صغيرة تحتوى على أدوات حلاقة) فرد عليه: انت مجنون ولا شنو؟ أودين وين تاني أنا؟.
المحرر: كان ضاحكاً؟
- كان ضاحكاً وساخراً جداً. قال ذات مرة لواحد من الضباط المعانا إن شاء الله إنتوا يدخلوكم السجن، السجن مدرسة، وبعلم الناس حاجات كتيرة، وحـ تطلعوا من السجن أناس آخرين، بمفاهيم تانية. ولكن فيهو حاجة واحد بس بطالة؟ فسأله واحد من الضباط: شنو؟ فرد: ما يقوموا يكتبوا ليكم جراية. فسأله مرة أخرى: جراية دي شنو؟ فأجابه: جراية ده عيش دقيق بيعملوه بطريقة إنت زي بياكل في جراية كأنك (تجك) في الجلابية بتاعك (أي كأنما تمضغ في جلابيتك).
وهو ما حصل، فعندما ذهبنا للسجن أرانيك السجن الـ مشت لسجن كوبر بخط يد الرئيس مكتوب فيها معاملة من الدرجة التالتة، والحرمان من الصحف والمذياع، وكان الأكل بتاعنا جراية.
هل تمت محاكمتك في ذلك الوقت؟
- لم تتم محاكمتنا في ذلك الوقت، وأبتدأت جلسات المحكمة العسكرية فتمت الجلسات من الأولى والي الثالثة وفي اليوم الثامن تقريباً.
المحرر مقاطعاً: حينها هدأت الأجواء؟
- نعم وكان يأتينا كلام من الضباط الذين يمرون على المحاكمات وكان بعضها يتم تحت الأشجار نحو:( يا أخوانا شدوا حيلكم الحكم قاسي شوية، الحكم لغاية هسة عشرينات، والعبارة قالها لنا صديق لشرف الدين).
وبعدها تم إستدعاؤنا للجلسة الأخيرة وكنا قد أحضرنا شاهداً للدفاع ولكن للأسف الشديد إنقلب وأصبح شاهد إتهام فأستبعدناه. كما لم نستدع شهود إتهام على الرغم من أنه كان يمكننا توريط مجموعة كبيرة جداً من الضباط، تم سؤالنا عنهم وعن أعمالهم أثناءالانقلاب، وفي مقابلتي للرئيس كان يسأل معاك منو؟ وقابلت منو؟ وقال ليك شنو؟ ولكنا لم نورط أي شخص وبعدها ذهبنا للسجون.
وما هو الحكم الذي صدر بحقكم؟
- تم الحكم علينا بـ (20) سنة وبعدها أتى من أخبرنا انه تم التخفيف أنا لـ (5) سنوات، وشرف لـ (4) سنوات ولكن بدايةً حكموا علينا بالإعدام (وهي نقطة مهمة جداً) حيث كان مقرراً أن يعدم جميع الضباط الموجودين في الشجرة (بحسب ما كنا نسمع) ولكن في يوم (25) أو (26) جانا الوفد المصري الليبي بقيادة حسين الشافعي وأبوبكر يونس (وزير الدفاع)، ومروا علينا بالغرف، حسين الى اليمين والى يساره أبوبكر يونس وقدامهم دخلوا ناس التلفزيون والمصورين فنصبوا (السيبيا) بتاعت الإضاءة وكانت مزعجة جداً بالنسبة لينا في الغرفة، وكان بعضنا نمت ذقونهم وتمزقت ملابسهم (ووسخانين) فدخل أبوبكر يونس وبعد ان نظر الينا قال: السلام عليكم فرددنا له التحية: عليكم السلام، فضرب السيبيا بتاعت الإضاءة برجله وقال: أيش تصور؟ شيل برة، فتم إخراجها ولم يصور أحد. وماعرفناه أن هناك رسالة من الرئيس أنور السادات للرئيس النميري فحواها (كفاية دم)، وكان وقتها تم إعدام حوالي (15) ضابطاً، بعدها بدأت المحاكمات والتي كانت إجراءاتها طويلة شوية.
بكم تم الحكم عليك؟
- بـ (5) سنوات.
ولكن ورد أنه نُفذ عليك حكم الإعدام في الوثائق الامريكية؟
- أنا سمعت في الأول أن الحكم الذي أصدر ضدي (الإعدام) وأخبرني به أحد الضباط الذين يمرون علينا ولكن بعد أن جاء الوفد تم التخفيف.
بعد أن خرجت، هل سافرت مباشرة للخارج؟
- لا أبداً .. مكثت في السودان لفترة.
هل قضيت فترة العقوبة كاملة (5) سنوات؟
- تم إعفائي بعد (3) سنوات وخرجت في العام (1973) من السجن.
لم تلاق نميري مرة ثانية؟
- لا .. لم أقابله بالرغم من أن الفرصة كانت سانحة أمامي لذلك.
...........
في ملاحظة أود ذكرها..وهي ان المعلومة التي ذكرت أن هاشم العطا ظهر في التلفزيون وهو مبلل بالعرق من رأسه ووجهه، حتى ظن انه خائف.. اود ان أقول ان كثرة العرق كانت مرتبطة بهاشم في كل الاوضاع ولا علاقة لها بالخوف او الاضطراب.
من أين جاءك لقب (الجوكر)؟
=من الكلية الحربية بعد ان تم قبولنا من المدارس الثانوية نشر احد الأخوان خبراً بـ (الصحافة) و (الأيام) بحسب ما أذكر قال: تم إختيار الأخ محمد مصطفى عثمان للإنضمام لأسرة الكلية الحربية هذا العام، ومصطفى كان (جوكراً) للحفلات طيلة الأسبوع الماضي بمناسبة إنضمامه للكلية ... ومنذ ذلك الوقت التصق اللقب باسمي.