” راس لفان” القطرية.. نجاح “رؤية” أساسها الاصلاح

 


 

 

 

محمد المكي أحمد

modalmakki@hotmail.com

 

في شمال قطر، وبالتحديد في مدينة راس لفان الصناعية وهي أحدث وأكبر مدينة للطاقة في العالم، اتاحت لي ظروف عملي الصحافي الاطلاع  مجددا على مشاهد جديدة  تحكي قصة  الانجاز القطري  في مجال الغاز الطبيعي المسال.

 

أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وهو بطل قصة الابداع القطري في تحويل الدوحة الى عاصمة للغاز الطبيعي المسال، دشن يوم الثلاثاء  الماضي 27 اكتوبر 2009  منشآت الخط السادس لشركة "راس غاز"، وهي واحدة من كبريات شركات الغاز في العالم.

 

 التدشين لخط الانتاج السادس الذي صممت  منشآته لتنتج 7.8 مليون طن سنويا من الغاز الطبيعي المسال شكل حدثا مهما وكبيرا بكل المقاييس، لأن أبعاده تتجاوز أهميته  الاقتصادية الكبرى  الى التاكيد على دلالا ت حيوية أخرى ، سياسية واجتماعية وغيرها.

 

عندما انطلقت قطر في عالم تصدير الغاز من شركة راس لفان قبل عشر سنوات لم يأت هذا الانجاز بضربة حظ أو نتاج عمل عشوائي، بل تحقق الانجاز القطري الكبير نتيجة ارادة سياسية لأمير قطر في توقيت وزمن كانت بلاده تعاني من اختناقات اقتصادية آنذاك، لكنه " الرؤية" والارادة  نقلتا قطر الى عالم  جديد ومناخ عطاء  في مجالات الحياة كافة.

 

تجارب السنوات الماضية أكدت أن  الشيخ حمد بن خليفة قائد عصري يتميز عن كثير من  القادة في العالم العربي والاسلامي، لأنه أطل على ميدان العمل السياسي برؤية لتطوير الحاضر واستشراف آفاق المستقبل، وبنهج اقترنت فيه الأقوال بالأفعال،  فجاءت  خطاه واثقة قوية لا تعرف التردد أو الخضوع للتحديات.

 

قطر التي احتفلت هذه الأيام بافتتاح منشآت الخط السادس لانتاج الغاز في شركة راس غاز لم يكن  في مقدورها أن تنجح في تحويل الدوحة الى عاصمة شراكات دولية الا من خلال الوعي بحقائق العصر، وبالمبادرة القيادية  التي رسمت خريطة  الاصلاح السياسي في كل مجال من مجالات الحياة، وشمل ذلك السياسة والاقتصاد والرياضة والثقافة والاعلام (خاصة قناة الجزيرة) لأن الاعلام المحلي لم يرتق حتى الآن الى مستوى المناخ الجديد والتطورات الايجابية في البلد لأسباب عدة.

 

هاهي قطر نجحت نجاحا باهرا  في امداد قارات العالم بالغازالطبيعي المسال ، ويكفي الاشارة مثلا الى أن شركة راس غاز وحدها(هناك قطر غاز أيضا) وقعت عقود بيع وشراء مع دول عدة بينها على سبيل المثال  كوريا والهند وايطاليا واسبانيا وتايوان وبلجيكا والولايات المتحدة.

 

يبدو مهما هنا الاشارة  الى أن  شركة راس غاز التي افتتحت منشآت خطها السادس في راس لفان هي خلاصة  شراكة بين  شركة  "قطر للبترول" 70( في المئة) و اكسون موبيل  الأميركية (30 في المئة)،  وهكذا نجحت قطر في بناء شراكات مع الدول الكبرى في العالم من خلال نجاحها في تسويق المصلحة المشتركة التي تشكل أهم عناصر بناء العلاقات الدولية أو انهيارها.

 

المصلحة المشتركة ضمنت لقطر  تمويل مشاريعها الضخمة  من خلال  مؤسسات دولية كبرى و بعقلية "ابتكارية" حسب وصف  وزير الاقتصاد  والمالية القطري السيد يوسف حسين كمال، كما  أن  شراكة قطر مع الكبار في العالم ضمن لها أيضا الحصول على  التكنولوجيا الحديثة وضمان تسويق انتاجها من الغاز الطبيعي في الأسواق الدولية ، ولهذا أصبحت قطر أيضا محط أنظار دول العالم التي تهتم بالدوحة انطلاقا من اهتمامها  بمصالحها قبل أي  شيء آخر .

 

النجاح القطري  في مجال الغاز الطبيعي  تزامن مع اصلاح سياسي ملموس، ومثلا  أجريت للمرة الأولى انتخابات للمجلس البلدي في عام 1999بمشاركة المرأة،  والأهم في هذا السياق أن أمير قطر  أكد رؤيته الاصلاحية عندما اختار عددا من شخصيات البلد الذين يمثلون الخريطة  الاجتماعية وثقلها المجتمعي ليضوا مشروعا لدستور أجازه الشعب القطري في استفتاء عام ، وشكل ذلك سابقة تاريخية مهمة وخطوة ريادية في منطقة الخليج والعالم العربي .

 

بنود الدستور شددت على حقوق المواطنة وحرية التعبير والصحافة واستقلال القضاء ومشاركة المرأة والكثير من الايجابيات، والأهم في هذا السياق  من المهم في هذا السياق الاشارة الى أن أمير قطر خطا  خطوات اصلاحية  مهمة في بلاده بارداة حرة ومن دون ضغوط سياسية داخلية أو خارجية، وهذا لايحدث في دول العالم الثالث التي تتحرك نحو شعوبها تحت الضغوط الخارجية أولا قبل الداخلية.

 

الذين عايشوا مراحل ولادة النهج الاصلاحي في قطر يعرفون  أنه تبلور وتجسد على أرض الواقع قبل أحداث سبتمبر في اميركا التي أعقبتها تحركات أميركية مارست الضغوط على دول عدة في المنطقة في سبيل تحقيق الاصلاح السياسي، ويبدو أن الضغط الاميركي للعرب وغيرهم  كان سلوكا  ابتزازيا لأنه غض الطرف عن كثير من الممارسات الديكتاتورية في دول ذات مهارات عالية في انتهاك حقوق الانسان وحرياته.

 

أعود الى الانجاز القطري الجديد في راس لفان، لأشير الى أن قطر تستعد حاليا لتحقيق هدفها الكبير بان تنتج العام المقبل 77 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال كما أعلن ذلك السيد عبد الله العطية نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الطاقة والصناعة.

 

عبد الله العطية  مسؤول قطري  نجح باقتدار في ادارة شؤون الطاقة،  وهو  رجل يتمتع  بشفافية وقلب طيب أيضا  ، وقد أكد بروز قطر في دنيا  الغاز الطبيعي  نجاحه الباهر في تحقيق انجازات كبرى لبلاده في عالم الطاقة المشحون بالتناقضات والمشكلات والمؤامرات.

 

ايقاع  العمل في رئاسة  الحكومة القطرية  التي يرأسها الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية يتسم بالديناميكية وروح المبادرة والتجديد ، والشيخ حمد بن جاسم  شخصية تتمتع بسمات عدة وهو معروف  لدى  السودانيين وغيرهم من العرب بأنه رجل سياسة  ودبلوماسية من الطراز الأول،  و قاد  الدبلوماسية القطرية  في حقول وعرة كثيرة ونجح نجاحا لافتا  في عالم مضطرب يسوده التآمر و يكثر فيه الأشرار ويقل الأخيار.

 

 لكن حمد بن جاسم وضع بلاده في صدارة  الدول  المؤثرة  والفاعلة اقليميا ودوليا في ظل سياسة جرئية ومتوازنة وحكيمة يقودها الأمير.

 

رغم شراسة التحديات التي واجهت قطر بعدما تولى الشيخ حمد بن خليفة مقاليد الحكم في عام 1995 فان  القيادة القطرية  نححت في شق طريقها وهي تقبض على الجمر وتعمل  بارادة فولاذية ، وتصميم ورؤى واضحة، فحققت  انجازات تاريخية كبرى  ومازالت تواصل  مسيرتها بارادة وووضوح رؤية ، مع حرص  على أن تواكب قطر روح العصر في مجالات عدة بينها التعليم.

 

في هذا الاطار شكلت مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع التي ترأسها زوجة الأمير الشيخة موزة بنت ناصر المسند معلما بارزا  من معالم البلد، ومظهرا  من مظاهر الابداع و الحرص على اعداد جيل من الجنسين مسلح بعلوم يتلقونها من جامعات عالمية تحتضنها "مؤسسة قطر"، ولابد من الاشارة هنا أن الشيخة موزة دعمت دور المرأة القطرية  ومشاركتها في كل مجالات الحياة.

 

في سياق كا ذلك  أقول إن افتتاح الخط السادس لانتاج الغاز في شركة راس لفان والذي تبلغ كلفته عشرة بلايين دولار لم يكن مجرد حدث أو انجاز اقتصادي، فهو  يعكس أيضا مدى الترابط بين  رؤية قطر بشأن كيفية ارتياد آفاق المستقبل في المجال الاقتصادي وأهمية بناء دولة توفر لمواطنيها حاجاتهم الأساسية وتسعى لتعزيزحقوق الناس والمواطنة وتعميق قيم المشاركة الشعبية من دون  ضغوط شعبية كما يحدث في دول عدة يعاني  الناس  فيها من عمليات سلب حكومي  لحقوقهم  الأساسية في المأكل والمشرب والعلاج والتعليم  ، اضافة الى الحريات العامة والخاصة.

 

واذا كانت قطر قد أصبحت الآن ملء السمع والبصر فانها تنظر الى المستقبل وتعد له من خلال  خطة استراتيجية أطلقها ولي العهد القطري الشيخ تميم بن حمد آل ثاني  قبل أشهر وتحما اسم "رؤية قطر الوطنية 2030 " التي حددت أهدافا  تسعى قطر لتحقيقها  في كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والتعليمية والانسانية وما يتعلق بحقوق الناس  وغيرها، أي أن قطر تعمل للمستقبل بنهج مدروس.

 

أمير قطر بدا سعيدا وهو يدشن الخط السادس للغاز الطبيعي في مدينة راس لفان، وصفق الحاضرون له من القلب لحظة التدشين ، كما بدا المشهد رائعا عندما شارك اطفال وشبان وشابات من دول عدة في حفلة الافتتاح  برقص وغناء شعبي أثار اتياحا وأطلق حبل التأملات.

 

في راس لفان سجل  أطفال  وشبان وشابات من آسيا وأميركا وغيرها حضورا ثقافيا على مسرح الحدث، فغنوا ورقصوا ، وهذا يؤشر الى  بعد مهم يرمز الى أن نجاح   قطر في أن تكون  ساحة استقطاب حميم  للناس من كل المشارب و الثقافات.

 

هذا يعكس روح الانفتاح الايجابي الذي يحتضن الآخرين من دون استعلاء او مضايقات نابعة من عصبية ثقافية أو دينية او من التقاليد ، لكن قطر قيادة وشعبا متمسكة  في  الوقت  نفسه  بالتراث وقيم الأصالة لمجتمع يعشق البحر والصقر والصحراء ويعيش ايضا نبض العصر .

 

إنها معادلة صعبة، لكنها تتجسد في قطر،  حيث  صعد  أطفال قطريون من الجنسين الى مسرح حفلة التدشين في راس لفان  ليغنوا ويرقصوا رقصات شعبية قطرية تحمل رسائل للعالم ، وتقول إن قطر ليست نفطا وغازا فقط، إنها لوحة جميلة  تشكلها السياسة الراشدة  قبل كل شيء.

برقية: قصص النجاح القطري نرويها لأهلنا في السودان، ليتأملوا أسباب التألق،  وليقفوا على الدلالات،ولنسأل  أنفسنا  أين نحن ولماذا،  وكيف نرسم معا اللوحة السودانية الأجمل.

عن صحيفة الأحداث 30-10-2009

 

 

آراء