من تاريخنا (المغتغت، وفاضي، وخمج)!!
9 November, 2009
elnourh@gmail.com
أحببت أن استعير ضمن عنوان هذا المقال، نبرة، وروح الرفض، اللتين شحن بهما شاعرنا المطبوع، محمد طه القدال، صرخته الجسورة، ضد ما أسماه، في براعة نادرة: (الكلام المغتغت، وفاضي، وخمج!)، أقتبست هذا النَّفَس القدالي لأصف بعضاً من صفحات تاريخنا، التي يستلزم تهافتها استخدام مثل هذه اللغة القوية. فما أكثر الأمور التي تم تصويرها، في تاريخنا، على غير حقيقتها! وكم علا في تاريخنا أُناسٌ كثرٌ، بغير حق! فتاريخنا السياسي مليءٌ بالزيف، وإعلامنا الحكومي ظل لا يعرف، منذ الإستقلال، وإلى اليوم، غير النسج على نول الزيف. سميت الشوارع في بلادنا بأسماء كثيرٍ ممن أوردونا موارد الهلاك، وأوصلونا إلى هذا الخراب المريع الذي نحن فيه. أما حملة المشاعل، والمبدعون الاستثنائيون، وأصحاب العقول والقلوب الكبيرة، فقد أُهمل ذكر بعضهم، وبعضهم الآخر، لا نعرف حتى لقبورهم جهة!. فللزيف بين ظهرانينا دولة، وأي دولة!
المطامع المصرية وإنقلاب عبود:
في مخطوطةٍ لم يتم نشرها بعد، كُتبت في الفترة الممتدة بين 1983م و 1984م، في فترة السجن الأخيرة التي سبقت إعدامه الجائر، تعرض الأستاذ محمود للملابسات التي سبقت إنقلاب الفريق إيراهيم عبود في نوفمبر 1958. في تلك المخطوطة، ألقى الأستاذ محمود الضوء على التدخل المصري في تلك الفترة، مستنداً على ما تناقلته الصحف السودانية قبل أيام قليلة من إنقلاب الفريق عبود، خاصة صحيفتي "أنباء السودان" بتاريخ 5/11/1958، و"الرأى العام" بتاريخ 9/11/1958. ذكر الأستاذ محمود أن حكومة السيد عبد خليل كانت حكومة ائتلاف بين حزب الأمة، وهو حزب طائفة الأنصار، وحزب الشعب الديمقراطي، وهو حزب طائفة الختمية. وقد أبقى ذلك الإئتلاف، السيد إسماعيل الأزهري، وحزبه، في مقاعد المعارضة. غير أن ذلك الائتلاف ظل متعثراً، بحكم العداء التاريخي المستحكم بين الطائفتين. وبسبب عدم الإنسجام في تلك الوزارة الإئتلافية، دخلت البلاد في أزمة سياسية. وعليه فقد برز اتجاه للالتقاء بين الحزب الوطني الاتحادي، بقيادة السيد إسماعيل الأزهري، الذي كان في المعارضة، وبين حزب الشعب الديمقراطي الذي كان شريكاً في حكومة السيد عبدالله خليل، بقيادة السيد علي عبد الرحمن الأمين.
(خمج) إتحادي!!
على أثر تصاعد تلك الأزمة شرعت مصر في لعب دور الوسيط من أجل لم شمل الوطني الإتحادي، وحزب الشعب الديمقراطي، على صعيد واحد. وسافر إلى مصر، بغرض التنسيق تحت الرعاية المصرية، كل من السيدين، إسماعيل الأزهري، وعلى عبد الرحمن الأمين. وذكر الأستاذ محمود محمد طه أن تصريحا نُسب لزعيم الحزب الوطني الاتحادي في أثناء وجوده في مصر، قال فيه أنه يعترف باتفاقية، 1929م، التي كانت حكومة السودان الشرعية قد ألغتها. فهي اتفاقية أُبرمت بين دولتي الحكم الثنائي، بريطانيا، ومصر، بينما كان السودان غائباً، بحكم وجوده تحت الاستعمار. ولذلك، فقد أعطت تلك الإتفاقية السودان نصيباً مجحفاً من مياه النيل، مقارنة بنصيب مصر!
يرى الأستاذ محمود محمد طه أن إعتراف زعيم الوطني الإتحادي بتلك الاتفاقية الملغاة، كان بمثابة مساومة مع مصر لتعينه على العودة إلى الحكم. كما صرح في تلك الزيارة حزب الشعب، قائلاً إن حزبه يقف في المعارضة، مع أن حزبه كان لا يزال جزءاً من الإئتلاف الحكومي، وله فيه وزراء! ويمضي الأستاذ محمود في مخطوطته فيقول: ((في هذا الجو السياسي الذي يهدد استقلال البلاد، وسيادتها، بالتدخل الأجنبي، سلم السيد عبد الله خليل رئيس الوزراء، الحكم للجيش.. فكان انقلاب 17 نوفمبر 58 بمثابة إنقاذ للبلاد)). وقد أشار الأستاذ محمود أنه استند في ما ذكره أعلاه على، (أقوال الفريق عبود في التحقيق الجنائي حول الانقلاب بعد ثورة أكتوبر 1964 ـ التجربة الديمقراطية، وتطور الحكم في السودان، للدكتور إبراهيم محمد حاج). وقد وردت إشارات لتلك الظروف التي سبقت إنقلاب الفريق عبود لدى الدكتور منصور خالد، في كتابه، (السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام ـ قصة بلدين، دار تراث، 2003، الصفحات 232-233).
رغم رفضه المبدئي للانقلابات العسكرية، رأى الأستاذ محمود في تسلم عبود للسلطة إنقاذا للبلاد من التدخل المصري. فانقلاب عبود مثَّل لحظتها أخف الضررين. فتكوين حلف ختمي إتحادي تحت رعاية مصر، شكَّل في تلك اللحظة، محاولة للإلتفاف على النهج الاستقلالي الذي ترسخ. فاعتراف الأزهري في مصر، باتفاقية ملغاة صاغها المستعمران البريطاني والمصري في غياب السودان، وداخل أراضي الدولة المنتفعة من تلك الإتفاقية الملغاة، كان خطأً فظيعاً، يمكن أن يلقي بصاحبه في دائرة الخيانة العظمى. فالأزهري قدم للمصريين نصيب السودانيين من مياه النيل ثمناً لكي يعينوه على الرجوع إلى السلطة!! وهذا طلبٌ لمقعد السلطة بأي ثمن! أنذرت كل تلك المناورات المتهافتة بعودة الهيمنة المصرية، بعد أن تم إبعاد شبحها لحظة الإستقلال. أيضا، تردد في نفس تلك الأيام أن المصريين كانوا يسعون لتدبير انقلاب عسكري يطيح بالسلطة السودانية المنتخبة ديمقراطياً، والمجيء بسلطة جديدة موالية لهم. (أقوال السفير يوسف مصطفى التني، في كتاب الدكتور منصور خالد، الذي سبقت إليه الإشارة، ص 232). وعليه، فلربما لزمتنا وقفة، نفحص فيها نَعْيَنَا الكثير على السيد عبد الله خليل، في تسليمه للسلطة للعسكر، وهذا احتراز سبق أن تفضل به الدكتور منصور خالد. فالقول بضرورة الالتزام المبدئي بالديمقراطية قولٌ يصعب الاعتراض عليه. غير أن التمسك المبدئي بالديمقراطية، ربما لا يكون الخيار الأفضل في كل الأحوال.ويرى الدكتور منصور خالد أن تسليم السيد عبد الله خليل للسلطة للفريق عبود، لم يكن قراراً فرديا! (كتاب الدكتور منصور خالد، الذي سبقت إليه الإشارة، ص 233).
واضح مما تقدم أن كثيراً مما كان جاريا في حقب الديمقراطية لدينا، لم يكن يمت إلى الديمقراطية بأي صلة، بل كان تفريطا مشينا في الكرامة الوطنية. وعموماً فإن التفريط في الكرامة الوطنية، والإرتماء على أقدام الأجنبي، من أجل الكسب الحزبي، والشخصي، بتلقي الهبات المالية، والعينية، كالسلاح وغيره، من اليد الأجنبية، كان، ولا يزال، ديدن غالبية تنظيماتنا السياسية. (راجع سيرة المال والسياسة في الواقع السوداني في كتاب الأستاذ فتحي الضو، السودان: سقوط الأقنعة، شركة سوتير، القاهرة، 2006، الصفحات 630-670). وأطرف ما في قصة تلك الزوابع التي قادت إلى تسليم السلطة للفريق عبود، أن كلا من السيد عبد الرحمن المهدي، زعيم طائفة الأنصار، والسيد علي الميرغني، زعيم طائفة الختمية، دبجا حال حدوث ذلك الإنقلاب، خطابين في تأييده، ومباركته! ولذلك فإنه تصعب معرفة من هو القاتل، ومن هو المقتول بين بهلوانات سيرك السياسية السودانية العجيب!
مجلس السيادة و(خمج) اتحادي آخر!!
من نماذج تآمر أصحاب المناصب الدستورية الرفيعة في الحقب التي تحلو لنا تسميتها "حقب الديمقراطية"، ما أورده الأستاذ، محمد خير البدوي، في كتابه الهام، (قطار العمر في أدب المؤانسة والمجالسة، الصادر عن دار النهار للإنتاج الإعلامي، الخرطوم، 2008). كتب الأستاذ محمد خير البدوي: ((أحزنتني الفتوى التي صدرت في عهد الحكم الديمقراطي بتكفير محمود محمد طه، ورأيت فيها شططا كبيراً واعتداءً على حرية الفكر والعقيدة)). ثم ذكر أن ذلك الأمر دفع به إلى أن يكتب رسالة إلى السيد خضر حمد، عضو مجلس السيادة، وقتها، بحكم الصداقة التي كانت تربط بينهما. في رسالته، استنكر الأستاذ محمد خير البدوي ما جرى للأستاذ محمود محمد طه. فرد عليه السيد خضر حمد برسالة بتاريخ 28/4/1969، أثبت الأستاذ محمد خير البدوي، فقرة منها في كتابه المذكور. وأنا، بدوري، أقتطف من تلك الفقرة، هذه الجزئية التي تقول: ((محمود ما زال يحاول أن يكون نبياً يشارك محمد الرسالة. فذاك الإسلام الأول ومحمود نبئ الإسلام الثاني الذي يصلح للقرن العشرين. وقد استفتينا علماء السودان ومصر ومشائخ الطرق وأصحاب السبح والدراويش والعلماء في الجامعة الإسلامية وجامعة الخرطوم وجامعة القاهرة وكلهم كفرَّه وخطأَّه. هل يُترك ليعير أم يُسَلَّم لكوبر؟))!!
يصل بعض الأفراد في بلادنا إلى تسنم أرفع المناصب الدستورية، كعضوية مجلس السيادة (رأس الدولة)، وربما يرى الناس أن شوارعَ قد سُمِّيَت بأسمائهم. ولكن حين تفحص قدراتهم الفكرية، ومحصولهم المعرفي، وقاماتهم الخلقية، والطريقة التي يفكرون بها، واللغة التي يعبرون بها، لا تملك إلا أن (تدِّي ربَّك العجب)!. لقد حزنت حقيقة للطريقة التي كان يفكر بها السيد خضر حمد، وحزنت أكثر أنه كان عضواً في مجلس السيادة. هذا القطب الاتحادي، لم تختلف التبريرات التي قدمها للأستاذ محمد خير البدوي ما يمكن أن يقدمه "مقفول" من العوام. فهل قرأ هذا الرجل، يا ترى، شيئاً عن انهيار الحكومات الكهنوتية في التاريخ، وقيام الديمقراطيات؟ وهل علم شيئاً عن الدساتير ونشأتها؟ وهل عرف حقاً ما تعنيه كلمات مثل "دستور"، و"حقوق أساسية"؟ رجل يجلس على قمة هرم السيادة في البلاد، في حقبة ديمقراطية، ولا يجد في نفسه حرجاً من أن يتآمر على مواطن مفكر، فاتحاً الأبواب على مصرايعها لمشائخ الفقه، ومشائخ عصور انحطاط التصوف، والدراويش، وأصحاب السبح، ليقوموا بتكفيره وإيداعه السجن! قال السيد خضر حمد: ((فهل يُترك ليعير، أم يُسَلَّم لكوبر؟))!! ولكن لماذا تراني أستغرب ما جرى من السيد خضر حمد؟! أليس هو نفس الرجل الذي احتج لدى السلطات السعودية، لكونها وضعت الحجاج السودانيين، في مكان واحد مع الحجاج النيجيريين؟! يمارس السيد خضر حمد، هذا النوع الغليظ من الإستعلاء العرقي، الذي نهى عنه الإسلام، ولا يجد حرجا في إدعاء الغيرة على الإسلام، بل ومحاكمة المفكرين وتوقيفهم! أعلم أنه قيل: (أذكروا محاسن موتاكم)، ولذلك لم يكن هدفي التشنيع على السيد خضر حمد، أو النيل منه. ما أردته هو التأكيد على ضرورة أعادة فحص تاريخنا، والتنبيه إلى خطر "الغتغتة والخمج". فبغير فحص التاريخ وعرضه على موازين القيم الصحاح، لن تصبح لدينا ثوابت دستورية يتم وفق هديها حفظ الحقوق، وتُقام عليها موازين العدل بالقسطاس المستقيم، ويعرف الناس، كل الناس، على ضوئها، ما لهم وما عليهم. بقي أن نقول، إن مجلس السيادة في حقبة الديمقراطية الثانية قد بارك مؤامرة حل الحزب الشيوعي السوداني، وبارك محكمة الردة 1968! فهل كانت لدينا ديمقراطية تستحق منا ذرف دمعة، أو نصب سرادق للعزاء؟!
(خمج) شرعي شديد!