مات مشروع السودان الجديد ولاسرادق للعزاء … بقلم: د. على حمد ابراهيم
14 November, 2009
Ali Hamad [alihamad45@hotmail.com]
فى الاسابيع القليلة الماضية أثار السيد سالفا كير النائب الاول لرئيس الجمهورية السودانية، رئيس حكومة الجنوب ، أثار لقطا كثيرا بالقائه لخطاب انفصالى جرئ فى احدى كنائس العاصمة الجنوبية جوبا ،حرّض فيه المصلين بصورة غير مباشرة بأن يصوتوا لصالح انفصال الجنوب عن الشمال فى الاستفتاء المصيرى المزمع فى السنة القادمة. وقال السيد كير لمستمعيه انهم اذا كانوا يريدون ان يعيشوا كمواطنين من الدرجة الثانية فى السودان الموحد ، فعليهم اذن ان يصوتوا للوحدة . هذا خطاب ليس فيه لف او دوران سياسى لمن القى السمع وهو شهيد . وليس فيه ذرة من المراعاة السياسية لمشاعر السودانيين الشماليين الذين خرجوا بالملايين لاستقبال قادة الحركةالشعبية الذين عادوا الى الوطن فى معية زعيمهم قرنق ماسحين من نفوسهم كل اثر من آثار الشحناء والبغضاء التى توسدت نياط القلوب على مدى خمس عقود من الزمن السودانى الكئيب . ان دعوة السيد كير المغلفة للانفصال لا يحتاج فهمها الى درس عصر . اذ لا احد يريد ان يعيش كمواطن من الدرجة الثانية فى بلده. كثيرة هى مداوارات السيد سالفا كير حول قضية الوحدة والانفصال فى ماضيه وحاضره . وكثيرة هى الاخبار التى تحدثت عن خلافاته السرية مع الدكتور جون قرنق رفضا لمشروع الوحدة الذى يؤمن به قرنق ايمانا عميقا . المتسرب من تلك الاختلافات يقول ان الرجل يقف ف صف الانفصال بحزم عكس موقف قائده قرنق المتحمس للوحدة بحزم . ولكن غياب الدكتور قرنق المفاجئ وضع الرجل فى موقف لا يحسد عليه. والزمه باخفاء ما لا يمكن التصريح به فى ذلك الوقت العصيب . وجعله يمتهن اللعب بغير ذكاء على كل الحبال. فهو حينا مع الوحدة قلبا وقالبا. ومتحمسا لتطوير علاقاته مع شركائه الانقاذيين الى ابعد الحدود. وفى حين آخر هو مع الانفصال قلبا وقالبا باعتباره الضمانة الوحيدة لأن يعيش انسان الجنوب كمواطن من الدرجة الاولى فى الجزء الخاص به من هذا المد الجغرافى المترهل الذى اسماه الجغرافيون العرب بالسودان. وهكذا اعتمر الرجل المواقف المائعة فى قضية الوحدة وهى قضية لا تحتمل ذرة من الميوعة السياسية . ولكن جديد الرجل هذه المرة هو انه حرّض اهله السودانيين الجنوبيين على التصويت لصالح الانفصال بقوة وصراحة وجرأة . الامر الذى يضع مصير مشروع السودان الجديد الذى ابتدعه الراحل جون- يضعه على محك البقاء أو الفناء. صحيح ان مشروع السودان الجديد قد تعرض من قبل لتحد خطير من قبل القيادات الانفصالية التى انشقت عن قرنق وشكلت مجموعة الناصر، ودخلت فى صدام مسلح عنيف ضد مجموعة قرنق الوحدوية فى عام 1992 بقيادة الدكتورين لام اكول ورياك مشار الرافضين لمشروع السودان الجديد. ولكن المشروع صمد وبقى وزاد قوة بفعل ديناميكية الدكتور قرنق.
ولكن شاءت الاقدار ان يموت جونق قرنق فى حادث جوى مأساوى بعد اسابيع قليلة من استقبال الشعب السودانى له فى العاصمة القومية استقبال الفاتحين ،وقبل ان يضع اللمسات الاخيرة لمشروعه الوحدوى مع شركائه الجدد الممثلين فى حكومة الانقاذ ، ليدرك الشعب السودانى بعد فترة ليست طويلة ان الحادث المأساوى الذى أودى بحياة الدكتور جون قرنق ، قد اودى كذلك بمشروع السودان الجديد الذى اوقف له الدكتور جون قرنق حياته كلها .
لقد وضح للشعب السودانى بعد رحيل الدكتور قرنق ان مشروع السودان الجديد كان له خصوم جنوبيون كثيرون وسط المجموعة القيادية التى تحلقت حول الزعيم الكارزمى ولكنها لم تجد الجرأة التى تكشف بها عن وجهها الحقيقى مخافة أن يجرفها عباب التيار الوحدوى الجارف الذى يقوده الدكتور قرنق بتصميم حاسم . حتى اذا قضى قرنق قبل أن تورق اغصان المشروع، اخرج المتوارون اعناقهم من تحت الترب ، وصاروا يهيلون التراب على مشروع سودان قرنق الجديد بصور مباشرة احيانا، وبصور غير مباشرة احيانا اخرى. وقد اعتمد المتوارون اللف والدوران والمواربة واللعب على كل الحبال مفترضين الغباء والغفلة الزائدة عن الحد لدى الطرف الآخر. مواقف السيد سالفا كير المتعددة والمتناقضة آزاء الوحدة اصبحت عبئا ثقيلا على جزء من الشعب السودانى الشمالى فى الوقت الحاضر باستثناء قبائل اليسار الشمالى بكل مسمياتها التى يصدق عليها وصف عين الرضا التى لا ترى غير المحامد .
ولعله من الطرافة بمكان أن يفوق حماس جماعات كثيرة فى السودان الشمالى لمشروع السودان الجديد ، أن يفوق حتى حماس الجنوبيين انفسهم لذات المشروع الذى يلزم السودان الشمالى بما تنؤ بحمله الجبال الراسيات من الاصلاحات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التى تصب فى صالح الجنوب الامر الذى كان من المفترض ان يجعله اقرب الى قلوب الجنوبيين. ولكننا لا نرى ولها جنوبيا بمشروع السودان الجديد يوازى الوله بمشروع الانفصال. لقد كتبت وقلت ذات مرة انه قد يكون هناك مثقفون جنوبيون يؤمنون بالوحدة ولكننى لم اقابلهم بعد على كثرة ما قابلت من مثقفين جنوبيين فى داخل البلد و فى خارجها. وله قبائل اليسار الشمالى بمشروع السودان الجديد هو حالة تستحق وقفة متأملة . فهذه القبائل كانت وما زالت اكثر الجماعات الشمالية حماسة لمشروع السودان الجديد . وقد وصلت الحماسة ببعضها درجة تخلت فيها عن كياناتها القديمة ، لتقفز الى مواقع القيادة والريادة فى تنظيم الحركة الشعبية الحفيظ المفترض على المشروع الوليد . ولكن تداعى قبائل اليسارالشمالى نحو مشروع السودان الجديد بزعامةالدكتور قرنق كان له مبرراته واسبابه الموضوعية . فقد صحت قبائل اليسار من سباتها الطويل ذات صبح باكر لتجد غريمهاالقديم وقد تمكن من الامر بليل . فسامها الخسف والهوان وزيادة مثلما سام الآخرين . و خلق صعود الغريم الاسلامى (الانقاذى) حالة من اليأس لدى كل قبائل اليسار الشمالى جعلتها تيمم وجهها شطر مشروع السودان الجديد بحماسة زائدة دون ان تتريث لترى كيف ينمو البرتقال من تحت اديم الثرى ، وكيف يصارع الترب . لم تنتظر قبائل اليسارالشمالى لترى . وتركت راءها الجمل بما حمل . ولم يعد يعنيها اذا انهار المعبد على ساكنيه وعابديه ام بقى على ظهر الارض طالما مؤذن هذا المعبد هو الغريم القديم . فى مقابل موقف قبائل اليسار المتهالك نحو مشروع السودان الجديد كان هناك موقف السودان التقليدى العريض تجاه مشروع السودان الجديد . لقد امعن السودان العريض النظر كرتين فى تفاصيل وزوايا وخبايا مشروع السودان الجديد . وحدق فى عيون الذين تراصوا خلفه ، ونظر فى وسائلهم ، فبان له ان المشروع فى ، بعض تجلياته ، يصوب معاول الهدم ضد ثقافته وموروثاته باعتبارها ثقافة مهيمنة. رغم ان الصحيح هو انها ثقافة حاضنة و ليست فى عداء مع ثقافات الآخرين. لقد كانت هناك مؤشرات كفيلة باثارة الشكوك والمحاذير لدى عمارالسودان العريض . عملية طرد اللغة والثقافة العربية الاسلامية من دورالتعليم فى جبال النوبة السودانية لصالح اللغة الانجليزية التى يستجلب لها المعلمون والمناهج من يوغندا وكينيا كانت رسالة مرة المذاق. و غير مكذوبة الاهداف البعيدة . طرد لغة وثقافة حاضنة وليست معادية هو فى حد ذاته تحقير لوجدان امة عاشت دهورا تحتطب الأمل فى تأسيس كيان يشمخ بوجه الريح العاصف. ويقف مصدا صامدا امام العواصف العرقية والعنصرية والجهوية والقبلية . الا يتخاطب اهل الجنوب ويتواصلون فيما بينهم -مثلا- بعربى جوبا . ألم يغن فنان الجنوب وفنان السودان يوسف فتاكى للوحدة الوطنية السودانية بعربى جوبا صادحا باناشيده التى صارت ذات يوم من المصدات القوية ضد هجمة الانفصالية الغشيمة – سودان بلدنا- ياى بلدنا ونحن اخوان .
لقد ارتعبت الكثرة الكثيرة من اهل السودان العريض من استهداف قيم سودان المرعية من قبل دعاة السودان الجديد رغم انها قيم تكافل وتوادد وتراحم. و لا يجوز وزمها بأنها قيم قديمة يجب ابدالها بقيم السودان الجديد المفترض التى لا يعرف احد حتى هذه اللحظة ماهى ديناميكية هذه القيم وما هى مطلوباتها الفكرية والفلسفية .
لقد صار مشروع السودان الجديد عرضة لمهب الريح بعد غياب صاحبه الفاجع . ولم يعد ذلك المشروع الكبير الاهداف ، بعد ان اصبحت مراكز البحث الامريكية لا تفتأ تحدث عن جلسات سرية بين الشريكين تناقش من وراء ظهر اصحاب الشأن سبل (تسليس) فصل الجنوب عن الشمال . فى آخر زيارة للسيد دينق الور ، وزير خارجية السودان ، للعاصمة الامريكية ، حدث الوزير مستمعيه فى منزل سفيرالسودان بواشنطن ، ان اجتماعات الشريكين مع الادارة الامريكية ناقشت اجراءات انفصالية ولم تناقش مسائل وحدوية. وضرب الوزيرالصريح ،الذى يتحدث بلغة عربية سلسة و هادئة ورزينة، ضرب مثلا للمسائل الانفصالية التى يجرى نقاشها مع الادارة الامريكية . و قال انها مسائل الحدود والمياه والبترول و العملة. معتبرا تلك المسائل مؤشرا على مولد دولتين جديدتين .
صورة السودان الجديد الايجابية التى جسدها الدكتور قرنق فى المخيلة الشعبية السودانية لم تعد موجودة الآن . وجاءت فى مكانها صورة سودان جديد بالمعنى السلبى للجدة التى تعنى الانفصال والتشرزم والتنازع الابدى بين مكوناته المختلفة . فخلفاء قرنق لم يعودوا يذكرون السودان الجديد او يتحدثون عنه مثلما كان يذكره صاحبه و يتحدث عنه. لقد انصرفوا عنه الى احاديث الانفصال والتهديد والتلويح به فى كل الاوقات حتى بدا السودان ليس فقط متاهبا للانفصال، انما عائشا حالة فعلية من حالات الانفضال. نعم ، لقد عمقت (الانقاذ) جراحات الجنوب باعلانها الجهاد على شعبها فى الجنوب. مثلما عمق الجنوب ذات يوم جراحات الشمال بابتدار اول المجاذرالدموية ضد الشماليين الابرياء فى الجنوب فى عام 1955 . لقد كانت مجاذر قاسية نفذتها قلوب اعماهاالحقد العنصرى فارتكبت من الاعمال الوحشية ما يجل عن الوصف. وكان من الضحايا اطفال ونساء و معلمين كانوا يؤدون رسالة العلم فى احراش الجنوب . كان استاذى عبد الرحمن بلال احد هؤلاء . كان يلقى درسا على تلاميذه الصغار . طرق متمرد مدجج بالسلاح الباب بعنف. ذهب استاذى عبد الرحمن بلال ليفتح الباب للطارق . فوجد الموت السريع عند الباب بطلقة غادرة فى جبينه الوضئ بين صيحات وبكاء تلاميذه الجنوبيين الصغار . كانت تلك صفحات سوداء من تاريخ السودان . ولكن العزاء ان الاحساس بقتامتها وفداحتها ورفضها كان شاملا فى الشمال والجنوب. فنان الجنوب الحزين غنى باكيا :
- مندكرو ماتوا سمبلة . . . سورى ياخوان!
و(مندكرو) هى كلمة جنوبية تعنى الشماليين . والمعنى العام للاغنية الشعبية الحزينة يقول ان الشماليين قتلوا بلا سبب . ويعتذر الفنان الحزين لاخوانه الشماليين نيابة عن اهله الجنوبيين عن الفظائع التى ارتكبت باسمهم.
لقد كان الامل ان تمثل اتفاقية السلام السودانية الحد الفاصل بين عهدين فى السودان ، عهد قديم ولى. وعهد جديد ازف للتو ، ينسى السودانيون فيه فظاعات الماضى . ويقبلون على الحاضر والمستقبل بقلوب مفتوحة . ولكن لا يبدو ان الاتفاقية قد حققت شيئا من هذا . ولا هى فى طريقها لتحقيقه. لقد دمر الشريكان المتشاكسان احساس الشعب السودانى بالفرح الطاغى يوم توقيع الاتفاقية الكبير فى يناير من عام 2005 يوم غلبهما ان يغادرا حظيرتهما الحزبية الضيقة. ان الشعب السودانى اليوم يعيش حالة فريدة من الاحباط بسبب استطالة النزاع بين طرفى الوطن الذى استعصى على كل وصفات العلاج – المحلى منها والمستورد . ولم تعد يخيفه التهديد بالانفصال الذى يأتى من السياسيين الجنوبيين. و لا تغريه تطمينات الوحدة المنطلقة من جهة الحادبين عليها فى الشمال . وهكذاصارت دعوة رئيس حكومة الجنوب المغلفة لشعبه للتصويت للانفصال صيحة فى بيد جرداء لم تخف احدا فى الشمال وان طرب لها البعض فى الجنوب. لقد وطن الشعب السودانى فى طرفى الوطن نفسه على القادم الاكيد ، من قرائن الاحوال المعاشة ، التى تقول له ان الجنوب ذاهب فى حال سبيله ولا معنى للبكاء على اللبن المراق . والحال كذلك ،فان دعوة السيد سالفا كير غيرالمباشرة لشعبه للتصويت للانفصال لم تفعل اكثر من التأكيد على موت مشروع السودان الجديد بموت صاحب المشروع. ولا يبدو فى افق السودان السياسيى ان سرادق كثيرة ستقام للعزاء فى الفقيد.