هل أنقذت الحركة الشعبية الحكومة من ورطة الدينار؟ .. بقلم/ محود عثمان رزق
13 December, 2009
morizig@hotmail.com
تنويه : أعيد نشر هذه المقالة بعد إدخال تعديلات هامة عليها.
لقد جاءت الإنقاذ فى بدايتها مدفوعة برغبة عنيفة لتأصيل الحياة السودانية لتتوافق مع الثقافة الإسلامية التى تمثل ثقافة الأغلبية السودانية، إلا أن الرغبة شئ والدراسة العلمية التى تتحقق بها تلك الرغبات شئ آخر. ومن الأشياء التى حاولت الإنقاذ تغييرها وظنت أنّ أمرها هين وسوف يمر تغيرها بسهولة ويسر، مسألة تغيير اسم وشكل العملة السودانية. والجدير بالذكر أن الشريف حسين الهندى قد سبق الإنقاذ لتفيير إسم الجنيه عندما إقترح فى مؤتمر وزراء النفط والمالية العرب الذى إنعقد فى بغداد لمناقشة مقترح السودان الداعى لوقف ضخ البترول للعالم الغربى بعد نكسة 1976 ، إقترح أن تكون هناك عملة موحدة للعالم العربى – هى الآن فى حيذ التنفيذ على المستوى الخليجى - كسلاح جديد يقوى من الأواصر ، ويوحد الكلمة ، ويدفع العرب نحو تأسيس سوق عربية مشتركة. و لو شاء الله تعالى لهذا الإقتراح أن ينفذ – و قد وجد قبولا من جميع المؤتمرين آنذاك - لأصبح الدينار هو العملة السودانية تأسّيا بغيره من الدول العربية. ولكن شاءت إرادة المولى أن لا يرى الإقتراح النور ، فظل الجنيه السودانى فى مكانه حتى جاءت الإنقاذ فشطبت بصورة ثورية ومنعزلة الجنيه واستبدلته بالدينار في إشارة رمزية منها لأسلمة المعاملات الاقتصادية الحديثة! إلا أن الإنقاذ فوجئت بعمق جذور لغة الجنيه فى أعماق العقل الباطن لدى المجتمع السودانى.
فالشعب من حيث المبدأ لم يرفض الدينار إلا أن عقله الباطن لم يسمح له أن ينسى الجنيه بعد طول عشرة! ومن المفارقات أن أصحاب القرار أنفسهم وأكثر الناس حماسة له لم يستطيعوا أن يتأقلموا مع العملة الجديدة التى جاءوا بها!! فكثيرا ما كنا نسمع كبار المسئولين فى الدولة يستخدمون كلمة "جنيه" فى تصريحاتهم الرسمية وغير الرسمية بينما الدولة عملتها الدينار وليس الجنيه!!. وحتي الموظفين فى البنوك كانوا يصرفون لك بالدينار ويخاطبونك بلغة الجنيه!! وباختصار فقد فشلت محاولة التأصيل فى هذا المجال فشلا ذريعا ليس من باب رفض المبدأ كما ذكرت آنفا ، وإنّما من باب "من خلى عادتو قلت سعاتو".
وهنا بدأت الإنقاذ تشعر أنّها فى ورطة حقيقة بخصوص هذه المسألة، فإما أن تتراجع عن الدينار تراجعا ذاتيا وتتعرض لنيران كثيفة من قبل المعارضة التى لن تتوانى فى إتهامها بالتخبط وتبديد أموال الشعب فى طباعة عملة جديدة بتكلفة باهظة، وإما أن تستمر فى هذا المسار الذى جعل كل الدولة –حكومة وشعبا- يعيشون فى حالة "شزوفرينية" إقتصادية.
وهكذا بدأت الأيام تمر وتزداد الحكومة حيرة فجاءت نيفاشا لتنقذ الحكومة من هذه الورطة، فرمت الحركة الشعبية بسذاجة اللاعب الجديد بكرت تغيير العملة، فتلقفته الإنقاذ ولسان حالها يقول : "بركة الجات منك يا بيت الله" !!، ورمت بكرت الموافقة بعد أن تظاهرت بشئ من الممانعة التكتيكية، ومن ثمّ خرجت للناس و كأنّها تراجعت عن خطها التأصيلى وهى فى الحقيقة تراجعت عن ورطة حقيقة لم تعلن عنها. وهكذا تنفست الإنقاذ الصعداء بفضل الحركة الشعبية!
والشئ الذى لم استطع فهمه حتى الآن هو على أى مرتكز فكرى أو ثقافى طالبت الحركة الشعبية بتغيير العملة من الدينار إلى الجنيه؟
إذا كانت الإجابة هى : أنّ الدينار يرمز للتوجه الإسلامى العربى والحركة ترفض هذا التوجه، فإنّ البديل الذى جاءت به الحركة كان من المفروض أن يكون شيئا يرمز لفكر أو موروث تؤمن به الحركة الشعبية خاصة أو يؤمن به الشعب السودانى عامة، ولكن للأسف ليس للجنيه خلفية فكرية أو ثقافية متجذرة فى تراثنا السودانى!. بل العكس تماما أنّ الجنيه مربوط بالإستعمار والإستغلال والإستعباد كما سنرى.
ونحن إذا رجعنا لأسماء العملات التى تداولتها الأمة الإسلامية فسنجدها كلها مأخوذة من غير العرب بصورة سلمية وذلك قبل البعثة المحمدية. فالدينار يونانى الأصل وهو مضروب من الذهب الخالص ومأخوذ من الكلمة اللاتينية Denarius وقد تم تعريبه فى الجاهلية واستصحبه الإسلام فيما بعد، وجاء ذكره فى بضع آيات من القرآن الكريم مع الدرهم ، و الدرهم نفسه يوناني الأصل إلا أنّه مضروب من الفضة و قد إستعارته العرب من الفرس وليس من اليونان ، وأصل الكلمة فى اللغة اليونانية Drachm فأصبح الدرهم عملة الفرس الرسمية و بالتالى تأثرت به أسواق المناطق الشرقية للجزيرة العربية فى الجاهلية فأصبح هو الشائع في تلك المناطق. أمّا الجهة الشمالية للجزيرة العربية فقد تأثرت بالرومان والبيزنطيين الذين يستعملون الدينار الذهبى. وأما "الفلس" الذى يضرب من النحاس فهو أيضا يونانى الأصل ومأخوذ من كلمة Follis اللاتينية. أما " القرش " فهو تركى وهو من العملات الحديثة التى أدخلها العثمانيون لمصر والسودان وقد كانت تضرب من الفضة فى بادئ الامر ثم تحولت للنحاس لتحل محل الفلوس فى معالجة الكسور الحسابية. وأخيرا "الريال" وهو هولندى ونمساوى وقد كان يضرب من الفضة. من هذه الجولة التاريخية نخرج بحقيقة مفادها أن العرب لم يكن لديهم نقود موحدة خاصة بهم ، فقد كان تداولهم النقدى يدور حول عدد من العملات الخارجية التى يجلبونها من رحلة الشتاء والصيف وغيرها من الرحلات التجارية مع الفرس وغيرهم، إلا أنّ أول من حاول توحيد العالم الإسلامى على عملة واحدة هو الخليفة عبد الملك بن مروان إثر خلاف بينه وبين الإمبراطور البيزنطى الذى كانت عملته هى العملة الرسمية فى مملكة الخليفة الأموى! وسبب الخلاف أنّ الإمبراطور البيزنطى إعترض على شطب عبارة ( باسم الأب والإبن والروح القدس) التى كانت تطبع على ورق البردى الذى تصدره مصر لبيزنطيا ، وإستبدالها بامر من عبد الملك بعبارة ( شهد الله أنّه لا إله إلا هو) . ولم يكتفى الإمبراطور بالإعتراض فقط بل ذهب بعيدا ليهدد عبد الملك بأنّه سيضرب نقودا جديدة فيها إساءة للرسول الأكرم محمد (ص) إن لم يتراجع عبد الملك عن قراره. ولكن الخليفة الأموى لم يتراجع ورد عليه بأنّ بدأ فى ضرب عملته التى تحمل الشعارات الإسلامية وتحمل صورته أيضا، وبدأ فى سحب العملات البيزنطية من السوق الإسلامى، وكانت تلك أول ثورة على نظام النقد العالمى آنذاك إنتزعت بموجبها الدولة الأموية حقها فى ضرب عملتها التى تحمل شعارت إسلامية بلغة عربية! وبهذا القرار إستطاع عبد الملك بن مروان أن يحرر عملة دولته من الدوران حول الدينار البيزنطى سعرا ووزنا وشكلا. ونتيجة لهذا التحول الراديكالى بدأت تكنلوجيا سك العملة تدخل العالم الإسلامى ففتحت عدة دور رسمية لسك العملة فى كل من مصر وسوريا وبدأ عبد الملك يفكر فى توحيد العملة فى الدولة الأموية الممتدة.
ولكن ماذا تعنى كلمة جنيه؟ ومن أى لغة أخذت؟ وأى ثقافة يرمز إليها هذه الجنيه الذى تمسكت به الحركة الشعبية؟. وللإجابة على هذه الأسئلة فقد بذلت جهدا كبيرا لمعرفة أصل الكلمة وقد بحثت فى الكتب وسألت بعض الإقتصاديين وأهل الثقافة إلا أن جهدى لم يكلل بالنجاح ، وقد كنت متفائلا أن أجد شيئا يسعفني عند البروفسور الراحل عون الشريف قاسم - رحمة الله عليه-، فقد كان الرجل من أهل البحث والتأصيل والتوثيق، إلا أنّه خذلني أيضا.
ولهذا رأيت أن أبحث و أجتهد لفهم الكلمة فتوصلت بعد بحث ونبش لقناعة تامة بأنّ كلمة "جنيه" هى تحريف لإسم دولة غينيا (Guinea) الأفريقية التى كانت تنتج الذهب الخالص بكميات ضخمة تستخدم فى إستخراجه أعدادا كبيرة من الرقيق تحت ظروف قاسية ومعاملة وحشية لا تحترم إنسانيتهم ولا ترحم ضعفهم، ولا تثمن جهدهم !. بعد أن يستخرج هؤلاء المساكين الذهب ويدفع لهم ما يكفى رمقهم ، تأخذ إنجلترا الذهب للتعاملها التجارى العام و لتضرب منه عملة ذهبية تساوى 22 شلن إنجليزى وكان ذلك فى عام 1663، والجنيه الذهبى هو أول عملة تصنّع بالماكينات الحديثة آنذاك. ومن هنا أخذت العملة الإنجليزية الجديدة المضروبة من الذهب الغينى إسمها غير الرسمى من إسم تلك الدولة الأفريقية فى إشارة لجودة ذهبها وليس تكريما لها ولا لإنسانها. وبتداول هذه العملة فى بعض دول العالم من ضمنها مصر إنتشر إسمها وأصبحت إسما للعملة الرسمية فى بعض البلاد. فمثلا، قد أخذت مصر الإسم وأطلقته على عملتها الرسمية ثم نقلته للسودان من بعد.
وفى خلال بحثى وجدت فى بعض الكلمات اللاتينية التى تشبه مكلمة "جنيه" إذا قمنا بتحوير طفيف فى أصل الكلمة اللاتينية بعد كتابتها باللغة العربية، والكلمات هي :
1- Jitney وهى عملة أمريكية قديمة من فئة الخمس cents الحالية. و إذا كتبت بالعربية سوف تكتب"جتنى"، وإذا قمنا بحذف التاء وإضافة هاء لآخر الكلمة سنخرج بكلمة "جنيه"
2- كلمة Gee وهى لغة عامية إنكليزية تعنى حزمة أوراق مالية. وقد يقابلها كلمة "رزمة" عندنا. وهذه ال Gee أو "جى" تحتاج لإضافة نون وهاء لتصبح "جنيه".
3- كلمة George وهى قطعة نقدية إنجليزية قديمة تحمل صورة القديس جرجس أو "جورج". وفى ظنى أن هذه الكلمة بعيدة كل البعدة عن كلمة جنيه.
إذن، فقد تمسكت الحركة الشعبية بشئ لا يضيف إليها بعدا فكريا ولا ثقافيا، فى الوقت الذى " شالت فيه وجه القباحة " بسبب رفضها لرمزعزيز لدى المسلمين ، مع العلم إنّ واقع المسلمين العملى غلّب ورجّح اسم الجنيه وحال بينهم وبين الرجوع لرمزهم القديم.
أما بالنسبة للمسلمين فهم لم يخسروا شيئا من هذا التغيير، وذلك لأن الإسلام استصحب كثيرا من الفضائل و المحاسن والنظم التى وجدها فى المجتمع الجاهلي ، والتي كان من ضمنها أسماء العملات كالدينار والدرهم ، وقد استوعبت اللغة العربية من قبل الإسلام ومن بعده كثيرا من الكلمات غير العربية وأضافتها لقاموسها ، ومن ضمن تلك الكلمات كل أسماء النقود مثل كلمة "دينار" و "درهم" وغيرها. فإذن يمكن للمسلمين أن يستصحبوا الجنيه وخاصة بعد أن رسخ فى عقلهم الباطن و استوعبته اللغة العربية حين قامت بتصريفه لجنيه ، وجنيهان ، وجنيهين ، وجنيهات ، وجنيهاتهم ، وجنيهاتهن . ولو تريث أهل الإنقاذ قليلا وسألوا أهل الفكر لما وقعوا فى هذا التخبط ، لأنّ الإستصحاب كان هو الخيار الأفضل والأصوب ، وهو ما فعله القرآن الكريم مع الدينار والدرهم فى المجتمع الجاهلي. وأكد ذلك الخط القرآنى رسول (ص) فى تعامله الفعلى بالدينار والدرهم الجاهلى ، ثم جاء أبوبكر ومشى فى نفس طريق رسول الله لم يغير فى العملة شيئا، وعندم تولى عمر بن الخطاب الخلافة وفتحت فى عهده بلاد فارس أقرّ العملة الفارسية كما هى يصورتها ولغتها وحروفها ، بل بشعاراتها ورموزها غير الإسلامية!! وعندما بدأ يضرب الدراهم فى عام 18 هجرية ، ضربها على صورة الدراهم الفارسية شكلا وصورة لكنّه زاد عليها بعض العبارات الإسلامية، مثل " الحمد لله" و "لا إله إلا الله وحده" و "محمد رسول الله" ولكنه لم يغير إسمها ولا وزنها ولا شكلها.
أما بالنسبة للإنقاذ فقد استفادت من تغيير العملة على النحو التالى:
أولا، أزاحت عن كتفها هما من الهموم الذي أربك السوق وأدخلها هى فى ورطة لم تستطع الخروج منها ذاتيا.
ثانيا، وجدت لها مبررا شرعيا لإنفاق ملايين الدولارت لتمويل عملية التغيير والتى كانت ستحرجها جدا لو تراجعت عن الدينار بحر إرادتها.
ثالثا، أصبح سعر الصرف من الناحية الشكلية والنفسية مقبولا جدا، فالإنقاذ تكسب سياسيا عندما يقال أن الدولار يساوى جنيهين بدلا من ألفي جنيه مع أن القيمة هى نفسها ثابتة لم تتغير.
رابعا، فقد تيقنت الإنقاذ أنّ اسم العملة وشكلها الحالي لن يكون موضوع خلاف فى المستقبل القريب أو البعيد بين الجنوب والشمال.
خامسا، ظهرت الإنقاذ بمظهر الشريك الذى أوفى بعهوده النيفاشية ، فهى بالفعل قد أشركت الجنوب فى عملية التغيير كما وعدت فى نيفاشا.
أما الشعب السودانى فقد خسر خمس مرات وربح مرة واحدة :
فقد خسر الشعب السودانى عندما غيرت مايو العملة الديمقراطية الرجعية الطائفية إلى عملة مايوية إشتراكية تقدمية!! وخسر مرة ثانية عندما غيرت مايو العملة مرة ثانية لتحمل صورة القائد الملهم والإمام الأعظم آية الله نميرى –رحمه الله-!! وخسر الشعب السودانى مرة ثالثة عندما غيرت الديمقراطية الثورية عملة مايو الدكتاتورية إلى عملة ديمقراطية!! وخسر الشعب السودانى مرة رابعة عندما جاءت الإنقاذ فغيرت العملة الديمقراطية العلمانية الشيطانية الملعونة لعملة إسلامية!! وخسر الشعب السودانى مرة خامسة عندما جاءت الحركة الشعبية فغيرت العملة الإسلامية الإمبريالية الإرهابية وأرجعتها للمربع الأول أو قريبا منه!!.
أما مكسب الشعب السودانى من التغيير الأخير هو يقينه بأنّ اسم العملة سيظل إلى الأبد هو " الجنيه " ، أما الشكل فقد يتغير ولكن بعد فترة طويلة من الزمن. وقد تأكد للشعب أن كل الأحزاب من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال ومن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار قد شاركت فى تبديد أمواله فى خمس عمليات تغيير صبيانية تدل على هشاشة الفكر السياسى فى بلادنا.
و السؤال المهم مرة أخرى: ماذا كسبت الحركة الشعبية ثقافيا أو سياسيا أو اقتصاديا من تغيير العملة؟