في ذكرى الأستاذ محمود: ربعُ قرنٍ منذ القتل بسبب الفكر! (4 – 4) .. د. النور حمد
4 February, 2010
elnourh@gmail.com
كان الأستاذ محمود روحانياً بمعنى الكلمة، غير أن روحانيته لم تكن روحانيةً محلقةً في الأعالي مذهولةً عن الواقع المحيط بها، وإنما كانت روحانية تعتمد في أدق التفاصيل، مفهوم أن الدنيا مطية الآخرة. لم يكن إيمان الأستاذ محمود بالغيب إيمانا عقلياً، وإنما كان يقيناً مجسداً في الدم واللحم. والذين يبلغون تلك الرؤية التي تنتظم فيها العوالم من الذراري إلى الدراري في وحدة واحدة، كما أشار هو في كتابه "الإسلام"، ويحققون تلك المراتب من اليقين، لا يشغلون أنفسهم بالحسابات التي عادة ما يشغل بها الناس أنفسهم. فالدنيا والآخرة تصبح لدى أهل ذلك المشهد شيئاً واحداً. وأهل هذا المشهد هم الذين تحرروا من الخوف، ومن الطمع، وحققوا العبودية. والعبودية الحقة هي أن ترضى أن تضعك المشيئة الإلهية حيث تريد. كان الأستاذ محمود منسجماً انسجاماً مذهلاً مع جزيئات بيئته الزمانية والمكانية، وتعبير ((الانسجام مع جزيئات البيئة الزمانية والمكانية)) تعبير أخذته من أدبياته التي كتبها. ظل الأستاذ محمود ملازماً لحجرته عبر الخمس عشرة سنة الأخيرة من حياته. ولم يكن يبرحها إلا لعيادة مريض، أو السير في جنازة. حين يدخل المرء عليه في حجرته تلك الغارقة دوماً في دخان البخور، يحس وكأنه قد ولج عالماً آخر. في حضرته، تبهت في نداءات المشاغل اليومية، ويدخل زائره في جمعيةٍ تستغرقه من جميع أقطاره. تلك الجمعية الداخلية بعض قبسٍ من عيش الآخرة؛ أعني، حالة الانسجام والاتساق الكلي مع المحيط. كان الأستاذ محمود منحصراً في لحظته الحاضرة، وانحصاره لمن النوع الذي يتعداه ليُعدي جليسه. والصوفية يقولون: ((الحال العامر يُعدي))! كان لا يشكو من أمرٍ نقص، أو لم يتم، أبداً. ولا عجب! أليس هو من نبه في كتابه "لا إله إلا الله" إلى الحديث القائل: ((لاتزال لا إله إلا الله تدفع سخط الله عن العباد، ما لم يبالوا ما نقص من دنياهم، فإذا فعلوا ثم قالوها، قال الله: كذبتم! لستم بها صادقين)).
ظل الأستاذ محمود يعيش في بيته المبني من الطين ولم يكن في حمَّامه "دش". عاش في ذلك المنزل حوالي العشرين عاماً ظل يستحم عبرها بالطست. ولقد انثقب ذلك الطست مراراً من طول الاستخدام، ولكن الأستاذ محمود لم يكن يطلب طستاً جديدا، وإنما كان يرسله مع ابن أخيه إلى حدادٍ ليرقعه. وفي واحدةٍ من حوادث الانثقاب المتكررة تلك، طلب الأستاذ محمود من ابن أخيه مختار أن يأخذ الطست إلى الحداد، وكان في الغرفة بعضٌ من أهله. فدنا منه ابن أخيه مختار، وهمس في أذنه، حتى لا يسمع الحضور ما يقول: ((يا أستاذ الحداد المرة الفاتت، قال لي: الطشت دا تاني ما تجيبوه لي))!! وضحك الأستاذ محمود من قول الحداد. وروى عنه الدكتور الراحل خليل عثمان، وقد كان معتقلا معه في أحد بيوت الأمن في منطقة الخرطوم شرق، أنه ـ أي الدكتور خليل ـ رمى بكوزٍ كانا يستخدمانه معا للشرب. وكانت أسرة الدكتور خليل قد جاءت إليهما بكوز جديد. فافتقد الأستاذ الكوب القديم الذي اختفى، وسأل عنه الدكتور خليل. فقال له الدكتور خليل أنه رماه حين تسلم الكوز الجديد. فطفق الأستاذ محمود يبحث حول جنبات المنزل عن الكوز القديم والدكتور برفقته، حتى وجداه. فغسله الأستاذ محمود ودق مسمارا على الحائط علقه عليه، وقال للدكتور خليل: ((الكوز ده دحين ما خدمنا كتير؟!)). ولقد ظل الدكتور خليل عثمان يروي قصصاً كثيرة عن فترة ملازمته للأستاذ محمود في المعتقل. ولا عجب أن انتحب الدكتور خليل عثمان انتحاباً مراً، حين سمع بتنفيذ الحكم على الأستاذ محمود، وهو في لندن في معية الدكتور منصور خالد وآخرين، كما روى الأخير.
لم يكن للأستاذ محمود دولاب ملابس في غرفته. وإنما كانت له شنطة جلدية من طراز قديم ظل يضعها تحت عنقريبه. كان أقرب ما يكون شبهاً في عيشه في غرفته تلك بطلبة الداخليات. لقد كان الأستاذ محمود متجرداً بشكل لا يُصدق عن نزعة التملك، ونزعة الاحتفاظ بالحيز الخاص. لقد كان في هذه الدنيا عابر سبيل، لا أكثر. كان يرتفق بالأشياء فقط، ولم يكن له أدنى إحساس بملكية شيء. شنطته الجلدية التي كان يضعها تحت عنقريبه، هي ذات الشنطة الجلدية التي سلمتها إدارة سجن كوبر إلى أسرته، عقب إعدامه، ولم يكن فيها سوى جلباب وعمامة وشال وعراقي وسروال ومركوب أبيض و"سفنجة". وكان ذلك هو كل ما يملك من متاع الدنيا، حين ذهب إلى لقاء ربه، راضياً مرضيا. رأته إحدى قريباته وهو في انتظار التنفيذ في سجن كوبر وهو يرتدي عراقي وسروال السجناء المصنوع من قماش الدمورية الخشن، فدمعت عيناها، فطيب الأستاذ محمود خاطرها، وقال لها: ((هذا أشرف لباس ألبسه في حياتي)).
عاش الأستاذ الخمس عشرة عاماً الأخيرة من حياته في غرفته تلك التي كان يدير منها الحركة الجمهورية التي تكثفت في عقدي السبعينات وبداية الثمانينات وأصبحت إدارتها تستغرق اليوم كله، منذ الفجر وحتى منتصف الليل. ولم يكن الزوار ينقطعون عن منزله، منذ الصباح الباكر جداً، وحتى منتصف الليل. لم يكن الأستاذ محمود يعتذر قط عن لقاء أحد. كان يحتفي بكل من يزورونه، ويعطيهم من وقته، ومن اهتمامه، بلا تفريق بينهم. كان لا يفرق بين علية القوم وعامتهم، متعلميهم، وغير متعلميهم، ذكورهم وإناثهم، أو شيبهم وشبابهم. كان يودع بعض زائريه أحياناً، بالمشي معهم حتى شارع الثورة بالنص، الذي يبعد عن منزله حوالي نصف الكيلو متر. وهذا تقليدٌ صوفيٌ قديم. جاء في كتاب الطبقات أن الشيخين الشقيقين ننة وحمد الترابي، وهما ابنا خالةٍ للشيخ دفع الله العركي، كانا يسيران حافيين مع الشيخ دفع الله، من قريتهما شمالي الكاملين إلى أبو عشر. كان الشيخ دفع الله يذهب في زيارات متكررة إلى مقام الشيخ إدريس ود الأرباب. وفي طريق عودته إلى أبو حراز، كان ينزل عند ابني خالته، ننة، وحمد. وما أن يهم بمغادرتهما، حتى ينهضا، ويتمنطقا بثوبيهما، ويمسكا برسن دابته، ويسيرا أمامه حافيين، حتى يوصلاه أبو عشر (حوالي العشرين كيلو متر)، ثم ينقلبا راجعين!
كانت غرفة الأستاذ محمود معتمة على الدوام، إذ لم يكن يفتح نوافذها إلا نادرا جداً. كان لا يشكو من الحر ولا يضيق منه. وسمعته مرات يقول: ((الطقس طقس داخلي))!! كنا في غرفته ذات مرة وكانت الغرفة مكتظة والطقس حار جدا حتى أننا أخذنا نتصبب عرقاً. فقام بفتح النافذة، وقال فيما يشبه الاعتذار عن تأخير فتحها: ((معليش، أنا إفريقي، لا أضيق بالحر)).
سمعت الأستاذ محمود كثيراً وهو يقول إن الموت ليس سوى ميلادٍ في حيز جديد! وسمعته مرات يشبه انزعاج الناس من الموت بصراخ الطفل، حين يولد. يقول ذلك، مستصحباً رمزية صرخة الميلاد، التي يفسرها المتصوفة، بأنها احتجاجٌ على القدوم إلى الدنيا، مبعثه الجهل. فالرمزية المطوية في صرخة الميلاد، إنما تمثل احتجاجاً على الخروج من الرَّحِمِ الضيِّق، وظلمته، تفضيلاً للضيق وللظلمة على سعة الحياة، ونورها! وبما أن الإنسان عدو ما يجهل، وبما أنه يتعلق بما يألف، وبما يظنه، جهلاً، حيزاً مريحاً comfort zone، فإنه يندفع غريزياً إلى مقاومة التغيير، وإلى رفضه، حتى لو كان ذلك التغيير يقوده نحو الأفضل. ويمضي الأستاذ محمود في تبيان تكاملية الموت مع الحياة، فيقول إن الموت لا يختلف عن الانتقال من مدينة، إلى مدينة أخرى جديدة! سمعت منه هذا مراراً، قبل سنوات عديدة من وقفته الشامخة الأخيرة التي عرفنا منها أنه كان متحققاً وعائشاً لكل ما يقوله.
ما يقول به الأستاذ محمود، وهو يصور لنا الموت بتلك الصورة العادية، ظل يمثل بالنسبة لي، مجرد إيمانٍ عقلي، شيء أستطيع تصوره، واستملح فهمه. فتيسير أمر الموت على ذلك النحو، يمثل مخرجاً نظرياً من الخوف من بهموته المرعب. غير أن مجرد الفهم لا يمثل في أفضل الأحوال سوى حلٍ عقلي للمعضلة. ومثل ذلك الحل العقلي، لا يصمد أمام التجارب والابتلاءات. لأنه لا يعين كثيراً على التحرر من الخوف. أعني تحرراً ينعكس برداً، وسلاماً، وطمأنينةً، في تفاصيل الحياة اليومية، كما ينعكس رضا بالابتلاءات. فإن تعقل الشيء، ليس مثل أن تستيقن ذلك الشيء! وعموماً فلدى الابتلاءات الكبيرة، كلُّ مُدَّعٍ مفضوح! كان ما يقول به الأستاذ محمود في خصوص الموت، وهو يحاول أن يغير الصورة المترسبة في عقولنا عنه، يقيناً راسخاً لديه. كان يتحدث حديث المطَّلِع، المُشاهِد، العارف لما يقول، في حين كنا نسمع ونفهم فقط! فعقولنا كانت في جهة، ونفوسنا وأجسادنا كانت في جهة أخرى! لقد كان الأستاذ محمود يعد نفسه طيلة عمره لوقفته الأخيرة. فهو رجلٌ، عابدٌ، زاهدٌ، كثيف الحضور مع ربه، وقد مرَّ بتجارب وابتلاءاتٍ عديدة، اجتازها جميعها، بنجاحٍ باهر. ولذلك لم تكن وقفته الأخيرة سوى تتويج لسلسلة من الابتلاءات السابقة المتسلسلة. فيقينه بربه يقين تشرَّبه الجسد، وصار فيه العقل والجسد متسقين اتساقاً تاماً. يقول الأستاذ محمود إن الأجساد عارفة، ولذلك فهي طائعة. فالعقل هو سبب النزاع، لأن الخوف ممسكٌ بناصيته، كما أن للخوف بعضٌ من وجودٍ على حواشي القلب، في المنطقة التي تلي العقل. أما سويداء القلب فلا مكان فيها للخوف. غير أن تلك السويداء محجوبة، وما العبادة والسلوك ودوام الحضور مع الله سوى الوسيلة التي ترفع تلك الحجب الكثيفة، وتجلب من ثم ذلك الاتساق، وذلك السلام، وذلك التسليم.
من الكتب التي قرأتها للأستاذ محمود، عند بداياتي معه، وأنا طالب في كلية الفنون، كتابه المُسمى "لا إله إلا الله". في ذلك الكتيب، الذي كان محاضرةً سبق له أن ألقاها على جمعٍ من الناس بلغة الكلام، ثم تم تحويلها إلى كتيب صغير، تصدرته مقدمةً باللغة الفصحى، تحدث الأستاذ عن الابتلاءات التي جرت لسيدنا إبراهيم، عليه السلام. أورد الأستاذ محمود في ابتلاءات إبراهيم الآية الكريمة: ((وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلماتٍ فأتمهن)). كانت تلك الكلمات اللواتي أتمهن إبراهيم، ابتلاءاتٍ كبيراتٍ، متتاليات، قادت إبراهيم من الإيمان إلى الإيقان. فقد أُمر سيدنا إبراهيم بذبح ابنه، فامتثل للأمر الإلهي، ولم يتأوله، ففَُدي الابن وفُدي معه الأب بذبحٍ عظيم. ثم أنه ترك زوجته مكرهاً تبيت في فراش الفرعون، موقناً أن الله سيحميها منه، وقد حمى الله زوجة إبراهيم من الفرعون. ثم جاءه الأمر بأن يترك زوجه وولده بوادٍ غير ذي زرعٍ، وغير ذي ماءٍ، ففعل، وانبثق نبع زمزم. أما الابتلاء الأكبر، فقد كان قذفه بالمنجنيق في النار التي أعدها له النمرود بن كنعان، فلم تأكل النار سوى وثاقه!
يتضح من ابتلاءات إبراهيم التي جعلته مسلماً، كامل الإسلام، ((إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين))، أن التدين ليس خطباً، طنانةً، جوفاء. وليس دعاوى يدعيها المدعون، وإنما هو تحقق عملي بالكلمة "لا إله إلا الله". ولقد فسر المفسرون "لا إله إلا الله" بـ ((لا معبود بحق إلا الله))، وذلك تفسيرٌ صحيحٌ، في بابه، وفي نطاقه، ولكنه تعريفٌ منحصرٌ في مجرد التصديق، والتصديق ليس أكثر من ضربةٍ للبداية. أما الأستاذ محمود فيفسر "لا إله إلا الله" في مستوى العمل، والسلوك المفضي إلى التحقيق وإلى الإيقان، بأنها تعني أن يعي الشخص أنه: ((لا فاعلَ لكبيرِ الأشياء، ولا لصغيرها، إلا الله)). ويمكن أن نقول بعبارات مستحدثة، أن التحقق بـ "لا إله إلا الله" إنما يعني أن يتسع وعيك ويصبح متسقاً مع مركز الوجود، ومع تياراته المنطلقة في أطراف الكون، علويه، وسفليه، فينعكس ذلك يقيناً بأن كل ما يأتيك، شراً كان أم خيراً، إنما هو خيرٌ محضٌ لدى المحصلة النهائية! أكثر من ذلك، أن تكون حياة المرء خيراً وبراً بالأحياء والأشياء. أما بدايات هذا المستوى فليخصها الأستاذ محمود بقوله: ((أن تكون نفسك منك في تعبٍ، والآخرون منك في راحة)). هذا يعني أن تروض الوحش الذي بين جنبيك، وأن تقضي على الأنانية السفلى التي لا تأنف من أن تحوز كل شيء لنفسها، على حساب الآخرين.
يركز الأستاذ محمود، في المجال العملي التطبيقي اليومي في السلوك، على أن محك الصدق في التحقق بلا إله إلا الله، إنما هو المال. فإن أردت أن تعرف مقدار ما لدى المرء من "لا إله إلا الله"، ومن توحيدٍ، فلا تنظر إلى كثرة صلاته وكثرة صيامه، على أهمية كثرة الصلاة والصيام في الدلالة على التدين، وإنما عليك أن تنظر، وبقدر أكبر، إلى علاقته بماله. إلى أي مدى هو حريصٌ على ماله، خائفٌ من إنفاقه، كانزٌ له. يقول السيد المسيح: ((حيثما يكون كنزك، يكون قلبك)). ويقول نبي الإسلام العظيم: ((لو توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصاً، وتروح بطاناً، ولعلمتم العلم الذي لا جهل بعده)). من يشوهون الأستاذ محمود لا يعرفونه، حق معرفته، بل ربما هم لم يعطوا أنفسهم فرصة ليعرفوا حقيقة ما يتحدث عنه، وحقيقة ما يدعو إليه. ولو أنهم عاشوا معه يوماً واحداً فقط، ورأوا الدين مجسداً في اللحم والدم، في كل حركة وسكنة، لبلعوا ألسنتهم، مرةً، وإلى الأبد.
بدأ الأستاذ محمود حياته العملية مهندساً، وكسب من الهندسة مالاً وفيراًً، أنفقه عن بكرة أبيه. لقد كان يكسب المال لا يجد به لنفسه مكانةً أو جاهاً بين الناس، أو ليوسع به على نفسه، وإنما ليحل به مشاكل الآخرين. فالمال لم يكن يعني بالنسبة له شيئاً، إلا بمقدار ما يعين على حل مشكلة آخر! فهو قد حرر نفسه من رقِّه، منذ زمان طويل! يحكي عنه من عاصروا فترة عمله كمهندس في مشاريع النيل الأبيض الزراعية أنه عرف ذات مرة أن امرأة فقدت زوجها، وكان لها منه عدد من الأطفال، فتكالب عليها أهل زوجها يريدون بيع المنزل ليتقاسموا قيمته، غير عابئين بالمرأة الأرملة ومصير أطفالها. فطلب الأستاذ محمود من بعض معارفه في مدينة الجبلين بأن يشتروا البيت، ويعطوا الورثة قيمته، وكتب لهم شيكا بتلك القيمة حتى تبقى المرأة في بيتها ولا يتشرد أطفالها. فاستمرت المرأة وأطفالها في العيش في البيت. ولم تعرف تلك الأسرة أن الأستاذ محمود هو الذي دفع ثمن البيت، إلا بعد أن تسرب ذلك من بعضهم بعد زمن طويل. وما لا نعرفه عن الأستاذ محمود في هذا الباب، أكثر بكثير مما نعرفه! الشاهد، أن الأستاذ محمود لا يمكن أن يرى مشكلة، أو يعرف بها، ثم يتعامل معها بلا اكتراث، بذريعة أنها لا تعنيه. لقد كان يتعامل مع القهر والضيم والعوز والمسغبة التي تقع على الناس بأنها أمور تعنيه. وكان يرى في النكوص عن حل مشاكل الآخرين نقصاً في عبوديته. فالتقاعس عن حل مشاكل الآخرين يعني بالنسبة له نقصاً في علاقته بربه، ونقصاً في تدينه. فما بال الأقوام الذين ملأ حب الدنيا، وحب المال، وحب الدعة، وحب الجاه، قلوبهم، يطعنون في دين الرجل الذي ظل يرعى ربه في كل ما يأتي وما يدع، بما لا يمكن أن يتصوروه مجرد تصور؟! .
كما أشرت سابقا، لا تسع بضع مقالاتٍ لكي يعرف الناس أبعاد وزوايا هذه السيرة العطرة النادرة. فذلك يقتضي، كما سلفت الإشارة، كتاباً كاملا. وهو ما أعكف على إعداده الآن. فهذه المقالات لا تحتمل التوسع الذي يمكن أن يغطي موضعة فكر الأستاذ محمود، وسيرته كمثقفٍ مسلمٍ، مختلف عن مألوف المثقفين، ومألوف من يحلو لهم أن يسميهم الناس "رجال الدين". أعني، تغطية فكره وسيرته وما يمكن أن نستخلصه منهما من ذخيرة تعيننا على الوقوف في مواجهة القضايا الكثيرة الشائكة المحيطة بنا اليوم، على المستويين المحلي والكوكبي. هذه الجوانب، وغيرها، هو ما أرجو أن أنجح في عرضه في كتابي الذي أعكف على إعداده الآن.