فوزية ولتْ دُبُرَها يومَ خِتَانِها؟!!! … بقلم: علي يس الكنزي
2 March, 2010
من أبواب متفرقة
alkanzali@gmail.com
2-3
وعدتك قارئ العزيز في مقالي السابق أن استعرض معك كتاب: (هل يسمعونك عندما تنتحبين) DO THEY HEAR YOU WHEN YOU CRY: KASSINDJA By Fauziya وقلت مُعَرِفاً فوزية التوغية – من بلاد توغو- أنها بدأت نحيبها بدمع وصمت وصوت، وهي صبية في السادسة عشر من عمرها منذ أن روعت بموت أبيها. فقد كان لها أب وصديق، وأخ وحبيب، وأنيس، وجليس. وما زالت تواصل نحيبها حتى تلكم الساعة التي كانت إدارة سجن أحدى مستودعات حبس المهاجرين غير الشرعيين للولايات المتحدة الأمريكية تنادي باسمها. مكثت فوزية في السجن عام ونصف. ويوم النداء تخطى عمرها التسعة عشر سنة بأشهر. وإذا بالنداء يتكرر، وفوزية لا تلتفت، و النداء يعاود وفوزية لا تلغ له بالاً، حتى اشتاطت الإدارة غضباً لهذا التجاهل الذي حسبته مقصوداً. وغاب عنهم أن فوزية كانت في صلاة الظهر. وعن الصلاة قالت: "هي الشيء الوحيد الذي مكنني من رؤية ما وراء جدران السجن القاتمة التي تحيط بي في هذا المكان القميء".
خاض أبوها معارك اجتماعية دفع مقابلها ثمناً باهظاً نتيجة وعيه المتقدم عن أبناء وبنات قبيلته. فلم يكتف بإدخال بناته في المدارس القرآنية فحسب، بل تقدم خطوة وألحقهن بالمدارس الحديثة، إلا أن الثلاث الكبريات توقفن عن الدراسة بسبب الزواج. أما فوزية فقد تم ألحاقها بمدرسة رفيعة حيث تتلقى دروسها باللغة الإنجليزية، بالدولة المجاورة (غانا) والتي تبعد مسافة ساعة عن مدينتها الصغيرة Kpalimé. لم يتوقف الأب عند ذلك الحد، بل أحجم عن ختان بناته. فقد كانت له تجربة لن تنس مع ختان أخته، مما ولْدَ لديه حزناً مستديماً لم يبرح دواخله. فقد شاهد أخته تموت أمام عينيه ملطخة بدماء الختان قبل أن تزف لزوجها. من يومها فهم أن الختان فيه مخاطر عديدة على حياة المرأة وصحتها النفسية والجسدية والإنجابية. خاصة وأنه يمارس في بلاده بصورة بدائية لا يتخذ فيها أدنى التحوطات التي تحافظ على سلامة وحياة البنت، وعادة ما يتم الختان قبل الزواج بأربعين يوماً.
لم تكن وفاة الأب هي السبب الوحيد لتلك الدموع التي تنهمر على مدى ثلاث أعوام، بل زادت أحزان فوزية عندما قامت عمتها بطرد أمها من بيتها فور انقضاء شهور العدة. وإذا بالعم الذي تولى كفالتها يزيد الجرح اتساعاً، ويمنعها من العودة إلى المدرسة ومواصلة دراستها، فالمدرسة مفسدة للنساء حسب رأيه. وليت الأمور توقفت عند ذلك، فهاهي العمة والعم ودون مشورة، يعجلان بزواجها وهي لم تكمل عامها السابع عشر، لرجل في العقد الخامس من العمر من أثرياء المنطقة، لتصبح فوزية المرأة الرابعة بين نسائه. وبما أن المصائب لا تأتي فرادى، فإذا بالزوج يقول إنه يريدها مختونة؟!! ولنترك فوزية تروي لنا وقائع الختان:
في يوم الاثنين نادت عليَ عمتي بمودة ورقة لم أعهدها فيها، فقد كانت تقسو عليَ دائماً. في ذلك اليوم أتت بامرأة متخصصة في تجهيز العروس، يطلقون عليها (nacbane). خاطبتني عمتي قائلة: لا تنزعجي يا صغيرتي، ولا تخافي من الختان (kakiya ). فلن يتم ذلك اليوم، وسنتركه ليوم الأربعاء. وأردفت قائلة: أن الأمر جد يسير، فالختان يعطي المرأة الطُهرْ، ويُحَبِبُها لزوجها. يتم الختان عادة بمساعدة خمس من النسوة الناصحات الأبدان وسادستهم الخاتنة. تكون مهمة هؤلاء النسوة إمساك يدي العروس من الذراع، والرجلين من منطقة الفخذ أمساكاً محكماً لا تراخي فيه. أما الخامسة فعليها أن تصعد على صدر العروسة لتصبح مشلولة من الحركة شللاً تاماً. كل ذلك لضمان سلامتها. فلو تململت العروسة أو تحركت فستتعرض لجرح أو جروح خارج المنطقة المستهدفة. أثناء عملية الختان يكثر الصراخ والعويل والبكاء والألم، ولكن نسوة الختان لا يرحمن، فلن يتركن الضحية إلا بإشارة من الخاتنة. بعد الفراق من العملية، يتم تقييد العروسة على السرير وفخذيها مفتوحتان بزاوية تزيد عن التسعين درجة، خوفاً من أن يتعرض الجرح للالتهاب وحدوث مضاعفات أو تسمم يؤدي لنتائج وخيمة. لهذا تبقى العروسة على تلكم الحالة لأربعين يوماً حتى يبرأ الجرح تماماً.
دعنا نحرك عقارب الساعة إلى الأمام، لعام ونصف، لنعيش مع فوزية أصعب أيامها داخل السجن. فقد كاد أن يتلاشى لديها الأمل والرغبة في مواصلة الحياة، لو لا ذلك الوميض من النور الإيماني الذي لم يخمد في قلبها وهي تتمسك، بالآية 87 من سورة يوسف ( .... انه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون). ففي الصلاة والتسبيح تجد فوزية سلوى وبساط سحري يحملها لما وراء جدران السجن القاتمة، فتنطلق روحها لأفاق لا حدود لها.
كان على فوزية الانتظار لثمانية أشهر عجاف لتلتقي ولأول مرة بقاضي اللجوء ليحدد مصيرها، وقاضي اللجوء يُعَدُ خارج نطاق النظام القضائي في الولايات المتحدة الأمريكية. كان وقحاً، حسب قولها، وقاسياً وجافاً ومستعجلاً. يطرح السؤال ويكمل أجابته بنفسه قبل أن تتمكن هي أو ممثلتها القانونية الطالبة بكلية الحقوق من الرد عليه. والمحامي المدرب يجلس جوارهما، صامتاً كالحجر لا حراك له، تاركاً القاضي يفعل ما يريد. في نهاية الجلسة التي لم تأخذ حقها من الوقت نطق القاضي ورفض منح فوزية حق اللجوء. فهو لا يرى ضرراً سيلحق بها أن هي عادت لوطنها، وما يعيبها أن أصبحت الزوجة الرابعة طالما أن تقاليد بلدها تسمح بذلك. والختان في رأيه لا يُعَدُ مبرراً كافياً لطلب حق اللجوء. كما أوضح: "أن فوزية مارست الكذب والتضليل على المحكمة، وكل ما روته ما هو إلا افتراءٌ وكذب بدليل قولها: أن أخواتها الثلاث تزوجن ولم يختن".
لكن محاميتها الآنسة بشير (Layli Miller Bashir) الطالبة بكلية الحقوق بجامعة واشنطن (دي سي) والتي ما زالت تحت التدريب علي يد محامٍ متخصص في حق اللجوء السياسي رفضت أن تستسلم لقرار القاضي، وتقدمت باستئناف استعانت فيه بأكثر من جهة بحثاً عن التعاضد والدعم لفوزية. ولكن لم يكن الاستئناف بأكثر حظاً من المرافعة الأولى، فَرُفِضَ هو الأخر. وانهارت فوزية انهياراً تاماً، وكاد أن يتلاشى بل قل تلاشى الأمل لديها في الخروج من السجن والحصول على حق اللجوء. لذا قررت وللمرة الثانية أن تتقدم بطلب لإدارة الهجرة
(United States Immigration and Naturalization Service (INS) ) تدعوها للإسراع لإعادتها لوطنها لتواجه مصيرها هناك.
ولنستمع لرواية فوزية: "بينما أنا في الحمام داهمتني صديقتي في السجن ودخلت علي وهي مجردة من أي ثوب، عارية كما خُلِقتْ؟! استفزني تصرفها في بدايته، ولم أفهم مراميه إلا بعد أن خرجتُ من الحمام. نادتني قائلة: "فوزية انظري هنا". وفتحت فخذيها، ألقيت نظرة خاطفة وصرخت بأعلى صوتي، وحجبت عينيَّ بكفيَّ. ولكنها أصرت عليَ وقالت: "فوزية يجب عليك أن تلقي نظرة وتشاهدي ما وقع بي، تعالي أليَ اسمعيني أرجوك".
علا نحيبي، وتشنجتُ وبدأ جسمي يرتجف، من هول ما رأيت. "أنظري فوزية أنظري ماذا فعلوا بي!" تعثر لساني ولم اقو على الكلام. وبدأت الدموع تتساقط مني بغزارة. "أنا آسفة فوزية أن أضعك في مثل هذا الموقف، وأعلمي أنني لم أفعل هذا مع أحد سواك. كل ذلك لتهورك وإصرارك على العودة لبلادك. لذا أحببتُ أن تشاهدين ما ينتظرك هناك. إذن تعالي ودققي النظر".
واقتربتُ منها ونظرتُ إلى ما بين الفخذين، لم يعد هناك شيء البتة، لا يوجد عضو تناسلي لأنثى، فقد أزالوا كل شيء، إنهم بدلوا خلق الله. تم استئصال كل معالمه، وأصبح ذلك العضو مجرد قطعة جسد ناعمة شبيهة بالكف أو اللسان، تتجه من أعلى إلى أسفل لتبقى بين الفخذين. ثمة ثقب صغير في شكل دائرة يقع هناك في أدنى الكف أو اللسان ليسمح بمرور البول ودم الحيض. وصرختُ قائلة: "يا للهول هل تعشين مع كل ذلك!" وأجابتني: "أنا أتعذب في كل يوم وليلة، وأبكي كلما أرى أو أتذكر ما فعلوه بي. إن دواخلي تتمزق، وأشعر بالضعف والهوان. إني لا أجد وصفاً مناسباً لما فعلوه بي غير أن أقول: إنها مهانة وزلة واحتقار. إنهم تعدوا عليَّ يا فوزية وأخذوا مني ما لا يملكون وما أملك! لذا أرجوك أن لا تسمحي لهم أن يفعلوا ذلك بك".
قبل أن أنسحب نادتني قائلة: "أن كنت تصرين على العودة لبلادك فأنا على استعداد لمساعدتك في كتابة الطلب". وخرجتُ من الحمام، وأنا على قناعة بأنني لن أعود لوطني. سأظل مدانة لتلك الصديقة التي لن اجهر باسمها طوال حياتي فهي فدتني بتصرفها ذلك. إنني دائماً أرى في وجها ملامح أقوى امرأة تمشى على قدمين في هذه الأرض. ففي هذا السجن القميء كنتُ أراقب تعاملها مع الآخرين على نحو يدفعك لحبها واحترامها.
قبل أن أختم مقالي، حري بي أن أنقل إليك قارئ الكريم، أن فوزية لم تجعل الإسلام طرفاً أو خصماً في أي مرحلة من مراحل صعابها، بل جعلت منه نصيراً، ومأوىً كلما ضاقت بها الدنيا. تقول فوزية: "أنما يمارس في بلادي ما هي إلا تقاليد القبيلة التي أنتمي إليها".
لعل مقالي هذا سانحة للحوار مع الداعين والرافضين لختان الإناث. فكاتب المقال يتفق مع فوزية في أن ختان النساء ليس له علاقة بالدين الإسلامي، وإنما هو من تقاليد وممارسات القبائل الأفريقية منذ أمد بعيد على اختلاف أديانهم. وليعلم الناس أن نبينا الذي أرسل رحمة للعالمين، محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم، لم يرد عنه أنه ختن بناته أو أمهات المؤمنين، فهل نقتدي به في هذا الشأن ونرحم نسائنا ونكف عن ختانهن؟ "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيراً". أم تأخذنا العزة بالإثم ونواصل الاعتداء ونأخذ من نسائنا ما يملكن ولا نملك؟! مثلما عبرت صديقة فوزية.
وإلى مقالي الأخير بعد اسبوعين من اليوم، سنرى فيه كيف ظللت الرعاية الإلهية تلك الفتاة وحفظتها من كل هول وكرب.