لن يطالكم منه إلا التجهيل والبطالة!! … بقلم: د.عثمان إبراهيم عثمان
5 March, 2010
سيتناول المقال الثاني من هذه السلسلة التجهيل والبطالة التي لاقاهما الشعب السوداني منذ قيام انقلاب الإنقاذ في 30 يونيو 1989م وحتى الآن؛ ومع ذلك امتدح المواطن عمر حسن أحمد البشير مرشح حزب المؤتمر الوطني لرئاسة الجمهورية ثورة التعليم العالي كإحدى الانجازات العظيمة للانقاذ، فأوضح أن عدد الجامعات قبل الإنقاذ لم يتعد الخمس جامعات: ثلاث بالخرطوم، وواحدة بالجزيرة، في حين أن جامعة جوبا كانت نازحة بالخرطوم. أما الآن فقد غطت الجامعات كل ولايات السودان الخمسة والعشرين، وأن العدد الكلي لمؤسسات التعليم العالي الحكومية، والخاصة، قد بلغ حوالي المائة والعشرين جامعة، وكلية؛ مما يدل على أن برنامج الحزب للانتخابات العامة في مجال التعليم، سوف يستند على هذه الانجازات غير المسبوقة، أو كما قال.
قبل أن نرد على الدعاية الإنتخابية التي تفضل بها مرشح حزب المؤتمر الوطني لرئاسة الجمهورية؛ ولكى "نعمل فرشة" لردودنا تلك، نستميح القارئ عذراً بالسماح لنا باستعراض أوضاع الجامعات الخمس قبل الإنقاذ من حيث تنميتها، وتطورها، المادي، والبشري، ورعايتها للطلاب. سوف أتطرق لأوضاع جامعة الخرطوم فقط، كمثال، بحكم أنني كنت لصيقاً بها لفترة تقارب الثلاثين عاماً؛ وأحسب أن الأمر كذلك ينسحب على بقية الجامعات، والمعاهد، الحكومية.
في البدء لابد أن أشير أن الدولة السودانية، سواء في عهودها الديمقراطية أو الشمولية (حكومتا نوفمبر ومايو)، قبل إنقلاب الإنقاذ المشؤوم، كانت تلتزم إلتزاماً صارماً ببنود ميزانيتها السنوية، وأن الصرف من بند على آخر يعتبر فساداً يعاقب عليه القانون. ففي جامعة الخرطوم، وحتى قيام الإنقاذ، كانت الأقسام العلمية المختلفة تضع احتياجاتها السنوية، والتنموية، والتطويرية، من أساتذة، ومساعدي تدريس، وكتب، وأجهزة، ومعدات، وكيماويات، وحتى النثريات اليومية، وغيرها، وترفع لوزارة المالية عبر إدارة الجامعة العليا، وعمادة الكلية، لتضمن الميزانية العامة للدولة، بفصولها: الأول المعني بالمرتبات، والأجور، والثاني(أ) المتعلق بالتسيير، مثل: توفير مستلزمات العملية التعليمية والثاني(ب) لجلب السلع الرأسمالية، من أجهزة، ومعدات، وعربات، وغيرها ، والثالث الذي يهتم بالتنمية في شكل مشروعات عمرانية، وتطويرية. وعندما يبدأ العام المالي، يتم الصرف منها حسب البنود الواردة فيها. يتم ذلك بمراقبة لصيقة من قبل المراقب المالي للجامعة. وأذكر أنه في أوائل ديسمبر 1988م – آخر ميزانية قبل قيام الإنقاذ -، طلب وكيل الجامعة، وسكرتير شؤون الأفراد من رؤساء الأقسام الحضور للإدارة كي يلتمسوا احتياجات إضافية، حسب بنود الميزانية، بغرض صرف ما تبقى من أموال تخص تلك البنود. بغير ذلك سوف تسترجع تلك الأموال، التي لم تصرف، لوزارة المالية، وفي الغالب تخصم من ميزانية العام المقبل، بحسبان أن ميزانية ذلك العام كانت متضخمة. تقوم عمادة شؤون الطلاب كذلك برفع كل المستلزمات السنوية الخاصة بسكن، وإعاشة جميع طلاب الجامعة بغير استثناء، بالإضافة إلي مستلزمات كل الأنشطة اللاصفية، وبما في ذلك، بالطبع، ميزانيات الاتحاد، والروابط الأكاديمية. أما أمين المكتبة بالجامعة فيرفع كذلك احتياجاتها – حسب منظور الأقسام العلمية – من كتب مرجعية، ودراسية، ومعاجم، ودوريات علمية عالمية محكمة.
أما فيما يختص بتأهيل، وتدريب أعضاء هيئة التدريس، فتعين الجامعة أميز خريجيها كمساعدي تدريس – لن يثبتوا كأعضاء هيئة تدريس إلا بعد حصولهم على درجة الدكتوراة، وليس الماجستير-، فتبتعثهم، دون تأخير، إلى أرقى الجامعات العالمية المرموقة لنيل الدرجات العليا من ماجستير، وزمالة، ودكتوراة، في مختلف التخصصات العلمية، والأدبية، والعلوم الإنسانية والطبية، والهندسية، والزراعية. اللافت أن معظم هؤلاء المبعوثين كانوا على نفقة حكومة السودان، مع قلة منهم يحصلون على تكاليف دراستهم، ومعاشهم عبر اتفاقيات ثنائية مع مؤسسات عالمية. عند عودتهم، وبعد حصولهم على درجة الدكتوراة، تعقد لهم لجنة تعيينات برئاسة مدير الجامعة تفحص جميع شهاداتهم – بكالوريوس، ماجستير، دكتوراة، بالإضافة إلى تقرير المشرف على رسالة الدكتوراة، وتقارير رئيس القسم، وعميد الكلية المعنيين، وعميد كلية الدراسات العليا؛ بغرض مضاهاتها مع لائحة الجامعة الصارمة لتعيين أعضاء هيئة التدريس؛ مما يضمن انضمام أميز الحاصلين على درجة الدكتوراة لهيئة التدريس. ولي تجربة شخصية مع هذه اللجنة لا بد من إيرادها لتوضيح الصورة: بعد حصولي على درجة الدكتوراة، وعودتي إلى السودان تقدمت بتفاصيل شهاداتي لتلك اللجنة، فرفضت تعييني بوظيفة عضو هيئة التدريس المخصصة لقسم الكيمياء، ولم يشفع لي أنني كنت مبعوثاً من قبل الجامعة، على نفقة الدولة للتحضير في ذلك التخصص، الذي حدده القسم، فأوصت بإعلانها في الصحف اليومية، فقد يأتي شخص آخر يحمل نفس التخصص الدقيق الذي طلبه القسم، وبشهادة بكالوريوس (Basic Degree) خالية من أي رسوب، بحجة أن تفاصيل شهادة البكالوريوس خاصتي تضم رسوباً في مادة برمجة الحاسوب المساعدة(Ancillary) لمادة الكيمياء. حدث ذلك رغم علمهم بعدم وجود شخص بهذا التخصص الدقيق، وأن مادة برمجة الحاسوب هي مادة إضافية، وملحقة بدراسة الكيمياء، ولذا لم تقف حجر عثرة في حصولي على درجة البكالوريوس بمرتبة الشرف الأولى، ولم تكن عقبة في تعييني مساعداً للتدريس، لأبتعث إلى بريطانيا لنيل الدرجات العليا على نفقة حكومة السودان. يعكس هذا التمرين حرص إدارة الجامعة على تميز أساتذتها، والذي يتمظهر في مستوى درجة البكالوريوس (الدرجة الأساسية)، أو عنق الزجاجة، وليس بأي درجات عليا من ماجستير أو دكتوراة، التي لا تعكس أي نبوغ أو عبقرية كما يتخيل البعض.
إن إيفاء جامعة الخرطوم في الماضي، مثلها مثل بقية الجامعات، والمعاهد العليا الحكومية، بكل متطلبات العملية التعليمية، في أشكالها المختلفة، ومكوناتها البشرية، والمادية، هو ما قاد لتميز، وبروز خريجيها أكاديمياً، وسياسياً، وهو أمر متوقع كنتيجة طبيعية لهذا التعليم النوعي المجود؛ ساعدهم في ذلك، بالطبع، إجادتهم للغة الإنجليزية، التي كانت لغة التدريس بمؤسسات التعليم العالي. ولذا فلا غرابة في: أن تتخطفهم المؤسسات الحكومية، والخاصة، حتى قبل أن يكمل بعضهم متطلبات تخرجهم بصفة رسمية؛ كما كانت وفود الدول العربية تزور السودان في أزمنة التخرج هذه للتعاقد مع الخريجين الجدد كل عام. فتعيين هؤلاء الخريجين المتميزين لم يكن حكراً على المؤسسات الوطنية أو العربية، ولكن كان هناك نصيب للشركات العالمية؛ فأذكر أن شركة شيفرون الأمريكية كان تعين كل عام عدد من خريجي قسم الجيولوجيا، ليس كي يعملوا في مشاريع استكشاف البترول بالسودان، ولكن أيضاً بمناطق العالم المختلفة التي تعمل بها، ولذا لم تستغن عنهم عندما انسحبت من السودان كنتيجة لحرب الجنوب، وإنما وزعتهم على مناطق عملها في أفريقيا، وآسيا وأوروبا؛ ليس ذلك فحسب بل إنها أهلتهم لنيل الدرجات العليا على نفقتها. مثال آخر: الدكتور محمد جمال الذي أبتعث من قبل قسم الجيولوجيا لنيل درجة الدكتوراة بالولايات المتحدة، بعيد قيام الإنقاذ، والآن يعمل بوكالة الفضاء الأمريكية (ناسا)، بعد أن أقنع الأمريكان بعلو كعبه العلمي، والبحثي. وهنالك أيضاً خريجون كثر من كلية العلوم وكليات الجامعة المختلفة يحتلون مواقع مرموقة في المؤسسات العالمية العلمية، والبحثية، والمهنية.
لقد استطال سردنا لحال مؤسساتنا التعليمة العالية، وكذلك المستويات الراقية لخريجيها، قبل انقلاب الإنقاذ المشؤوم. والآن أسمح لي عزيزي القارئ، باستعراض ما فعله مرشح المؤتمر الوطني لرئاسة الجمهورية، وعصبته المنقذة، من تخريب لمؤسساتنا التعليمية الراسخة، وما نتج عن ذلك من مخرجات بائرة على المستوى المحلى، والإقليمي، والدولي، ليس ذلك فحسب بل يريدون استكماله في الخمس سنوات القادمة.
استهلت الإنقاذ ثورة "التحطيم العالي" عام 1989/1990م، بمضاعفة القبول بالجامعات الخمس القديمة، دون أن توفر أي مستلزمات، بشرية كانت أو مادية، لمقابلة الزيادة في أعداد الطلاب، كما فرضت تعريب المناهج، مع إهمال تام لبرامج بناء القدرات، وتوفير الكتب، والمراجع، لمقابلة مطلوبات إنفاذها، مع علمهم التام – دكتور إبراهيم أحمد عمر وزمرته - بالآثار السالبة، والمدمرة لتلك الخطوتين على المستوى الأكاديمي للخريج. فحتى مستوى كرة القدم يتدنى إذا لم يصرف عليها بسخاء؛ فما بالك بالمستويات التعليمية إذا لم تتوافر معيناتها. فهل كان صعباً إصدار هذين القرارين، دون أي التزام بمتطلباتهما؟ وهل إصدار هذين القرارين بصورتهما تلك يعد إنجازاً؟ الخطوة التالية في "إنجازات" الإنقاذ المزعومة، كانت في العام الذي يليه، وذلك بمضاعفة عدد الجامعات فصارت عشراً؛ حيث ظل متوسط الإنفاق العام على التعليم العالي كنسبة من الدخل القومي (46,0%) ثابتاً تقريباً؛ ولكن تمت الخطوة على حساب الدعم الذي كان يقدم لطالب جامعة الخرطوم؛ حيث انخفض الإنفاق عليه بنسبة 38%؛ عند إنفاذ برنامج ترشيد السكن، والإعاشة بالجامعة، عام 90/1991م؛ وعلى حساب كل الميزات التي كان يتمتع بها في عام 1991/1992م، فانخفض الإنفاق عليه مجدداً بنسبة 49%؛ عندما ألغي برنامج الإعاشة بالكامل، وصار السكن نفسه لا يتم إلا بمقابل رسوم يدفعها الطالب. تمادت العصبة المنقذة في "عواستها" بزيادة عدد الجامعات بنسبة 130% في عام 1993/1994م، لتصير ثلاثة وعشرين، بزيادة ضئيلة (21%) في نسبة الإنفاق علي التعليم العالي من الدخل القومي (0,51%)، وعلى حساب المعينات التعليمية التي كان يتلقاها طالب جامعة الخرطوم، والتي انخفض الدعم الحكومي لها في الفصل الأول ليبلغ 32%، فتلجأ الجامعة لسده من مواردها الذاتية؛ كما تساهم الدولة فقط بحوالي 4% من موازنة الفصل الثاني (أ): التسيير، مثل: توفير مستلزمات العملية التعليمية، فيتوجب على الجامعة توفير 96% من تكاليفها، الأمر الذي عادة ما يربكها. وتغطي الدولة فقط حوالي 1,0% من موازنة الفصل الثاني (ب): السلع الرأسمالية، من أجهزة، ومعدات، وغيرها؛ فتسد الجامعة العجز (9,99%) فيه من مواردها الذاتية. أما موازنة التنمية للمشروعات العمرانية، والتنموية فتغطى بنسبة 100% من موارد الجامعة الذاتية، حيث لم تشارك الدولة منذ عام 93/1994م، بأي مبالغ في تمويل مشاريع الجامعة التنموية. وضع كهذا حرى به أن يرتبط بتدن مريع في المستويات الأكاديمية. فبرغم عجز الدولة البين؛ إلا أنها ما فتأت تطلب كل عام، زيادة في الأعداد المخططة للقبول بكليات الجامعة المختلفة. الجدير بالذكر بأن الصرف علي الفصل الثاني بشقيه، لا يتم وفق خطط، وميزانيات، تعدها الأقسام، والكليات حسب حاجتها، كما كان في الماضي، وإنما عبر أمزجة، أو أوعية، غير مؤسسية؛ فتغيب بنود الميزانية، ويختلط الحابل بالنابل،- حال الإنقاذ في كل مرافق الدولة - ، فيعم الفساد، والإفساد، ليصير السودان من أكثر دول العالم فساداً. قد يسأل سائل: كيف حلت الإنقاذ معضلة المشروعات العمرانية للجامعات الجديدة بولايات السودان المختلفة؟ تفتقت عبقرية العصبة المنقذة عن فكرة ألمعية توهم بها الشعب السوداني بإعمال فلسفة تربوية حديثة تقتضي إعادة هيكلة السلم التعليمي للتعليم العام بزيادة سنوات التعليم الأساسي لأقصى حد ممكن، لتصير ثمان، ومن ثم زيادة عدد السنوات التي يقضيها الفاقد التربوي بالمدرسة، فتصبح سنوات التعليم الثانوي ثلاثاً فقط، وليس ستة. بهذه الفكرة المبتكرة، يمكن بناء فصلين من القش، أو الطين، أو الطوب - حسب المنطقة: العمارات، الحاج يوسف، رفاعة، عد الفرسان - بمدارس الأساس، وإحلال المدارس الثانوية العليا بمباني المدارس الثانوية العامة، لتسكن الجامعات الجديدة في مباني المدارس الثانوية، التي أصبحت غير مشغولة تماماً؛ ومن ثم فلا حاجة لتشييد مباني الطوابق المسلحة، باهظة التكلفة، ومن ثم فإن كل المطلوب هو لافتات مضيئة تدل على اسم الجامعة وسنة التأسيس، لتصبح رقماً ضمن أهم إنجازات الإنقاذ في العقدين الماضيين. هكذا تتم الانجازات في العهد الإنقاذي "المبروك"، بكل هذه البساطة، والأريحية. يتسق نوع ذلك التفكير مع كشفه الأستاذ أحمد عبد الرحمن محمد بأن انقلاب الإنقاذ كان بسبب خوفهم من المحاسبة، وليس لأن لهم مشروعاً حضارياً يستند علي الشريعة الإسلامية يودون تطبيقه. فنسوا أمر الشريعة تماماً لسنوات خلت، والآن يعودون إليها لاستغلال العاطفة الدينية عند الناخب السوداني، ولكن هيهات، فقد خبرنا ألاعيبكم طوال العقدين الماضيين.
هذا ما كان من أمر توفير المستلزمات المادية لثورة "التحطيم العالي" الذي اضطلع به مرشح المؤتمر الوطني للرئاسة في العقدين الماضيين؛ أما فيما يتعلق بالإيفاء بمتطلبات الموارد البشرية، فصدرت التوجيهات للجامعات القديمة باستنساخ شهادات الماجستير، والدكتوراة، ضعيفة المستوي، ليلتحق حملتها بالهيئات التدريسية لتلك الجامعات؛ فلم يعد حملة الدكتوراة وحدهم الذين يضطلعون بالتدريس، والبحث العلمي، فقد لحق بهم أيضاً حملة الماجستير الذين أصبحوا يتولون كذلك مهام رؤساء الأقسام، وعمداء الكليات. ولم لا؟ أفلم تصبح هذه الجامعات مدارس ثانوية عليا جداً؟
اللافت أن حملة الدكتوراة صاروا يعينون من غير أي فحص لشهاداتهم الأساسية، وليدرسوا كل المواد بالقسم؛ ولما لا؟ أفلم تتمازج التخصصات بالجامعات بعد التدهور الذي أصابها جراء إنفاذ سياسة التعريب، وإدخال مطلوبات الجامعة. وهذه أيضاً فكرة مشرقة لحل عقدة التخصصات التي أثقلت كاهل الجامعات؛ ولا يهم أن انحطت المستويات، فالعبرة بعدد الخريجين،وليس بنوعهم، عند أهل هي لله لا للسلطة ولا للجاه؛ الذين صاروا يرتلون فصولاً من الكتاب المقدس، عقب تلاوة آيات من الذكر الحكيم، كما حدث عند تدشين مرشحهم الرئاسي لحملته الانتخابية باستاد الهلال؛ فما رأي هيئة علماء المسلمين في ذلك؟
بعد كل الذي سردته، لست في حاجة لأقول أن إنجازات الإنقاذ في محور التعليم العالي، قد قادت لتدني المستويات، فالحكم لك، أعزك الله. ولكن أود، قبل أن أختم مقالي هذا، أن الفت انتباهك لأمور بسيطة عبر أسئلة من شاكلة: هل قرأت الرسائل النصية التي يرسلها المشاهدون – جميعهم من مخرجات ثورة "التحطيم العالي" - لقنواتنا الفضائية؟ ألم تصبك بالقيء؟ هل تابعت ما يكتبه طلاب الجامعات بفعاليات أسابيعهم الثقافية؟ ألم تلحظ ضحالة أفكارها، وركاكة لغتها العربية؟ هل تعلم أن حوالي ألف خريج تقدموا لوظائف بإحدى المؤسسات فلم ينجح منهم إلا قلة لا تفوق أصابع اليد الواحدة؟ هل سمعت بأن دول الخليج لا تعترف إلا بستة من مؤسساتنا التعليمية التي تفوق المائة؟ هل تعلم أن الليبيين الذين تحصلوا على شهادات عليا من إحدى جامعاتنا العريقة قد ووجهوا بعدم الاعتراف بها في بلادهم؟ وأنا هنا لا لكي أوجه اللوم للطلاب، فهم ضحايا هذه السياسات، بقدر ما ألقي بالمسؤولية على واضعيها، الذين نالوا أرقى أنواع التعليم، واستمتعوا بالسكن، والإعاشة المجانيتين، فضنوا بها جميعاً على أبناء شعبهم من الغبش، والمهمشين.
قد نلتمس العذر لمهندسي ثورة "التحطيم العالي" إذا ما أوجدوا وظائف لجيوش خريجي هذه الجامعات قديمها وحديثها، ليس ذلك فحسب، بل إنهم وقفوا حجر عثرة في سبيل توظيفهم فيما أتيح من وظائف، تارة بإشهار الملف الأمني – يعده زملاؤهم الطلاب من منسوبي المؤتمر الوطني - في وجوه السواد الأعظم من مخالفيهم في الرأي، وتارة أخري بوصمهم، إقليمياً، وعالمياً، بتدني المستوي الأكاديمي؛ فلا أطعموهم، ولا تركوهم يأكلون من خشاش الأرض؛ لتصل نسبة البطالة بين الخريجين إلي 48%، حسب آخر تقرير عن وزارة العمل؛ وأترك لك عزيزي القارئ تقديرها إذا كنت من الذين يساورهم الشك حيال التقارير الحكومية. إن ما يدعو للأسف أن المهندسين الزراعيين في بلد المليون ميل مربع ذو الأراضي الخصبة المنبسطة، والمياه الوفيرة؛ إما عاطلون عن العمل أو يمتهنون مهناً أخري مثل قيادة "الركشات". ينطبق نفس الحال علي الأطباء في بلد يعاني الفقر، والمرض خاصة في الأقاليم؛ فتجدهم زاهدين عن مواصلة المشوار، بسبب تخلي وزارة الصحة عن استيعابهم وفق هياكل وظيفية مجزية، ناهيك عن الاضطلاع بمهمة تدريبهم، وتأهيلهم المكلفة. أما خريجو كليات العلوم، والآداب، والاقتصاد، والقانون، وما أكثرهم، فالشارع أولي بهم؛ ما عدا "أولاد المصارين البيض" منسوبي المؤتمر الوطني، فالوظيفة في انتظارهم، حتى وإن كانوا أقل كسب أكاديمي، وأدني مستوى من رصفائهم. أما يدعوا للشفقة على مصير هذا الشعب المغلوب على أمره، فهو ما أدلى به وزير الدولة للعمل بأن هنالك 450 ألف وظيفة شاغرة بقطاعي التعليم العالي، والصحة، لا ترغب العصبة المنقذة في شغلها؛ ربما بسبب الملف الأمني لبقية الخريجين بعد أن تم توظيف جميع منسوبيهم، أو أنها محجوزة للمساومة في معترك الانتخابات؟ فإلي هذا الحد تبغض العصبة المنقذة الشعب السوداني، ولا تريد له الخير؟
مما لاشك فيه أن العصبة المنقذة تعلم علم اليقين بفشل سياساتها في محور التعليم العالي، ومع ذلك تصر على تسويقها كأحد أهم إنجازاتها (صحيح الاختشو ماتو). ليس هذا ما يبعث على القلق، ولكنها مأساة تعويق الموارد البشرية لأجيال قادمات، هي ما يغض مضاجع من في قلبه ذرة من حب لهذا الوطن. ألم أقل لكم: لن يطالكم منه إلا التجهيل والبطالة.
osman30 i [osman30i@hotmail.com]