طفولة مسروقة
21 March, 2010
طفولة مسروقة
Stolen Childhood
من واشنطن للخرطوم
عبد الفتاح عرمان
fataharman@yahoo.com
"من عرف نفسه عرف الله" أرسطو
ترددت كثيراً فى أمر هذه المقالات التي يختلط فيها الشخصي بالعام، وهى محاولة للكتابة عن ايام الطفولة وأحداث كثيرة لم انسها منذ نعومة أظافرى الى اليوم، على الرغم من اني كثير النسيان، وهو بحق نعمة لا تدانيها نعمة -اى النسيان-. وهذه المقالات ليست للإعلاء من شخصي او اسرتي خصوصاً بان هنالك من قتلوا او سحلوا فى اتون حرب لا تبقي ولا تزر، وما حدث لنا لا يساوى مثقال زرة من تضحياتهم. ومناسبة هذه المقالات هو عيد الأم الذى يصادف 21 مارس، عليه فهي هدية لامي، فاطمة عالم حمد، والإهداء كذلك، لأمهاتي فى الجنوب والشمال والشرق والغرب بصفة خاصة. الى امهاتي فى دارفور –وهي جزءاً من الغرب-اللواتن يعاين التهجير والرحيل المر فى بلاد أنجبتهن وقالت عليهن غرباء. ولا أجد شىء للتعبير عن حزني على ما يجرى لهن فى دارفور سوى الكتابة وكلمات الراحل الفذ الشاعر، عبد الوهاب البياتي:
دفنت اشباح موتا
وضعنا فى الأضابير
وفى منافى مدن الجليد
فقراء يا قمرى نموت
وقطارنا ابدا يفوت
ذات نهار صيفي غائط نهاية عام 1987م كنت حينئذ طفل لم يكمل عامه الثالث بعد. كنت العب مع بعض الصبية فى قرية جدى سعيد الحسين، غربي مدينة الحصاحيصا بولاية الجزيرة. وبدون مقدمات تقف عربة محملة برجال يحملون بعض الأسلحة الرشاشة الخفيفة
-عرفت لاحقاً انهم رجال امن-، وكانوا يقتادون شخص قيدت يداه الى الأمام -علمت لاحقاً انه خالد محي الدين زميل شقيقي ياسر فى الجامعة-. كان رجال الأمن يدفعونه بمؤخرة رشاشاتهم (الدبشق)، وكان خالد محي الدين يسلم على أفراد الأسرة غير آبه ولا وجل. وعندما راءه رجال الأمن يكثر من السلام والتحية، قالوا له: ما قلت ما بتعرف ناس البيت؟ وما بتعرف البيت كمان؟ لم يكن محي الدين يآبه لهم. وسبب سؤال رجال الأمن لمحي الدين لانه أنكر معرفة الأسرة او المنزل، لذلك بذل رجال الامن جهداً كبيراً فى الوصول الى منزلنا.
كانت شقيقتي حنان تبكي مفزوعة، ولكن شقيقتي الصغرى اميمة كانت تحاول إسكاتها بثبات ورثته عن والدي. أمي لم تتحدث مطلقاً، ولكن ذلكم الوجه الحزين، والعيون التي تشىء بان القادم اخطر لم تفارق مخيلتي إلى يومنا هذا.
جيراننا فى الحي تجمعوا، وتحلقوا حولنا كأن على رؤؤسهم الطير! رجال الأمن كانوا يفرغون جوالات مليئة بالكتب الإنجليزية والعربية كان قد تركها شقيقي ياسر قبل انضمامه للحركة الشعبية لتحرير السودان. كانوا يقلبون تلك الكتب ودواليب ملابسنا الخاصة مثل (سيد الرايحة الذى فتح خشم البقرة). قلبوا البيت رأساً على عقب ولم يعثروا على شيء يذكر. طلبوا من بعض جيراننا التوقيع على ورقة مفادها أنهم لم ياخذوا شيئاً من البيت معهم. لم أكن ادري وقتها والى اليوم، عن ماذا كانوا يبحثون؟ وهل من يذهب (لحركة متمردة) يترك خلفه خارطة طريق تدل عليه، خصوصاً بانه خرج عبر مطار الخرطوم الدولي وليس عبر خيل تسرج فى الليل كما كان يفعل أبي الطيب المتنبئ. علمت لاحقاً، أن ذلك التعامل الفظ مع المدنيين والأسر الآمنة من قبل جهاز أمن لدولة ديمقراطية، وهي حكومة الإمام، الصادق المهدى، رئيس حزب الأمة القومي. واتت تلك الحكومة بعد تضحيات جسام وثورة شعبية ضد حكومة المشير الراحل جعفر نميرى. لكن ياسر وقتها، كان يعلم أن التغيير كان شكلي ولم ينتقل الى جوهر طبيعة الحكم فى السودان، وهذا ما يعززه حوار اخبرتني به والدتي، وهو انه دار بينها وبين ياسر حوار كانت ترجوه بعدم الذهاب إلى الحركة، و قالت له :" إن الأنظمة تتغير كما حدث الآن مع نميري، وإذا كان النظام الحالي ترفضه فيمكن أن يتم تغييره عبر الانتخابات"، لكن كان رد ياسر عليها:"القادم سيكون أسوأ من النظام الموجود، وهو نظام مؤقت". -حكومة الصادق المهدي التي أطاح بها البشير بانقلاب عسكري في يونيو 1989-.
وتمر تلك الحقبة بخيرها وشرها، ونجد أنفسنا فى مواجهة نظام كان وما زال الأسوأ من كل الأنظمة التي مرت على السودان. فالى الحلقة القادمة التي سوف نحكي فيها عن فترة حالكة وقاسية خصوصاً فى سني (الإنقاذ) الاولى، وهي كانت فترة رفعت فيها المصاحف على آسنة الرماح....فما الذى حدث وقتها؟