الناس واقعين ود الترابي …. بقلم: محمد الشيخ حسين

 


 

 

abusamira85@hotmail.com

يكتب الدكتور حسن الترابي بأسلوب يكاد يخترق الحاجز الذي تمثله اللغة حين تقبع مثل الثعلب الماكر بين الكاتب والقارئ. فاللغة الترابية تنفذ إلى القارئ لتوصل إليه ما يعتمل في نفس الكاتب بكامل أبعاده، وهي من ناحية أخرى تبدو عصية على القارئ، بل تحتاج منه إلى حضور ذهني لا يكفي معه الحد الأدنى من الانتباه أثناء بالقراءة.

ويعطي الحاجز في لغة الدكتور الترابي القارئ الانطباع بتقديم فكرة جديدة حية وقوية، ولكن هذا الانطباع يهرب من القارئ إن لم يبذل جهدا شديدا في الحفاظ على المسافة بينه وبين الكاتب.

ويترتب على غياب هذا الجهد من قبل القارئ إن لا تنشأ أي علاقة تواصلية حقيقية مع الكاتب، وقد ينضم القارئ إلى (زفة) من يرون أن كتابات الدكتور حسن الترابي (مجرد تأويلات مضللة يوحي بها ثعلب اللغة الماكر، وفق مسافات المراوغة التي يقفزها الكاتب بين الحين والآخر ليثبت للقارئ قدرته الفائقة على الإمساك باللغة).

ما علينا فقد أصدر الدكتور حسن الترابي في مطلع الألفية الثالثة كتيبا صغيرا من 84 صفحة من القطع الصغير بعنوان (المصطلحات السياسية في الإسلام).

ولعل الطقس السياسي الذي ظلل سماء هذه البلاد في أعقاب تداعيات مذكرة العشرة قد أسهم في أن لا يجد هذا الكتيب، رغم الجهد العلمي الرصين، حظه من النقاش.

وعودة إلى مسألة اللغة، فإن الدكتور الترابي ينبه في مقدمة الكتاب إلى أن (اللغة التي تعبر عن الحياة السياسية في بيئة ما إنما تتطور اتساعا في التصريف ورسوخا في المعاني مع تطور تلك الحياة والثقافة نموا واستقرارا أو بؤسا واضطرابا).

عودة إلى كتاب طبقات ود ضيف الله في طبعته التي أعد هوامشها القاضي الشرعي إبراهيم صديق أحمد ونشرتها الدار السودانية للكتب العام الماضي، خرج الجد الأكبر للدكتور حسن الترابي، الشيخ حمد النحلان من السجن في مكة المكرمة التي أهدر دمه فيها بكرامة فحواها أن أمطارا وأعاصير قد دمرت السجن، مما سهل له العودة للسودان.

وبعد انتشار أمره قصده طلاب الحاجات، ومن الكرامات الكثيرة المنسوبة للشيخ حمد ظهرت عبارة (الناس واقعين ود الترابي).

أما لقب الترابي، فيعود إلى الشيخ عبد الرحمن والد حمد الملقب بود الترابي. وهناك اختلاف في أصل التسمية إذ تعود إلى قبيلة الترابية في الجزيرة العربية أو لخروج الجد الأكبر متربا بعد اعتكاف طويل.

ورغم أن التاريخ لا يعيد نفسه، فإن مناسبة العودة إلى طبقات ود ضيف الله وكرامات ود الترابي الجد، أن الناس في الفترة التي تزامنت إعداد الكتاب كان الناس جميعهم قبل أن تندلع (حرب القصر ـ المنشية) (واقعين ود الترابي)، في إشارة إلى الحفيد الدكتور حسن الترابي.

وجرت مياه كثيرة تحت الجسر وقضت على الأخضر واليابس، وكان من بين ضحاياها كتاب (المصطلحات السياسية في الإسلام) الصادر عن دار الساقي في العام 2000م.

وقبل أن نغوص في ثنايا هذا الكتاب، ينبغي أن نوضح أن معارف النشأة الأولى للمؤلف تبدو واضحة في سطوره، فالمعروف أن الدكتور حسن الترابي عندما وصل إلى الحادية عشرة من عمره كان قد أكمل بمعاونة والده حفظ القرآن الكريم، استيعاب ألفية أبن مالك ومتن الأجرومية وأوضح المسالك إلى فقه الإمام مالك.

ويعزي هذه التفوق في مسائل اللغة وفقهها إلى أن الوالد عبد الله أخرج أبنه حسن من بيئة القرية المعزولة إلى رحاب المعهد العلمي والعلم التقليدي. وخصه من دون أشقائه وإخوانه بفيض من علمه لما لمس فيه من رجاحة العقل وتقبله بسرعة للعلوم.

وحتى لا يصبح الأمر مجرد محاولة لإعلاء شأن المعهد العلمي وأساتذته، نقدم دليلا آخر يتمثل في الشاعر محمد البشير عتيق، فقد كان والده أستاذا في المعهد العلمي. ولاحظ الراحل علي المك أن قوة اللغة ونصاعتها في شعر محمد عتيق ناتجة من إطلاعه الكثير، ذلك أن الشاعر عتيق قرأ من مكتبة والده معظم أمهات الكتب العربية، بل أن علي المك قال في تقديمه لديوان عتيق أن اطلاعه في أمهات الكتب يعادل اطلاع العلامة الراحل عبد الله الطيب. والشاهد هنا أن قراءة أمهات الكتب في سن مبكرة يعطي ذخيرة لغوية قوية وحية ومتجددة، خاصة أن سلك التعليم النظامي كان لا يأبه ولا يشجع مثل هذا الاطلاع.

صحيح أن لا وجه للمقارنة بين عطاء الدكتور حسن الترابي وإبداع الشاعر محمد عتيق، لكن تأثير ثقافة المعهد العلمي تبدو واضحة عند الاثنين.

وعند العودة لكتاب المصطلحات السياسية في الإسلام، ففي المقدمة ينبه الدكتور حسن الترابي إلى أن المسلمين قد يضطروا لابتداع كلمات جديدة تستوعب مفهومات سياسية عارضة على تقاليد الثقافة. ويقدم مثالا على هذا التنبيه فقديما كانت تنتشر كلمة (دار الإسلام) وحديثا تملأ حياتنا كلمة (الحكم الاتحادي).

ويسير الأمر على هذا الشكل مع مصطلحات الدكتور حسن الترابي، فلغته تنسف حاجز اللغة المراوغة، ولا يحاول أن يبدو مثقفا كي يبتعد بنا عن أصل الموضوع باجترار أسماء وتعريفات.

ولكي نعرف نفهم هذا النص علينا أن ندرك حال لغة الكتابة عن المصطلحات ونقارنها بحالها مع الدكتور حسن الترابي الذي يشق تاريخ الكتابة إليها ما قبل وما بعد، خاصة أن الحضارة الغربية حينما غزت المسلمين نزلت عليهم تعابير من غير ما عهدوا من قيم ونظم وعلاقات ووسائل ومصطلحات غربية.

كانت لغة الكتابة عن المصطلحات قبل كتاب الدكتور حسن الترابي هذا أقرب إلى مسئول رسمي يطلق التصريح ونقيضه من برجه العاجي دون أن يرف له جفن أو يرصد ردود أفعال تصريحاته.

ولعل ميزة الدكتور حسن الترابي أنه لم يتعاشر

مع هذا المسئول الرسمي منذ أن سطع نجمه السياسي في أكتوبر 1964، إلى أن أحيل إلى التقاعد عن العمل السياسي الرسمي في ديسمبر 1999م، لذا فهو من السياسيين القلائل الذين يعلمون كيف يستدعون هذا المسئول الرسمي إلى بيوتهم فيخلع عنه بزته الرسمية ليدلف إلى الحمام ويغسل عن يديه دهون طعام العشاء، وقد يستلقي منهكا فيغلبه النعاس ثم يستيقظ ليجد نفسه مرتديا عراقي وسروال الحياة العريضة، حيث ترفع الكلفة ويحبس الدكتور حسن الترابي السياسي ويبدأ الدكتور حسن الترابي المفكر الكتابة.

اشتهر الدكتور حسن الترابي بأنه مفكر مثير للجدل، فكتابه الأول (الإيمان وأثره في حياة الإنسان) الصادر في مطلع السبعينيات الميلادية كان فتحا جديدا ليس على مستوى الحركة الإسلامية داخليا، وإنما امتد تأثيره علي صعيد الحركة إقليميا ودوليا.

غير أن المشكلة أن إنتاج الدكتور حسن الترابي الفكري لم يجد حظه من النقاش إذ أن غلبة الجدل حول المواقف السياسية طغى على شخصية المؤلف، لدرجة أن شخصية الدكتور حسن الترابي المفكر قد اختفت أو تاهت أو تراجعت أم شخصية الدكتور حسن الترابي السياسي، والأمثلة كثيرة، فمجمل النقد الذي صوب للجزء الأول من كتاب التفسير التوحيدي، انصب كله على شخصية الدكتور حسن الترابي السياسية ومواقفه من القضايا المثارة، بل أن بعضهم بشطح في تقديره معتبرا أن الدكتور حسن الترابي ساحر الليالي يندر أن يقدم لنا إنتاجا فكريا بواقعية متزنة.

وإذا قادك تفكيرك إلى أن الدكتور حسن الترابي مفكر ضل طريقه إلى السياسة، فإذا التقدير يفتقر للدقة من جهة أن الدكتور حسن الترابي يرفض بحسم أي فصل بين شخصية المفكر والسياسي، بل يعتبر مجرد الحديث عن الفصل بين الشخصيتين، جزء من (مؤامرة) تستهدف إقصاء دوره وتأثيره في الساحة السياسية.

ما علينا فكل هذه الاستطرادات و(التخريمات)، عن شخصية الدكتور حسن الترابي مهمة جدا لإبراز جهد علمي راقي جاء في سبيل التواضع على لغة فصيحة جميلة في التعبيرات والاصطلاحات السياسية العربية، والتيسير السمح لوسيلة التواصل والتفاهم والتحاور بين الألسن والثقافات السياسية.

من المهم جدا الإشارة إلى الكتاب احتوى على محاولة لضبط المعاني لنحو 23 مصطلحا تملأ حياتنا العامة.

ويحطم الكتاب التصور الخاطئ عن الحياة العامة، من حيث منشطها الأحمى (السياسة) ووقع السياسة فيها الأفعل (الحكم) وقوة الحكم العليا (السيادة) وإطار السيادة الأسمى (الدولة) وما وراءها. والقضية هنا أن مصطلح الحياة العامة لم يكن فاشيا في الماضي عند المسلمين، لأن حياتهم إذ تدهور بهم تدينهم أصبحت بغالبها خاصة، والعام منها في صلات المجتمع والسياسة فتر بدينهم المنحسر وقصر على أهل دوائر السلطان وحدهم.

وهكذا تسير رحلة المصطلحات بين دفتي الكتاب الذي يثبت أن الكاتب المجد ليس مجرد باحث يلتزم صرامة المنهج، بل مفكر مغرم بالتجديد لدرجة أنه لا يهجر تجريد المنهج طوعا ليقيم في منهج الواقع ويملأه فكرا وتجديدا.

إن أقل ما يفعله الكتاب، هو أنه يثبت في كل صفحة منه خطأ هذا التصور المثالي المغلوط عن المفكر السياسي أو السياسي المفكر بشكل عام، وعن الدكتور حسن الترابي بشكل خاص.

في كتاب المصطلحات السياسية في الإسلام نقابل الدكتور حسن الترابي، وهو يعمل على نقل الواقع ورسمه من داخل اللغة، فلا يكاد القارئ يدرك أثناء القراءة أهو في مجال الكلام أم في مجال الواقع، ولا يعود يميز متى يخرج من الواقع ويسبح في اللغة. إن ما يفعله الدكتور حسن الترابي بالقارئ هو بالضبط قلب مسار المعادلة التي استقرت طويلا فيما سبق على أن الكاتب هو الذي يغوص في الخيال ويحاول أن يغوي القارئ بالغوص معه، ويبقى الأمر بيد القارئ ليقبل الغواية أو يرفضها.

فمع الدكتور حسن الترابي ينقلب مسار هذه المعادلة فلا يعود القارئ يدرك أيهما الغريق وأيهما المغوي؟

هل يغرق القارئ نفسه في خيالاته بفعل لغة الترابي التي أبسط ما تفعله هو أن تصبح نفسها ذات اللغة التي يستقبلها القارئ دون أن يتوقع أن تغزوه لاعتياده على تاريخ طويل من اللغات الثعلبية، فيجد نفسه فجأة إزاء لغة جديدة غير ثعلبية فيستقبلها على أنها تنتمي لفهمه هو فتأخذه في طريقها فلا يعرف أهو الذي يركبها أم أنها هي التي تركبه على غرار العفاريت في التصور الشعبي. وهنا يحدث ما يعرفه النقاد بـ (التقمص اللغوي) الذي يفرز تقمصا في معاناة حالات فهم مباشرة تعتري القارئ أثناء قراءة الكتاب، حيث تذوب اللغة لتصبح أكثر من مجرد أداة توصيل، بل تترقرق وتشف لتصير أداة كشف مباشر. تلك الحالة هي ظاهرة فريدة تماما على الكتابة والقراءة باللغة العربية بالذات. فنادرون جدا هم الكتاب الذين استطاعوا تحقيقها.

ويبدو لي أن الدكتور حسن الترابي قد تمكن من تجاوز نظريات العوالم غير المتكافئة، بل وتخطي العوالم المتوازية ورفض العوالم المنغلقة، ليصنع جسورا لغوية لحظية يكاد القارئ من فيض شفافيتها لا يشعر بانتقاله عبرها من مصطلح لأخر، فيشعر بالمعاني على شكل عوالم متداخلة، فلا يعود يميز بين الواقع والمثال. بل إنه لم يعد بحاجة للتمييز لأنه أصبح من خلال اللغة يستمتع بخصائص الاثنين معا ممزوجين دون تنافر، في لغة الترابي في هذا الكتاب.

يكمن سر لغة الترابي، في هذا الكتاب في طريقته السردية. فهو يتنقل بالقارئ بين عوالم مختلفة تماما، ويربط بينها باستخدام اللغة التي تصبح المشترك الأوحد بين هذه العوالم. ولكن ذهن القارئ المستحث بلغة الكاتب، لا يقف عند هذا الحد، بل يحاول أن يربط بين هذه العوالم ويبحث عن علاقات مشتركة جديدة بينها، وتكون نتيجة هذا الجهد الذهني أن يجد القارئ نفسه خلال لحظات القراءة يدخل ويخرج ويغوص ويطفو بين مصطلحات متعددة لم يكن يظن أن بمقدوره التنقل بينها بهذه السرعة.

قد يكون هناك شبه بين أسلوب الانتقالات المفاجئة بين المصطلحات المختلفة لتصبح متداخلة على الطريقة الترابية، وبين الهدف الذي تسعى إليه المدرسة الفرنسية في الكتابة من محاولة تحقيق التداخل بين عوالم المثال والواقع. وميزة المدرسة الفرنسية أنها لا تغرق في ممارسة المثال كبديل عن الواقع، ولا تستقطب بالكامل داخل الحلم حتى تنسى الواقع ويتحول المثال إلى أكذوبة كل هدفها الهروب من الواقع.

وعند استعراض تعريف المصطلحات نصادف أن الدكتور حسن الترابي في تعريفه لمصطلحات مثل: السياسة، الحكم، السيادة، الدولة، الأمة، الشعب، الخ، يتمثل في الانطلاق من الأصول بهدف إعادة تشكيله وفق الحالي، وكأنما يحاول حشر أكبر كمية من الواقع داخل حقيبة فن لغة الترابي، فتبقى لغته مهددة بالانفجار في كل لحظة، ومع انفجارها ينفجر الوعي بـأهمية (التعبير بمنطوق عربي معهود المعنى أو بتعريف جديد من جذر عربي صائب الدلالة).

وحصيلة هذا الجهد عند الدكتور حسن الترابي أن (يدخل المصطلح الجديد إلى موسوعة الثقافة السياسية ويمضي بمدلوله الصحيح بأصل معناه أو مثقلا بمعنى إضافي محمول).

ولعل هذه المهارة الترابية المعتمدة على الواقعية المفرطة، حيث يتعمد الكاتب تكثيف الواقع وضغطه، ويواجهه كمصارع يعتصر غريمه ويثبته ويعيد تشكيل أضلاعه بدلا من أن يهرب منه.

بهذه الطريقة الفريدة نجح الترابي في تحويل محاولاته الكتابية في النبش عن مدلول واقعي للمصطلحات السياسية عبر البحث عن المعاني والعلاقات، إلى نقش سرمدي جديد لن يزول عن واقع السياسة العربية المعاصر.

والكتاب على صغر حجمه، من الكتب النادرة في مكتبتنا العربية، وخصوصا الكتب المعنية بالمصطلح ومدلوله. فهو يفتح الذهن على عوالم شتى من دون أن يلغي القلق الإنساني الطبيعي تجاه قضايانا.

نحن أمام كتابة تحليلية حديثة ومتنورة تستقي من مشارب كثيرة. وعلى الرغم من أن الكثير من هذه المشارب أوروبية وتراثية، فإنها تمنح قيمة عالية للغة العربية التي تستخدمها وترتقي بها وتتجلى معها خلال محاولات العثور على ملامح شبكة الأفكار والروابط العربية وأبعادها الخرافية. ولكل هذا ربما يضطر الناس في زمن ما إلى الوقوع مرة ثالثة عند ود الترابي الحفيد.

 

 

آراء