لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل (2) … بقلم: د. النور حمد
28 April, 2010
elnourh@gmail.com
لم أصل في الحلقة الأولى إلى النقطة التي تمكنني من عرض التشخيص الذي كنت أسعى لعرضه، لإختلاف الحالتين الحضاريتين: (حالة الهضبة) و(حالة السهل). وأول ما أبدأ به في هذا الباب، هو أن الحالة الحضارية للهضبة الحبشية، حالةٌ اتسمت بالاستمرارية الحضارية. هذا، في حين اجتاحت السهل انقطاعات حضارية، طويلة الآماد، أضرَّت بالاستمرارية فيه، مما أسهم على المدى الطويل في خلق إنسانٍ منبتٍّ عن جذوره، مهلهل الوعي بذاته. أفلت شمس الحضارة المروية، في السهل الأوسط من وادي النيل، بُعَيْد ميلاد السيد المسيح بوقت قليل. وما أن وفدت النصرانية، في القرون الميلادية الأولى، تنصر السهل، وبقي نصرانياً لما يربو عن الألف عام تقريباً. وحين حطم تحالف الفونج والعبدلاب مدينة سوبا في القرن السادس عشر الميلادي، تم استئصال النصرانية، وتحول السهل إلى الإسلام. بل، وأصبحت المسيحية فيه نسياً منسياً. نسي أهل السهل إرثهم الحضاري النوبي، فأصبحت الآثار العينية للحضارة المروية، والنبتية، غريبة بينهم. وظلت في حالة غربتها تلك، حتى يومنا هذا. كما نسوا إرثهم المسيحي، أيضاً، ولربما لا يصدق سودانيو السهل النيلي الأوسط والشمالي اليوم أن منطقتهم هذه، قد كانت منطقة مسيحية لما يربو عن الألف عام. ومن الغريب أنا لا نلتفت كثيراً إلى حقيقة أن بعضاً من طقوس تلك الحقب، وشعائرها الإجتماعية، لا تزال حاضرةً، في الممارسات الشعبية لدينا، حتى اليوم.
ظل السهل، في جملة أمره، مكاناً سهل الاجتياح، للجيوش الغازية، وللمهاجرين، وللرعاة، ولغيرهم، ممن أجبرتهم التحولات المناخية على النزوح. فهذه المنطقة من العالم كانت، ولا تزال، أشبه ما تكون بالفضاء المفتوح. ولذلك فقد غزاها المصريون، وأتوا إليها بديانة آمون، كما اجتاحها الأكسوميون، كما تقدم، وتبعت مجيئهم المسيحية. ثم وفد الإسلام الصوفي، ثم أعقب ذلك مجيء الأتراك ومعهم الإسلام الفقهي، ثم أعقب كل ذلك الانجليز. ومع كل تلك الاجتياحات الكبيرة كانت التحولات الديمغرافية لا تنفك تلم بالسهل، وتغير ملامحه، وتحور تركيبته. وقد ظل ذلك يحدث لمختلف الأسباب، الجغرافية المناخية منها، والدينية والاقتصادية. أدت هذه النقلات الكثيرات المتكررات إلى انمحاق الشخصية الحضارية للسهل، وإلى تضعضع الوعي فيه بالهوية، والاعتزاز بالسمات الحضارية المنمازة . إغترب إنسان السهل عن ذاته، حتى غرق من حيث لا يعي في ما يمكن أن نسميه "عبادة الأجنبي"، وتعظيم ما هو وافد، والتعويل عليه في الإرشاد والقيادة. ولقد تحدث المؤرخون السودانيون عن ظاهرة أسموها ظاهرة "الغريب الحكيم". و"الغريب الحكيم" هو الوافد الغريب الذي ظل قاطنو السهل يتوسمون فيه الحكمة، والمعرفة، والبصارة، وربما اجتراح المعجزات. وأصبحوا، من ثم، يعلقون عليه، آمالهم في التغيير، والخلاص. فالمسيحية حين جاءت، جاء بها وافدون واعتنقها أهل البلاد، والإسلام حين جاء، جاء به مشائخ الطرق الصوفية من خارج الحدود، فأثروا به على حياة السكان. والفقهاء المصريون، والمؤسسة الدينية الرسمية، التي تعمل كذراع للحاكم، جاءتنا مع التركية، من وراء الحدود، أيضاً، ولا تزال آثارها السالبة تقبض بخناق حياتنا حتى هذه اللحظة. والتعليم الحديث جاء به المصريون فلم يتم توطينه، وإنما أصبح وسيلة للاستتباع والقولبة assimilation في أطر الخوذة العقلية، والوجدانية المصرية. ولقد استخدم الطيب صالح مفهوم، "الغريب الحكيم" في رسم بعضٍ من شخصيات رواياته. وقد لاحظ صديقي الأستاذ، عبد الله الفكي البشير. أن بعض شخصيات روايات الطيب صالح، قد بُنيت على نسق فكرة "الغريب الحكيم". فهذه الشخصيات تأتي من المجهول، وتؤثر في حياة الناس، ثم لا تلبث أن تذهب إلى المجهول، مثلما جاءت! فمصطفى سعيد، على سبيل المثال جاء إلى القرية عن طريق النهر. أعجبته هيئة القرية فقرر البقاء فيها. قلب حياة الناس راساً على عقب، وسرعان ما اختفى في النهر الذي جاء منه!
لو قارنا وضعية التضعضع في معرفة الذات، وفي الإحساس بالهوية، التي ظل يعاني منها أهل سهل النيل الأوسط، بوضع الهضبة الحبشية، فإننا نجد أن الهضبة الحبشية، قد سلمت، إلى حدٍ كبيرٍ، من مثل هذا النوع من الجوائح المتكررة. فهي حين تنصرت، وحين أسلم نصف قاطنيها، لم تمنح نفسها بالكلية للمؤثر العقلي، والثقافي، والوجداني، الوافد، وإنما نجدها، قد قامت بتوطين كلٍّ من الإسلام والمسيحية، وجعلت منهما مكوناً جديداً في بنائها الحضاري، وذلك، بعد أن ألبستهما شخصيتها الحضارية المنمازة. لم تغرق الهضبة في جنس التوهان الحضاري الذي غرقنا فيه لقرون وقرون. ولذلك فقد اختلفت نصرانيتها، عن نصرانية غيرها، واختلف إسلامها عن إسلام غيرها، وما ذاك إلا لأن البناء الحضاري، والاستمرارية الحضارية فيها، ظلت متماسكةً وراسخة، بسبب رسوخ المكونات التاريخية المحلية، وقلة تعرضها للجوائح. ولا أظن أنني سأكون مغالياً، أو متجنياً، إن قلت أن البناء النفسي لأهل الهضبة، أكثر تماسكاً وتجانساً من رصيفه لدى أهل السهل!!
الشاهد هنا، أن الهوية الحضارية، لا تشكلها العقيدة الدينية، وحدها، فالهنود، مثلاً، منهم مسلمون كثر، ولكن لهم هويتهم الحضارية، والإيرانيون مسلمون، في غالب حالهم، ولكن لهم شخصيتهم الحضارية، وكثير من شعوب الإتحاد السوفيتي السابق مسلمون، ولكن لهم هويتهم الحضارية، وينطبق ذلك، أيضا، على كثير من شعوب غرب إفريقيا التي يغلب عليها الإسلام. مشكلتنا نحن، أننا نسينا هويتنا الحضارية، وطفقنا نحصر تصورنا لها في العقيدة الجديدة، الوافدة، التي ترسخت لدينا منذ خمس قرون فقط، وفي اللغة الجديدة التي سبقتها بقليل. فالعقيدة الدينية الوافدة يمكن أن ترفد الهوية الحضارية برافد يغذيها، ويفتح لها آفاقاً جديدة، ولكنها لا يمكن أن تقوم مقامها، أبداً! لا يمكن محو ما تشكل تاريخياً، في عشرات القرون، بما يفد، وإن حدث ذلك، فإن نتائجه كارثية.
بحثنا عن هويتنا في عقيدتنا، وفي لغتنا، دون غيرهما، هو الذي جعلنا نبدو بين الشعوب، كـ (البغلة المِبَارْيَة الخيل)!! وليتنا تنبهنا للنظر المبصر، الذي أتي به الأستاذ محمود محمد طه، حين فرق تفريقاً دقيقاً بين العقيدة والعلم، في البنية الإطارية للفكرة الإسلامية الشاملة. ففي مرحلة العلم يلتقى الناس، من حيث هم ناس، على الفطرة الإنسانية. أما في مرحلة العقيدة، فـ ((كل حزبٍ بما لديهم فرحون)). والشعوب الإسلامية، أو الشعوب النصرانية التي نهضت، إنما نهضت بسبب تجاوزها لنطاق العقيدة الضيق، وانفتاحها على البراح الإنساني الواحد، الذي ما جاء الدين، من حيث هو، إلا ليوسعه، ويعمقه، ويعممه.
أود أن أنتقل مما تقدم، في نقلة شبه مفاجئة، إلى ميزة الإرث الحضاري في إحداث التغيير. فقد بدأت هذه المقالات المتسلسلات، بالقول بأنه من الضروري لكل أمةٍ تنشد النهضة، من استجماع طاقاتها الحضارية، وتفعيل خير ما فيها. ولا يمكن لأمة أن تعرف كيف تبعث إرثها الحضاري، وتُفَعِّله في حاضرها، من دون أن تملك القدرة على النقد الذاتي، الذي به ترى الآثار السالبة لحالة الانفصال عن الإرث الحضاري. لابد من التعرف عن كثب على التشوهات التي أحدثتها حالة الانفصال، من غير نكرانٍ، أو مكابرةٍ، أو محاولةٍ للتغطية على حقيقة الأزمة القائمة، بالشعارية التعبوية، والهياج الديني، والزعيق الإعلامي الفارغ. والحالة السودانية الراهنة، بكل ما فيها من تخبطٍ، وعجزٍ، وانبهام في الرؤية، إنما تقول وبأعلى صوت، أننا شعب فقد هويته الحضارية، وضاعت بوصلته منذ أمدٍ بعيد. ولا يحتاج المرء أن يجهد نفسه كثيراً، في تبيين حالة العجز التي تحتوشنا في هذه المرحلة التاريخية الحرجة. والمرحلة التاريخية الراهنة، في عمر النوع البشري، تتميز بشكل غير مسبوق، عن كل ما سبقها، من مراحل التاريخ الإنساني، بكونها المرحلة التي بدأت فيها كل شعوب الأرض، بلا استثناء، في حراكٍ محمومٍ نحو النهوض، الشامل. وتقول آخر التقارير، حول محاربة الفقر، أن دول شرق آسيا، قد نجحت بنسبة 90% في المائة في جهود محاربة الفقر. وأنها سوف تحقق الهدف المرفوع للقضاء على الفقر في العام 2015. والدول العاجزة عن تحقيق هذا الهدف، حتى الآن، حسب التقارير الدولية، إنما هي دول جنوب الصحراء في إفريقيا، والسودان على رأس قائمتها. فنحن إن لم نعرف كيف نحل مشكلتنا الحضارية، ونتعرف عن كثب على حقيقة شخصيتنا الحضارية، ولم نقم بالمعالجات الثقافية اللازمة، فإن دول جنوب الصحراء في إفريقيا، سوف تتخطانا، وبأمدٍ بعيد، وحينها سوف يذهب ريحنا، وإلى الأبد.
الحراك نحو النهوض الشامل، وما يسمى بالتنمية الشاملة، يقوم اليوم، على ضوء معارف، وتصوراتٍ، وإلهاماتٍ، جديدةٍ كل الجدة. وكل ذلك إنما يؤرخ لمرحلة شديدة التميز، في حياة البشر على ظهر الأرض، منذ أن خُلق الله الأرض، ومنذ أن أوجد البشر، على ظهرها! والأمم التي سوف تحقق النجاح في مواجهة تحديات المرحلة الراهنة، وما يليها، لهي الأمم التي تعرف كيف تجذر هويتها الحضارية، وكيف تفعل قيمها الحضارية، بعد أن تفك أسر نفسها من قيود الهويات المؤدلجة، دينيةً كانت، أم علمانية. ولا حاجة بي إلى القول إن الصحف السودانية قد ذخرت في السنوات الأخيرة بالإشارات المتكررة، إلى ارتدادنا إلى حضن القبيلة. لقد غبنا في أتون الإيديولوجيات، غيبتنا فيها الطائفية، واليسار، وحملة راية الشعار الإسلامي الفارغ من أي محتوى حضاري. في هذه الغيبة نكص مشروع الدولة، وتبخرت الثقة في أجهزة الدولة، فتمزق النسيج القومي، وأرتددنا إلى حضن القبيلة. والارتداد إلى حضن القبيلة، إنما يمثل المرحلة الأخيرة قبل الانهيار والانمحاق.
كنت قد كتبت، في صحيفة أجراس الحرية، قبل مدةٍ، مقالاً، تحت عنوان ((مطار الخرطوم، وسودانير، وعار الدولة). ولم يظفر أياً من مقالاتي التي عادةً ما تظهر، في موقع سودانايل الإلكتروني، بعد أن يتم نشرها صحفياً، بعدد القراء الذين ظفر بهم ذلك المقال. وذلك، بحسب ما أوردته إحصائية القرَّاء، التي يوفرها موقع سودانايل. في ذلك المقال تحدثت، عرضاً، عن مطار أديس أبابا، الذي مررت به عابراً قبل شهور خلون. فقد قلت، حينها، إنني حين رأيت عصريته، وكفاءته، ومهنية العاملين فيه، أحسست بمبلغ الغش، ومبلغ الخيانة اللتين نتلقاهما، نحن السودانيين، من قادتنا، الطارف منهم والتليد. خمسون عاماً ونحن بلا مطار يجبر الخاطر، ويبيض الوجه. أما المهنية، وما يسمى بخدمة الزبون لدينا، فتقع جملةً وتفصيلاً في خانة الصفر! أصبح مطارنا الكئيب عنواننا الذي يعرفنا منه أي قادمٍ. نعم، إنه عنوان جوابنا، الذي يغني عن المزيد من الفحص والتقصي، حول أحوالنا البائسة. فـ (الجواب يكفيك عنوانه)، كما يقولون. أيضا، قلت في مقالي ذاك، أنني كنت أظن، طيلة حياتي، أن مطار أديس أبابا لن يكون، بأي حالٍ، أفضل من مطار الخرطوم، فنحن جيران وفقراء، بل لعلهم أفقر منا، على الأقل من حيث الموارد الاقتصادية! وبناءً عليه، لم يكن هناك سبب واحد، حسب ما أعتقدت، يجعلني أتوقع أن يكون مطارهم، أفضل من مطارنا! ولكن، جاء بي الظرف العابر إلى مطار أديس، لتتضح لي غشامتي، وتنفضح أمام ناظري نظرتي التنميطية الإستعلائية، ليتم نسفها، مرة واحدةً وإلى الأبد، وفي رمش العين!! مد لي مطار أديس لسانه، وأصابني، من جراء ذلك، من الاستخذاء ما أصابني!! تحدثت في ذلك المقال، أيضاً، عن الطيران الإثيوبي المقتدر، الذي لم تغيره السنون، وظلت رحلاته تطال مشارق الأرض ومغاربها. يملك الطيران الأثيوبي أسطولا كبيراً من أحدث الطائرات، خاصةً إن قارناه بسودانير، وأخواتها الجديدات، اللواتي منعهن الاتحاد الأوروبي، مؤخراً، من التحليق فوق أراضيه. والحق أن أي دولة رشيدة، تهتم بسلامة مواطنيها، ينبغي ألا تترك الحبل على الغارب لمثل هذه الأجسام المعدنية الضخمة، لتعبر فوق أراضيها، حتى يثبت، بما لا يدع مجالاً للشك، أنها مستوفية لضوابط السلامة الدولية المرعية. أردت من كل ما جاء في هذا التمهيد المطول نوعاً ما، أن أقول أنني وجدت، أخيراً، الفرصة لزيارة أديس أبابا، عاصمة أثيوبيا، بعد أن فتح لذلك شهيتي مطارها البسيط الجميل المنظم، المرتب، وروح المهنية، والانضباط التي يتمتع بها العاملون فيه.
جاءتني، في جامعة قطر، فرصة لحضور مؤتمر علمي في الولايات المتحدة. فقلت: لم لا أسافر عن طريق الطيران الأثيوبي الذي يصل إلى واشنطن، ولم لا أتوقف ليومٍ، أو يومين في أديس أبابا، عاصمة هذا القطر الإفريقي الذي عُرف بالفقر، وبالمجاعات، ومع ذلك، يملك طيراناً يطال أركان الأرض؟! والحق أنني بدأت منذ فترة في ممارسة نوع من النقد الذاتي لنظرتي المستعلية تجاه أقطار الجوار. وهي نظرةٌ مشرجةٌ في البنية العقلية الجمعية، لدينا نحن معشر السودانيين. فلقد ظللنا، مملوءين فخراً أجوفاً، بانتمائنا العربي الإسلامي. ولقد جعلتنا تلك النرجسية العرقية العقدية، نصعر خدنا لكل جيراننا، بلا استحقاق حضاري، أو تنموي، يؤهلنا لتصعير الخد. كما جعلت تلك النرجسية الفالتة، قبلتنا قبلةً أحادية: هي الشمال، ولا شيء غير الشمال. يبدو أنني صحوت فجأة، لأصاب بالدهشة، من حالة التنويم المغناطيسية الطويلة، التي عشتها. فقد ارتدت العشرات من عواصم، ومدن العالم، ولكنني لم أرتد أقرب العواصم إلى الخرطوم، وهي أديس أبابا. إنها أقرب إلى الخرطوم، من القاهرة، وأقرب إليها من الرياض، وأقرب إليها من طرابلس، وأقرب إليها من انجمينا، ولا توجد عاصمةٌ أقرب من أديس أبابا إلى الخرطوم، سوى أسمرا، التي لم أرها بعد!!. وكما يقولون فإن الأشياء القريبة جداً لا تُرى، كالشيء فوق أرنبة الأنف. فهو تتعذر رؤيته بسبب فرط قربه! صحوت من نومتي المغناطيسية التي أنامني فيها العقل الجمعي، بتبسيطاته المخدرة، لأتساءل في استغراب: كيف أن عالماً ذاخراً كهذا، غنياً بالدلالات، وبالمعاني، ومليئاً بالوعود، وهو أقرب إليَّ من حبل الوريد، قد ظل خارج وعيي، كل هذه السنين؟! لقد أحسست بقدرٍ غير قليل من الاستخذاء كوني من الناشطين في حقول المعرفة، ومن الأكاديميين، وكوني أحسب نفسي في زمرة من ظلوا يحلمون بحالةٍ إنسانية أفضل، ثم أقع، رغم كل ذلك، في فخ النظرات الاستعلاية التنميطية. فالمعرفة المبذولة، التي تتيحها المناهج المدرسية حول أرض الحبشة، في دروس الجغرافيا، وفي دروس التاريخ، وفي دروس السيرة النبوية، لا تزال حاضرة في البال. ولكن، كيف يظل المرء يقتات هذا الفتات المدرسي طيلة حياته؟! فكلنا قرأ عن حملة المهدية عليها، وسوء فهم القائد المهدوي، حمدان أبو عنجة لرسالة القائد الحبشي، الرأس عدار، مما قاد إلى حربٍ طاحنةٍ بين الفريقين. كما عايشنا كلنا الوجود الحبشي في السودان، منذ أن كان الأحباش هم السائقين الوحيدين، للقندرانات الإيطالية ماركة (فيات)، بُعيد منتصف القرن العشرين، قبل أن يبدأ السودان تشييد الطرق البرية. كما عرفناهم، بشكل أكثر قرباً بعد لجوءهم إلى السودان حين اشتدت بهم الأزمات عقب الإنقلاب الشيوعي، الذي قام به منغيستو هايلامريام. كما عرفناهم أيضاً حرفيين، يعملون في مختلف المهن اليدوية، وغراسونات في المطاعم، والمقاهي. كما عرفنا الأثيوبيات كعاملاتٍ في منازل الأسر السودانية، منذ عقود خلون. الشاهد أن هناك ارتباط عميق يربط بين سكان الهضبة، وسكان السودان الأوسط. هناك علاقة عميقة لم يتم تقعيدها معرفياً، ولم تُموضع في أطر التكامل الاستراتيجيً، كما ينبغي، بعد. كما أن التنميط قد شابها، بشوائب كثيرة، بالغة الضرر. ومع ذلك ظلت تلك العلاقة قائمة، وراسخة، تمد لسانها لكل تلك الترهات. بل إن المؤشرات لتقول أن هذه العلاقة تزدهر الآن، وأن التقارب يأخذ شكلاً جديداً، يشي، وبقوة، بدنو أجل العجرفة اللغوية، والدينية، والعرقية، وكل تجليات التنميطات الاستعلائية الغرة الساذجة. (يتواصل)