ما بعد الاستفتاء: السياسة الخارجية للسودان.. تحديات وخيارات (1-2)

 


 

 

kha_daf@yahoo.com

 

تمهيد:

     تحاول هذه الورقة تسليط الضوء على السوانح والتحديات التي تكتنف خيارات السياسة الخارجية في حالة اختيار جنوب السودان التصويت لقرار الانفصال. وحسب الترجيحات المتنامية في هذا الصدد، فإن قرار الانفصال سيحدث تحولات جذرية في الخارطة الجيوبوليتكية للسودان،كما سيؤثر على الخصائص الديمغرافية، والثقافية والسياسية، وسيفرز حقائق جديدة على المحيطين الإقليمي والدولي. عليه تمارس هذه الورقة إستقراءً موضوعيا للتوقعات المحتملة، من خلال الحيثيات والمعطيات والوقائع الراهنة. ولإجلاء الصورة الكلية توسلت الورقة بالوقوف على أعتاب السيناريوهات المحتملة،ورجحت خيار الانفصال السلس والطلاق بإحسان، لاعتماد الطرفين على موارد النفط ووضعت في الحسبان شروط الانفصال السلمي كما بسطه سمنار مركز شاتام هاوس البريطاني.كما حاولت أن تستقصي بميسم التحليل طبيعة الدولة الجديدة،محدداتها وخصائصها السياسية والديمغرافية وخياراتها المتاحة،ومن ثم انتقلت الى موقف الدول الأقليمية من الانفصال، وكذلك موقف القوى الدولية. وتأملت الورقة في أهداف الدول الداعية للانفصال في أبعادها الأيدلوجية والسياسية والأقتصادية. وتناولت خصائص وطبيعة دولة السودان بعد انفصال الجنوب،حتى تستطيع أن تحدد خيارات السياسة الخارجية بعد اختبار الافتراضات النظرية.وطرقت الورقة باب الطريق الثالث،وهو الاتفاق على إدارة الملفات المشتركة رغم الانفصال لتسهيل الانتقال السلس وتجنب الاحتكاكات مثل البترول والسياسة الخارجية والاستمرار في استعمال العملة الموحدة، واستمرار عمل وتكوينات القوات المشتركة لأداء مهام جديدة.كما تم تسليط الضوء على ضرورة اهتمام المجتمع الدولي بتنمية وتطوير الشمال أسوة بالجنوب لأن الشمال الضعيف المتهالك يعتبر مهدداً قوياً لاستقرار الجنوب وبالتالي فإن تقوية وتنمية الدولة الأم لهو  الضمانة الوحيدة لبقاء واستقرار الدولة الوليدة. وخلصت الورقة إلى تحرير مقترحات على مستوى السياسات والاستراتيجيات، ومن ثم على مستوى الهيكلة وإعادة البناء الدبلوماسي.

......

     السيناريوهات المحتملة:

     يجمع الخبراء على أن هناك 12 موضوعاً في قضايا الاستفتاء تتطلب - نسبة لأهميتها السياسية- اتفاقاً وحلاً عاجلين بين طرفي الاتفاق قبل إجراء الاستفتاء منعا لحدوث سيناريوهات العنف المتوقعة. تتمثل هذه القضايا في (المواطنة،العملة، الحدود، النفط،الوحدات المشتركة، الديون، الأصول، المياه، الأراضي،الترتيبات الأمنية). ولكن هناك أربع قضايا من هذه الموضوعات تحظى بالأولوية القصوى ، ويعتمد استقرار السودان على ضرورة حلها والاتفاق حولها قبل الاستفتاء وهي (البترول، الترتيبات الأمنية، المواطنة، والحدود). وبالتالي يتضح أن قضايا السياسة الخارجية لا تعتبر من الموضوعات الحيوية التي تهم الجانبين في هذا التوقيت الحرج، ولكن ستتضح أهميتها لاحقا بعد إجراء الاستفتاء واكتمال معطيات انفصال الجنوب كما هو متوقع.

     لقد شهدت أفريقيا منذ العام 1990، إجراء 49 استفتاء، ثمانية فقط منها تعلقت بالمواطنة والقضايا العرقية. وتعتبر معايير النجاح في إجراء الاستفتاءات خاصة المتعلقة بتقرير المصير، هي خلو الاستفتاء من مظاهر الاضطرابات الوحشية، وحوادث القتل وسفك الدماء، ولضمان تجنب إراقة الدماء كما حدث في حالة تيمور الشرقية، ويوغسلافيا السابقة، فإنه يجب توافر عاملين الأول:مشاركة وموافقة المجتمع الدولي علي الأجراء وقبول نتائج الاستفتاء، وثانيا: قبول النخب السياسية في طرفي المعادلة بأن الاستفتاء هو وسيلة مشروعة لحل الاشكالات العالقة.ولعل أفضل الأمثلة للانفصال السلمي هي حالة أريتريا،التي لا ترتبط حربها مع أثيوبيا بالاستفتاء بل لأسباب لاحقة وكذلك  مونتنقرو.

توقع معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية ISS  في تقريره الذي أصدره في نوفمبر 2009 تحت عنوان Post 2011 Scenarios in Sudan: What Role for EU? أن تسود أربعة سيناريوهات لمرحلة ما بعد الاستفتاء وهي وحدة مفروضة بالقوة أو انفصال مفروض بالقوة.أما الجانب الآخر فهو وحدة متفق عليها بين الشمال والجنوب أو انفصال متفق عليه بالتراضي بين الشريكين.هذه الأربعة سيناريوهات تفترض أن ديناميكيات بناء السلام الداخلي في السودان وصلت سقفها الأعلى بقيام الانتخابات، وقد كبحت المقاومة التي يتبعها المؤتمر الوطني تمدد النفوذ الدولي على السودان، وكذلك إضعاف فعالية المنظمات والقوى الأقليمية في تقديم سياسات أنتقالية لمخاطبة التحديات الراهنة التي يمر بها السودان، وقد زاد ذلك من حدة الاستقطاب السياسي داخل المنظومة السياسية السودانية.وعليه يرى الخبراء ضرورة حشد الجهود الدولية خاصة الدول الأروبية والولايات المتحدة ، وروسيا والصين من جانب ، إضافة الى الدول الأقليمية العربية منها والأفريقية من جانب آخر لدعم ومساندة الجانبين بتقديم الاستشارات الفنية، وبناء القدرات لتسهيل عملية التفاوض وتحديد الموضوعات والقضايا ذات الأهمية القصوى في المفاوضات.

رغم أن الاستقراءات النظرية، تضع في الحسبان أربعة سيناريوهات محتملة، إلا أن حيثيات الواقع السياسي في الداخل ،وتوقعات القوى الإقليمية والدولية ترجح خيار الانفصال مطلقا.،عليه يرى بعض الخبراء ضرورة اتخاذ التدابير  والاجراءات اللازمة وإطلاق المبادرات لتقريب وجهات النظر، منعا من الانزلاق الى دائرة العنف والفوضي، واطلاق أستراتيجية العيش السلمي المشترك وتأسيس قواعد الجوار الأخوي. ونوه المبعوث البريطاني مايكل أونيل في زيارته الأخيرة للسودان في شهر مايو الماضي إلى ضرورة الابتعاد عن تصوير الانفصال بأنه كارثة للشمال zero sum game ولكن يمكن أن يكون معادلة رابحة لكلا الطرفين win win situation . عليه فأنه يتوقع أن يزداد دور وتحركات القوى الدولية خاصة الولايات المتحدة، بريطانيا ، فرنسا وبقية الدول الأروبية في الشأن السوداني في مرحلة قبل وبعد الاستفتاء تحت دواعي، تسهيل ودعم عملية الأستفتاء، وتسهيل التفاوض حول القضايا العالقة بين الطرفين ومتابعة إنفاذ الترتيبات الأمنية والسياسية والاقتصادية لمرحلة ما بعد الاستفتاء.

في آخر شهادة أدلى بها المبعوث الخاص الجنرال قريشن أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ يوم 12 مايو 2010، أكد على رجحان انفصال الجنوب عبر آلية تقرير المصير،مما يتطلب من المجتمع الدولي عموما ، والولايات المتحدة علي وجه الخصوص تركيز الجهود على بناء قدرات الدولة الجديدة، وبناء جيش نظامي، وتسريع عجلة البناء والتنمية وتقديم الخدمات الضرورية للمواطنين،بسط الأمن، وتجفيف الصراعات القبلية والتفلتات الأمنية، وآخيرا تقديم الدعم المادي اللازم من الدول، والمانحين والمؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي، وصندوق النقد لتوفير التمويل اللازم لبناء واستقرار دولة الجنوب الجديدة. وخوفاً من اشتعال وتيرة العنف مع إعلان نتائج الأستفتاء التي يمكن أن تمتد لتقويض السلام والاستقرار الاقليمي يعكف المجتمع الدولي الآن على ابتدار أستراتيجية (التعايش السلمي) بين الشمال والجنوب، ترتكز علي حل قضايا الاستفتاء العالقة خاصة في مسائل اقتسام النفط، ترسيم الحدود، الترتيبات الأمنية،المواطنة وقضايا الأقليات في كلا الطرفين.

سبق وأن حذر خبراء مختصون اجتمعوا في واشنطون في شهري أبريل ومايو المنصرمين  تحت إشراف ورعاية معهد السلام، ومعهد مستقبل السياسات من اشتعال وتيرة العنف السياسي متزامنا مع الاستفتاء، سيما وأن الانتخابات لم تؤد إلى أي تغيير سياسي تتبدل معه قواعد اللعبة السياسية في السودان. وأكد هؤلاء المختصون أن أس الصراع في السودان سببه جزئياً المنافسة على الموارد القليلة مثل النفط والمياه، هذا فضلا عن أن الثروة والسلطة حسب زعمهم ما زالت تتحكم فيها النخبة النيلية على حساب المجموعات السكانية الأخرى التي تقطن الأطراف والهوامش، مما يزيد من حدة الاستقطاب السياسي..في مقابل هذه الافتراضات التي ركزت على الشمال، حدد الخبراء عوامل واتجاهات خفية تؤثر على بنية العنف المحتمل وهي في مجملها مختصة بالحراك السياسي والاجتماعي في جنوب السودان. ولعل العامل الأكثر تأثيراً هو مدى قدرة الحركة الشعبية على حكم الجنوب، حيث توجد مؤشرات قوية في الوقت الراهن تؤكد على فشل الحركة في تقديم الخدمات الأساسية، والحفاظ على الأمن الداخلي ومحاربة الفساد وتأسيس بنية حكم راشد تنال رضى أهل الجنوب.كما تشير العوامل الأخرى الى التعقيدات الأقليمية ودور المجتمع الدولي في إنقاذ وتقويم مسار عملية السلام في السودان. فيما يلي عددا من السيناريوهات المتوقعة حال اعلان الانفصال وهي:

أ- ميلاد دولة فاشلة:

هناك شبه إجماع وسط الخبراء والسياسيين،الى أن انفصال الجنوب يعني تلقائيا ميلاد دولة فاشلة لعدة أسباب منطقية. تتلخص في أنها ستكون دولة مغلقة ليس لها منفذ على البحر، واعتماد الدولة الجديدة المطلق على موارد النفط الناضبة، والمتذبذبة الأسعار، وكذلك فشل الحركة الشعبية في أدارة وتأسيس بنية للحكم في الجنوب طيلة الفترة الماضية، واتساع دائرة التوترات والحروب القبلية وحدوث تمرد وسط القادة العسكريين للحركة ضد مركزية القرار السياسي. يرى الخبراء أن الانفصال إذا حدث سيكون مكلفا للجنوب وذلك لاختلالات أساسية في أسلوب ونمط الحكم في جنوب السودان لفشله في مخاطبة القضايا الأساسية للمواطنين. حيث يرى المختصون أنه إذا لم تتغير طريقة ونمط الحكم الراهنة في الجنوب فأنه سينحدر الى دوامة من العنف حتى إذا لم يتعرض الى عدوان عسكري من الشمال أو انخفاض نسبة تدفقات المساعدات والدعم الدولي الحالية. ووجه الخبراء سهام نقد حادة لفشل الحركة في تأسيس نمط حكم يحظى بمصداقية وشفافية عالية خاصة في ظل تضعضع قدرتها على توفير الخدمات الأساسية ، نزع السلاح من المليشيات،واحتمالات انتقال العنف الراهن من جنوب كردفان الى جنوب السودان.وكذلك عدم قدرة الحركة على تنزيل السلطات الادارية الي مستويات الحكم الأدني.والفشل في توزيع ثمار السلام على المستوي القاعدي . ودون التعاون بين الشمال والجنوب، والإسهام الايجابي للمجتمع الدولي فإن هذا السيناريو رغم قتامته سيكون هو الأقرب للحدوث.

ب- الإنحدار نحو هاوية الحرب الأهلية:

  إذا استمرت أزمة الثقة بين الشريكين، وتمادت قيادة الحركة في المماطلة لحل القضايا العالقة خاصة في قضايا ترسيم الحدود ، والمواطنة، وأقتسام عائدات النفط، والترتيبات الأمنية، والتعسف في تطبيق قرار المحكمة بأبيي ، وحل قضايا المشورة الشعبية في النيل الأزرق وجنوب كردفان ، فأن التوترات المترتبة على هذه المواقف ربما تقود حتما الى حرب جديدة بين الشمال والجنوب. وبالطبع فإن الحرب هذه المرة لن تكون أهلية بل ستكون بين دولتين وستختلف كماً ونوعاً من المرات السابقة، لوجود ترسانة كثيفة وحديثة من السلاح لدى الطرفين، كما إن اشتعال الحرب سيكون مؤشرا لانسداد الأفق السياسي مما يجعلها أكثر فتكا وقتلا من كل التجارب الماضية..دون حدوث تغيير جذري في ديناميكيات الشراكة في المرحلة الراهنة وحفزها لمخاطبة انشغالات الطرفين سيعزز ذلك من ضبابية الوضع الراهن ويفرز اضطرابا في الحسابات ، و فقدان الثقة مما يعظم من فرص انفجار العنف بوتيرة عالية ، لأن مناخ ما بعد الاستفتاء بأستقطاباته المتوقعة ربما لا يكون مناسبا لمخاطبة مثل هذه القضايا. وربما تبرز حالة إضافية هي حالة اللاحرب واللاسلم، حيث تقع العدائيات والمناوشات دون الانزلاق الى حافة الحرب الكاملة.

الإنفصال السلس والطلاق بأحسان:

كما هو مأمول، فإن الشريكين قادران إذا توافرت الإرادة السياسية المشتركة على تجاوز المعضلات الراهنة التي يمكن أن تكون وقودا لحرب أهلية جديدة.ولكن مع المناخ السياسي الراهن الذي تماطل فيه قيادة الحركة عن الوفاء بجداول ومواقيت إنفاذ الاتفاق، وإكمال المفاوضات واستكمال أجراءات تعزيز بناء الثقة ، والعكوف على حل الاشكالات ذات الأولوية القصوي في الاستفتاء ، فإن ذلك ربما يؤدي الى ازدياد حدة التوتر السياسي مع اقتراب موعد الاستفتاء وضيق الفترة المتبقية لحل مجمل القضايا العالقة.تشير أكثر التوقعات تفاؤلا الى حل 70% من أهم قضايا الاستفتاء بحلول يناير 2011. إن تأمين الأنفصال السلس والطلاق بأحسان رهين باتفاق الطرفين علي رؤية سياسية مشتركة لفترة ما بعد الاستفتاء لحل الاشكالات العالقة وإدارة الشئون المشتركة دون اللجوء الى استخدام القوة العسكرية. وسيعزز من فرص نجاح هذا السيناريو، وحدة وتفاهم القيادة السياسية للطرفين (الرئيس البشير ونائبه سلفاكير) والجهود البناءة والأيجابية للمجتمع الدولي لتوفير الدعم وتقديم العون اللازم. مما يعزز من فرص نجاح هذا السيناريو هو أنعدام مصلحة كلا الطرفين في اشعال حرب جديدة بين دولتين ، لاعتماد الجنوب الكلي على النفط، واعتماد ميزانية الشمال بنسبة من 07% علي النفط. عليه ستركز جهود المجتمع الدولي على الانفصال السلمي ، ومنع اندلاع حرب بين الشمال والجنوب وبقاء الجنوب موحدا تحت قيادة الحركة الشعبية.

شروط الانفصال السلمي:

في التقرير الذي قدمه مركز الدراسات السياسة والدولية العريق بلندن شاتام هاوس Chatham House   تحت عنوان 2011 : Considering the Scenarios and Beyond  والذي جاء خلاصة لسمنار الخبراء،بالأشتراك مع ممثلين من المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ،قدم التقرير الذي تم عرضه في الخرطوم على فريق التفاوض في يوليو 2009، جملة من السيناريوهات المتوقعة علها تفيد المفاوضين ومتخذي القرار للتوصل الى نتائج أيجابية لقضايا ما بعد الاستفتاء.في السيناريو الذي طرحه البروفيسور أولاري من جامعة بنسلفانيا، حول خيار الأنفصال قال إن ضمان تأمين الأنفصال السلس والسلمي يتطلب جملة من السياسات والأجراءات أولها الاتفاق على الحدود الفاصلة بين الدولتين،وكذلك وجود تحالف سياسي عريض بين مجموعة الكتل السياسية في الطرفين، واستمرار التفاوض بين مجموعة صغيرة من الطرفين للتوصل الي اتفاق سريع وفاعل في الموضوعات ذات الأهمية السياسية القصوى. وكذلك استمرار مؤسسات الحكم التي كانت سائدة قبل الانفصال لتواصل مهامها وعملها بعد الانفصال.ونوه بروفيسور أولاري الى أهمية قسمة الأصول العسكرية والدفاعية،وفقا للثقل السكاني، وتقييم الأصول الثابتة والمنقولة على أن يتم تقييم مادي للأصول الثابتة، وكذلك قسمة الدين الخارجي، ويمكن في هذه الحالة قبول سداد الدين مقابل الأصول. أما في شأن السياسة الخارجية إذا قرر الجنوب الانفصال يقول بروفيسور أولاري إن الدولة المنفصلة لها الحق في المشاركة في قسمة السفارات،ولعل أفضل الوسائل لحل الاشكال هو قبول التعويض المادي،وكذلك إعطاء الدولة الجديدة حق التوقيع على الاتفاقيات الدولية التي وقعتها الدولة الأصل. أما في شأن المواطنة، فالأصوب هو منح فترة زمنية معلومة لحقوق المواطنة المشتركة تجنبا للهجرات الجماعية المكثفة التي تسبب اضطرابات وفوضى يصعب السيطرة عليها. واستمرار القوانين ، وصناديق المعاشات والضمان الأجتماعي، وتجنب الازدواج الضريبي،و منع المصادرات والتأميم خاصة ممتلكات الأفراد الذين اختاروا الجانب الآخر من القطر. أما الانفصال العدائي المصحوب بالعنف، يكون أقرب للحدوث إذا لم يتم الاعتراف بأستقلال الدولة الجديدة، عدم الوصول لأتفاق بشأن الحدود، وجود فصائل وحدوية شديدة المراس على الطرفين،ولكن العامل الأخطر، هو وجود كثافة سكانية في المناطق الحدودية الغنية بالموارد والثروات دون ترسيم الحدود الفاصلة بين القطرين.

طبيعة الدولة الجديدة في الجنوب:

إذا سلمنا جدلا بوقوع الانفصال حسب التوقعات السائدة، وفاء لمبدأ تقرير المصير واجراءات الاستفتاء وفقا لاتفاقية السلام الشامل، وأحكام الدستور الانتقالي لعام 5002، فإن بروز دولة جديدة في جنوب السودان، سيحدث انقلابا في الجغرافيا السياسية للسودان، وسيقرر تاريخا جديدا للمنطقة، وسيعيد تشكيل الحقائق التاريخية والمعطيات الاجتماعية التي ظلت سائدة في السودان منذ تكوين السودان الحديث علي يد محمد علي باشا 1821. وفيما يلي رصد لطبيعة ومكونات الدولة الجديدة.

أ- جغرافيا يمثل الجنوب 26% من مساحة السودان، و22% من جملة سكان السودان حسب التعداد السكاني الأخير، كما يقع في الجنوب 65% من حوض النيل هذا فضلا عن امتداد الروافد النيلية مثل السوباط وبحر العرب وغيرهما. تقع حوالي 70 % من الحقول المنتجة للنفط في حدود الجنوب وفقا لحدود 1956م. سيؤدي انفصال الجنوب الى تغيير الخارطة الجغرافية خاصة في الحدود المشتركة مع دول الجوار، إذ ستمسح الدولة الجديدة الحدود الجغرافية المشتركة مع خمس دول أفريقية هي يوغندا، كينيا، الكونغو ، وجزءا من أثيوبيا، وأفريقيا الوسطي ،.كانت الحدود المشتركة مع هذه الدول مسرحا لحركات التمرد، وتدفق السلاح، واللاجئين ، والاتجار في البشر، وتهريب المخدرات. سيرث الجنوب عبء إدارة ومراقبة هذه الحدود التي كانت تشكل عبئا أمنيا وسياسيا كبيرا علي السودان،ونتوقع مع افتقار الجنوب لبنية الحكم اللازمة أن تشهد الحدود مع هذه الدول انفلاتات أمنية كبيرة، وازدياد معدلات الجريمة العابرة للحدود، وتدفق الأسلحة والمخدرات. كما سيرث الجنوب أيضا عبء المنازعات علي الحدود المشتركة خاصة مع يوغندا وكينيا في مثلث أليمني.

ب- إن العقيدة القتالية لجيش دولة جنوب السودان ستكون موجهة ضد الشمال باعتباره العدو التاريخي والاستراتيجي لدولة الجنوب الوليدة، كما سترتكز الأيدلوجية السياسية للدولة الجديدة على العدائيات الموجهة ضد الهوية الثقافية والتوجهات الحضارية للشمال، ويتوقع أن يفرز مناخ ما بعد الانفصال بروز روح عدائية، كما حدث في كل التجارب التاريخية السابقة.إذ سيتم الاحتفاء بالانفصال باعتباره تحريرا من الاستعمار الشمالي ذي التوجهات العربية والأسلامية، كما سيتم التضييق علي كل المتعاطفين مع الشمال، والأقلية الجنوبية المسلمة، وجيوب الشماليين المتبقية التي اختارت البقاء في الجنوب لارتباطات أجتماعية أو مصالح اقتصادية.

ت- سيتحول الجنوب بفعل الوجود الأجنبي والتدفقات الدولية الى قاعدة  للنفوذ الأجنبي المعادي للسودان،وذلك بدوافع حماية الدولة الوليدة من العدوان الشمالي المحتمل، وبناء قدرات الدولة ومؤسسات الحكم في الجنوب. كما يتوقع أن يقع الجنوب ضمن نطاق النفوذ الأسرائيلي لتطويق السودان ومصر من الخلف،بالتحكم في تدفقات مياه النيل سيما وقد أكدت تقارير موثقة أن اتفاقية دول حوض النيل الجديدة تمت بمساعدة ودعم من أسرائيل.

ث- يتوقع إتساع رقعة الأحتكاكات الحدودية بين القبائل الرعوية، ووقوع بعض القتلى في الجانبين، وقد يؤدي ذلك الى أرتفاع نسبة التوتر السياسي والعسكري، كما يتوقع أيضا فشو النزاعات القبلية داخل الجنوب مما يعزز من فرص تدفق اللاجئين الي حدود الشمال الجنوبية.

ج- نسبة للاضطرابات الأمنية المتوقعة بعد الانفصال، ستستخدم الحكومة في الجنوب آلتها العسكرية الثقيلة لقمع المتمردين،وحسم التوترات القبلية، وضبط السلاح،وسيقود ذلك الى نزوح بعض قادة التمرد والمليشيات المتفلتة الى الشمال أو الحدود المشتركة التماسا للأمن والنصرة. وإذا لم يضبط ذلك باتفاقيات مشتركة سيؤدي الي اتساع رقعة التوتر.

ح- سيتغير نمط القيادة السياسية في الجنوب بعد الانفصال، إذ سينتقل سلفاكير من مقام رئيس حركة تمرد و رئيس حكومة الى قائد للتحرير، مما يلقي عليه أعباء ومسئوليات سياسية في التعامل إزاء الشمال،لذا نتوقع قيادة أقل مرونة ، و أقل تفهما لحل الإشكالات العالقة، كما سيزداد نفوذ القادة المناوئين للشمال في دائرة أتخاذ القرار السياسي، ونتوقع كذلك ازدياد النفوذ والتأثير الدولي على سلفاكير بعد الانفصال ، طمعا في استقطاب الدعم الدولي واستماعا لنصائح واستشارات تضخم من النوايا العدوانية للشمال. وفي هذا الصدد سيلقي الجنوب بكل فشله في أدارة الدولة وتحقيق التنمية، وبسط الأمن، على شماعة الشمال، بدعاوى زعزعة الاستقرار، ودعم المليشيات والقيادات المعارضة للحركة الشعبية.

خ- ربما يتحول الجنوب الى قاعدة تنطلق منها حركات تمرد جديدة في أبيي ، النيل الأزرق، وجنوب كردفان، وحتى دارفور.إذ ستعزز الدولة الجديدة من صورتها الأيدلوجية التاريخية باعتبارها موئلا ومركزا داعما للمهمشين،وربما تتحول جوبا الى مركز سياسي وأعلامي لجميع المتمردين ضد الدولة.

د- يتوقع على المدى الطويل، مع ازدياد عائدات النفط، وتدفق الاستثمارات، وفشو روح القبلية، وغياب الشفافية والديمقراطية، وسيطرة الحركة الشعبية بمقامع الحديد، أن تبرز بؤر تمرد وعصيان على حكم الحركة الشعبية على أسس قبلية،ودوافع أثنية وأقتصادية. لذا فأن أرساء أسس الحكم ، وأستتباب الاستقرار السياسي والأمني سيكون باهظ الكلفة، لانعدام الأفق السياسي وآليات التحول الديمقراطي في الجنوب. أضافة الي ذلك فإن آلية أحتكار العنف بواسطة وسائل الدولة العسكرية والأمنية تفتقد الى المهنية والمؤسسية، لذا ربما تلجأ الدولة الجديدة إلى حيلة توحيد الجبهة الداخلية على مزاعم وجود تهديد وعدوان خارجي بإدعاء أن الشمال ما زال يهدد بقاء دولة الجنوب.

ذ- سيعزز الجنوب من وجوده السياسي في الشمال بقيام حزب سياسي على قاعدة أيدلوجيا السودان الجديد، يقوده الشماليون في الحركة، وبقايا اليسار، وبقية التيارات السياسية ذات التوجهات العدائية للحركة الأسلامية والمؤتمر الوطني.

ر- توسيعا لقاعدة فك الأرتباط الاقتصادي مع الشمال، توجد خطط معلنة وتوجهات قوية من قادة الحركة الشعبية لتعزيز وتقوية العلاقات التجارية والاقتصادية مع دول شرق أفريقيا خاصة كينيا ويوغندا التي أصبحت تحتكر ثلث التجارة مع الجنوب. إنفاذا لمشروع تعميق الإرتباط الإقتصادي مع شرق أفريقيا سيبدأ في يوليو القادم كما أعلن مؤخرا تنفيذ خط السكة حديد بين جوبا ومدينة تورور اليوغندية عبر نمولي وقولو  لخط طوله 750 كيلومترا، بتكلفة تقدر بـ7 مليارات دولار، سيتم تمويل المشروع الذي أطلق عليه (سكك حديد شرق أفريقيا)، بواسطة مجموعة AYR Development  الأمريكية، وشركة Thyssan  Krupp الألمانية التي تشرف على التصميم، ومؤسسة السودان الجديد، وشركة Mosmetrostory الروسية التي ستشرف علي التنفيذ. الهدف الرئيس لأنشاء هذا الخط هو تصدير النفط الخام عبر ميناء ممبسا،أو لامو. لهذا ستمارس حكومة جنوب السودان ضغوطا على الحكومة الكينية لانشاء خط سكة حديد يربط بين  لوكي شوكي وميناء لامو المقترح بواسطة مجموعة شركة AYR الأمريكية.

ز- على ذات النهج، ستتوسع قاعدة الأستثمار في الجنوب من قبل الشركات العالمية من دول الجوار الأفريقي على وجه الخصوص.تعتبر جوبا الآن أغلى المدن الأفريقية ، حيث تضاعف سكانها خمس مرات مؤخرا، ويعيش فيها الموظفون الأجانب، والسياسيون من ذوي الدخول المرتفعة. وقد سارعت البنكوك الكينية مثل البنك التجاري وبنك أكويتي أضافة الي البنوك اليوغندية في أفتتاح فروع لها في جوبا، وسيكون مصنع ساب ميللر للبيرة الذي تكلف 50 مليون دولار مؤشرا لتوجهات الدولة الجديدة في السياسة والأستثمار. كما تخطط شركتا sanghi cement  الهندية، وشركة  cemtech  لافتتاح مصنعين للأسمنت في شمال شرق كينيا لأستهداف سوق جنوب السودان المزدهرة. ولكن رغم المؤشرات المشجعة من تدفق الاستثمارات الى الجنوب إلا أن خبراء البنك الدولي يؤكدون أن تخوف رؤوس الأموال من تجدد الحرب سيقلل من التدفقات المتوقعة، سيما وأن شركات التأمين العالمية تفرض نسبا عاليا للمشروعات التنموية في جنوب السودان للمخاطر الأمنية، حيث تزداد تكلفة البناء بنسبة 200-003% عن بقية الدول الأفريقية. هذا فضلا عن شكل الأتفاقية المتوقعة لأقتسام الدين الخارجي على السودان. تأكيدا لرغبة دول الجوار في الأستئثار بالتجارة مع جنوب السودان، فقد بلغت الصادرات اليوغندية الى جنوب السودان 60% من جملة الصادرات اليوغندية للخارج.

س- نسبة للتحالفات القائمة مع الغرب، ستعمل حكومة الجنوب على تجفيف الوجود والاستثمارات الصينية والآسيوية في قطاع النفط في حقول الجنوب لصالح الشركات الأمريكية والأوروبية.إذا كان مجمل صادرات السودان من النفط الى الصين تبلغ 7% من الاستهلاك الكلي للصين، فإن الجنوب سيستأثر بعد الانفصال بأكثر من 4% من تلك النسبة الى الصين، والتي تمثل 80% من الصادرات النفطية للسودان الى الخارج.مما يفتح الباب واسعا أمام طبيعة العلاقات القادمة بين الصين والدولة الجديدة.

 

 

آراء