هاشم صديق: لن أنتظر التلفزيون كثيراً.. وقوى الشر لا زالت موجودة به .. حوار: جمال ادريس
الشاعر هاشم صديق في حوار العودة 1-2:
لن أنتظر التلفزيون كثيراً.. و قوى الشر لا زالت موجودة به
لم أقدّم أي تنازلات.. والنضال السلبي يضيّع عمر المبدع
دخلت "خيمة الشروق" دون تردد، برغم أنها مؤتمر وطني
الإذاعة بيتي وبوابتي للعودة.. ولم أنقطع عنها
سجّل الشاعر والمسرحي الكبير هاشم صديق حضوراً لافتاً عبر الظهور من خلال عدة أجهزة إعلامية، تزامناً مع شهر رمضان الفضيل هذا العام، وهو الشهر الذي تحقّق الأجهزة الإعلامية فيه أعلى نسبة متابعة.. وكان هاشم بحق نجم الفضائيات بلا منازع، ذلك أنه غاب ـ مُجبراً لا بطل ـ عن تلك الأجهزة لحوالي سبعة عشر عاماً كاملة، كان يتنفس خلالها إبداعاً محدوداً عبر صفحات الصحف وكوّة المنتديات الثقافية الضيّقة، ولأن شاعرنا اتصف شِعره بالصدق والمبادئ والتعبير عن أحلام البسطاء وقضاياهم، لم تَغِب كلماته عن وجدانهم وقلوبهم طوال الأعوام السبعة عشر التي غابت فيها طلته عنهم وعن أجهزة الإعلام الرسمية، بسبب خلافه السياسي والمبدئي معها.. ويبدو أن مياهاً كثيرة جرت من تحت جسر السياسة المتقلبة دوماً، وجعلت عودة هاشم صديق حدثاً يبثه التلفزيون ضمن نشرة أخباره الرئيسية.. عاد هاشم صديق لأجهزة الإعلام وهو يتأبط عبارة ظل يكرّرها من خلال ظهوره المتعدد في الفضائيات والإذاعات المختلفة، وحتى في هذا الحوار، وهي أنه عاد للإذاعة والتلفزيون "دون أي تنازلات مبدئية أو سياسية".. إذن، ما هي تفاصيل عودته من جديد، وما هو سر هذه "الحُمّى الإبداعية" التي انتابته مؤخراً؟ وكيف ينظر هو شخصياً لغيابه ثم عودته، وسط كثير من المتغيرات التي طرأت هنا وهناك؟ هذه الأسئلة وغيرها يجيب عليها المبدع هاشم صديق من خلال هذا الحوار الرمضاني المفتوح...
حوار: جمال ادريس
* يتساءل الكثيرون: ما الذي جدّ وجعل هاشم صديق يعود لأجهزة الإعلام بعد كل هذا الغياب؟ هل غادر نقطة "المبادئ" التي كان يقف فيها، أم تخلت تلك الأجهزة عن "عدائها" له، أم التقيتم في نقطة وسط الطريق؟
* بدايةً أقول لك بأن كل تفاصيل وحيثيات هذا التوقف الذي امتد لسبعة عشر عاماً معروفة لدى القارئ والمشاهد والمستمع، ومعروف لديه أيضاً أنه لم تكن لي يد فيه، باعتبار أنني أُخرجت من التلفزيون، وتفاصيل ذلك أيضاً معروفة، تبقى بعد ذلك مسألة كيف يمكن أن تكون العودة، هل يمكن أن تتم بمبادرة مني، تجاوزاً للمسائل المبدئية والسياسية، أي بتنازلات، أم تأتي بجبر الأضرار السياسية والمبدئية بمبادرة من أهل الشأن بالتلفزيون الذين يمثلون السلطة.. أنا طبعاً كنت أفضّل الخيار الثاني وانتظرته، ولم تكن هناك مبادرة حقيقية لإعادتي للتلفزيون إلا تلك التي قام بها سبدرات قبل عشرة أعوام، وكانت تحمل اعتذاراً صريحاً لما لحق بهاشم صديق من أهل التلفزيون، ولكن تمت ملاحقتها من قبل أهل التلفزيون أنفسهم وأُجهضت بأنه تمت سنسرتها. بعدها لم تكن هناك محاولات وأنا لم تكن لي رغبة في العودة للتلفزيون، واستمررت في المنهج الخاص بي الذي اتبعه في الإبداع وفي النضال، وهو أن الإبداع يجب ألا ينضب ولا يصمت ولا ينقطع لكونك حُرمت أو حالت أسباب بينك وبين الدخول لجهاز مؤثّر ومهم مثل التلفزيون، فكان الاستمرار خارجه، عبر جهد متواصل وإن كان أثره أقل مما لو كان في التلفزيون، وذلك عبر القصائد التي كانت تُنشر بصورة مكثّفة وكان لها أثرها وتلقفها الناس وتفاعلوا معها، بالإضافة إلى الأمسيات الثقافية والشعرية.
أردت أن أقول إنه وبسبب أن وقف أمامك حائل، ليس معنى ذلك أن تتراجع وتذهب لتجلس بمنزلك وتنتظر أن يسقط النظام.. أنا أعتقد أن النضال اقتحام، والنضال أنك تساهم في إحداث التغيير، سواء أكان تغييراً اجتماعياً أم سياسياً، وغيرها من الأشياء التي يجب أن يسعى لها المبدعون لأنهم هم من يفترض أن يتقدموا الصفوف.
* ... إذن، أنت لم تقدّم أي قدر من التنازلات؟
* لم يكن هناك سبب يجعلني أقدّم أي تنازلات سياسية أو مبدئية باعتبار أن الصراع بيني والتلفزيون احتدم حتى وصل للمحاكم في قضية الملكية الفكرية الشهيرة، بالإضافة إلى أنني أساساً قطب من أقطاب الصراع السياسي والإبداعي والفكري مع السُلطة، وهنا أشير إلى نقطة مهمة جداً وهي أنه لم يغب عن بالي أبداً أن هذه الأجهزة يجب أن تكون أجهزة الشعب السوداني، وأنا ضد النضال السلبي، ضد أن يرفض المبدع الحديث للإعلام، ويرفض المشاركة في المنابر المختلفة لمجرد وجود صلة بينها وبين الجهة التي يختلف معها، هذا في رأيي نضال سلبي يمكن أن يضيع عمر المبدع هدراً.. وأنا طبّقت هذا المنهج في مسيرتي، ويلاحظ جمهوري أن كل إنتاجي الإبداعي جاء في ظروف صعبة وفي ظل أنظمة شمولية، مثل "قطر الهم"، "أحلام الزمان"، "نبتة حبيبتي"، وحتى "الحراز والمطر" التي "سمّعوني" لها داخل المعتقل، وبعد خروجي منه عدت لممارسة نشاطي ولم أقل إن هذه أجهزة السُلطة، إلا إذا أبعدتني السُلطة نفسها مثلما حدث في التلفزيون.
أقول إن التحول الأخير لم يكن بسبب تنازلات سياسية أو مبدئية من جانبي، وليس تراجعاً عن الخط النضالي المعقول الذي يحمل قدراً من الفهم لمسألة أنه يمكن أن تبعد لسبب وترجع لسبب من دون أن تتغير الأنظمة.. أعتقد أنه يمكن أن يكون شكلاً من أشكال المبالغة والنضال الخيالي وغير الموضوعي كونك تربط عودتك لجهة ما بتغيير النظام، فالمبدع حتى لو كان مختلفاً مع النظام يجب أن يسهم بأدواته في إحداث التغيير، ويجب أن يكون موجوداً داخل أجهزة الثقافة والإعلام ليسهم من خلال ذلك في توعية الناس وتقديم قدر من الإبداع لهم، يساعد في تفجير وعيهم، والترفيه عنهم وتعزيز صمودهم في احتمال كل ما يحيق بهم من ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية.. هذا هو منهجي. وأشير هنا إلى أن عودتي لأجهزة الإعلام بعد الأعوام السبعة عشر هذه كانت عبر بوابة الإذاعة، وذلك لأنني لم أتوقف أصلاً عن الإذاعة، فقط كان تواصلي معها متقطعاً، وطوال هذه الفترة كنت أعود لها من حين لآخر بمبادرة من أهلها، وحتى أثناء أزمة ما يسمّى بـ "قضية الشعراء"، التي أوقفت فيها بث عدد من أغنياتي قبل أن أعيدها في ما بعد، استضافتني الإذاعة في عدد من السهرات والبرامج، أشهرها سهرة (آفاق) التي تحدثنا فيها عن الإبداع والسلطة، وقضايا الملكية الفكرية، وقدّمت واحداً من أهم مسلسلاتي وهو (حزن الحقائب والرصيف) في العام (2000)، وأيضاً سهرة تحدثت فيها عن المسرح والاستقلال.. واستمر تواصلي مع الإذاعة التي كنت أعتبرها جهازاً من أجهزة الشعب السوداني، ويجب أن تكون كذلك، هي والتلفزيون أيضاً.
* هل كانت عودتك للتلفزيون القومي عبر النيل الأزرق؟
* أولاً أنا لم أعد من خلال شاشة التلفزيون القومي، ودائماً كان لدي أملٌ واستعداد أنه متى ما ظهرت أي مبادرة من أي فضائية غير الفضائية السودانية سوف أعود.. لاعتقادي وإيماني بأن أية كوة وأي بصيص ضوء أو حتى "رقراق" يمكن أن تطل منه للناس، لا بدّ أن تنتهز الفرصة، وكنت أتمنى أن تسعى إليّ واحدة من القنوات المتميزة وأخص بالذكر قناة (النيل الأزرق)، وكنت دائماً مستعداً أنه وبمجرد ما طرقوا بابي فإنني سأرجع وسأعاود نشاطي من خلال (النيل الأزرق)، وكنت حريصاً على ألا تكون عودتي من خلال برنامج عادي بعد كل هذا الغياب، فالناس تريد أن تعرف لماذا غاب هاشم صديق ولماذا عاد.. لذا عندما طرحت عليّ مقدمة السهرة الصحفية والمذيعة "نسرين النمر" فكرة سهرة بعنوان (عُشرة الأيام) تحفظت عليها، وشرَحت لها وجهة نظري، فتلقفت الفكرة وسعت لها ونفذتها وثابرت في وضع محاورها، لتخرج بالفعل سهرة موفّقة جداً، رغم أنني لم أقل فيها كل شيء.. وكانت عبارة عن فضفضة وغسيل للدواخل وتوضيح وإلقاء الضوء على محاور أساسية في الغياب، وأوضحت من خلالها أنني أريد أن أختبر ما يسمّى بالتحول الديمقراطي. وكنت حتى قبل وقت قليل من بث السهرة ورغم طمأنات أسرة النيل الأزرق، "أضع يدي على قلبي" خشية أن تتم سنسرتها وإيقافها، بالنظر للتجارب المُرة التي مررت بها، ولكن في النهاية بُثت السهرة ونجحَت في إيضاح الكثير من الأشياء، وأصبَحتُ بعدها مهيأ لأن أظهر في أية فضائية أخرى، وفق شروط تجعلني أبدع من غير مراقبة أو تخوف، لأن باقي العمر لا يحتمل.
* ... والإذاعة؟
علاقتي بالإذاعة ظلت حميمة على الدوام، وجاءت عودتي الأخيرة لها بصورة مكثفّة، ورحب بي الإخوة بالإذاعة ترحيباً كبيراً عندما اجتمعت بهم، باعتبارها بيتي منذ أيام "ركن الأطفال"، وحتى لا تنقطع المبادرات كنت عملياً جداً وربطت نفسي على الفور بتنفيذ مشاريع لإنتاج أعمال إبداعية، واقترحت عليهم مشروعاً كنت أفكّر فيه منذ فترة، وهو التوثيق لرحلة إبداع هاشم صديق، منذ الطفولة وحتى الآن، وأعتقد أنه أمر مهم للغاية أن يلتفت المبدعون للتوثيق لحياتهم الإبداعية في وجودهم، حتى لا يتركوا فرصاً للناس ليجتهدوا ويتحدثوا عنهم.. وقد كان، ففي نفس يوم الاجتماع دخلت الأستديو وأعلنت عن البرامج التي سأنفذها، وبالفعل أنجزت كل ما وعدت به قبل رمضان، فبرنامج "الزمن والرحلة" يبث يومياً في رمضان، وأيضاً برنامج "سيكودراما" بدأ بثه في رمضان وسيستمر في الدورة المقبلة، أيضاً سجلت أربع حلقات من سهرة "أهل القمة" مع محمد وردي.
أيضاً جاءت مبادرة من قناة الشروق لتسجيل سهرة معهم، وبرغم مما يقال عن أنها قناة تابعة للمؤتمر الوطني، إلا أنني لم أتحفّظ إطلاقاً، فمنهجي دائماً هو: "ما هو الكلام الذي تريد أن تقوله، وليس أين تقوله".. ولو أتيحت لي فرصة لأقول كلاماً عن قضايا الأمة العربية، وأدافع عن قضاياها من خلال التلفزيون الإسرائيلي، لما ترددت، ولوافقت على الظهور عبره. لأنني أعتقد أن قيمة الكلام أن تقوله بحرية وبدون منتجة أو سنسرة، وليست قيمته في أين تقوله..
الشروق أعتقد أنها قناة سودانية، بها نفرٌ أعزاء، اختلفت أو اتفقت معهم، من شباب خريجي المعهد، وتلاميذ وأبناء وأصدقاء.. وبمجرد أن بادروا واتصلوا بي لتسجيل أشعار وسهرة "خيمة الشروق" وافقت وذهبت إليهم، وخرجت سهرة متميزة جداً. وهذا هو المنهج الذي عنيته.
* .. وكيف تجاوزت خلافك مع التلفزيون القومي؟
بعد العودة من خلال كل الوسائط التي ذكرت، تبقّت قناة واحدة تمثل "مشكلة" بالنسبة لي، لأنها مرتبطة عندي بمرارات وبرواسب، ومرتبطة في أذهان الناس بأنها قناة عنيفة جداً مع كل من يختلف معها ومع النظام، وهذا له علاقة بسيرة الخلاف بيني وبين الفضائية السودانية، وهو الخلاف الذي "سيّسوه" هم، دون قصد مني أن يكون سياسياً، وتم إبعادي على هذا الأساس.. مؤخراً قام مدير التلفزيون محمد حاتم بعمل مبادرة غير مسبوقة، اختلفت أم اتفقت معه، وبغض النظر عن تنظيمه السياسي، إلا أنه طرق بابي وبادر بالمجيء إليّ بمنزلي، وطرح مبادرة جميلة جداً، وأوضح لي أولاً بأن كل ما حدث لي من قِبل التلفزيون لم يحدث في عهده، وبالتالي هو غير مسؤول عنه.. وأكد أنه سيكون سعيداً لو عاد هاشم صديق وكل المبدعين الذين توقفوا عن التعاون مع التلفزيون، وأشار إلى أن التلفزيون يحتفل هذه الأيام باليوبيل الذهبي له، وأضاف بأنه يريد أن يكون هذا الاحتفال احتفالين، احتفال باليوبيل الذهبي، واحتفال بعودة هاشم صديق وكل المبدعين للتلفزيون.. وقال إنه على استعداد للاعتذار وتهيئة كل المعينات التي تمكّن المرء أن ينتج ويبدع، من مناخ صحي أو فنيات أو إنتاج للبرامج. ورغم المرارات والتحفُّظ، لكن لو لم أستجِب لهذه المبادرة أو أختبِرها، يبقى هذا وسواساً قهرياً، وحتى لو كانت لهذا الوسواس أسبابه الموضوعية، يبقى "مبالغاً فيه".. كان لا بُدّ أن أكون شجاعاً بما يكفي، وأقوم بِرد الزيارة للأخ محمد حاتم وأخترق حاجز أنني لم أدخل بوابة التلفزيون منذ سبعة عشر عاماً، وقد كان. وعند دخولي لمبنى التلفزيون فوجئت بأن حاتم جهَّز احتفالاً بمناسبة عودتي حضره أهل التلفزيون والمكتب الصحفي وتم تصويره، مدير التلفزيون تحدث مرحباً وواعداً بتوفير المناخ الصحي والحرية، وكل المعينات التي تساعد على تقديم الإبداع. ثم تحدثتُ وكنتُ حريصاً جداً أن أقول إنني عائد للتلفزيون تجاوزاً لمرارات، لكني عائد من دون أي تنازلات سياسية أو مبدئية، وهذا الحديث ذكرته أيضاً في الإذاعة وفي النيل الأزرق. لاحظت أن أهل التلفزيون كانوا حريصين جداً ألا يكرّروا الأخطاء السابقة، لدرجة أن مسؤولاً بقسم الأخبار طلب مني بعد تسجيل الاحتفاء وكلماته، أن أذهب معه لمراجعة الشريط، وتحديد ما أريد أن يتم بثه في نشرة الأخبار الرئيسية. وأوضحت له بأنه لا داعي أن أذهب معه، فقط نبهته لضرورة بث الفقرة التي قلت فيها إنني "راجع للتلفزيون من دون أي تنازلات سياسية أو مبدئية"، وبالفعل عندما شاهدت الخبر في النشرة الرئيسة وجدتهم بثّوا حديثي كما هو وبكل شفافية. وأعتقد أن هذا نوع من الاعتذار ورد الاعتبار.. أقول إن بعض الناس يسيطر عليهم "وسواس سياسي قهري"، ويصوِّروا لك بأن هذه "مصيدة" من التلفزيون وهذا شغل سياسي متقدّم، ووو..... وأرد عليهم بالقول إنه ما دامت الأشياء أمامك واضحة بهذا الشكل، ومتاح لك أن تقول ما تريد، فيجب ألا "تسرح" في توقُّع السوء. وألا تعتقد أن الآخرين أذكى منك، ويجب أن تكون موضوعياً. يكفي أن أقول للشعب السوداني "أنا راجع لأجلكم أنتم، وليس لأنني قدمت تنازلات مبدئية أو سياسية"، ما الذي يجعلني متوجّساً إذن؟ ولماذا لا نترك المسألة للاختبار.. هذا كل ما حدث حتى الآن، ودعونا ننتظر.
* ما هي البرامج التي ستعود بها لشاشة الفضائية السودانية، ومتى سيراها المشاهد؟
* اتفقت مع مدير التلفزيون على تقديم برنامج (دراما 2000) بالتصور الجديد، وأيضاً واحد من أهم مسلسلاتي وهو (الخروج عن النهر) الذي آمل أن يكون دفعة للدراما السودانية، وسأجتهد فيه للاستفادة من خبراتي ومن تجربة مسلسل (طائر الشفق الغريب) حتى يخرج متميزاً.
* الكرة الآن في ملعب التلفزيون، أنا قلت ما عندي، واتفقنا على أشياء، وعدت لمواصلة نشاطي في المنتديات وفي القنوات الأخرى، أنا أريد أن أعود للفضائية السودانية، لكن أيضاً لا أريد أن أنتظر طويلاً، وسؤالي لمدير التلفزيون بعد مبادرته الجميلة وترحيبه بعودتي، هو أنني محتاج لوجود شخص ينسّق بيني وبينك لمتابعة تنفيذ ما اتفقنا عليه، فأنا لا يمكنني أن آتي إليك مرة ثانية وأطرق بابك وأقول لك "عايزين نبدأ".. لا بد من وجود تنسيق، وأفضّل لو كان التنسيق بيننا مباشرة دون وسيط، حتى لا نعطي فرصة للبعض للدخول بيننا، فأنا أكون مثالياً جداً لو اعتقدت أن عودتي هذه ستفرح كل الناس بالتلفزيون، ففي رأيي لا زالت هناك قوى شر وعدوان، ولا زال هناك من لهم الرغبة في "الحفر" للآخرين. لكن في النهاية طالما المبادرة جاءت من قيادة التلفزيون، فيجب أن نعطيها فرصتها، ولكن حتى نؤمّنها يفترض أن يتم توقيع عقد بيننا، حتى لا نكرر تجاربنا السابقة، وحتى لا تحدث في المستقبل مغالطات مثلما حدثت سابقاً، وهذا الأمر في صالح الطرفين.. أيضاً يفترض أن يتم تحديد مُخرج العمل بصورة رسمية، وقد علمت أنه سيكون الأخ عبادي محجوب، الذي أخرج دراما 90، ولكن أريد أن يُعلن عنه بصورة رسمية، حتى يذهب إلى المدير ويحدد معه موعداً و نجلس معاً لنناقش تصوراتنا للبرنامج ونبدأ التنفيذ.. أما بالنسبة لمسلسل (الخروج من النهر) فهو جاهز تقريباً، فقط يحتاج لبعض اللمسات الأخيرة وبعض "الشغل" في السيناريو.
بقيّ أن يعرف القرّاء والمشاهدون أنني جاهز الآن للعمل، وقد جهّزت (12) حلقة من برنامج (دراما 2000)، ومثلما قلت من قبل في الإذاعة إنني جهزت (30) حلقة من "الزمن والرحلة"، جئت ونفذتها بالفعل في موعدها.. والآن المسلسل وحلقات (دراما 2000) جاهزة، فقط أنتظر الضوء الأخضر من التلفزيون، ورقم تلفوني موجود معهم، وأتمنى أن يتحرك التلفزيون حتى لا يترك الأشياء "تبرد"، وأكون كاذباً لو قلت إنني سألتزم بما قلته في نشرة الأخبار، سألتزم به فقط إذا شعرت بأن الإخوة في التلفزيون متحمسون لي ولعودتي أكثر مما قالوه، بمعنى أنه يجب أن يسعوا حتى نبدأ و"نشتغل"، كنت أتمنى أن يتم توقيع العقد والتجهيزات خلال رمضان، حتى نبدأ التسجيل عقب نهايته مباشرةً، ويبدأ بث البرنامج، وأيضاً حتى يكون لي اتصال بالتلفزيون بحكم وجودي في التسجيل، لنستفيد منه في التنسيق لعمل المسلسل.. أتمنى أن تسير الأمور بخير، لأنه لو حدثت أي إشكالات، وتوقفوا عند محطة المبادرة فقط، وعند الحديث الذي قالوه في نشرة الأخبار وفي برنامج (عزيزي المشاهد)؛ سأكون مضطراً وأسعى لمكان آخر، فالفضائيات الآن كثيرة ومتعدّدة، وليست كما كانت في السابق، التلفزيون القومي فقط، أو كما كان يعُرف بـ "عوينة أم صالح"!.. أنا لا أقول هذا الحديث بغرض استثارة غيرتهم مثلاً، أو أن أحسسهم بأنهم ليسوا وحدهم في الساحة، أنا أريد أن أتعامل بشفافية وأدب مع مبادرتهم، لكنني مطالب أيضاً بأن أكسب الوقت، فيكفي أنني غبت سبعة عشر عاماً، أريد أن أعمل، والآن بدأت تنتابني حُمّى الإبداع والإنجاز، وأصبحت أشارك كل يوم في إذاعة أو فضائية أو ندوة ثقافية. أتمنى أن يلتقط الإخوة بالتلفزيون حديثي هذا ويسعوا، حتى نثبت للناس أننا بقدر المسؤولية.
أخيراً أقول لك يمكنني أن أوائم بين أن هذه أجهزة الشعب السوداني، وفي نفس الوقت أكون مسؤولاً وأعرف قيمة الحرية والمسؤولية، وأنني لم أرجع للأجهزة حتى أكون هتافياً وأخصص البرامج والمسلسلات ضد النظام بالمعنى التقريري، لكنني أسعى من خلال برامجي ومسلسلاتي إلى الإسهام من جديد في تفجير وعي الشعب السوداني، وتعزيز صموده، والترفيه عنه، وفي نفس الوقت أبصّره بما يحيق به من ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية، بلغة الإبداع الجميل، وليس بالهتافية والمظاهرات والحدّة.
**********
الشاعر هاشم صديق في حوار العودة 2-2
أهل الدراما تسبّبوا في موتها بالحسد والغيرة
"الزمن والرحلة" أعاد لي الثقة.. وأتابعه يومياً
لو لم يكن "عضمي" قوياً لدمّرني النقد المتحامل
التحول الديمقراطي كلام نظري، و"الكوابيس تأتي في البشاير" ر
*
قلت إنك أكثر سعادة لتفهم جمهورك أسباب عودتك، هل يخشى هاشم صديق جمهوره في مسيرته الإبداعية؟
* نعم.. أنا أخشى الجمهور في مسيرتي الإبداعية باعتبار أنني أصلاً أعبّر عنه ، أعبّر عن أحلامه ورؤاه وكوابيسه وقضاياه، ودائماً أتمنى أن يرضى عني، ليس بالباطل ولكن بأن أكون مبدعاً ملتزماً ونظيفاً، وبعيد عن الشبهات والبيع والشراء، وبعيد عن كل الأشياء التي لا يحبها أن تكون في مبدعيه. وفي نفس الوقت أكون مبدعاً متطوراً وأقدّم شيئاً مختلفاً في كل مرّة ولا أكرّر نفسي. وأكون كثير الشفافية في مناقشة المسائل، كثير الموضوعية، أوازن بين الحرية والمسؤولية، وأبدع في هذا الإطار. وأعتقد أن المبدع الذي لا يخشى جمهوره، يغالي في النظر لذاته، فلا بد للمبدع أن يلتحم ويتصل بالآخرين، لذا أنا دائماً أتسقّط ردود أفعال جمهوري عبر ما يتاح لي من شرائح، سواء كان عن طريق الهاتف أو في الشارع، أو في المنتديات، أو حتى في الأسواق والأحياء.
وكنت سعيداً جداً لردود أفعال الناس حول حديثي في سهرة النيل الأزرق، والبيت السوداني، وسهرة الشروق، فهي تعتقد أنني اتخذت القرار الصحيح، وهي تفهم تماماً لماذا غبت، ولماذا عُدت الآن. بل أظهروا لي أنه حتى ولو غِبت مرة ثانية فإنهم سيتفهمون الأمر دون أن أحتاج لشرحه لهم.
لكل ذلك أقول لك إنني مسخّر حياتي وأدواتي من أجل هذا الجمهور الذي هو "الشعب السوداني"، لذا لا بُد أن أخشاه وأهابه وأتوجّس منه أيضاً. وأهم شريحة في هذا الجمهور بالنسبة لي هم البسطاء، الذين يصادفونك في الشارع وفي الأسواق، وأكون حريصاً جداً على الإستماع إليهم تحت أي ظرف، حتى لا يتكوّن لديهم أي انطباع سيّئ عني، وبالتالي أدفع الثمن غالياً جداً.
* هل تعتقد أن غيابك الطويل عن جمهورك يمكن أن يؤثّر على "لياقتك الإبداعية"؟
* بصراحة هذا الأمر كان يمثّل لي هاجساً بالفعل، فبرغم أن إبداعي كان متواصلاً طيلة فترة غيابي، من خلال المنابر الثقافية أونشر قصائدي بالصحف، وبعض المشاركات المتقطّعة بالإذاعة، إلا أن العمل الإبداعي المنتظم والراتب الذي يحتاج لتركيز أكثر وإبداعية عالية، غبت عنه لفترة طويلة، لذا عندما دخلت الاستديو لتسجيل أول عمل كبير بعد الغياب، وهو حلقات "الزمن والرحلة"، أحسست برهبة، وسألت نفسي: "هل سأكون قدر المسؤولية؟" ، خاصة أن البرنامج صعب و"خطر" وبه تفاصيل كثيرة جداً، باعتبار أنك ستكون الراوي والمحلل، ومن سيحدّق في الأحداث ويؤشّر عليها، ويفترض أن تكون ملماً وحافظاً لكل التواريخ، وألا تظلم الآخرين ولا تظلم التاريخ، وتكون دقيقاً في أن تقدّم سيرة ابداعية متميزة في شكل طرحها، واختيار النماذج المناسبة من شعر ودراما لكل مرحلة..
ولكنني فؤجئت كما فؤجئ مخرج البرنامج بأنني سجّلت ثلاث ساعات متواصلة بدلاً من ساعتين، وسعدت جداً بذلك فكأنما تهيأت لي الظروف من أول وهلة لاستعادة ثقتي بنفسي، ووجدت نفسي أقول كلاماً مرتّباً وبتركيز عال، وتفاصيل دقيقة وكثيرة، وأعتقد أن ما ساعد على ذلك هو أنني كنت مواصلاً في التفكير والكتابة والنقاش، ما كان ينقصني فقط هو عملية اختبار لياقتي الابداعية داخل جو الابداع نفسه.
* ماذا أردت أن تقول من خلال برنامج "الزمن والرحلة" عبر إذاعة البيت السوداني؟
* "الزمن والرحلة" كان من أصعب الامتحانات بالنسبة لي في عودتي الأخير، وهو في اعتقادي برنامج خطير أتابعة الآن يومياً مع الآخرين بالاذاعة، ولو كانت هنلك إعادة له أكثر من مرة لما فاتتني حلقة منه، فمن خلاله أكتشف كثير من الاشياء عن نفسي، وأن رحلتي الطويلة من الابداع تستحق بالفعل أن يُوثّق لها، ليس لأنني مبدع متميز أو عبقري، ولكن فقط لأن حياتي الابداعية والخاصة والعامة حافلة بالكثير جداً من الأحداث، وهي نفسها رحلة شيقة وبها الكثير من المطبات والمحاور، أتمنى أن يستمتع بها الناس ويستفيدوا منها.. وأعتقد بأنني كنت قدر المسؤولية وكان ضميري مستيقظاً في أن أنصف الآخرين وأنصف زمني وجيلي، وألا تكون المحاكمات للآخرين فقط، بل لنفسي أيضاً، حيث حفلت السيرة بنقد الذات في بعض المحطات، وبها قدر من الموضوعية والتأمل، وأنا سعيد جداً أن تكون عودتي من خلال "الزمن والرحلة"، وأنجزتها بنجاح، وهذا بالنسبة لي أفضل من أن أعود بمسلسل درامي. فالناس تتابع الآن شيئاً مختلفاً، فلأول مرّة يوثّق مبدع حياته بهذ الصورة، وأتمنى أن يكون في ذلك تشجيع للمبدعين الآخرين ليوثّقوا حياتهم وتُحفظ في مكتبة الاذاعة السودانية، وهي مكتبة أكاديمية وإبداعية، أعتبرها أخطر من مكتبة دار الوثائق المركزية.
* هل يمكننا اعتبار عودتك للتلفزيون مقياساً لاتساع مساحة الحريات؟
* أنا اعتقد أن العودة اختبار لمساحة الحرية، واختبار للعلاقة بين النظري والعملي، الكلام الجميل الذي قاله مدير التلفزيون عند استقبالي، والاختبار العملي في أن ترى هذه المشاريع النور وتُنجز بعون الطرفين، والاستفادة من التجارب السابقة بعدم إعطاء الفرصة للآخرين الذين يمكن أن يستفيدوا من ورقة السياسة في الغيرة الابداعية، لذا لا بُد ان تنتبه قيادة التلفزيون لهذا الأمر حتى لا يحدث تراجع مرة ثانية، فما تبقّى من عمر لا يحتمل، هذا غير أن مسألة تكرار الوقوف والعودة صار أمراً ممجوجاً. واذا حصلت أي ظروف مثل هذه واضطريت أخرج من الفضائية السودانة، فلن أعود إليها ثانية أبداً، ويمكن أن أذهب إلى قنوات أخرى، وهي متوفّرة.
ولا يكفي أن يقول الناس إن هناك تحوُّلا ديمقراطيا، وفي سهرتي النيل الأزرق والشروق كنت أقول "ما يُسمّى بالتحول الديمقراطي"، ليس تهكماً، ولكن حذراً، فقد تعودنا دائماً بأن الكوابيس تأتي في البشاير، بمعنى أننا قبل أن نحتفي بها ونستمتع بها أو نجني ثمارها، تنقلب لعكسها تماماً، العودة في رأيي اختبار للتحول الديمقراطي، حوار بين الرأي والرأي الآخر، وليس بين السلطة والمعارضة، الحوار بين المبدعين من خلال أعمالهم، الحوار بين شرائح الشعب المختلفة، الحوار في القضايا العصية، فهو اختبار لضيق الصبر، أو وساع الصدر، واختبار لقيمة الحرية والموضوعية، نحن نسعى لإرساء هذا القيم حتى نسهم في بنائه، فالوطن لا يُبنى بالمعارضة والحكومة. الشعب في رأيي يحتاج لحوار فكري.. أعود لأقول إن عودتي للتلفزيون خاضعة للاختبار، والحذر مطلوب، وأيضاً يجب عدم الافراط في التفاؤل، وعدم الافراط في التشاؤم أيضاً.
* هل ترى أن قصائدك الشعرية التي واظبت على نشرها بالصحف، كانت كافية لإيصال صوتك وقراءتك للمشهد السياسي والإبداعي بشكل عام؟
* بالطبع لم تكن كافية لأنه ليس كل ما له علاقة بالسياسة والمجتمع والاقتصاد يمكن أن تحتمله القصيدة في هذا الاطار الضيّق، فأنجح الصحف السودانية ومهما كان توزيعها عالياً لا تصل لملايين الناس، مثلما يصل التلفزيون والاذاعة، أي أن أثر القصيدة يكون محدودا ، لكن يبقى هذا جهد المُقِل، أو الجهد في إطار المتاح، وهذا الأمر جعل قصيدتي دون أن أقصد تحتمل الدرامي والشعري والسياسي والفكري، لأنه لم تَعُد من وسيلة غيرها، بالاضافة إلى أن هذه القصائد كانت تمثل خيط تواصل بيني وبين الشعب، وغطّت بعض المسافات والثغرات في التواصل ولكنها قطعاً لم تكن كافية.
وبخلاف القصائد استعضت أيضاً بشكل آخر وهو المقالات القصيرة في بعض الصحف، مثل "كوابيس ورؤى"، لجأت فيها للحوار الدرامي في النقد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وأعتقد أنه كان ناجحاً. ولكن تظل الفضيلة الوحيدة لمثل هذه الكتابات، هي فضيلة التواصل، حتى لا تكون بعيداً ويصيبك اليأس، ويجب أن تستفيد من أي بارقة أمل مهما كانت محدودية أثرها وتأثيرها لا بُد أن تبتهلها وتستلهمها وتتواصل مع الآخرين.
* مسلسل "العودة إلى النهر" الذي أعلن التلفزيون عن إنتاجه لك، هل تعتقد بأنه سيسهم في إعادة الروح إلى جسد الدراما من جديد؟ ولماذا في رأيك ماتت الدراما التلفزيونية؟
* في تقديري الخاص أن السبب في غياب الدراما التلفزيونية، غير ضيق مساحة الحرية الذي جاء مع "شِدّة" الانقاذ في سنواتها الأولى واستمر فترة طويلة، ضيق الأُفق الابداعي والفكري لدى المسؤولين الذين تناوبوا على قيادة التلفزيون، لم يفهموا طبيعة الدراما، وكانت لهم تحفُّظات على طريقة طرح الدراما للنماذج السلبية، ولكن للأمانة هذا لا يمنع القول إن الدراميين أنفسهم كان لهم القِدح المعلّى في تراجع مد الدراما التلفزيونية، لسبب بيسط جداً لمسته عند تقديمي لمسلسل "طائر الشفق الغريب"، وهو انتشار الحسد والغيرة الابداعية بينهم بصورة كبيرة، فمثلاً إذا جاءت مجموعة معينة لتقدّم عملاً درامياً، تصتدم بمجموعة أخرى تتخندق ضدها، لأسباب غير موضوعية تحرِّكها الغيرة الابداعية، دون أن ينتبهوا إلى أنهم كأنما يطعنوا أنفسهم، أو ينحروا قبيلتهم، أو يقتلوا جذوة ابداعهم هم انفسهم، ويقوموا دون أن يدروا بحفر "حُفَر" للدراما التلفزيونية. لذا أرى أن الدراميين أسهموا بصورة أو بأخرى في إلحاق هذا الأذى الجسيم بالدراما.
بالنسبة لمسلسل "الخروج من النهر" لا بُد أن استفيد من تجربتي في مسلسل "طائر الشفق الغريب"، فهذا الأخير لم يكن بالسوء الذي تحدثت به الصحافة الفنية، ولا الضجة التي قامت ضده، سأستفيد من بعض التجارب، مثلاً لن أعتمد على نفسي في السيناريو، وسأراجعه مع بعض الكُتَاب المتميزين، وسأحفظ لهم حقهم في المسلسل، حتى أكون مطمئناً لأهم "عضم" في العمل، وهو النص. حانب آخر وهو لا بّد من توفر المعينات الفنية المتطورة، حتى يكون خطوة للأمام في الدراما التلفزيونية بشكل عام، وهو بالنسبة لي شخصياً أعتبره واحدا من أعمالي المتقدّمة التي خرجت بها من الإطار المحلي، إلى الإطار الإقليمي والعالمي، بمعنى أن موضوعه هو خروج الإنسان من نهره من وحضارته، وهو أمر يمكن أن يحدث لأي شخصية في العالم، من خلال قصة محبوكة وجيدة. وسيتم تصويره بين لندن والخرطوم. وواحدة من التحديات أيضاً من الذي سيخرج المسلسل؟ فأنا قررت طوعاً واختياراً أن أركّز على النص وأترك الإخراج لمخرج آخر، يمكن أن أكون مساعداً له وأتابع معه تفاصيل العمل وأكون عوناً له.. أيضاً "كاست" الممثلين لا بد أن يكون دقيقاً، وهناك شخصية معينة في العمل تؤرقني جداً، لأنها معقدة ومركبة للغاية، وهي "سميرة"، فتاة بريطانية من أصل سوداني لا زلت محتاراً في من سيقوم بدورها.
عموماً أعتقد أن هذا المسلسل يمثل تحدّياً بالنسبة لي، ولن نستعجل في تنفيذه، فمسلسل "طائر الشفق الغريب" تم تصويره ومنتجته في ثلاثين يوماً فقط.
أتوقع أن يستغرق التصوير والانتاج على الأقل ستة أشهر حتى يكون جاهزاً للعرض، ولابد أن نكمله ليتم عرضه قبل نهاية هذا العام، لأن مسلسلي القادم لرمضان المقبل سيكون مسلسلاً كبيراً هو (حزن الحقائب والرصيف)، الذي يناقش قضية اجتماعية مهمة جداً، هي التحول الذي حدث للشباب، وأثر الممنوعات في سلوكهم، وهو يعالج قضايا ساخنة في مجتمعنا.
* أما زلت تعتقد أن النقد الفني لازال يسجل غياباً تاماً عن الساحة؟
* دائما أقول وهذه حقيقة وليست أشياء من خيالي، إنه لا يوجد نقد من غير معرفة، بمعنى أنني عندما أريد الحديث عن أي شيئ لا بُد أن تكون لدي معرفة به، لذلك كنت أقول للشباب الصحفيين في نقاشاتنا، إنه لا بُد أن تقرأوا، بدلاً من التمسك بتبرير أن "النقد هو انطباع، وأن الانطباعية مدرسة معروفة"، ليس بالضرورة أن يتخصص الواحد منهم في كلية الدراما وقسم النقد، لكن على الأقل يجب أن تعرفوا عن الدراما والشعر والاشياء التي تنتقدونها، حتى تقدموا شيئاً مفيداً لمن تنتقدوه، وللقرّاء أيضاً لزيادة وعيهم ودرجة تذوّقهم.
بشكل عام أرى أن النقد الفني يتمايز، وبه الكثير جداً من الرديء، وأقول ذلك من خلال تجاربي، فلدي "شنط مستّفة" من البذاءات والشتائم والتحامل، وبها كثير من النقد غير الموضوعي، وأتحدث هنا من منظور الناقد، فأرى فيه أشكالا من التدميرية، وأعتقد أن هاشم صديق لو لم يكن قوياً في "عضمه"، وله تجارب كثيرة جعلته قادراً على امتصاص المرارات، لما استطاع أن يقف "على حيله"، ولكن هناك مبدعون يمكن أن يدمّرهم مثل هذا النقد، ومن الممكن أن يغيّبهم هذا النقد قبل أن تغيبهم السلطة. يعني بكل بساطة إذا كان المبدع يعاني من أمراض مثلاً، يمكن أن تقتله مقالة، ودائماً أضرب مثلاً بالمبدع صلاح عبد الصبور.
عموماً لا نريد تهويل الاشياء، ولكن نريد النقد الذي يأتي عن محبة، حتى لو لم تكن محبة للمبدع تكون محبة للابداع، وللوطن. فالمبدعون مخلوقات نادرة يجب أن نحافظ عليهم ونعينهم بتقديم النقد المفيد.
وأعتقد أن برامج مثل دراما 90 يمكن أن تسهم في تطوير أدوات النقاد إذا استمعوا لها بتواضع، ليستفيدوا من نقد الدراما في البرنامج، وفي رأيي أن المشاهدين تابعوا دراما 90 ولم ينسوها رغم غيابها كل هذه السنوات، ليس لانني عبقري مثلاً، ولكن لأنني كنت أبسّط لهم النقد، وأشرح لهم بأنه شيئ بسيط للغاية، وهذا ما جعل الكثيرين يشاهدون الأعمال الدرامية بعين مختلفة بعد متابعة البرنامج، وهذه هي قيمة النقد. فليس مهمة النقد أن يقول إن الاشياء جيدة أو سيئة، ولكن من خلال التحليل والدراسة يمكن أن يقول كل هذا من غير أن تكون الأشياء مؤطّرة ومحددة. أتمنى أن تكون دراما 200 خطوة للأمام لأنه برنامج غاب فترة طويلة، ويفترض أن يكون هاشم صديق في هذه الفترة تطور أكثر كناقد، وزادت قدرته على الشوف والاستلهام بالاضافة إلى أنه يعود في وقت تطورت فيه الأشياء، بخلاف الزمن الذي قُدمت فيه دراما 90، وأتوقع له مشاهدة أعلى.
Gamal Alhaj [jamalkora8@hotmail.com]