حين ينتحب الوطن

 


 

 


الصحافة

أبصرته فى ساعة متأخرة من نهار امدرمانى قائظ الحر وأنا خارج من مقابر احمد شرفى بعد أن شاركنا فى تشييع أحد الراحلين . الرجل كان من الرعيل الثانى من أبكار الخدمة المدنية فى هذا الوطن ...تسنم أرفع الوظائف وعُرف بالطهر والإستقامة الى أن خرج للمعاش أواخر السبعينات . كان عندما أبصرته يتوكأ على عصاته وأنفاسه الواهنة تكاد تتقطع وقامته تنوء باثقال السنوات الطوال التى تجاوزت الثمانين . أوقف ركشة وراح ( يفاصل ) السائق فى جنيه أو ربما جنيهين فأنصرف عنه السائق الشاب وتركه فى تلك الرمضاء اللاهبة وهو يشير للحافلات المسرعة .
تقدمت اليه وعرّفته بنفسى وعرضت عليه أن أُقله بعربتى المتواضعة فوافق شاكراً . فى الطريق راح يحدثنى عن محطات عمله الرفيعة فى الخدمة المدنية وعن خروجه للمعاش بعد أن كابد وجاهد حتى بنى بيتاً مستوراً ، وأقسم أن كل طوبة وكل ذرة رمل فى ذاك البيت هى من كد وشقاء السنوات الطوال ومن السلفيات ومن ميراث متواضع آل اليه من والده .كبر الأبناء والبنات وتوظفوا وتزوجوا وأستقلوا بمساكنهم ولكن جاءت محنة الصالح العام ..طالت المحنة إبنه البكر وأثنتين من بناته العاملات الى جانب أحد أزواج البنات ، فبذل ذاك البيت المستور لإيواء فلذات كبده بعد أن إقتطع غرفة  وبعض من الحوش لكل واحدة من تلك الأسر الصغيرة والحبيبة الى نفسه .
 ومضى الرجل الكبير يقول لى بصوته المتهدج وهو يستغفر الله ( والله يا إبنى لقد بت أسأل الله كلما قدمت لهذه المقابر لوداع أحد الأحباء أوزملاء العمر..أسال الله أن يستوى جسدى فوق ذاك العنقريب بدلاً عن أن أكون فى زمرة المشيعين ...إن حرصى فى القدوم للمقابر رغم وهن الصحة ووعورة الطريق أصبح مداراةً  لعجزى عن الوفاء ببضع جنيهات أضعها فى (كشف) المأتم وفى سرادق العزاء للراحلين من الأحباب والخلان الذين تخطفهم الموت فرحلوا وتركونا نتجرع الأسى والهوان ووحشة الحياة...وما كنت أحسب أن يأتىّ علىّ يوم أتوارى فيه عن هذا الواجب ... ما عاد الوطن وطناً ولا الحياة حياة ...إن قلبى يتقطع كل يوم وتذبحنى هذى الحياة بنصالها وأنا أرى أولادى وبناتى..أحفادى وحفيداتى فى هذا الكرب والشقاء وأنا لا أملك أن أمد لهم يدى ، اللهم إلا من حفنة جنيهات هى كل معاشى تقتسمها معهم أدويتى وعلاجى...ويحزننى ويكربنى أكثر أن أرى القيم الجميلة والتى كانت رحيق حياتنا تتوارى فى هذا الوطن الحبيب فأضحى اللصوص تجاراً والمرتشون سادة ..الأشراف فى ضعة والاقزام يتطاولون ...لقد ودعت بالأمس إبنتى الصغيرة وزوجها وأطفالها بعد أن هاجروا ليهيموا على وجوههم فى عواصم الدنيا ووحشة المنافى بحثاً عن عمل ..أضحى البيت قبراً فى نظرى برحيلهم وأنا أفتقد حفيدتى ( أمل ) ذات الخمسة عشر ربيعاً وهى ترشق جسدى كل صباح بـ (الانسولين ) وتضاحكنى فلا أحس بالوخز ...لقد كنت أحسب أننى أملك بيتاً ولكن بعد أن تغرّب وتشرّد بعض الابناء أدركت أنى لم أعد أملك هذا البيت ...تملكه الحكومة وما أنا سوى مستأجر يسدد الإيجارة بفواتير الكهرباء والمياه والنفايات والعوائد...جربت أن أقتطع صالون البيت لأجعل منه دكاناً يعيننى فى هذا الكرب والشقاء ،وأجرته (كنتيناً) علّ أجرته تعيننى على نوائب الدهر ..ذاك الصالون الذى مازالت جدرانه تحتضن أغلى ذكريات العمر وضحكات الاحباء من الاصدقاء الذين مضوا سراعاً ...ولكنى أقفلته بعد بضعة أشهربسبب الضرائب والزكاة ).
سكت الرجل وسكت أنا . راح يمسح نظارته بأكمام جلبابه...بعد فترة من الصمت الطويل سألته : هل تاذن لى أن أكتب كل حرف قلته ؟ أجابنى : ( أكتب ماتريد وحتى لو أردت أن تكتب إسمى ووظيفتى السابقة لك أن تفعل ...لقد تعلمنا أن الفقر ليس عيباً..العيب كل العيب هو الإفقار وأستباحة المال العام ..ربما هناك سبب واحد يحتم ألا تكتب إسمى ، فأنا بعد هذا العمر يؤذينى أن ألتمس حسنة أو صدقة ممن تسبب فى هذا الكرب والشقاء . فقط أرجوك أن تختم ما تكتبه بحديث المصطفى (ص) حين قال : من ضار مسلماً ضاره الله ،ومن شقّ على مسلم شقّ الله عليه .)
نزل الرجل منى فى محطة الشهدا بعد أن أقسم ألا يكبدنى إيصاله الى باب بيته ...بيت الحكومة .  

fadil awadala [fadilview@yahoo.com]
 

 

آراء