الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون -10-

 


 

 


العداء المُنظم للأستاذ محمود ومشروعه

في عام 1968م أهدى الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م) كتابه: زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان: 1. الثقافة الغربية 2. الإسلام، إلى الشعب السوداني، قائلاً: (إلى الشعب السوداني: الذي لا تنقصه الأصالة، وإنما تنقصه المعلومات الوافية.. وقد تضافرت شتى العوامل لتحجبه عنها).

آثار محكمة الردة

استطاعت أجهزة مصر عبدالناصر أن تحوِّل المعارضة التي قادها الأستاذ محمود لزعامة عبدالناصر للعرب، ومواجهته لدعوة القومية العربية، إلى مواجهة محلية وإقليمية ضد الأستاذ محمود وضد مشروعه. لقد أشرت سابقاً، إلى قول الأستاذ محمود في محاضرته: "بيننا وبين محكمة الردة"، التي نُظمت بمدينة عطبرة، عام 1969م، وهي محاضرة مسجلة بصوته، في إجابته الموجزه على أحد حضور الندوة، قال الأستاذ محمود: (بإيجاز الإجابة على الأخ عبدالله أنو طرف من كتاب الشرق الأوسط، رأينا في مشكلة الشرق الأوسط فيما يخص زعامة جمال للعرب هو السبب في محكمة الردة). تحكم الحكم الصادر من محكمة الردة عام 1968م، في تعاطي معظم مثقفي السودان وعامته مع الأستاذ محمود ومع مشروعه وتلاميذه. كانت محكمة الردة سابقة خطيرة، من حيث هي محاكمة للفكر والحرية، ووأد للمبادارت الخلاقة، وتغييب للوعي بالذاتية السودانية. وسابقة خطيرة أيضاً، من حيث هي مكيدة سياسية، استهدفت عقل سوداني كبير وجبار، بسيناريو أجنبي التصميم والصنع. كان جزء من أهداف السيناريو إشعال الحماسة المحلية لدى بعض المثقفين والفقهاء لتنفيذه، ولدى عامة الناس لمناصرته، وعزل الأستاذ محمود سياسياً وفكرياً عن القاعدة الشعبية. كان الأستاذ محمود صاحب مشروع فكري كبير، طرح مبادرة محلية خلاقة، تنطوي على وعي عميق وباكر بالذاتية سودانية، وبالتزام إنساني صادق. مثَّل سيناريو محكمة الردة الأجنبي، غريباً وافداً، ولقي حماسة كبيرة في الأخذ به، والقبول بتنفيذه. إن التكوين الفكري والوجداني في السودان، عُرف بالثقة في الغريب الوافد والايمان والاعتقاد بما يجئ به. إن رفض المحلي والحماسة والإيمان بالغريب الوافد والإعتقاد فيه، أمر له جذر تاريخي في التراث الإنساني، ولكن تجلى في السودان بشكل واضح مع مرحلة تكوين الممالك الإسلامية: سلطنة الفونج (1504م-1821م)، ومملكة تقلي (1530م-1821م)، وسلطنة الفور (1650م-1916م)، ومملكة المسبعات (1660م-1750م). إذ كان للغريب الوافد/ الحكيم دور جوهري في قيام تلك الممالك والسلطنات. كان يُحدث التغيير ويحرك الأحداث ويصنعها، وكانت له ملامح وخصائص معينة، ورد ذكرها في الكثير من مصادر ومراجع الدراسات السودانية. إن ظاهرة الاحتفاء بالغريب الحكيم، ظاهرة ماثلة في الموروث الشعبي السوداني، ومترسبة في فكر ووجدان الإنسان السوداني. كنت قد تعرضت لظاهرة الغريب الوافد/ الحكيم في حلقة من حلقات سلسلة مقالاتي: النُّخْبَةُ السودانية: المزاج الصَّفْوي والصِّرَاع العقيم (9). تحدثت فيها عن الجذور التاريخية لظاهرة الغريب الوافد، وذكرت أن الناس في السودان يحتفون كثيراً بالغريب، ويأخذون بنظرياته، ويعملون برأيه، ويولونه أمرهم، وينتظرون منه إحداث التغيير. مقابل ذلك، يجد المحلي من المبادرات الخلاقة والأطروحات الفكرية، والرؤى التصحيحة، حالة من اللاثقة واللاقبول، واللا إحتفاء، إلى جانب التهميش والرفض. وبهذا الفهم القاصر للمحلي، الناتج من الغيبوبة المعرفية، والضعف في الوعي الذي كان أكثر وضوحاً لدى القادة والمثقفين، فَقَدَ السودان وصفات وسيناريوهات تنموية جليلة، وضحايا كُثر، من أصحاب المبادرات الخلاقة، والأطروحات الفكرية، والرؤى التصحيحية العظيمة. وقد نُشرت الحلقة بصحيفة الأحداث، بتاريخ الخميس 22 يوليو 2010م.

ألقت محكمة الردة عام 1968م، وصدور حكمها بردة الأستاذ محمود عن الإسلام، بظلال كثيفة على السوح الفكرية والسياسية، وعلى العلاقة بين الأستاذ محمود وشعوب السودان. حجبت الناس، والمثقفين خاصة، عن الأستاذ محمود، فانصرفوا عن كتبه ومحاضراته، وقاطعوا مشروعه ونبذوا تلاميذه. أنفق الأستاذ محمود وتلاميذه بعد محكمة الردة زمناً طويلاً، في التبيين والتنوير بأبعاد المحاكمة، وكيف أنها كانت مكيدة سياسية، جافي المتحمسون لها الصدق، وجرى استغلالهم من السلطة السياسية في مصر والسودان، واصبحوا أداة من أدواتها. ففي الدفاع عن موقفه في الشارع العام، قام الأستاذ محمود بنشاط مكثف من أجل التوعية والتنوير بأبعاد مؤامرة محكمة الردة ومآلاتها، ودحض افتراءاتها. طاف على أقاليم السودان، وأقام العديد من المحاضرات، وأصدر كتباً، ونشر الكثير من المنشورات. ففي الثالث من ديسمبر عام 1968م نظم محاضرة بنادي العباسية بأم درمان، كان موضوعها الصلاة، وهي مسجلة بصوته، قال الأستاذ محمود في تلك المحاضرة: (الكلام النحن بنقوله مؤكد في الدين لكن موش في الشريعة.. جماعتنا لمن بنازعوه، بنازعوه لأنه ما عندهم (بمعنى الذي عندهم) من الشريعة بيفتكروه الكلمة الأخيرة .. أنا زي ما بقول، نحن ما بنلومهم على أنهم ما يفهمونا، لكن إذا كانوا هم صادقين في حيز ما هم فيهو حتى لو حكموا بردتنا أو بقتلنا، يكونوا هم مجاهدين ونحن قد نكون شهداء، إذا استطاعوا أن يقتلونا.. لكن اذا كان هم ماصادقين في حيز ما عندهم يبقى مسألتهم في الحقيقة تـافهـة.. ونحن بنعرف انهم ماصادقين في حيز ما عندهم لأنهم عبر التاريخ كانوا أدوات في يد السلطة...). وفي يناير من عام 1969م أصدر كتاباً بعنوان: "بيننا وبين محكمة الردة"، قال في مقدمته: (وهذا سفر، من جملة أسفار، سيوالى الحزب الجمهوري اصدارها للناس عن محكمة الردة.. وغرض الحزب الجمهوري من كل أولئك انما هو تنوير الرأي العام السوداني فيما عليه حقيقة الأمر، فان الكرامة التي نرجو له أن ينزل منازلها لا يستحقها الا الشعب الواعي المستنير). وتحدث في الكتاب عن التشويه المقصود، بالنقل المخل عن كتب الحزب الجمهوري، وعدم الأمانة، في النقل. وتناول بالتفصيل أقوال المدعيين والشهود في المحكمة، وحيثيات الحكم. كما تحدث عن الدين والشريعة. وتحدث بعطف عن علماء الفقه في السودان، وفي البلاد الاسلامية الأخرى، ذاكراً بأنهم ضحايا لمنهاج تعليمي خاطئ. وفي خاتمة الكتاب قال: (نحن لا نلوم الفقهاء على عدم الفهم، ولكننا نلومهم على عدم الصدق، حتى في التزام الشريعة المرحلية.. فهم قد عاشوا على الدين، على طول المدى ولم يبد منهم، في أي لحظة، أي استعداد، ليعيشوا له.. هم كانوا، ولا يزالون، أدوات في يد السلطة التي استغلت وتستغل الدين، وسيكون نهجنا في هذه الأسفار التي ان شاء الله، ستخرج تباعاً، ازالة سوء الفهم للدين، الذي ينشره هؤلاء النفر وسط الشعب، وازالة سوء التفاهم الذي أوجده هؤلاء النفر بين الشباب المثقف وبين الدين، وعلى الله قصد السبيل).

    وفي مايو من عام 1975م، صدر كتاب: "مهزلة محكمة الردة مكيدة سياسية، الخلفية التاريخية لمواقف أ. السياسيين التقليدين ب. رجال الدين والقضاة الشرعيين". صدر الكتاب باسم الأخوان الجمهوريين. وكان الإهداء فيه إلى الشعب السوداني الكريم، وختم بجملة مثَّلت تلخيصاً للإهداء وهي: "خذ دينك ممن استقاموا ولا تأخذه ممن قالوا". بيَّن الكتاب كيف أن محكمة الردة كانت مهزلة ومكيدة سياسية، تحالف فيها القضاة الشرعيون والساسة التقليديون، وقدم الكتاب خلفية عن المحكمة وارهاصاتها، وردود الفعل حولها. كما تناول قانون الأحوال الشخصية، وتحدث عن الدعاة السلفيين، والقضاة الشرعيين. الجدير بالذكر أن تلاميذ الأستاذ محمود بدأوا نشاطهم في الشارع السوداني مبشرين بمشروع الأستاذ محمود وداعيين له ومدافعين عنه، في حوالي منتصف السبعينات. وربما كان ذلك من نتائج محكمة الردة. سأتناول هذا الأمر لاحقاً، ضمن محور موضوعه: "دور تلاميذ الأستاذ محمود وطبيعة نشاطهم". لم يسمح الأستاذ محمود لتلاميذه بالقيام بأي نشاط دعوي لمشروعه إلا بعد إعدادهم فكرياً وأخلاقياً، وهذا أيضاً، سأتناوله لاحقاً ضمن محور منفصل عنوانه:  "التكوين الفكري والبناء الأخلاقي لتلاميذ الأستاذ محمود".

    بعد صدور حكم محكمة الردة، لم يواجه الأستاذ محمود المعارضة لآرائه فحسب؛ وإنما واجه العنف الجسدي. قابل الأستاذ محمود العنف الجسدي بالصفح والعفو. ففي أبريل من عام 1969م، تحرك الأستاذ محمود مع بعض تلاميذه، طائفاً بمدن شمال السودان وشرقه، حتى انتهى بغربه في مدينة الأبيض. كان أثناء طوافه يقيم المحاضرات، ويفتح الحوارات حول مشروعه. وفي مدينة الأبيض مساء الثاني والعشرين من مايو 1969م، وأثناء تقديم الأستاذ محمود لإحدى محاضراته، اقترب أحد الحاضرين للمحاضرة، من المنصة وضرب الأستاذ محمود، ضربة قاسية على رأسه. هاج الحضور رافضين لهذا السلوك، وأرادوا أن ينالوا من الرجل الذي ضرب الأستاذ محمود؛ إلا أن الأستاذ محمود وقف حامياً للرجل، ورافضاً أن يمسه أحد، ثم واصل حديثه في المحاضرة، والدم ينزف من رأسه، حتى انتهت محاضرته. وبعد انتهاء المحاضرة تمت مقابلة الطبيب الذي رأي إجراء عملية خياطة للفتحة التي أحدثتها الضربة في الرأس، وتم إجراء العملية من دون بنج، إذ لم يكن البنج متوفراً. ومن النماذج الإنسانية المؤثرة لصفح الأستاذ محمود وعفوه لمن ناصبه العداء، هو المشهد الذي ظهر عندما تلقى الأستاذ محمود خبر وفاة الشيخ الأمين داؤود. والشيخ الأمين هو المدعي الأول في محكمة الردة، وهو القائل في المحكمة: (أنا الأمين داؤود محمد أدعي وأشهد محتسبا لله تعالى بأن محمود محمد طه هذا، وهو رجل مسلم، قد ارتد عن الإسلام بأفعاله وأقواله...). عندما وصل خبر وفاة الشيخ الأمين إلى الأستاذ محمود وهو مع تلاميذه، طلب على الفور من تلاميذه قراءة الإخلاص بإخلاص إحدى عشر مرة على روح الفقيد الأمين، وقال لتلاميذه: (إن الأمين داؤود أحوج ما يكون إلينا اليوم، فالذي لا يستطيع أن يصفح عنه، ويقرأ لروحه الإخلاص بإخلاص لا يرفع يديه معنا).

    بعد ثلاثة أيام من حادثة الاعتداء على الأستاذ محمود في مدينة الأبيض، قامت ثورة مايو 1969م. أحدث قيام ثورة مايو تغييراً كبيراً في المواقف والمسار السياسي. رأي تلاميذ الأستاذ محمود في تقويمهم لثورة مايو كما جاء في كتابهم: (معالم على طريق تطور الفكرة الجمهورية - الكتاب الثانى، الإخوان الجمهوريون، ط1، مايو 1976م) بأنها حالت بين الطائفية وبين الاستئثار بالسلطة وفرض استغلالها للشعب باسم الدستور الإسلامي المزيف، وتوسعوا في توضيح ذلك. كان موقف الأستاذ محمود من ثورة مايو من أكثر الموضوعات التي وجدت الاهتمام من بعض المثقفين، إلى جانب موضوع "ثورة رفاعة- الخفاض الفرعوني". الملاحظ أن الأستاذ محمود بسيرته الساطعة، وأحداثها الجسام، وبمسيرته الصادقة في المواجهة لمراكز السلطة المختلفة في المجتمع، وبمشروعه الكبير، وإنتاجه المعرفي الضخم، لم يجد الاهتمام من المثقفين مثل ما وجد الموضوعان المشار إليهما. سيأتي لاحقاً، تناولي لموضوع: "موقف الأستاذ محمود من ثورة مايو"، وموضوع: "ثورة رفاعة- الخفاض الفرعوني".

كان من آثار محكمة الردة، أنها فتحت الباب أمام علماء المسلمين، والدول الإسلامية وتجمعاتها وروابطها، بإبداء آرائهم حول مشروع الأستاذ محمود، دون أن يجد المشروع الدراسة الكافية والتقييم العلمي الأمين. فبعد إدانته بواسطة محكمة الخرطوم الشرعية في عام 1968م، جاءت إدانة مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر في 1972م، ورابطة العالم الإسلامي في عام 1973م، وغيرها من المؤسسات وعلماء المسلمين. ولكن بالمقابل وقف الكثيرون في العالم الإسلامي وفي السودان ضد الحكم بردة الأستاذ محمود، وقد أشرت لبعض النماذج في الحلقة السابقة.

أين الأخوان المسلمون من كل هذا؟ إن موقف الأخوان المسلمون من الأستاذ محمود، مر بمراحل وتطورات مختلفة، منذ بداية الخمسينات، وحتى تنفيذ حكم الإعدام عليه في عام 1985م. ولهذا ستأتي لاحقاً، معالجتي لهذا الموضوع عبر محور عنوانه: "الأستاذ محمود والأخوان المسلمون".
 
نلتقي يوم الخميس القادم، حول محور جديد وهو: الأستاذ محمود في مذكرات معاصريه.

تصويب: في الحلقة السابقة أشرت إلى مقالة البروفسير عبد الله علي إبراهيم: "أبادماك: تهمة لا ننكرها وشرف ندعيه"، وذكرت أن المقالة نُشرت بصحيفة الصحافة بتاريخ 14/3/2004م، والصحيح هو 16/3/2004م. وأوردت أيضاً، نص البيان الذي صدر عن "أبادماك"، بعد صدور حكم الردة على الأستاذ محمود، ضمن حديث الأستاذ صلاح يوسف في الخيط الذي افترعه بعنوان: "بين أبادماك و بورتبيل"، في المنبر العام بموقع سودانيز أون لاين. والصحيح أن نص البيان جاء ضمن مداخلة دفع بها البروفسير عبدالله إلى الدكتور حسن الجزولي الذي بدوره أثرى بها خيط الأستاذ صلاح يوسف. هذا ما لزم توضيحه، مع اعتذاري للبروفسير عبدالله والدكتور حسن والقراء الكرام.  

(نقلاً عن صحيفة الأحداث، 28 أكتوبر 2010م)
Abdalla El Bashir [abdallaelbashir@gmail.com]

 

آراء