الوحدة الراجعة.. ووجوب إستفتاء الشمال .. بقلم :د. عمر بادي
عمود : محور اللقيا
المشهد السياسي هذه الأيام يمور في تنور إستفتاء الجنوب , و صار التكهن بالنتيجة مادة مستساغة في المجتمعات , و كأن الإستفتاء مباراة ختامية في غاية الأهمية , و لعمري فهو كذلك ! حقيقة , الإستفتاء يمثل مباراة ختامية بين فريقين هما المؤتمر الوطني و الحركة الشعبية و الجمهور هو الشعب السوداني ( المتفرج ) و الإستاد هو السودان و قانون اللعب هو إتفاقية نيفاشا و طاقم الحكام هم شركاء الإيقاد بينما يجلس على مقصورة كبار المتفرجين قادة أحزاب المعارضة !
الشعب الجنوبي غير المسيس يؤيد الوحدة الفطرية التي عاشها عقودا من الزمان لأنه قد وجد في النزوع شمالا ما يرجوه من أمان من غوائل الدهر . هذا أمر قد عرفه السياسيون الجنوبيون الإنفصاليون فطالبوا بمنح الجنسية المزدوجة للجنوبيين في الشمال بعد الإنفصال و أيضا بمنحهم الحريات الأربعة كما هو حادث بموجب ميثاق التكامل بين مصر و السودان , و طالب السيد ياسر عرمان أن يستمر قطاع الشمال في نشاطه في دولة الشمال كما كان , مع أنه تابع لدولة الجنوب . لقد فهم الدكتور كمال عبيد القصد من ذلك فأتى بتصريحاته النافية لمعاملة الجنوبيين في الشمال كمواطنين بعد إنفصال الجنوب و إشتط في ذلك حتى لا ينزلقوا و يصوتوا للإنفصال الذي سوف تكون عواقبه وخيمة , و نتيجة لردود الفعل العنيفة على تصريحات الدكتور كمال عبيد تدخل الرئيس عمر البشير و صرح بأن المواطنين الجنوبيين سوف يعاملون كالشماليين إذا ما حدث الإنفصال . لكن أخيرا صرح الدكتور نافع علي نافع أنه عند حدوث الإنفصال سوف يستمر التعامل مع الجنوبيين في الشمال كما كان إلى أن تسوى أوضاعهم ! بمعنى إما بضمهم لمواطني الشمال و إما بترحيلهم إلى دولة الجنوب . إن رأي الدكتور نافع هذا قد أتى مطابقا لرؤية الدكتور فيصل عبد الرحمن علي طه الخبير المتخصص في القانون الدولي كما وردت في مقالاته التي نشرها في الصحف السودانية بعنوان : ( بعض الجوانب القانونية لإنفصال الجنوب ) و أبان في موضوع الجنسية أن القانون الدولي يعتبر مواطني الدولة المنفصلة رعايا في الدولة الأصل حتى ينظر في أمر تبعيتهم أو يعاملون بناء على لوائح جديدة توضع لهم , فقطع بذلك قول كل خطيب !
إن للسيد ياسر عرمان أطروحات تدعو ألى عدم المساس بقطاع الشمال و بالجنوبيين القاطنين في الشمال حتى يكونوا بذلك سندا للوحدة الراجعة و دعما للسودان الجديد الذي سوف يتكون حتى بعد الإنفصال , و للسيد ياسر عرمان طموحات بأن توحد مباديء السودان الجديد القارة الأفريقية و العالم العربي أيضا ! لقد نحا بعض الكتاب نفس المنحى ووضعوامؤشرات داعمة لفشل دولة الجنوب الجديدة في حالة قيامها و رأوا أن التجربة التي هي خير برهان سوف تقنع المواطنين الجنوبيين بالسعي للتوحد مرة ثانية مع دولة الشمال . الأمر إذن أن تكون العودة كخط رجعة يحميهم من الضياع , و ضربوا أمثلة في ذلك بألمانيا و اليمن . لكنني أرى أنهم لم يكونوا موفقين في طرحهم لهذين المثالين و ذلك لإختلاف أسباب الإنفصال و العودة فيهما عما عندنا في السودان . لقد إنقسمت ألمانيا النازية المنهزمة بعد الحرب العالمية الثانية إلي ألمانيتين نتيجة لتجاذب المعسكرين الشرقي و الغربي عندما دخلوها منتصرين , فأخذ الإتحاد السوفيتي الجزء الشرقي من المانيا و أسماه ألمانيا الشرقية و أتبعه مع دول شرق أوربا إلى منظومته الإشتراكية , و كذا فعلت الدول الغربية المنتصرة و أخذت الجزء الغربي و أسمته ألمانيا الغربية و سعت إلى إنعاشه بمشروع مارشال بعد دمار الحرب الشامل . هكذا كان التقسيم خارجيا دون إرادة الألمان , و لكن عندما قويت إرادتهم قرروا التوحد فهدموا سور برلين و توحدوا ! أما اليمن و كما ذكرت سابقا كان جزؤه الجنوبي تحت الإنتداب البريطاني و كان يعرف بإتحاد الجنوب العربي و عاصمته عدن , بينما كان الشمال يحكم بعائلة الأئمة اليمنيين , و عند إستقلال اليمن الجنوبي من بريطانيا في عام 1967 كون جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية , و في الشمال حدثت إنقلابات عسكرية و تكونت الجمهورية العربية اليمنية , و بعد ذلك حدث التلاقي المنشود بين القيادتين و الشعبين و حدث الإتحاد . هل في هذين المثالين شبه بما يحدث عندنا ؟ دولة في كامل سيادتها يقام فيها إستفتاء لفصلها إلى دولتين ! هل يمكن أن يحدث هذا في الشيشان مثلا , و هو إقليم مسلم ذو حكم ذاتي يقع في روسيا و يقود حربا تحريرية شعواء يطالب فيها بالإنفصال عن روسيا , هل يمكن أن تمنحه روسيا حق تقرير المصير أم يمكن للدول الخارجية أن تتدخل لذلك ؟ إن خير مثال يجسد حالتنا هو مثال تيمور الشرقية التي إنفصلت عن أندونيسيا بضغوط أمريكية قننت تقرير المصير و لكن حالها الآن يغني عن سؤالها .
لم يحدث ان إنفصلت دولة بمحض إرادتها من دولة كانت جزءا منها و بدون تدخلات عسكرية من الخارج أو إرغام على ذلك , ثم تأتي تلك الدولة المنفصلة بعد حين من الدهر تعض إصبع الندم و تقدم إعتذاراتها إلى الدولة الأم و تعود إليها كعودة الإبن الضال ! لم يحدث ذلك قبلا و إن كان هنالك وجود لدولة كهذه فدلوني عليها . هكذا أرى أن ما يردده البعض عن الوحدة الراجعة بعد الإنفصال هو شيء من اللامنطق , لأن الإنفصال سوف يعمق التباعد بحكم النزاعات التي سوف تستجد . لكن رغم ذلك إذا ما أبدت دولة الجنوب رغبتها في العودة إلى حظيرة الوطن الأم مستقبلا , يحق هنا لشعب السودان الشمالي أن يُستفتى على خياري إعادة الوحدة أو رفضها , و النتيجة سوف تحسمها ترسبات نكران الجميل !
omar baday [ombaday@yahoo.com]