الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون -11-
الأستاذ محمود في مذكرات معاصريه (أ) "توطئه"
في عام 1968م أهدى الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م) كتابه: زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان: 1. الثقافة الغربية 2. الإسلام، إلى الشعب السوداني، قائلاً: (إلى الشعب السوداني: الذي لا تنقصه الأصالة، وإنما تنقصه المعلومات الوافية.. وقد تضافرت شتى العوامل لتحجبه عنها).
كتابة المذكرات
المذكرات مصدرٌ تاريخيٌ هامٌ؛ فهي تملأ فجوات في التاريخ لا تتوفر في المصادر الأخرى، وتقدم أحداثاً وجوانب من التجربة الخاصة، تُعين على فهم التاريخ وقراءته، وتكشف عن حوادثه. كما أن المذكرات تُجسِّر تواصلنا مع أصحابها ومع تجاربهم، هذا إلى جانب المتعة في قراءتها. كتب البروفسير أحمد أبو شوك في مقدمة تحقيقه لـ: مذكرات يوسف ميخائيل عن التركية والمهدية والحكم الثنائي في السودان، التي نشرها مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأم درمان، عام 2004م، قائلاً: (إن صناعة المذكرات هي ضرب من ضروب السِّيرة الذاتية،...) وأضاف قائلاً: (إنَّ قيمة المذكرات الشخصية تكْمُن في طبيعة الأحداث التي عاشها المؤلف، وتجرَّد في توثيقها...). وكتب الدكتور محمد سعيد القدال (1935م-2008م) قائلاً: (إن السِّيرة الذاتية لها دور أساسي في دراسة التاريخ، فهي تملأ فجوات لا تتوفر في المصادر الأخرى. فكاتب السيرة الذاتية قد يذكر جوانب خاصة من تجربته تكون فتحاً لفهم تاريخي تقف المصادر الأخرى دون جلائه. ولذلك نحن نبحث في السِّيرة الذاتية بجانب المتعة الفنية، عن تلك الأحداث الصغيرة التي تساعدنا في فهم الماضي). وأضاف القدال قائلاً: (وتتطلب السيرة الذاتية أن يكون صاحبها متميزاً في ناحية من نواحي الحياة، وأن يكون ذا صلة دقيقة بأحداث كبرى، أو أن يكون ممن لهم مشاركة في بعض تلك الأحداث. وقليل من السير الذاتية ما فيه انعكاس لتجربة ذاتية ذات حدود واضحة بين ولادتها واكتمالها). (محمد سعيد القدَّال، الانتماء والاغتراب: دراسات ومقالات في تاريخ السودان الحديث، دار الجيل بيروت، 1992م، ص 133-152). وحول تدوين التجربة الذاتية، ومتى يكتب الكاتب سيرته الذاتية؟ يقول الدكتور إحسان عباس (1920م-2003م): (إن كل سيرة هي تجربة ذاتية لفرد من الأفراد، فإذا بلغت هذه التجربة دور النضج، وأصبحت في نفس صاحبها نوعاً من القلق الفني، فانه لابد أن يكتبها). (إحسان عباس، فن السيرة، دار الشروق للنشر والتوزيع، بيروت، 1992م، ص 94).
كتابة المذكرات في السودان
صدَّر البروفسير أبو شوك تحقيقه لمذكرات يوسف ميخائيل آنفة الذكر، بمقدمة ضافية عن فن المذكرات، وتناول بداية صناعتها في السودان، قال أبو شوك: (يُعَدُّ هذا الفن من الأدب التأريخي بأنماطه المختلفة حديث النشأة والتطور في السودان، لأن تاريخه يرجع إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي. ومعظم الذين دونوا مذكراتهم في تلك الفترة لم يكونوا من أهل السودان الخُلَّص، بل كانوا صفوة من سجناء المهدية الذين لاذوا بالفرار إلى أوطانهم أو أُفرِج عنهم بعد سقوط الدولة المهدية عام 1898م). وأورد أبو شوك أن أول مذكرات كُتبت في هذا الشأن هي مذكرات القسيس النمساوي الأب جوزيف أهرولدر الموسومة بـ "عشر سنوات أسر في معسكر المهدي (1882م-1892م)". ثم جاءت مذكرات سلاطين باشا المعروفة بـ "السيف والنار في السودان" التي دوَّنها بعد أن هرب من أسر المهدية عام 1895م. ومذكرات "سجين الخليفة"، شارلس نيوفلد. وبعدها بعامين صدرت مذكرات إبراهيم فوزي باشا، سكرتير غردون أولاً، وسجين المهدية ثانياً، تحت عنوان: "السودان بين يدي غردون وكتشنر"، في جزءين. وكانت مذكرات يوسف ميخائيل التي كُتبتْ في ظل الحكم الثنائي، وتحركت في مساحة زمنية امتدت من عام 1872م وحتى عام 1943م.
كان الجيل الرائد في كتابة المذكرات من السودانيين، هو الجيل الذي وُلد في حقبة الحكم التركي/ المصري. كتب الدكتور عبدالله حمدنا الله في مقالة عنوانها: "همبتة المذكرات.. المجذوب والذكريات نموذجاً (1-2)"، نُشرت في صحيفة الصحافة، بتاريخ 18 فبراير 2004م، قائلاً: (ويعد الجيل الذي ولد في التركية وعاصر المهدية وشطراً من الحكم الثنائي جيلاً رائداً في كتابة مذكراتهم على عظيم أثرها في الدراسات التاريخية السودانية وتبرز أسماء يوسف ميخائيل وبابكر بدري ومحمود القباني "حال بئس"، ومتولي العتباني من بين رواد هذا الجيل إضافة إلى محمد عبد الرحيم في بعض ما كتبه في مؤلفاته وخاصة كتابه: "النداء في دفع الافتراء").
بعد ظهور طلائع المتعلمين، الذين تلقوا التعليم الحديث مع بداية القرن العشرين، وتمددهم في الشارع العام خلال النصف الأول من القرن العشرين، بنضالهم ضد المستعمر، وتوليهم لقيادة السودان بعد استقلاله. ظهرت العديد من المذكرات، ومن نماذج ذلك، دونما ترتيب في تواريخ الإصدار: مذكرات أحمد خير المحامي (كفاح جيل)، وسليمان كشة (سوق الذكريات)، و(ملامح من المجتمع السوداني) لحسن نجيله، ومذكرات على عبدالرحمن الأمين (1906م-1983م)، (الديمقراطية والاشتراكية في السودان)، ومذكرات محمد أحمد المحجوب (1908م-1976م)، (الديمقراطية في الميزان)، ومذكرات الدرديري محمد عثمان، ومذكرات خضر حمد (1910م-1970م)، ومذكرات عبد اللطيف الخليفة، ومذكرات أمين التوم (ذكريات ومواقف)، ومذكرات عبدالماجد أبو حسبو (1919م-1985م). وغيرها.
قدم الأستاذ مصطفى الصاوي في دراسته: "بانوراما التراجم والسِّير والمُذكرات (مقدمة تعريفية)، التي نُشرت في مجلة "كرامة"، العدد الأول، إتحاد الكتّاب السودانيين، سبتمبر 2007م، تعريفاً بالتراجم والسِّير والمذكرات في السودان. ورصد الصاوي التراجم والسِّير والمذكرات من لدن مذكرات يوسف ميخائيل إلى "من زماني وتحناني" لبشير حمد، وهي أحدث مصادر دراسته. وفي حديثه عن المّذكرات والسِّير، أشار إلى أن كتابة المذكرات قد استوعبت مجالات مختلفة؛ إلا أن الطاغي عليها هو السياسي.
درس الدكتور القدال إحدى عشر كتاباً من كتب السيرة الذاتية السودانية، في بحث ضمنه كتابه آنف الذكر. وأشار إلى أن دراسته، استندت في إطارها النظري على طرح الدكتور إحسان عباس في كتابه "فن السيرة". وتحدث عن قيمة تلك الكتب التي درسها، كمصدر لدراسة التاريخ قائلاً: (من النماذج التي قدمتها من تلك الكتب ومقارنتها مع ما ذكره الدكتور إحسان عباس عن السيرة الذاتية يتضح لنا الآتي:
أهملت الجوانب الشخصية التي هي قنوات اتصال بين الكاتب والقارئ.
ضخمت من دورها في الأحداث.
جنحت للتبرير.
سيطر عليهم هاجس الصراعات السياسية.
ثم خلص القدال في دراسته قائلاً: (إن قيمة غالبية هذه الكتب كمصدر للتاريخ ضعيف، وبعضها لا قيمة له). لم يستثنِ القدال من نماذج دراسته إلا مذكرات الشيخ بابكر بدري (1864م-1954م): (تاريخ حياتي، ثلاثة أجزاء). فقد وصف القدَّال مذكرات الشيخ بابكر بدري بأنها ذات قيمة فنية، وقيمة تاريخية، وعدَّها نموذجاً للسيرة الذاتية.
العظماء في سجلات أممهم
في بداية كتابه: فن السيرة، قال الدكتور إحسان عباس: (القدرة على الإحساس بالتاريخ، كسائر المزايا الإنسانية، موطن للتفاوت بين الأفراد، ومجال تتباين فيه الجماعات والأمم). ثم أضاف مستشهداً بقول المؤرخ والفيلسوف الألماني اشبنجلر Oswald Spengler (1880م-1936م)، قائلاً: (فالأمة التي تحرق جثث رجالها، ولا تُعنى بتسجيل أعمالهم، وإذا مضى على وفاة أحد عظمائها ستون سنة لم تستطع أن تتحقق إن كان ذلك العظيم شخصية تاريخية أو خرافة، لهي-فيما يراه اشبنجلر- ضعيفة الإحساس بالتاريخ). أما إذا حرقت الأمة جثث رجالها، وسعى مثقفوها وقادتها إلى تغييب عظمائها عن الذاكرة الجمعية، وتضليل الشعوب في إنجازاتهم، فهذا ضعف في الإحساس بالتاريخ، وفقدان لحاسة العدل، وضياع لمعاني الصدق والأمانة التاريخية. ختم الأستاذ أحمد خير المحامي (1905م-1995م) كتابه: (كفاح جيل: تاريخ حركة الخريجين وتطورها في السودان، الدار السودانية للكتب، الخرطوم، 2002م، ص 113)، بفصل هو السابع، ووسمه بـ: "نحو أفق بعيد"، قال في مستهله: (لشباب اليوم ورجال الغد المأمول أن يتساءلوا: هل اضطلع الجيل الحاضر في السودان بأعباء واجبه الوطني على الوجه الصحيح، وهل أدى رسالته كما ينبغي؟). ثم أضاف قائلاً: (والإجابة على مثل هذا التساؤل تتعذر على الجيل المستوجب، لأنها تدخل في اختصاص التاريخ الذي لم تحن بعد الفرصة الملائمة لمراجعته). حينما كتب بعض جيل الأستاذ أحمد خير المحامي مذكراتهم، رسب كثير منهم في امتحان الأمانة التاريخية (هذا الحكم القاسي سيأتي تفصيله وتبريره فيما بعد)، ذلك حينما أغفلوا ذكر الأستاذ محمود، وتجاهلوا نشأة حزبه، الحزب الجمهوري، ومشوار نضاله ضد المستعمر البريطاني، وسني سجنه أيام الاستعمار. بل إن بعضهم قد بخل حتى بالإشارة إلى الأحداث الجسام التي صنعها، والرحلة الشجاعة في المواجهة القوية المستمرة التي قادها مع مراكز السلطة في المجتمع، والقوى التقليدية فيه، التي حجمت إحداث التغيير وجمدته. تحدث بعضهم في مذكراته –وسياتي تفصيل ذلك لاحقاً- عن نشأة الأحزاب في السودان، وأشاروا لأحزاب لم يتعد عمر بعضها الثلاثة أعوام، ولم ترد مجرد إشاره للحزب الجمهوري، أو رئيسه الأستاذ محمود. ومنهم من خصص فصلاً في مذكراته، واسماه "وفاء وثناء". كان محور الفصل الثناء على الرجال الذين بذلوا الجهد، وضحوا من أجل استقلال السودان، وعدَّد نحو مائة وخمسين شخصاً، ولم يكن الأستاذ محمود من بينهم.
إن الذين كتبوا مذكراتهم، من طلائع المتعلمين، كانوا من قادة السودان، الذين شاركوا في النضال من أجل خروج المستعمر، وقاد بعضهم السودان بعد استقلاله عام 1956م. كنت قد قلت في الحلقة الأولى من هذه السلسلة: إن هذا البحث يزعم بأن قضية الأستاذ محمود، بدأت مع أنداده من طلائع المتعلمين، حينما ترسم هو طريق المواجهة والمناطحة والمصادمة للقوى الاستعمارية ولمراكز السلطة في المجتمع الدينية والتقليدية، من أجل تحقيق الاستقلال الحقيقي وإحداث التغيير، ودعا أنداده إلى ذلك، إلا أنهم آثروا طريق المهادنة والتسوية والتصالح والتحالف مع القوى التقليدية والاستعمارية. سار الأستاذ محمود في طريقه بجسارة وشدة مراس، فبدأت حروب المكائد والدسائس ضده، ونما اتجاه الحسد نحوه. ويزعم هذا البحث أيضاً، أن جهود تضليل الرأي العام في الموقف من الأستاذ محمود، ومساعي تغييبه عن الذاكرة الجمعية، بدأت مع طلائع المتعلمين، ومن شواهد ذلك إغفال بعضهم لذكره في مذكراتهم، ومن ثم أخذ التضليل والتغييب طريقه إلى صحائف المؤرخين السودانيين، وإلى الأرشيف القومي السوداني، وإلى الأكاديميا السودانية.
من المهم الإشارة إلى أن بحثي موضوع الأستاذ محمود في مذكرات معاصريه، لا يهدف إلى محاكمة أصحاب تلك المذكرات، بقدر ما يهدف إلى تبيين كيف قاد الإغفال المتعمد لذكره إلى تضليل المؤرخين الذين ظلوا يعتمدون على تلك المذكرات بوصفها مصدراً من مصادر تاريخ السودان وتاريخ الحركة السياسية السودانية وتطورها. فالركون إلي تلك المذكرات كمصدر تاريخي وهي بتلك الحالة من نقص الأمانة العلمية، أمر محفوف بالمخاطر. كما أن ذلك الإغفال والتجاهل يفسر لنا الكثير من قضايا السودان، ويعيننا على فهم اسباب الانحراف الباكر لمساره، ذلك المسار الذي حدَّده طلائع المتعلمون، وساروا بالسودان في وجهة يتكشَّف لنا خطؤها وخطرها كل يوم. ويقيني، أن طلائع المتعلمين كانوا ضحايا للتعليم الذي تلقوه، وضحايا لمكوناتهم الفكرية والثقافية، وضحايا لنسق القيم والمفاهيم السائدة في مجتمعاتهم. كان في إغفال أكثريتهم لذكر الأستاذ محمود ونضاله ومواقفه، في مذكراتهم، استجابة لثقافة القطيع، وخضوعٌ منهم للسائد والمألوف، وتخليٍ عن مسؤولياتهم التاريخية. قال الأستاذ محمود: (... والناس لا يزالون أطفالاً، يحبون أن يحمل غيرهم عنهم مسئوليتهم، ويطيب لهم أن يظلوا غير مسئولين.. أو هم إن احتملوا المسئولية فإنما يحتملونها في القطيع، وعلى الطريق المطروق أما أن يكون المسئول وتراً، وأن يطرق طريقاً بكراً، فإنه أمر مخيف، ولا يجد في النفوس استعداداً، ولا ميلاً). (محمود محمد طه، نحو مشروع مستقبلي للإسلام، ثلاثة من الأعمال الأساسية، المركز الثقافي العربي، بيروت، ودار قرطاس، الكويت، ط1، 2002م، ص 187).
نلتقي يوم الخميس القادم، لنقف بالدراسة على النموذج الأول من نماذج محورنا: "الأستاذ محمود في مذكرات معاصريه".
(نقلاً عن صحيفة الأحداث، الخميس 4 نوفمبر 2010م)
Abdalla El Bashir [abdallaelbashir@gmail.com]