تاريخ حياتي: لبابكر بدري: الإمتاع والمؤانسة … بقلم: علي الكنزي

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
من أبواب متفرقة

alkanzali@gmail.com


8-9
اشرنا في مقالنا السابق بأن المقال الثامن سيكون مخصصاً لحج شيخنا لبيت الله الحرام، خاصة ونحن نعيش في أيامه، والتي قيل عنها أنها أفضل أيام الله في السنة، وهي العشرة الأوائل من ذو الحجة. وفي هذا المقال سنستعرض الأبعاد الثلاث لحج شيخنا. أوله البعد الروحي، حيث نرى كيف سهل الله له الحج، كما سنرى جلده وصبره على مشقة الحج وهو يشارف السبعين من العمر، كل ذلك طمعاً في القبول من رب ما فتئا شيخنا يذكره ويخشاه، وهو حدث بخلاوي القرآن، إلى أن ذهب إلى ربه راجياً رحمته في مساء يوم الأحد 4 من يوليو 1954.
ثانيهما حديثه عن مواقع الحج وعن أهل المدينة وضعف  حال الناس في ذلك الزمان، حتى قال أنه بعد خروجه من مكة إلى المدينة صادف صبايا يتغنين وينشدن "فاطمة يا فاطمة بنت النبي شيلي كتابك وأنزلي إلى أخر الأنشودة" يرجون بذلك أن يتصدق عليهم الحجاج. وفي موقع أخر من كتابه قال أنهم في السودان كانوا يجمعون تبرعات لفقراء المدينة، وقد وصلتني عبر بريدي الألكتروني ما نشر في جريدة الحضارة السودانية من تبرعات قدمتها شخصيات سودانية لأهل المدينة، فالأمر بالنسبة لي لم يكن مفاجأة فقد سبق أن أفهمني له صاحب تاريخ حياتي.
لا يفوت على فطنة القارئ أن أهل السودان عندما يتبرعون ليس لأنهم أغنياء، بل لأنهم يتميزون عن غيرهم بقيمة المشاركة والتقاسم. الم يقل شاعرهم "سماعين ود حسن" متفاخراًً بهم: (بلادي أنا ناسا حنان ،يكفكفوا دمعة المفجوع ، يبدوا الغير علي ذاتهم ، يقسموا اللقمة بيناتم ، ويدوا الزاد ،حتى إن كان مصيرم جوع)
 
في حديثه عن الحج أشاد وعبر شيخنا عن إعجابه بشخصية الملك عبدالعزيز آل سعود، وما احدثه من أمن للحجاج، فقد كانو فيما سبق  يتعرضون للنهب. كما وصف الملك عبدالعزيز بأنه ملك عادل وإنسان متواضع سهل الحجاب، وحسن الآداب، وليس بينه وبين الناس حواجز. وذكر أنه زار السيد الحسن السيد أحمد المرغني بمنزل السادة المرغنية بمكة المكرمة الذي يلاصق جدار الحرم، وعلم من السيد الحسن أن ما معه من مال نفد. فشجعه أن يتصل بالملك عبدالعزيز، فقد عوض امرأة من جاوة كانت بجواره في منى، سرق مالها، فما بالك بالسيد الحسن الذي يعرفه الملك؟
من هذه الرواية تؤكد الرواية التي كنا نسمعها أن السادة المرغنية يمتلكون بيوتاً تجاور الحرم، أما الآن فقد أصبحت جزءً من توسعة المسجد الحرام.
في صيوان عام في مناً اضطر شيخنا للتدخل والحديث بصوت حاد وأمام جمع غفير من الناس ليرد على مواطن سعودي أنتقد الملك فقال له شيخنا محتداً وغاضباً: " أما تحمدون الله على ملككم الذي يصلي مع المصلين ويطوف مع الطائفين، ويسعى مع الساعين، نحن في بلادنا نتمنى ملكاً عربياً مثله يطابق اسمه" أي ملك عزيز. وخاف الرجل السعودي أن يوشي به شيخنا، ولكن شيخنا طمأنه.
كان ذلك في شهر مايو 1929، الموافق ذو القعدة 1347. أي قبل واحد وثمانون عاماً ميلادي خلت، أو اربع وثمانون عاماً هجري إنقضت، كان التنقل في المدينة المنورة بالعربات التي تقطرها الحصين، وقال أنهم في يوم النفرة إلى مناً استخدموا الجمال، كما أشار إلى أن الحجاج كانوا يقضون حاجتهم حتى على جبل عرفات لعدم وجود المراحيض، مما جعله يشمئز من هذا التصرف. هكذا كان حال المملكة في ذلك الزمان، وأنظر إليها كيف بدل الله حالها من حال إلى حال بفضله ووعونه التي جعلها في ابناء عبدالعزيز.
أما البعد الثالث والأخير، فيتعلق ببعض ما جاء تحت عنوان "داعي طارئ للحج" حيث تنكشف لنا سعة ثقافة شيخنا وطول باعه ليس في الفقه والأدب فحسب والتاريخ.
مناديك غير اعتيادي
    إنه نداء خليل الرحمن لأمر ربه: (وأذن في الناسِ بالحجِ يأتُوكَ رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتينَ من كُلِ فجٍ عميق) الحج آية 27. نداء للناس كافة يسمعه البعيد النائي فيأتي مهرولاً، وتصم عنه إذن من هو ببكة مقيم فيمكث قاعداً. نداءٌ قد تسمعه همساً، أو قد يغشاك فيٌ طرفي النهار أو زلفاً من الليل، أو يأتيك صحواً أو مناماً. فمن يسمع هذا النداء، لن يهدأ له بال ولن يطيب له مقام حتى يرى آكام مكة ورباها، والكعبة وكساها.
    هذا ما وقع لشيخنا في السابع من ابريل 1929. كان جلوساً بداره برفاعة ومعه بعض معارفه ينتظرون وجبة الإفطار. ودون تفكير أو تدبير مسبق عزم شيخنا أن يترك زواره ببيته ويذهب إلى المركز (أي مقر السلطة) ليسأل عن ما جرى لأوراق معاشه، فاستأذنهم مع وعد بالعودة قبل إعداد الطعام. عند وصوله للمركز وجد سبعة عشر نفر من أهل رفاعة يهمون باستخراج أذون السفر للحج، فأنضم لجمعهم، وطلب من مأمور المركز أن يستخرج له جوازاً وأخر لزوجته أم أحمد وثالثاً لابنه يوسف. غفل راجعاً والطعام لم يجهز بعد، وعندما اخطر ضيوفه أنه ذاهب للحج لم يصدقه أحد، مما أضطره لإبراز جوازات السفر، فقال له إبراهيم مالك مندهشاً:  "مناديل غير اعتيادي".
محبة رسول الله:
سافر شيخنا بالقطار من الخرطوم في 24 أبريل ،1929، قاصداً بورتسودان ثم سواكن، وعبر البحر بالسفينة، ليصل لجدة في 3 مايو 1929. ومن جدة إلى المدينة استغرقت رحلته يومين كاملين، فإذا به في الحضرة النبوية مشاهداُ للقبة الخضراء، والمرقد الشريف، طالباً من ساكنها أن يستغفر الله له عملاً بالآية الكريمة التي تقول: (... وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيماً) سورة النساء آية 64. حيث فاضت دموع شيخنا دون تكلف وإرادة. قال شيخنا عندما زار المرقد الشريف أصابه سرور وانشراح عظيمين، حتى كان يظن أنه قبالة ذات النبي. وبالمدينة وحبها وحب ساكنها تغنى شيخنا بشعر عشاق سبقوه في الهيام بها والتعلق بساكنها. فأهل السودان معروف عنهم محبتهم لرسول الله عليه وعلى آل بيته الأطهار. وبلسان حالهم جهر وأشهر شيخنا برعي الزريبة، وأبو كساوي، وحاج الماحي، وغيرهم رحمة الله عليهم جميعاً. وما فتئ شيخنا يردد قول الشاعر:
هذا النخيل وطيبة محمد
خير الورى طرا وها أنا جاره
قد كان عندي لوعة قبل اللقاء
والآن ضاعف لوعتي إبصاره
وكثيراً ما كان يردد تلك القصيدة الطويلة، وعيناه تدمعان لهيبة المكان وصاحب المكان، ومن أبياتها:
أيضيع من زار الحبيب وقد
درى إن المزور بباله زواره
    أيخيب من قصد الكريم وعنده
    حسن الرجاء وشعاره ودثاره
    وحب شيخنا لنبينا ومرقده أعاد لذاكرتي قصة ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقد كان ثوبان شديد الحب له، قليل الصبر عنه. أتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن. فقال له رسول الله: يا ثوبان ما غير لونك؟ فأجابه ثوبان: مالي من ضر ولا وجع يا رسول الله، غير إني إذا لم أراك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم أذكر الآخرة وأخاف أن لا أراك هناك، لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين وإني إن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى منك. وإن لم أدخل الجنة فذاك أحرى أن لا أراك أبداً. فأجابه رسول الله  يطمئنه ويبشره قائلاً: يُحشرُ المرءُ مع من أحبَّ. وفيه نزلت الآية 69 من سورة النساء ( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاًً).
عرفات الحشر الأصغر:
وصف شيخنا يوم الوقوف بعرفة الجبل تزدحم على قمته وجوانبه الناس التي أتت تطلب رضا ربها من كل فج عميق، فكل الناس رافعة يديها إلى السماء وهي في أحرامها، منهم من جرت دموعه ومنهم من اهتز جسده كن برد أصابه مع أن حر الشمس يلهب الحجاج، ترجو غفران الذنب والقبول، وشبه تلك الساعة كأنها(يوم يخرجون من الأجداثِ سراعاً كأنهم إلى نُصبٍ يفضون) المعارج آية 43. وبدأ له أن القادم إلى عرفات هو إنسان بُعث من قبره الأصغر، لحشره الأصغر، ليقف بين يدي ربه لحسابه الأصغر، ولسان حاله يقول: (ربي أرجعون * لعلي أعملُ صالحاً)، المؤمنون آية 99-100 فكثير الحجاج يرجع  لأهله، وقليل الحجيج يُقبر دون أهله. وقد صلى شيخنا على الكنزية التي تعرف عليها هناك، كما دفن بمنى صديقه محمد محمود الأزهري الذي وصفه بالشيخ التقي محب سماع مدائح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأكمل شيخنا حجه برمي الجمرات، ثم التحلل وطواف الإفاضة ثم الوداع. وعاد لجدة وسواكن ثم أمدرمان التي وصلها في الخامس من يونيو 1929، الموافق 27 ذو الحجة، في رحلة أمتدت لأربعين يوماً بالتمام والكمال. وقال أنهم أكثر حظاً من من سبقهم فقد كانوا يغييبون لثمانية اشهر للحج.
البعد الثالث طول باعه في العلم والتاريخ:
في صفحة 17 من الجزء الثالث من كتابه، وتحت عنوان الحج وأيام مكة المكرمة قال شيخنا أنهم خرجوا من المدينة متجهين إلى مكة، فمروا على موقع الحرة، وتذكر شهدائها فترحم عليهم وذكر بالسوء من قتلهم ولعن يزيد لقوله:
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الاسل
والاسل تعني الرماح، والخزرج هم قبيلة تقيم بالمدينة المنورة قبل مجيء الإسلام، وهم والأوس أووا رسول الله والمهاجرين، وجاهدوا بأرواحهم واموالهم وأولادهم في سبيل الله. فلم يرض شيخنا بشعر يزيد ولا فعله.
تَطرقُ شيخنا لمثل هذا الأمر يعكس طول باعه ليس في الفقه والأدب كما رأينا، بل علمه واطلاعه على أحداث التاريخ التي لا يعلمها إلا القليل من الناس. فقليل منا يعرف موقعة الحرة، أين كانت، ولماذا وقعت؟ وذلك يرجع لأننا أمة مغيبة عن تاريخها، ويكفي أننا نعيشه في كل يوم بشخوصه مع اختلاف أشخاصه، لهذا ليس لنا حاجة لمعرفة تاريخنا. فما سنرويه لاحقاً وقع بعد الخلافة الراشدة مباشرة، فكيف يكون حالنا الآن وكيف يكون مستقبلنا؟
في البيت الشعر الذي جعلنا منه مدخلاً للبعد الثالث نرى الاستهزاء بالخزرج، اؤلئك الانصار الذين قال سيدهم مخاطباً رسول الله في بدر: والله يا رسول الله لو خضت بنا عباب البحر لخضناه معك؟! وبشعر يزيد غنى وتغني الكابلي، وليته كف عن ذلك، فقد غنى ليزيد:
وأمطرت لؤلؤاً، من نرجسٍ وسقت
    ورداً وعضت على العناب بالبرد
        أما شعره الذي يجهر فيه بمعاقرته للخمر وحبه لها، فقد جاء في ديوانه الشهير ولكن قليل منا أطلع عليه وفيه قال عن الخمر:
ما حرم الله شرب الخمر عن عبث
    منه ولكن لسرٍ مودع فيها،
ساكتفي منها بذاك البيت لأن في القصيدة فجور وجراءة على الله. أما جراءته على أبيه معاوية نراها مسفرة عندما طلب منه أبوه أن يستتر وقت سكره، فرد على أبيه:
أمن شربةٍ من ماء كرمٍ شربتُها
    غضبت عليَ؟! الآن طابَ لي السُّكرُ
سأشربُ فاغضبْ لا رضيتَ كلاهما
    حبيب إلى قلبي عقوقُكَ والخمرُ
كل هذا الإسهاب مني في حق يزيد ليفهم القارئ دوافع شيخنا التي دفعته للعن يزيد ودعاه عليه وعلى من أزره في الحرة.
أما الحرة فهي موقع بالقرب من المدينة المنورة، وقعت فيه موقعة سميت به وكان ذلك بعد مقتل سيدنا الحسين بن علي بكربلاء. فثار أهل المدينة وخلعوا يزيداً لقتله ابن بنت رسول الله، ولما وصل الخبر ليزيد وجه إليهم مسلم بن عقبة في ثلاثين ألفٍ من الجنود. فدخل جيش يزيد المدينة وقتل بضعة وسبعين من قريش، وبضعة وسبعين من الأنصار، ومن الناس نحو أربعة آلاف. فطلب أهل المدينة من معقل بن سنان الاشجعي أن يذهب في رهط منهم إلى الأمير، يعني مسلم بن عقبة، ويسترضيه ويبايعه. فلما دخل عليه نظر إليه مسلم فقال: إني أرى شيخاً سقيماً، اسقوه من البلح الذي زودني به أمير المؤمنين، يريد يزيد. فسقوه بلحاً بعسل فشربه. قال له: أشربت؟ قال: نعم، قال: والله لا تبولها من مثانتك أبداً. فضرب عنقه. وبعدها أباح المدينة لثلاث أيام ففضحت النساء ونهبت الأموال. وبعد أن فرق من المدينة، خرج يريد مكة ليوقع بعبدالله بن الزبير، ولكنه مات في الطريق، فاستخلف الحصين بن نمير على الجيش وأكمل سيره.
ختاماً لسان حالي يقول:
    (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم  البقرة آية 32. هذا ما عنى لي أن أوجزه والقي الضوء عليه من كتاب تاريخ حياتي لشيخنا بابكر بدري. وإلى مقالنا الأخير الذي سنستكتبه لشيخنا من داخل قبره، لتنتهي سلسلة مقالتنا التسع لرجل يستحق مائه مقال، على أمل أن يكون قد ساهمنا بقدر في تعريف شيخنا الذي لا ينقصه ذلك.
 

 

آراء