كيف يهدد السودان الأمن القومى لأمريكا؟ … بقلم: محمود عثمان رزق

 


 

 


morizig@hotmail.com

قبل أسبوع أو أكثر صرح الرئيس الأمريكى أوباما قائلا : " إن السودان يهدد الأمن القومى الأمريكى بصورة  غير عادية " و قبل ثلاث أسابيع أو أكثر كتبت مقالا فى صحيفة التيار ذكرت فيه أن الإستفتاء لن يقوم فى وقته المحدد بالرغم من تصريحات قادة المؤتمر الوطنى التى تؤكّد قيامه فى وقته ! وقلت أنّ قيام الإستفتاء فى موعده يعنى عند قادة المؤتمر الوطنى حل أربعة قضايا هى :
أولا ، قضية من يحق له التصويت فى إستفتاء أبيي  ؟
ثانيا ، قضية المواطنة ومن خلالها يتحدد وضع الجنوبيين القانونى فى الشمال فى حالة ثبوت الإنفصال
ثالثا ، قضية ترسيم الحدود
رابعا، قضية ضخ البترول ونقله وتأمينه وتسديد فاتورة تكلفة إكتشافه
هذه الأربع قضايا هى التى يتمسك بها المؤتمر الوطنى كشروط يجب تنفيذها قبل تنفيذ الإستفتاء ، فان تمت قبل التاسع من يناير فالمؤتمر الوطنى لن يستطيع أن يعرقل مسيرة الإستفتاء ، وإذا لم تحل هذه القضايا فأي واحدة منهن كافية لتأجيل الإستفتاء أو إلغائه تماما وفقا لسياسة "عليّ وعلى أعدائي" فى حال إضطرار المؤتمر إليها ، وحينها سترجع البلاد للمربع الأول لتقع فى حرب شرسة تتسع رقعتها هذه المرة لتشمل يوغندا بالتحديد بالإضافة لبعض دول المنطقة حيث توجد كثير من المصالح الأمريكية والأوربية والإسرائيلية !  وستكون أرض الجنوب حينها أرضا غير مملوكة لأحد ولا منضبطة لأحد ، تتنطلق منها حركات مسلحة لا حصر  لها  ولا عدد  تختلف أيديلوجيا وإثنيا ، تتقاتل فيما بينها لكسب مزيد من المواقع والغنائم على أرض الجنوب فى الوقت الذى تقاتل فيه عدوها الأساسى ! هذه الحركات المسلحة ستتسبب فى عدم إستقرار الأوضاع السياسية فى المنطقة وبالتالى ستتدهور الأوضاع الإقتصادية بصورة مخيفة مما سيتسبب فى تشريد الملايين من سكان دول المنطقة وستتبع هذا التشرد كارثة إنسانية لا مثيل لها فى تاريخ المنطقة.  وهذا الوضع المأساوى سيخلق ضغطا عاليا على الحكومة الأمريكية وعلى دول الإتحاد الأوروبى وسيكلفها ماديا ومعنويا ما لا تسطعه الخزائن فى الوقت الراهن.
من هنا تأتى مخاوف البيت الأبيض من الوضع فى السودان !  فتهديد الأمن القومى فى عرف السياسة الأمريكية ليس من الضرورى أن يكون عسكريا ، فالولايات المتحدة فى نظر قادتها و قادة غيرها من الشعوب الأخرى أكبر من أن تهددها دولة من دول العالم الحالى عسكريا عدا الصين.  وعليه ، لا يمكن على الإطلاق أن يفهم تهديد السودان للأمن القومى الأمريكى فى الإطار العسكرى. وقد يقول قائل : إنّ الولايات المتحدة قد تكون خائفة من عودة الجماعات الإسلامية المتطرفة لأرض السودان، وهذا أيضا أمر مستبعد جدا لأنّ هذه الجماعات  أصبحت لا تثق فى حكومة السودان ولا غيرها من الحكومات فى الوطن الإسلامى فهى الآن تدير شئونها بصورة فى غاية السرية والحذر.  فرجوع الجماعات المتطرفة من خارج السودان لداخله أصبح خارج الحسابات الأمنية ، أما إحتمال ظهور جماعات إسلامية سودانية متطرفة فهذا ممكن من حيث النظرية ولكن طبيعة الإنسان السودانى لا تناسب هذا النوع من التطرف ، فإذا الولايات المتحدة ليست خائفة على أمنها ومصالحها من رجوع الجماعات الإسلامية للخرطوم ولا ظهور جماعات إسلامية سودانية متطرفة فى الخرطوم.

فالذى يزعج الولايات المتحدة فى الشأن السودانى حقيقة أنّها الراعى الأساسى لإتفاقية نيفاشا التى تعتبرها الإدارة الأمريكية السابقة نصرا كبيرا للدبلوماسية الأمريكية عامة وللحزب الجمهورى خاصة، فانهيار الإتفاقية تحت ظل رئيس جديد ليس بجمهورى تمتد أصوله العرقية لأفريقيا وفى أفريقيا منطقة النزاع الحالى بالتحديد أمر محرج جدا وفشل ذريع!  كما يجب ألا ننسى أنّ الرجل يتطلع  لدورة رئاسية ثانية له ولحزبه ، وبالتالى فإنّ الشأن السودانى يهدده  تهديدا مباشرا لأنّه سيقلل من فرصته فى الفوز بدورة رئاسية ثانية ، ولعلنا نذكر أن إيران الخمينى لعبت دورا أساسيا فى منع الرئيس كارتر من الفوز بدورة رئاسية ثانية.  وإذا سقط الرئيس أوباما فى الإنتخابات المقبلة فسوف يتبع هذا السقوط  إنحسار سياسي لحزبه فى الساحة السياسية الداخلية التى يتطلب الوقوف عليها إكتساح إنتخابات الرئاسة القادمة بعد إنتكاسة الحزب فى إنتخابات نصف الفترة التى إنتهت الأسبوع الماضى .  فقد رأينا كيف أخذ الحزب الديمقراطى صفعة قوية فى إنتخابات نصف الفترة أزعجت الرئيس أوباما والحزب الديمقراطى معا . وأهمية هذه الإنتخابات تكمن فى كونها مؤشّر لما يمكن أن يحدث فى إنتخايات الرئاسة القادمة. ولقد إعترف الرئيس أوباما بعد ظهور النتيجة أنّ عليه وعلى حزبه العمل بجد وإجتهاد لكسب ثقة الشعب الأمريكى من أجل كسب جولة رئاسية ثانية.

 فلذلك تأتى قضية إستفتاء جنوب السودان فى أولويات الإدارة الأمريكية الحالية بصورة جادة جدا ليس من أجل عيون الجنوبيين ولكن لأنّ إنهيار الإتفاقية سيعرّض مصداقية الولايات المتحدة فى المنطقة و العالم كله للإهتزاز ، وبالتالى سيؤثر على هيبتها و مقدرتها على التأثير على أطراف النزاعات الحالية والمستقبلية حول العالم مما سيؤثر على أمنها القومى بصورة من الصور عاجلا أم آجلا.  فلهذا تحرص إدارة أوباما على قيام هذا الإستفتاء منعا له من الإنهيار وإنهيار مصداقيتها معه ، و من هذا الموقف يستطيع المحلل أن يخلص لرأي مفاده أنّ إدارة أوباما  بالرغم من حرصها على قيام الإستفتاء فهى ليست حريصة على الإنفصال أو الوحدة أو حتى على قيام الإستفتاء فى موعده !!  هى فى الحقيقة حريصة جدا على قيام الإستفتاء فى عهدها وحسب وذلك بغض النظر عن نتيجته أوالزمن الذى يجرى فيه. وتأجيل الإستفتاء لمدة ستة شهور ربما يخدم إدارة أوباما ويأتيها فى الوقت المناسب الذى تبدأ فيه الإستعداد لخوض الإنتخابات الرئاسية المقبلة.

ومسألة أخرى تزعج الرئيس أوباما شخصيا هى خوفه أن ينفرط العقد فى الجنوب مما سيجعل مسألة سلام دارفور مستحيلة فى عهده  و سيحسب عليه الفشل فى الإنتخابات القادمة وسينقلب  " كرت دارفور" عليه لا له هذه المرّة . فهو وحزبه إذن فى حاجة ماسة لإحراز نصر مبين على الساحة السودانية تساعدهم جميعا على كسب مساحات شعبية على المستوى الداخلى والعالمى فى هذه المرحلة.  أما إذا فاز الرئيس أوباما بجولة رئاسية ثانية فسوف يتشدد جدا فى معاملته للسودان ، فإذن الوقت مناسب جدا للتفاوض وإزالة العوائق فى علاقة البلدين.

هل ستتدخل الولايات المتحدة عسكريا فى السودان إذا تجددت الحرب ؟
الإجابة بكل بساطة لا.  فالولايات المتحدة ستكون فى عام 2011 مشغولة جدا بمسألة إنسحابها من العراق تنفيذا لوعد قطعه الرئيس أوباما على نفسه فى برنامجه الإنتخابى لمنصب الرئيس.  فالإنسحاب فى حد ذاته يتطلب كثيرا من المال والجهد والحذر وسيشغل الرأى العام الأمريكى والعالمى على السواء. وفى الحقيقة يتطلع الشعب الأمريكى لهذا اليوم بكل عواطفه ولذلك من المستبعد جدا أن ترسل قوات أمريكية جديدة للسودان لتقاتل فيه!   فإذا كان هناك ثمة قوات ترسل فسوف ترسل لأفغانستان منعا لهزيمة محتملة. ومن الملفت للنظر فى أمر إنتخابات نصف الفترة أنّه لم يذكر فيها أى مرشح من مرشحى الحزبين قضية الحرب فى العراق وأفغانستان ! وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على أن الشأن الداخلى قد طغى تماما على الشأن الخارجى فى حسابات السياسيين الأمريكيين أو يدل على أنّ الشعب الأمريكى ليس لديه مزاج فى ظل الظروف الإقتصادية الحالية أن يسمع لأحد يطالبه بدعم حروب لا يفهم القصد منها!!  فإذا كان هذا هو الواقع الأمريكى فمن الخطأ  إذن التعويل على الولايات المتحدة لحماية الجنوب فى حالة تجدد القتال بين الدولتين أو بين الحركة والحكومة فى حال رفض الحكومة لنتيجة الإستفتاء أو رفضها قبول الإنفصال من داخل البرلمان الجنوبى !

وأخيرا يمكننا أن نقول أنّ أمام الحكومة السودانية فرصة ممتازة لحل كثير من القضايا مع الولايات المتحدة من ضمنها قضية قيام إستفتاء يرضى جميع الأطراف ويحفظ أمن المنطقة ومن أجله يتنازل كل طرف للآخر وتبتعد كل الأطراف بما فيها الولايات المتحدة من التطرف والتعنت فى المواقف وحينها سيصنع الجميع وضعا جديدا قد يكون نموذجا يحتذى فى حل كثير من النزاعات المشابهة فى العالم.  
 

 

آراء