الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون 17 .. عبد الله الفكي البشير
الأستاذ محمود في مذكرات معاصريه (ز)
في عام 1968م أهدى الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م) كتابه: زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان: 1. الثقافة الغربية 2. الإسلام، إلى الشعب السوداني، قائلاً: (إلى الشعب السوداني: الذي لا تنقصه الأصالة، وإنما تنقصه المعلومات الوافية.. وقد تضافرت شتى العوامل لتحجبه عنها).
مذكرات السيد محمد أحمد المحجوب
تعريف بالسيد المحجوب
وُلد السيد محمد أحمد المحجوب في مدينة الدويم عام 1908م. تخرج في قسم الهندسة بكلية غردون عام 1929م. عمل مهندساً بمصلحة الأشغال العامة ثم ترك الهندسة واتجه إلى دراسة القانون فالتحق بمدرسة الحقوق عام 1936م. انتظم في سلك القضاء بعد تخرجه مباشرة عام 1938م، وعمل قاضياً حتى عام 1946م حيث استقال من عمله. بعد أن قُبلت استقالته، أُعطى رخصة المحاماة. عمل بالمحاماة حتى وفاته إلا في الفترات التي تقلد فيها مناصب وزارية. أصبح زعيماً للمعارضة بعد انتخابات 1953م وكان له شرف رفع علم السودان على سراي الحاكم العام بالاشتراك مع السيد إسماعيل الأزهري (1900م-1969م) الذي كان رئيساً للوزراء. كما رفع علم السودان على مبنى الأمم المتحدة في يوم 19 ديسمبر عام 1956م، وهو وزيراً للخارجية. كانت عضوية السودان في الأمم المتحدة قد قبلت يوم 12/11/1956م. في عام 1958م ترشح المحجوب لرئاسة الجمعية العمومية للأمم المتحدة منافساً للدكتور شارل مالك (1906م- 1987م)، وزير خارجية لبنان. وقد فاز الأخير برئاسة الأمم المتحدة. أشار المحجوب لهذا الترشيح في مذكراته صفحة (105) قائلاً: (أما أنا فلم أكن تواقاً بصورة خاصة لترشيح نفسي، ولكن بعد جدل طويل أقنعتني الدول العربية بقبول الترشيح). تقلد المحجوب وزارة الخارجية مرة ثانية بعد ثورة أكتوبر 1964م. أُنتخب رئيساً للوزراء في يونيو عام 1965م، ثم مرة أخرى في مايو 1967م حتى قيام ثورة مايو عام 1969م. قضى فترات في المنفي الإجباري بالجنوب إبان الحكم العسكري الأول (انقلاب 1958م)، والإقامة الجبرية بمنزله في أوائل الحكم العسكري الثاني (ثورة مايو 1969م) ومن ثم المنفى الاختياري بلندن. وتوفي عام 1976م.
المحجوب والنشاط السياسي
ترسمت الإدارة الاستعمارية بعد ثورة 1924م، سياسة تعسفية وإجراءات قاسية تجاه المتعلمين. في ظل هذه السياسة التعسفية اتجه طلائع المتعلمين إلى إنشاء جماعات القراءة في الأحياء والجمعيات الأدبية بأندية الخريجين والموظفين. ومارسوا من خلالها نشاطاتهم الأدبية والاجتماعية. كان المحجوب من أبرز أعضاء "جماعة الهاشماب" (أولاد الموردة)، وقد عرفت فيما بعد بمدرسة الفجر، إشارة إلى "مجلة الفجر" التي أصدرتها الجماعة في عام 1934م. كتب البروفسير محمد إبراهيم أبو سليم (1927م-2004م) عن ما انتهت إليه جماعة الهاشماب قائلاً: (كانت جماعة الهاشماب تنافس جماعة الأشقاء داخل مجموعة الخريجين...، ثم انتهت بالارتباط نهائياً بالسيد عبد الرحمن وبالحركة الاستقلالية بينما شق الأشقاء طريقاً آخر، هو الحركة الاتحادية والعمل في ساحة الختمية). (محمد إبراهيم أبوسليم، أدباء وعلماء ومؤرخون في تاريخ السودان، دار الجيل، بيروت، ط1، 1991م، ص 23). عندما تمحورت الحركة السياسية حول حركتي الاستقلالية والاتحاد (مع مصر)، اختار المحجوب الحركة الاستقلالية. وبعد استقالته من القضاء عام 1946م أصبح الأمين العام للجبهة الاستقلالية، التي نشأت فور إعلان بروتوكول صدقي/ بيفن في أكتوبر عام 1946م، (من أجل إنهاء الحكم الثنائي وقيام الحكومة السودانية التي تتصرف بمحض إرادتها في سيادة السودان وعلاقته بمصر). (فيصل عبد الرحمن على طه، الحركة السياسية السودانية والصراع المصري السوداني بشأن السودان (1936م-1953م)، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، أم درمان، ط2، 2004م، ص 275). وهي غير الجبهة الاستقلالية التي كوِّنت عام 1955م بغرض التأييد لمسعى الاستقلال، بعد أن اكتسح الاتحاديين انتخابات عام 1953م. كوَّن المحجوب في عام 1950م مع آخرين ما سمي بـ "هيئة تحرير السودان". كتب الأستاذ يحيى محمد عبد القادر (1914م-؟؟؟) عن تلك الهيئة قائلاً: استقال المحجوب من الجمعية التشريعية واستقال منها بعد ذلك صالح عبد القادر (1897م- 1968م)، وأحمد يوسف هاشم (1903م- 1958م). وقد أطلق عليهم يوم ذاك الفرسان الثلاثة، وقد كوَّنوا مع آخرين في أوائل عام 1950م، ما سمي بهيئة تحرير السودان، ومن بين أهدافها محاربة الطائفية. (يحيى محمد عبد القادر، على هامش الأحداث في السودان)، الدار السودانية للكتب، الخرطوم (ب. ت. ن.)، ص 44، 154).
ترشح المحجوب في انتخابات عام 1953م، وأصبح زعيماً للمعارضة في أول دورة لمجلس النواب. وحتى ذلك الوقت لم ينضم المحجوب لأي حزب من الأحزاب السياسية. قال في صفحة (42، 52) من مذكراته: (انتخبت كمرشح مستقل عن دائرة الخريجين، لم انضم حتى ذلك الحين إلى أيّ حزب سياسي،... فقد شعرت بأن أي انقسام في صفوف المفكرين، خلال الصراع في سبيل التحرر القومي، يؤذي القضية العامة كثيراً. لذلك قررت ألا انضم إلى أي حزب أو جماعة...). وفي عام 1954م أصبح زعيماً للمعارضة، وكان السيد إسماعيل الأزهري رئيساً للوزراء. انضم المحجوب لحزب الأمة عام 1956م، كتب في مذكراته صفحة (190) قائلاً: (وقد انضممت إلى حزب الأمة خلال مهرجان سياسي في كانون الأول (شهر ديسمبر) 1956م وسببه الرئيسي هو أنني كنت قد تعاونت مع الحزب عندما كنت أميناً للجبهة الاستقلالية وكان حزب الأمة آنذاك الوحيد الذي تتوافق سياسته مع قناعاتي السياسية). لأسرة الهاشماب التي ينتمي إليها المحجوب صلة قديمة وقوية بحزب الأمة، تعود جذورها إلى بداية الثورة المهدية. فقد عمل أجداد المحجوب في ديوان المهدية. وكان جده لأمه الأمير عبد الحليم مساعد أحد قادة جيوش الإمام محمد أحمد بن عبد الله المهدي (1844م-1885م). وهو القائد الذي تلقى الأوامر من المهدي يوم الهجوم على الخرطوم بأن يجب أن لا يقتل غردون، وبعد مقتل غردون تولى الأمير عبد الحليم التحقيق في عصيان هذه الأوامر، إلا أن التحقيق لم يسفر عن معرفة القاتل كما ذكر المحجوب في مذكراته. أيضاً، كانت والدة المحجوب وهي طفلة قد قطع جزء من أذنها في إحدى معارك المهدي. قال المحجوب في مذكراته صفحة (14،15) (ولدت في عائلة لم تعرف مرارة الاستياء من الحكم الأجنبي فحسب بل حاربت الغزاة فعلاً،... كثيراً ما قامت النساء بدور مع الرجال في حملات المهدي. أصابت أمي دمغة جسدية من جراء هذه المشاركة دامت طوال حياتها. فقد حضرت جدتي لأمي إحدى المعارك مع جدي، وكان قائداً في جيش المهدي، وهي تحمل على ذراعها ابنة لها في الثانية من عمرها. نعست الطفلة (التي قدر أن تصبح أمي) نامت على كتف أمها وإذا برصاصة تكشط كتف الأم وتقطع نصف إذن الطفلة. ولو أن الرصاصة كانت أعلى نصف بوصة لما كنتم تقرأون هذا الكتاب اليوم).
الإنتاج المعرفي للمحجوب
نشر المحجوب العديد من المقالات في مجلة النهضة السودانية (1931م-1932م)، وفي مجلة الفجر (1934م-1937م)، وقد ضمنها في كتابه: (نحو الغد) الذي نُشر نهاية الستينات. ونشر كتاب بعنوان: الحركة الفكرية في السودان، إلى أين يجب أن تتجه؟، عام 1941م. وكتاب (الحكومة المحلية في السودان)، عام 1944م. كما وضع كتاب (موت دنيا)، عام 1946م بالاشتراك مع ابن خاله وصديقه الدكتور عبد الحليم محمد. أيضاً، كان المحجوب شاعراً وأصدر عدداً من الدواوين الشعرية كان أولها: (قصة قلب)، ونُشر عام 1961م. وديوان (قلب وتجارب) عام 1964م. و (الأندلس المفقود)، عام 1969م. وكان ديوانه الأخير هو (مسبحتي ودني)، الذي نُشر عام 1977م. هذا إلى جانب أشعار ومقالات ومحاضرات أخرى لم تجد طريقها للنشر. على الرغم من الانتاج المعرفي الذي نشره المحجوب، والعطاء السياسي الذي قدمه، وعده لنفسه من زمرة المفكرين، وقد أشار لذلك في أكثر من موقع في مذكراته، على الرغم من ذلك وصف لورد كارادون المحجوب في التقديم الذي كتبه لمذكراته قائلاً: (ليس مفكراً بناء مثل نايريري في تنزانيا، ولم يستطع أن يحقق التسوية الوطنية في السودان كما حققها غوان في نيجيريا... ولكن فترة الانتقال الصعبة التي ابقاها حيَّة وروح الخدمة العامة المخلصة، يكونان مثلاً شخصياً رائعاً). يري البروفسير أبو سليم أن المجد السياسي للمحجوب بدأ عندما تولى زعامة المعارضة وشارك إسماعيل الأزهري في رفع العلم ثم انتهى بمؤتمر الرؤساء والملوك العرب بالخرطوم. أما ما بعد ذلك فكان وضعه السياسي مجرد تحصيل لصراع حزبي. وكان المحجوب شبه معطل عن العمل خصوصاً بعد أن أصيب بالنوبة القلبية. أما مجده الأدبي فكان في الفترة السابقة لاستقالته من القضاء عام 1946م. (محمد إبراهيم أبو سليم، مصدر سابق، ص 18).
مذكرات السيد المحجوب
صدرت مذكرات المحجوب بعنوان: الديمقراطية في الميزان: تأملات في السياسات العربية والأفريقية، عام 1974م باللغة الإنجليزية. أما الترجمة العربية التي وقفت عليها فقد صدرت في طبعتها الثالثة عام 1989م من دار جامعة الخرطوم للنشر، وطبعتها مطابع الأهرام، القاهرة، مصر. تقع المذكرات في ثلاثمائة وتسع وأربعين صفحة من القطع الصغير. بدأت بتقديم كتبه الدبلوماسي البريطاني لورد كرادون، ثم قسمت المذكرات إلى سبعة أقسام، كل قسم يحتوي على عدد من العناوين تم تحتها تناول الموضوعات. وقد بلغ مجموع عناوين الأقسام مجتمعة ستة وثلاثين عنواناً. استهل القسم الأول بكلمة عنوانها: "وقت للتأمل" كانت بما يشبه التمهيد للمذكرات، وصف فيها ما يكتبه بأنه تأملات قائلاً: (ليس هذا عرضاً تاريخياً للحوادث التي سادت حياة أحد رجال السياسة، بل محاولة للتأمل في بعض الحوادث التي أثرت في مصير بلدي أو كان لها أثر بعيد المدى في القارة الأفريقية والشرق الأوسط. إن ما جعلني أقرر كتابة هذه التأملات في الدرجة الأولى هو أنني في الرابعة والستين، في خريف العمر، منفي عن وطني باختياري). ثم تناول الأحداث التاريخية والتطورات السياسية في السودان حتى الاستقلال. وقف عند العهد التركي والمهدية وعهد الحكم الثنائي. وتناول مؤتمر الخريجين واتجاهات الحركة الوطنية بشقيها الاستقلالي والاتحادي (الاتحاد مع مصر)، وتحدث عن قيام الأحزاب السودانية. وفي القسمين الثاني والثالث تناول جمال عبد الناصر (1918م-1970م)، وتأثيره والحوادث في عهده إلى جانب أسباب فشل سياساته وانعكاساتها، ووقف عند حرب الستة أيام ومؤتمر القمة العربي. وفي القسم الرابع تناول حرب اليمن. وفي القسم الخامس تناول فترة ما بعد الاستقلال، تعرض للحكم العسكري الأول والثاني والفترة الديمقراطية بينهما، وتحدث عن ثورة أكتوبر وفشل الأحزاب، كما وقف عند مشكلة الجنوب. وفي القسم السادس تناول مشاركة السودان في الحركات الأفريقية نحو التحرر، وتحدث عن الوحدة الأفريقية والبناء المشترك. وفي القسم السابع قدم خلاصة تأملاته تحت عنوان: "أخطاء الماضي وأماني المستقبل"، ثم ختم مذكراته برسالة وسمها بـ "رسالة أمل للجيل الطالع".
الأستاذ محمود في مذكرات السيد المحجوب
خلت مذكرات المحجوب عن أي إشارة للأستاذ محمود أو حديث عن قيام الحزب الجمهوري. على الرغم من أن المحجوب تحدث عن قيام الأحزاب الاستقلالية والاتحادية. فالمحجوب كان جزءاً من الحركة الاستقلالية، كما أن الحزب الجمهوري كان من أوائل الأحزاب الاستقلالية، وترأسه الأستاذ محمود منذ إعلان قيامه عام 1945م. أيضاً، تناول المحجوب أحداثاً ووقائع وحقائق في مذكراته كان للأستاذ محمود والحزب الجمهوري سهوماً في صناعتها. وكذلك كان المحجوب يعلم بسجن الأستاذ محمود في نهاية الأربعينات، بل حينما سجن الأستاذ محمود بسجن كوبر وعصى أوامر السجن، جاء بعض رفقاء الأستاذ محمود إلى المحجوب، وكان وقتئذ قد انتقل للعمل في مجال المحاماة، وطلبوا منه أن يذهب معهم لزيارة الأستاذ محمود في سجن كوبر. يضاف إلى ذلك أن الأستاذ محمود اشترك مع السيد المحجوب في أعمال كثيرة منها: العضوية في الجبهة الاستقلالية الأولى التي تكوَّنت عام 1946م، وعضوية الجبهة الاستقلالية الثانية التي تكوَّنت عام 1955م، وعضوية لجنة الدستور. ويمكن أن نقف على هذه المحطات بشيء من التفصيل.
نشأة الأحزاب وإغفال الحزب الجمهوري
تحدث السيد المحجوب في القسم الأول من مذكراته عن مؤتمر الخريجين وعن اتجاهات الحركة الوطنية بشقيها الاستقلالي والاتحادي، وتناول قيام الأحزاب السودانية. تحدث عن قيام حزب "الأشقاء"، وحزب "الاتحاديين"، وحزب الأمة، والحزب الشيوعي (الحركة السودانية للتحرر القومي)، والحزب الوطني الاتحادي. وأشار في مواقع متفرقة إلى حزب الأحرار، وحزب سانو، والحزب الفدرالي، وحزب الوحدة السوداني، وحزب الاستقلال الجمهوري، والحزب الجمهوري الاشتراكي، وحزب الشعب الديمقراطي، وجبهة الميثاق (الأخوان المسلمون)، والحزب الاتحادي الديمقراطي. ولم ترد حتى مجرد إشارة للحزب الجمهوري، أو إلى رئيسه الأستاذ محمود. كتب المؤرخ الدكتور محمد سعيد القدَّال (1935م-2008م) وهو يتحدث عن قيام الأحزاب السودانية، قائلاً: (أول الأحزاب الداعية للاستقلال هو الحزب الجمهوري الذي أسسه الأستاذ محمود محمد طه عام 1945م. ونشر الحزب برنامجاً أنتقد فيه التيارين الكبيرين لارتباطهما ببريطانيا ومصر ولانعدام المذهبية في عملهما، ودعا إلى لاستقلال السودان عن بريطانيا ومصر وقيام جمهورية سودانية... فقد أخرج الحزب دعوة الاستقلال من محيط المناورات وطموح السيد عبد الرحمن، إلى نقاء العمل السياسي الحقيقي من أجل الاستقلال فألبسها دثاراً ناصعاً جعل منها دعوة يمكن أن تلهم جيلاً بأكمله. كما أخرج العمل السياسي من دائرة المناورات والتكتيك، إلى رحاب العمل الفكري القائم على البرنامج الملزم المحدد الجنبات والآفاق). (محمد سعيد القدَّال، تاريخ السودان الحديث 1820م-1955م، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، أم درمان، ط2، 2002م، ص 494، 495). أيضاً، لقد ذكرت سابقاً، بأن الأستاذ التجاني عامر (1908م-1987م)، وهو مؤرخ وشاعر وكاتب صحفي سوداني معروف، لديه أكثر من ستة مؤلفات منشورة، جُلها في مجال الدراسات التاريخية، كتب في صحيفة الصحافة يوم 16/4/1975م وهو يتحدث عن الحزب الجمهوري قائلاً: (قد يكون هذا الحزب من أقدم الأحزاب السودانية بحساب الزمن... مؤسس الحزب هو الأستاذ محمود محمد طه، الذي كان من أبرز الوجوه الوطنية، في مستهل حركة النضال... وقد تعرض محمود للسجن الطويل...). الشاهد، أنه لم يرد ذكر في مذكرات السيد المحجوب للحزب الجمهوري أو لرئيسه الأستاذ محمود، الذي سجن في سجن كوبر بسبب نضاله ضد المستعمر.
سجن الأستاذ محمود والمحجوب المحامي
قاد أعضاء الحزب الجمهوري نضالاً عظيماً ضد الاستعمار. سجن بعضهم بسبب النضال ضد المستعمر. وسجن رئيس الحزب الأستاذ محمود مرتين، الأولى في يونيو عام 1946م، والمرة الثانية حينما قاد ثورة رفاعة عام 1946م، ودخل على إثرها السجن لمدة عامين. أوردت في الحلقات السابقة مصادر ومراجع عديدة تحدثت عن سجن الأستاذ محمود. لقد غطت الصحف المحلية في الخرطوم خبر سجن الأستاذ محمود في المرتين، لاسيما صحيفة الرأي العام التي تابعت الخبرين ونشرت برقيات كثيرة، عبر الناس فيها عن مناصرتهم للأستاذ محمود، ودعمهم لمواقفه البطولية. جاءت البرقيات من مدينة الأبيض والقضارف وعطبرة وسنجة وكوستي وغيرها. لا بد من أن المحجوب قد قرأ أو سمع بهذه الأخبار وإن لم يكن قد قرأها فقد جاءه نبأ سجن الأستاذ محمود في مكانه. كتب محجوب عمر باشري وهو يتحدث عن سجن الأستاذ محمود بسجن كوبر، وعن ثورته داخل السجن وعصيانه لأوامر سجَّانيه، قائلاً: (وكتبت الصحف عنه، وذهب زملاؤه إلى السكرتير القضائي الذي أخبرهم أن يستعينوا بمحام فاستعانوا بالمرحوم محمد أحمد المحجوب، فلما ذهبوا مع المحامي إلى السجن كانت سلطات السجن قد وضعت محموداً في حجرة خاصة بها سرير ومنضدة ومقعد وزهرية بها ورد، فأعلن محمود الحقيقة وأبان الخدعة). (محجوب عمر باشري، رواد الفكر السوداني، دار الجيل، بيروت، ط1، 1991م، ص 362، 363). لقد كان المحجوب يعلم بسجن الأستاذ محمود ويعرف دوره في النضال ضد المستعمر، ومع ذلك لم ترد حتى مجرد إشارة إلى قيام الحزب الجمهوري أو نضال رئيسه الأستاذ محمود.
تكوين الجبهة الاستقلالية (الأولى)
تحدث السيد المحجوب عن الجبهة الاستقلالية، التي نشأت فور الإعلان عن بروتوكول صدقي/ بيفن عام 1946م، قائلاً في صفحة (45): (لكن الحقيقة أن صدقي رجع من لندن إلى القاهرة مبتهجاً وقال إنه رجع والسيادة على السودان في جيبه. استقلت حالاً من القضاء... في ذلك المساء ألقيت خطاباً في اجتماع عام في أم درمان. هناك ألفنا الجبهة الاستقلالية التي أصبحت أمينها العام. كان هدفنا تنظيم جميع الذين أيدوا استقلال البلد التام، ومقاومة أي حركة للاتحاد بمصر أو لوضع السودان تحت التاج المصري). كان الأستاذ محمود رئيس الحزب الجمهوري من ضمن المؤسسين للجبهة الاستقلالية. ذكرت سابقاً أنه جاء في موقع حزب الأمة القومي على شبكة الإنترنت: (بادر حزب الأمة بتكوين الجبهة الاستقلالية للعمل على انهاء الحكم الثنائي والتي تشكلت في 28 أكتوبر 1946م في دار حزب الأمة من: حزب الأمة، حزب القوميين الأحرار، حزب الأحرار، الحزب الجمهوري، ونفر من المستقلين). (عن حزب الأمة، التاريخ: المراحل السبعة، "المرحلة الأولى: تكوين الحزب 1945م وحتى انقلاب 1958م"، حزب الأمة القومي، استرجاع (Retrieved) بتاريخ 23/8/2010م، الموقع على الإنترنت: http://www.umma.org). كتب الدكتور فيصل عبد الرحمن على طه قائلاً: (لقد تعاون الحزب الجمهوري مع حزب الأمة وأحزاب استقلالية أخرى في إطار الجبهة الاستقلالية عندما أوقف حزب الأمة التعاون مع حكومة السودان وأعلن الجهاد. وقد عبَّر الحزب الجمهوري عن ذلك بقوله: "كانت هناك حواجز بيننا وبين حزب الأمة، ولكن عندما أعلن الجهاد ورفض التعاون مع الإنجليز سقطت تلك الحواجز، واشتركنا في الجبهة الاستقلالية"). (فيصل عبد الرحمن على طه، الحركة السياسية السودانية والصراع المصري السوداني بشأن السودان (1936م-1953م)، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، أم درمان، ط2، 2004م، ص 231). أيضاً، كتب الأستاذ يحيى محمد عبد القادر وهو يتحدث عن أبرز أعمال الحزب الجمهوري في الطور الثاني، قائلاً: (وكان من أبرز أعمال الحزب خلال هذه الفترة تعاونه مع الجهة الاستقلالية لمحاربة مشروع اتفاقية صدقي – بيفن التي أقرّت وضع السودان في محيط وحدة وادي النيل.. ثم انسحابه من الجبهة بعد انقشاع هذه المخاوف). (يحيي محمد عبد القادر، شخصيات من السودان: أسرار وراء الرجال، ج3، الخرطوم، المطبوعات العربية للتأليف والترجمة، ط2، 1987م، ص 144-146). الشاهد، أن الأستاذ محمود رئيس الحزب الجمهوري كان جزءاً من الجبهة الاستقلالية، ومشاركاً في نشاطاتها، وعلى الرغم من ذلك لم يذكر المحجوب شيئاً في مذكراته عن الأستاذ محمود أو عن الحزب الجمهوري.
تكوين الجبهة الاستقلالية (الثانية)
تشكلت الجبهة الاستقلالية مرة ثانية في يناير 1955م، وكانت أوسع في عضويتها من تلك التي تكوَّنت عام 1946م. وكان الحزب الجمهوري برئاسة الأستاذ محمود عضواً فيها. كتب الدكتور فيصل عبد الرحمن على طه قائلاً: (في الليلة السياسية التي أُقيمت بدار الجبهة المعادية للاستعمار في 23 يناير 1955م وشارك فيها خطباء من حزب الأمة وحزب الاستقلال الجمهوري، دعا محمد أحمد المحجوب زعيم المعارضة لتكوين جبهة وطنية للاستقلال واقترح تكوين لجنة تمهيدية لدراسة المشروع. استجابت لدعوة المحجوب أحزاب الأمة والجمهوري والجمهوري الاشتراكي والجبهة المعادية للاستعمار وشخصيات مستقلة وشخصيات عمالية). (فيصل عبد الرحمن على طه، السودان على مشارف الاستقلال الثاني (1954م-1956م)، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، أم درمان، ط1، 2010م، ص 205).وقد تم بعد ذلك تكوين الجبهة الاستقلالية. يقول الدكتور فيصل في كتابه آنف الذكر، وفي أول اجتماع أخذ المجتمعون بالأسس التي أقترحها إتحاد طلاب كلية الخرطوم الجامعية وهي: الاستقلال التام، وكفالة الحريات العامة، وعدم ربط البلاد بالأحلاف العسكرية ومعونات الدول الأجنبية التي تؤثر على سيادة البلاد. ومن ثم حددت الجبهة الواجبات العملية التي ينبغي القيام بها، وتطورت مطالبها. وفي اجتماع عقد في 5 مارس قررت الجبهة الاستقلالية تقديم اقتراح للبرلمان يدعو للجلاء الفوري للقوات المصرية والبريطانية عن السودان بموجب المادة 9 من اتفاقية عام 1953م بشأن الحكم الذاتي وتقرير المصير للسودان. الشاهد أن الحزب الجمهوري برئاسة الأستاذ محمود كان عضواً في الجبهة الاستقلالية حتى جاء انسحابه منها في يونيو 1955م، قائلاً إنه انسحب من الجبهة لأنه يرى أن الهدف الأساسي قد تحقق. قال الدكتور فيصل: (أعلن الحزب الجمهوري في منتصف يونيو 1955م انسحابه من الجبهة الاستقلالية لأن الفكرة الاستقلالية قد تركزت في أذهان السودانيين جميعاً). (فيصل عبد الرحمن على طه، السودان على مشارف الاستقلال الثاني (1954م-1956م)، ص 214، 215).
لجنة الدستور القومية
أشترك السيد المحجوب والأستاذ محمود في أعمال عديدة كما ذكرت، وكان من بين هذه الأعمال العضوية في لجنة الدستور القومية. يقول الدكتور إبراهيم محمد حاج موسى: (شكلت اللجنة القومية للدستور في سبتمبر سنة 1956م لوضع مشروع للدستور الدائم يعرض على الجمعية التأسيسة عند قيامها). وأشار الدكتور إبراهيم إلى أن مشروع الدستور الذي أعدته اللجنة لم يعرض على الجمعية التأسيسية بسبب وقوع الانقلاب العسكري 17 نوفمبر 1958م. (إبراهيم محمد حاج موسى، التجربة الديمقراطية وتطور نظم الحكم في السودان، جامعة القاهرة، 1970م، ص 71). ويضيف الدكتور فيصل عبد الرحمن علي طه قائلاً: (... تم تكوين لجنة قومية من 46 عضواً لوضع الدستور الدائم للبلاد). ثم ذكر الدكتور فيصل اسماء أعضاء اللجنة وكان من بينهم الأستاذ محمود والسيد المحجوب. (فيصل عبد الرحمن على طه، السودان على مشارف الاستقلال الثاني (1954م-1956م)، ص 351). تقدم الأستاذ محمود إلى اللجنة باقتراح طلب فيه بأن تكون لجنة الدستور مستقلة استقلالاً تاماً عن الحكومة، تعين رئيسها وأعضاءها، وتتخذ ما تشاء، بعيدة عن الحكومة، فسقط الاقتراح. عندها أعلن الأستاذ محمود رئيس الحزب الجمهوري انسحابه من اللجنة، وكتب خطاباً نُشر بجريدة الرأي العام بتاريخ 26/1/1957م، جاء فيه:
(حضرة السيد رئيس لجنة الدستور القومية، والسادة أعضاء اللجنة المحترمين
تحية طيبة، وبعد: يؤسفنا أن نبلغكم إنسحابنا من اللجنة القومية للدستور، وذلك لانهيار الأساس الذي قبلنا به الإشتراك فيها.. فقد جاءت فكرة تكوين هذه اللجنة عقب رغبة حقيقية أعلنها الرأي العام السوداني، كيما تساعد على إبراز الرأي المعبر عن مُثُل الشعب الإنسانية، ليصاغ منها دستوره، وقامت الحكومة بتنفيذ فكرة تكوين اللجنة باعتبار أنها أصلح من يقوم بمثل هذا العمل.. وما كنا لنبخس الحكومة حقها في شكرها على أدائها هذا العمل لو سارت فيه السير الصحيح.. ولكن مع الأسف كونت اللجنة بصورة يصدق عليها أن تعتبر لجنة حكومية، وليست قومية، فاستحلّت الحكومة لنفسها أن تعيّن رئيسها، وتعيّن أعضاءها المستقلين، حسبما يروقها، وهذه من أخص حقوق اللجنة التي ما كان للحكومة أن تتغوّل عليها.. وكان أملنا أن تسترد اللجنة حقوقها المسلوبة، ولكن اللجنة نفسها، خذلتنا عندما أسقطت الإقتراح الذي تقدمنا به في هذا الصدد فارتضت لنفسها بذلك وضعاً مهيناً، لا نشعر بالكرامة في قبوله، والإستمرار فيه.. وقد قال بعض أعضاء اللجنة، أن اللجنة عينتها الحكومة، وعينت لها اختصاصاتها، وليس من حق أعضائها أن يعيدوا النظر فيما حددته الحكومة، بل لا يتورّع بعض الأعضاء من أن يعلن أن الدستور منحة تمنحها الحكومة للشعب الذي هي ولية أمره فيفصح بذلك عن كفرانه بالشعب أصل الدساتير، كل هذا يقال داخل اللجنة، واللجنة تقبله. وبذلك وضح أن الحكومة تريد أن تجعل هذه اللجنة مخلب قط في يدها وتتخذ منها أداة لعمل تلبسه ثوب القومية.. وإزاء كل هذا لا يسعنا إلا أن نعلن إنفصالنا من هذه اللجنة.. وختاماً تفضلوا بقبول فائق الاحترام. الحزب الجمهوري). (معالم على طريق تطور الفكرة الجمهورية، الكتاب الثانى، الإخوان الجمهوريون، ط1، 1976م). الكتاب منشور في موقع الفكرة الجمهورية على الإنترنت: http://www.alfikra.org)
الشاهد أن الأستاذ محمود رئيس الحزب الجمهوري ليس شخصاً يمكن لمعاصريه أن ينسوه، وهو بهذه السيرة النضالية الناصعة، والحضور القوي والمشاركة الفعالة في الأحداث وصناعتها، اللهم إلا لمن رغب في التناسي وعمد للتجاهل، وهذا ما حدث عند المحجوب حينما كتب مذكراته. كان البروفسير أبو سليم قد أعد دراسة عن المحجوب، وتناول فيها مذكراته: (الديمقراطية في الميزان). عاب أبو سليم ترجمة الكتاب لما فيها من كثرة الأخطاء، وأشار إلى أن النسخة المترجمة سقط فيها الإهداء وأُسقطت منها الصور. وخلص أبو سليم في دراسته للكتاب، أن الكتاب صدمه لكثرة ما فيه من الذاتية، وذكر أنه بلغ نهايته في القراءة على كره. فالكتاب صوَّر الأحداث كأنما مفاتيح السياسة السودانية كانت في يد المحجوب، وأن المحجوب أعطى نفسه أكبر مما كان له حقيقة. كان المحجوب يصور الأمور كأنه المنفرد بها، والصانع لها، وكان يغفل من ساهموا معه، وصوِّر الأمور كأنها ثمرة جهده الخاص. (أبو سليم، مصدر سابق، ص 39، 42). إن الإغفال للآخرين في مذكرات المحجوب كان واضحاً، خاصة إغفال الأستاذ محمود وإغفال قيام الحزب الجمهوري. لقد ثبت أن المحجوب كان يعرف نضال الأستاذ محمود ويعلم بسجنه وقد زاره فيه. بل أشترك المحجوب مع الأستاذ محمود في أعمال عديدة وبالطبع جمعت بينهما اجتماعات كثيرة في نشاطات الجبهة الاستقلالية الأولى والثانية وفي لجنة الدستور القومية. وبرغم كل ذلك أغفل المحجوب ذكر الأستاذ محمود والحزب الجمهوري وهو يتحدث عن قيام الأحزاب، ولم ترد حتى مجرد إشارة للحزب الجمهوري وهو أول حزب استقلالي وكان المحجوب استقلالياً. إن أمر تجاهل الأستاذ محمود وإغفال ذكره وحجب نضاله وتهميش دوره، أمر اتفق فيه معظم معاصري الأستاذ محمود من طلائع المتعلمين عندما كتبوا مذكراتهم. وهذا يدعم ما ذهب إليه الدكتور محمد سعيد القدَّال في دراسته: "ملاحظات حول بعض كتب السِّيرة الذاتية السودانية وقيمتها كمصدر لدراسة التاريخ"، والتي خلص فيها -كما وردت الإشارة في الحلقات السابقة- قائلاً: (إن قيمة غالبية هذه الكتب كمصدر للتاريخ ضعيف، وبعضها لا قيمة له). وقد كانت مذكرات السيد محمد أحمد المحجوب من ضمن النماذج التي قام بدراستها الدكتور القدَّال. لم يستثنِ القدال من نماذج المذكرات التي درسها إلا مذكرات الشيخ بابكر بدري (1864م-1954م): (تاريخ حياتي، ثلاثة أجزاء). وصف القدَّال مذكرات الشيخ بابكر بدري بأنها ذات قيمة فنية، وقيمة تاريخية، وعدَّها نموذجاً للسيرة الذاتية. (محمد سعيد القدَّال، الانتماء والاغتراب: دراسات ومقالات في تاريخ السودان الحديث، دار الجيل، بيروت، 1992م، ص 133-152).
نلتقي يوم الخميس القادم...
(نقلاً عن صحيفة الأحداث، الخميس 16 ديسمبر 2010م)
(abdallaelbashir@gmail.com)