استراحة مغترب على شواطيء مهجر منبسطة
استراحة مغترب على شواطيء مهجر منبسطة
أحمد إبراهيم أبوشوك
يكتنز مصطلح الاغتراب مفاهيم متعددة، تتراوح في معانيها ومضامينها بين القِيَم الماديَّة المحسوسة والمعنويَّة المغروسة في نفس المغترب، الذي تتجاذبه أحلام العودة إلى الجذور، ومبررات الإقامة في أرض المهجر، وبين هذه وتلك تطل على ذائقته التاريخية كلمات الفنان المبدع الطيِّب عبد الله: "الغريب عن وطنو مهما طال غيابو *** مصيرو يرجع تاني لي أهلو وصحابو *** ينسى آلامو وشجونو ينسى حرمانو وعذابو *** إلا قلبي في هواك طال اغترابو". فلا غرو أن هذه المقاطع الشاعرية تشكل لوحة عاطفية في مخيلة كل مغترب أعياه الاغتراب؛ لأنها تستيقظ في ذاته روح الحنين إلى الوطن، التي تجعل حاله أشبه بحال أديبنا الراحل الطيِّب صالح، عندما رفض الدكتور منصور خالد أن يطلق عليه صفة المهاجر، أو اللاجئ، أو المنفي، متعللاً بأن "الأوطان ليست ظواهر جغرافية" ثابتة، بل هي قيم متحركة على سهول "قلوب أصحابها" الضاربة بوجودها المحسوس في بيداء الاغتراب وإسقاطاته السالبة. وقد أكد هذه الفرضية الأستاذ الطيِّب صالح نفسه في إجابته عن السؤال الذي طرحه عليه الصحافي خالد الأعيسر في حوار تلفزيوني: "ألم يحن وقت هجرة الطيِّب صالح جنوباً للاستمتاع بدفء العشيرة والأهل، بعيداً عن بلاد تموت من البرد حيتانها كما وصفتها؟" فجاء رد "المريود" حزيناً، أبكى المجيب أولاً، قبل أن يبكي مستمعيه: "أنا دائماً أقول حين أواجه بهذا السؤال بأنني أحمل السودان بين أضلاعي... ولست في حاجة إلى أن أعود إليه لأنني عايش فيه... لكن عندي أمل قوي إن شاء الله قبل ما نودع هذه الدنيا، نزور البلد، ونشم هواها، ونشم تربتها، ونرى ما بقى من الأصحاب." ولكن للأسف تأتي الأقدار بملا يشتهي السَفِنُ؛ لأن مرض الكُلى اللعين أقعد الطيِّب عن الحركة في سنواته الأخيرة، وأن روحه الصالحة رجعت إلى بارئها راضية مرضية قبل أن يجدد صاحب موسم الهجرة إلى الشمال زيارته إلى الجنوب (السودان)، ويتكرف من نسمات هوائه الطلق، ويستنشق رائحة تُربته المتعقة بعرق التربالة، بل عاد إلى أرض الوطن جسده الطاهر محمولاً على الأعناق إلى مقابر البكري بأمدرمان في شتاء عام 2009م. هكذا فُصل جسد المريود الذي أرهقه المرض عن روحه المطمئنة التي كانت تحن دوماً إلى السودان، حنين المرضعات إلى الفطيم. ألا رحم الله الطيِّب صالح رحمة واسعة بقدر ما أحب السودان وأهله.
الطيب صالح، صديق أحمد، أحمد أبوشوك
ومن الذين ظلوا يشاطرون الأستاذ الطيِّب ذلك الحنين الدافق إلى أرض الوطن الدكتور خالد فتح الرحمن، الذي لازم الطيِّب ومجالس أنسه ملازمة الحوار المطيع خلال العشر سنوات الأخيرة من عُمْر صاحب "دومة ود حامد .. وموسم الهجرة إلى الشمال .. وعُرس الزين .. وضو البيت"، الذي كان حافلاً بالعطاء والإبداع. وكان أخر عهدي بالأخ الدكتور خالد فتح الرحمن وأستاذنا الطيِّب صيف عام 2008م، عندما أعدَّ سفير السودان بلندن الأستاذ عمر محمد أحمد صديق جلسة أنس سامية المقام، في نهار التاسع والعشرين من يونيو 2008م، بمنزله العامر بإحدى ضواحي لندن، وكان ضيوف شرف تلك الجلسة السامرة أستاذنا الطيِّب صالح طيب الله ثراه، والصحافي محمد الحسن أحمد عليه الرحمة ولأهله حسن العزاء، والدكتور خالد المبارك، والأستاذ محمود صالح عثمان صالح، والدكتور حماد عمر بقادي، ورهط من طاقم سفارة السودان بلندن، وزان تلك الجلسة السامرة جمالاً على جمالها حضور الفنان المبدع صديق أحمد التاجر، وإداره الدكتور خالد فتح الرحمن لمداخل الحوار والأنس، وتوطينها على ضفاف التراث السوداني التي كانت مُعطرة بأنغام الفنان صديق أحمد وكلمات شعراء منحنى النيل والسافل.
وأطلت تلك الجلسة برأسها مرة أخرى في اللقاء الذي أعدَّه لنا الصحافي الأستاذ عادل الباز بمطاعم بندا بالخرطوم، وذلك في أمسية الثلاثاء الموافقة للأول من ديسمبر 2010م، وجمعت تلك الجلسة بين ظهرانيها الأديبين اللامعين الدكتور خالد فتح الرحمن والدكتور عبد الله حمدنا، وكلاهما من المعجبين والدراسين الفاحصين في أدبيات الأستاذ الطيِّب صالح، وغاب عن ذلك اللقاء الأستاذ الألمعي الياس فتح الرحمن لعذر اجتماعي طارئ، أجبره على السفر إلى نواحي الصعيد. وفي تلك الأمسية الخالدة التي تناولنا فيها جملة من القضايا والنكات المرتبطة بتراث أهل السودان، حاول الأخ الدكتور خالد فتح الرحمن أن يعود بنا إلى الوراء، ساطعاً الضوء على بعض جوانب الجلسة التي جمعتنا بالأديب الطيِّب صالح في لندن.
ومن أهم القضايا التي طرحها الأستاذ الطيِّب بدعابته المعهودة في ذلك اللقاء كانت قضية عودة الطيور المهاجرة إلى أوكارها، وجاء طرحه الضمني في صلب السؤال الذي وجهه إلى كاتب هذه السطور: "يا أب شوك كان طلب منك ترجع السودان، وتمشي تقعد في قنتي على عنقريب هبابي، وتشرب الشاي الأحمر بالنعناع في ضل النخيل مابترجع؟" فالسؤال كان يحمل في طياته أكثر من إيماءة، والإجابة عنه لم تكن بالأمر السهل في ذلك الواقع المعقد، فلزمتُ الصمت، بل كان صمتاً يُفسر بأنه نوع من أنواع الرضا، أو ضرب من ضروب الرفض غير المعلنة. إلا أن الإجابة الضمنية عن ذلك السؤال جاءت في قصيدة الأستاذ الراحل عبد الله محمد خير التي صدح بها الفنان صديق أحمد في تلك الجلسة، بأداءٍ متفردٍ، أثار في نفس الأديب الطيِّب والحضور الكريم لواعج شوق دفنية إلى أرض الوطن، جسدت نفسها في أحلام العودة إلى الجذور التي ظلت حُلماً يراود كل مغترب أو مهاجر، وأثراً مركوزاً في مخيلة صاحب "مريود وضو البيت". وتقول بعض مقاطع تلك القصيدة التي تفاعل معها الحضور المهجري تفاعلاً باذخاً.
يا قمره ... صبي السنسني الحمره
شوفي أبوي أنا الراجاهو كلو صباح
يا زينوبه أبوكي هو أصلو حالو بره
لو قاري العلم هو ولاهو سيد خبره
ومو زول غربه لكن الظروف جابره
مالو إن كان صبر كل الخلوق صابره
والصابرات روابح لو يجن قماح
****
هو أصلو متين نساكم يُمة شان يطره
بيتنفس هوا ذكراكم العطره
رهيف إحساس حنين قلبو بالفطره
نديمو بقت دموعو الديمه منقطره
وأصلو إن ما قعد بينكم ولا بيرتاح
****
جاهو العيد كمان زاد القليب حسره
ساد العبره حلقو ونفسو منكسره
هو لا لمّ القروش لا حصل المسره
بلد ما فيها زول مات من عدم كسره
فراقكم ليها يا أحباب ولا كان صاح
*****
يا أمارتي الما طاعت الأمره
ندماني وبقت محتاره في أمره
بعد قسن الدرادر قصرن عمره
الشوق فاض وعماها الحنين غمره
الشوق للبلد لي بهجته وسمره
الشوق لي مقيلا ضم ضم تمره
الشوق لي حديثا ضم ضو قمره
الشوق للبلد جابريتا وككره
كان الشوق يخفف والله يبرى جراح
****
وعند هذا المنعطف الشاعري وتلك اللوحة الجمالية الناظمة لآهات المغتربين سالت دموع الطيِّب صالح فيَّاضةً، وشاطره الحضور نفس المشاعر والأحاسيس، أنها كانت لحظة استفزاز غامرة، لأن الأستاذ عبد الله محمد خير، على لسان البلبل الغريد صديق أحمد، استطاع أن يصور مشاعر المغتربين المتنازعة بين أحلام العودة إلى الجذور والإذعان إلى ضنك المعاناة في أرض المهجر. والغريب في الأمر أن شيخ العاشقين عبد الله محمد خير نفسه كان في تلك اللحظة في حالة اغتراب مرضية بقاهرة المعز، وكان الأستاذ صديق يهم بالعودة إلى زيارته؛ لأن بين صديق وعبد الله عرى صداقة فنية طويلة الأمد، ومتينة العود، يصعب تصويرها في فضاء هذا المقال، فضلاً عن أنها كانت ذات أغصان أخوية وارفة الظلال، يتجاوز فيض حنانها الدافق سطوح الأدبيات الإخوانية المطمورة بالمحبة، وتسمو سقوفها على سقوف العلائق الإنسانية القائمة على فطرة التواصل مع الآخر.
وقبل أن ترفع تلك الجلسة اللندنية السامرة أعطافها واصل الفنان صديق أحمد التغريد والإنشاد في فناء دار السفير عمر صديق بقصيدة تراثية كانت محببة إلى نفس الفقيد الطيِّب صالح، وتقول بعض مقاطعها:
الرسول يا ود عمتي إن درت راحتي ودر جمتي
رسل التسريح اللجي
نركب البيصابق الريح ونمشي في الخرتوم نستريح
الخدامي تسوي التبيخ وكل جمعة نزور الضريح
الرسول يا أم الهداي قولي لي أمي أنا ماني جاي
كنا نشرب لبن السعي بقينا نشرب لبن الشـراي
ألمي بالماسورة جــاي تبيخنا في الحلي أم غتاي ***
وعندما زرتُ قريتي قنتي في شتاء هذا العام (2010م)، تذكرتُ تعليقات الأديب الراحل الطيِّب صالح، وملاحظاته الفطنة والطريفة عن هذه القصيدة (أو الرمية) التراثية المعتقة؛ لأن بين قنتي وكرمكول وبقية القرى المصطفة على ضفاف النيل فراسخ أميال تُعدُّ، ووشاج قربى تحصى، ولكن للأسف طرفاً من قيم تلك القرى التراثية الرائعة بدأ في الإندثار، فلبن السعاية تحول إلى "حليب كابو"، وحلت بعض قيم المدنية الحديثة محل بعض مآثر تلك القرى البادية، وأضحت كلمات الشاعر إسماعين حسن ود حد الزين في غير موضعها: "مابتحش قش التناقير *** مابتشيل جردل على الزير *** الزراق فوقا تقول حرير *** شتتي الشبـّال يا أم ضمير *** خلي قلوب الصبيان تطير*** إنتي ريحتك دمور فرير *** ولا بت السودان أصيل". وقد علَّق الأخ المغترب الأستاذ أسامة عثمان على هذه المشاهد في منتديات منطقة التضامن، بقوله: "لقد تشوهت المعالم، وبهتت الأماكن، وانكفأت الأمور ... وتغير الطعم، وتحول اللون، وتناثرت الرائحة ... كانت الحياة قديماً في التحتانية والحلة التحت، وللأسف رأيتها اليوم في الحلة الفوقانية التي كنا نسميها بالخلا، غبشاءً بغباش تربتها، ومالحةً بملوحة رملتها، وقاسيةً بقساوة الصّي... هكذا انقلبت الحياة، وفرض الطريق المسفلت واجهةً غير التي نعرفها... يا حليل درب البص، ودرب اللواري بنص البلد، تلك كانت هي الواجهة والمعالم الرئيسة، والحياة كما نعرفها، معتقة برائحة المتمرة، وطعم الجُرُم، وود لقاي، وكيفنكم، وإن شاء الله طيبين، وحمديلي على السلامة .." هذه هي القيم والمشاهد التي أفتقدها الطيِّب صالح وطناً، وصورها أدباً في روائعه الروائية، وفي الوقت ذاته كان يحن لرؤيتها قبل أن يوافيه الأجل؛ لأن العودة إلى أرض الآباء والأجداد، كانت تعني بالنسبة له شراب الموية من القُلَّة، وأكل الكِسْرة بالويكة الخضرا من الجروف، والرقاد في حوش الديوان على القفا، ومعاينة السماء صافية زي العجب، والقمر يلهلج زي صحن الفضة، ذلك هو الزمان الزين، الذي كان يحلم صاحب عُرس الزين بمشاهدته قبل الرحيل، لكن الأقدار بيد الخالق، والأحلام بيد الخلق وطموحاتهم المشروعة إلى أن ينجلي فجر القَدر الصادق.
وتتعلق على جدار رحم معاناة الاغتراب هذه نطفة مستقبل أبناء المغتربين، الذين يعيشون في حالة تنازع بين قيم أرض مهجرهم التي يقيمون فيها وبين تراث موطن آبائهم وأجدادهم، فنلحظ أن ثقافة هؤلاء تمثل ثقافةً عواناً بين الطرفين؛ لأنهم مواطنون خلاسيون في المهجر، ومواطنون خُلَّص في الوطن الأم، الذي يحملون جواز سفره، ويشكلون انتماءهم الصوري إليه، ولكن تنقصهم ثقافة ذلك الواقع الذي عاش آباؤهم بين ظهرانيه، فإذا أردت أن تجري حواراً تراثياً ناجحاً مع أحدهم، أو إحداهن، فعليك أن تسبق ذلك بدروس مكثفة في قاموس اللهجة العامية في السودان؛ لأن الاغتراب عن أرض الوطن قد سلبهم الكثير من واقع أهلهم التراثي، ولكنه في الوقت نفسه أكسب معظهم حظاً أوفر في التعليم المدني، والثقافة العامة، والتواصل مع الآخر فوق قيود الانتماءات الإثنية، التي أضحت ذات كيلٍ فاحشٍ في السنوات الأخيرة من عمر السودان الوطن الواحد، قبل أن يكون وطنين لشعبين متخاصمين. فنسأل الله أن يرد غربة المغتربين ذاتاً وأرضاً، سالمين وغانمين إلى وطن يرفرف في ربوعه الأمن والاستقرار، والحرية والديمقراطية، ويستقيم في فضاءاته الواسعة كسب العيش الكريم، رزقاً حلالاً طيباً من أجور عرق الجبين، وعطاء أهله المبدعين، بعيداً عن كيل السُحت المبخوس، واستغلال المال العام.