عبد الإله زمراوي: وهبنا الله وطنا عظيما وشعبا محبا فريدا ولكن الساسة تكالبوا عليه تمزيقا وتفتيتا
الشاعر السودانى الكبير عبد الإله زمراوي صوت الوطن وشاعر الغضب النبيل ل"الأهرام ":
وهبنا الله وطنا عظيما وشعبا محبا فريدا ولكن الساسة تكالبوا عليه تمزيقا وتفتيتا حتى إنشطر من الآلام
الشعر هو أعلى أدوات المقاومة ...و الشاعر الحقيقي هو زرقاء اليمامة لأمته
أجرت الحوار
أسماء الحسينى
Alshareefaasmaa224@hotmail.com
الشاعر عبد الإله زمراوي، شاعرٌ وقانوني سوداني وقاضٍ سابق. هاجر للولايات المتحدة في يناير 1990 ويستقر الآن بمهجره بشلالات نياجارا بكندا. صدرت له حتى الآن أربع دوواوين شعرية:(سيوفُ الجفون) الصادر عن مطابع الجزيرة بودمدني 1986 ، (صهوةُ العُمر الشقي) الصادر عن دار عزّة/مدبولي 2007، (أغنياتُ الليل) الصادر عن دار بعل للطباعة والنشر بدمشق 2008 وديوان (طبلُ الهوى) الصادر عن دار بعل للطباعة والنشر بدمشق يناير 2010. وتقوم الآن دار شرقيات بالقاهرة بإعادة طباعة ديوان (أغنيات الليل) طبعة ثانية بالتزامن مع معرض القاهرة الدولي للكتاب.
قدم له الشاعر السودانى الكبيرمحمد المكي ابراهيم في ثلاث دوواوين شعرية، واصفا إياه بالشاعر الجدير بالقراءة والجدير بالاستقرار في حافظة الجمهور القارىء،ويقول عنه أيضا "هكذا يغدو هذا الشاعر صوت الوطنية في زمن الصمت وشاعر الغضب النبيل في غيبة الوطن الممتدة. إنه شاعر جدير بالقراءة وجدير بالاستقرار في حافظة الجمهور القاريء".
وقال عنه والسودان في مفترق الطرق: "على أنغام زمراوى العذبة نشدُ الحزام على جراحِنا وأحلامِنا، فإن تكن الغلبةُ للأولى فإن ألحانه الجنائزية تصاحبنا ساعة الرحيل وتذهب عنا وحشتها الباهظة، وإن تكن الأخرى فإنَّ أنغامه ستكون نشيد انتصارنا والمارش البروسي الذي نمضي على إيقاعِه إلى سماءِ الحريةِ اللا محدود".
أما الشاعر العراقي صباح الفحام فقد وصف حاله وهو يقرأ عبد الإله زمراوي قائلا: "رحتُ أغوصُ في أعماق المعاني وأبعادها وشعوري في تلك الحالة أن روحي حلّقت مع الفكر في سماء الإبداع الرحب الذي زانته كواكب الكبرياء والتحدي التي اخترقت أشعتها ظلمات كل البدن!".
هذا ما قاله عنه شاعران في قامة محمد المكي إبراهيم وصباح الفحام، فماذا يقول هو عن تجربته الشعرية والإنسانية في ثنايا هذا اللقاء؟
تجربتي الشعرية هي بعمر الوعي الباكر الذي إكتسبته منذ الطفولة، فقد كنتُ أحس آنذاك بأن هنالك ثمة شىء في الأفق البعيد أراه ولا أعرف كنهه. وبقي هذا الشىء يزاورني من وقتٍ لآخر ، في أحلامي أو في يقظتي ثم تبينتُ عند إكتمال نضج العاطفة عندي أن ذلك الشىء كان ما يسمى بالشعر.
في البدء تهيبتُ هذا الشىء الغامض وكأنني رسولٌ ما تتنزل عليه نصوصٌ غامضة! وآثرتُ أن لا أنشر ما نظمته من تلك الأشعار إلا بعد توهجها ونضجها. كنت أعمل قاضيا في ذلك الوقت. وأتذكر أنني سعيت حثيثا لمقابلة سعادة السيد رئيس قضاء السودان (مولانا محمد ميرغني مبروك) مستفسرا عن أي أثر سالبٍ على مستقبلي المهني إن غامرت وطبعت ديوانا شعريا وقد فوجئت عندما استحثني و شجعني على النشر بعد أن قرأت بين يديه أشعاري من ديواني الأول (سيوفُ الجفون) وقد ذكرَّني بالشاعر العظيم والقاضي السابق والسياسي الحصيف محمد أحمد المحجوب رئيس وزراء السودان الأسبق الذي كان ينظم درر الشعر وهو جالسٌ في منصة القضاء في السودان. كان ذلك الديوان المتواضع بداياتي الشعرية.
. ثم تفرقت بيني وبين الشعر السُبل عندما تم فصلي بواسطة سلطة الإنقاذ في بداياتها فصلا تعسفيا فهاجرت مع آلاف السودانيين للخارج وتخيرتُ من بين الناس أميريكا الشمالي وقلتُ لنفسي من هنا أدخل منفاي. ومنذ العام 1990 وحتى العام 2007 نسيت أو تناسيتُ مسألة الشعر تماما وأنا ألهث في الأرض الجديدة حيث عملتُ في مكتب للمحاماة في العاصمة واشنطون. وفي العام (2007) ودونما مقدمات، طفح كيل الشعربركانا وغدت حياتي مسكونة به وفيه. كنتُ أنظم في تلك الفترة المجنونة ثلاث قصائد في اليوم ولم يتوقف هذا البركان حتى الآن وإن خفّت حدته وغدوتُ خائفا بعض الشىء منه.
في العام 2007 دفعتُ بكتابي الثاني للمطبعة (صهوةُ العُمر الشقي) ثم قبل أن يقرأه الناس دفعتُ بالثالث (أغنياتُ الليل) الذي تمت مصادرته من قِبل دولتين عربيتين بحجة إحتوائه على إيحاءات سياسية ودينية، الشىء الذي أحزنني كثيرا. وكذلك تمّ حجب كتابي الأخير (طبلُ الهوى) الصادر في 2010 في نفس هاتين الدولتين وقد تفطنتُ في غمرة أحزاني بأن الجمهور صار يتابعني والتف من حولي محبين كُثر يشدون من أزري واقترحوا أن أستخدم النشر الإلكتروني كوسيلة للوصول للقارىء وهكذا بدأ الناس يقرأون ما أكتبه من أشعار.
آثرتُ أن أورد كل هذا لأبين لقرائكم الكرام بأن تجربتي الشعرية قد بدأت مبكرا(مرحلة الكمون) ثم فاض الكيل فنشرتُ متأخرا وفي النهاية والبداية أترك الحكم للجمهور القارىء وللنقاد في تقييم تجربتي المتواضعة.
-حدثنا عن نشأتك وطفولتك الباكرة؟
شكرا سيدتي على هذا السؤال فقد نشأتُ في بيئة يغلب عليها التوادد والتراحم في قرية تسمى (كرمة) على الضفة الشرقية للنيل وكرمة هذه هي عاصمة (الكوشيين) الذين حكموا السودان ومصر (الملك النوبي تهارقا) . وهي اولى العواصم الحضرية والإدارية في العالم. والبيئة في كرمة هناك تأخذك بالسحر الكامل، فمن مشاهدة الآثار النوبية (كالدفوفة) الى مسامرة أشجار النخيل الى مراقبة النمط الإجتماعي البسيط بدهشة تامة حيث التداخل السلس بين النوبيين والمصريين الذين يقطنون تلك القرية منذ آلاف السنين، لا فرق بينهم البتة في التقاليد والعادات.
وبين هذا وذاك، فقد كنتُ مولعاً أيضا بزيارة قباب الأولياء الأجداد، بدءً من قبة جدي الشيخ زمراوي الولي وإنتهاءً بحضور حلقات الذكر وليالي المولد النبوي الشريف التي كان يحييها أهلنا من صعيد مصر. كانت الحياة تسير هينة سهلة وكان الناس محبون وعطوفون وحييون، ويكادون أن يصبحوا ملائكة من فرط الطيبة.
ـ جئت إلى اللغة العربية من بعيد أستاذ زمراوي إذ تعلمتها كسائر أبناء منطقتك في المدرسة ولم تكن لك "لغة أم" كما يقول الفرنجة. من أين لك كل هذه الجزالة والفصاحة والجدة في اللغة، التي تفاجئ بها من يقرؤك حتى ليخيل إليه أنك تبتدع اللغة ابتداعا؟
شكرا على حلاوة وطلاوة السؤال. سئلت هذا السؤال كثيرا حيث أنني نوبيٌ قُح لنا لغتنا القديمة وهي اللغة النوبية وهي مكتوبةٌ الآن لمن أراد دراستها . كان النظام التعليمي في السودان مضرب الأمثال في المنطقة العربية، بحيث ينشأ الطفل منذ المرحلة الإبتدائية متحدثا باللغة العربية ولبقا (عكس ما يشيعه البعض عن أهل السودان). وفوق هذا وذاك، فإن إرتباطنا التاريخي والقرب الجغرافي والوجداني لمصر أتاح لنا نحن النوبيين بأن ننهل من معين مبدعي الجارة الشقيقة وكنا نتسابق لنتحصل على مجلات روز اليوسف والهلال وصباح الخير وكنا أيضا نحفظ أشعار الشاعر الكبير أمل دنقل وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وفاروق جويدة وكنتُ مغرما أيضا بأشعارأمير الشعراء أحمد شوقي وشاعر النيل حافظ إبراهيم. فالثقافة العربية بلغتِها الرصينة كانت غير بعيدة عن تشكيل الذخيرة عندي وكان ذلك حال معظم أهل السودان.
ـ يقولون إن طفلا أو شيئا من طفل يختبئ داخل كل شاعر ومتذوق للشعر، وإنه يمثل له مصدر الدهشة الذي لا ينتهي. ما الذي تبقى من ذلك الطفل النوبي في نفس عبد الإله زمراوي؟
تناولتُ كثيرا هذا الطفل المخبوء في داخلي في العديد من القصائد التي نظمتها، فقد نشأتُ في بيئة رطبة فيها النخل الباسق والنيل الخالد. وما زالت دهشتي الأولى تتملكني بين حين وآخر وكأنني طفلٌ صغير وقد ارى نفسي عديد المرات (في أحلامي) وكأنني عدتُ لقريتي الوادعة من ساحة المولد النبوي الشريف ومعي أختي. ومنذ أن غادرت مسقط رأسي(كرمة البلد) للدراسة ومن ثمّ العمل بعيدا عنها، لم أحلم للحظة واحدة بمكانٍ آخر سوى موطني . وكم سخر مني الأصدقاء عندما كنت أحدثهم عن ذلك، مما حدا بي أن أنظم هذه الأبيات:
لا تَسْخَرُوا مِنِّي إذَا مَا جِئْتُ أحْمِلُ ذَرَّةً مِنْ رَمْلِ قَرْيَتِنَا أُعَفِّرُ فِي لآلِئِهَا جَبيني! أوْ فَلنَقُلْ: إنْ جئْتُ أحْمِلُ حَفْنَةً مِنْ تَمْرِ قَرْيَتِنَا أُمَرِّغُ فِي رَوَائِحِهَا حَنيني!
ـ الشعراء كما يقولون نوعين، نوع يطارد القصيدة ونوع تطارده، فمن أين النوعين أنت؟
دوما تطاردني القصيدة كما يطارد الصياد طريدته. فانا الطريدة أو قل الضحية. لا أملك إزاء هذا القَدر شيئا سوى تلبية رغبته. وقد صار الشعر عندي وكأنه أسير نفسه يأتي متثاقلا ليقول على لساني:
ما بَيْنَ مَسْرَايَ وَمَنْفَايَ رَهَنْتُ قَصيدتي وَنَقَشْتُ قَافيتي عَلَى رَملِ البُكاءْ!
ثم يُقولُني مرة اخرى:
وَحَمَلْتُ مَسْغَبَتي عَلَى خَطْوِي وَطُفْتُ عَلَى الْبسيطةِمِنْ أقَاصي الثَّلْجِ،جَمَّلْتُ الْمَكَانَ،عَزَفْتُ ألْحَاني وأَشعلتُ الْبُكَاءْ!
ثم إنني أصبحتُ أخشى على نفسي من الهلاك عندما أشرع في كتابة الشعر الباكي أو الغاضب.
4ـ كيف تتخلق القصيدة عند عبد الإله زمراوي إذن وكيف يحس مخاضها؟
لا أعرف والله كيف تتخلق القصيدة عندي لكنني كما اوردتُ في بعض قصائدي، فإن المخاض الشعري عندي أكاد لا أصفه بالكلمات بل قلته شعرا:
يا إلهي طائفٌ يسكنُني وغيومٌ تحتويني ورعودٌ تلتقيني بالأناشيدِ القديمة!
ذاتَ يومٍ …فاضتِ الأحلامُ بالكأسِ،رمتْني كالأبابيلِ،بأحجارٍ هميمة!
ـ ما الذي تمثله حالة الاستسلام للشعر عند زمراوي؟ هل هي لحظة زهو أم انكسار؟
هو زهوٌ وإنكسار وبينهما ترقد كلماتي:
مَا بَيْنَ
عَاطِفَتي الْفَطيرَةِوَانْكِسَارِ الْعُمُرِ،مِئْذَنَةُ الْبُكَاءْ!
أذِّنْ وَقُلْ حَيُّوا عَلَى الصَّبْرِ وَغَنُّوا أُغْنيَاتِ الْمَوْتِ وَافْتَرِشُوا الْعَزَاءْ!
لا تَسَلْني أيُّهَا الْقِدِّيسُ عَنْ أُمِّي الَّتي قَدْ أوْدَعَتْني
عِنْدَ سَقْفٍ ظَلَّ يَحْرُسُني يطِلُّ عَلَى السَّمَاءْ!
لاتَسَلْني
عَنْ بِلادٍكُنْتُ أُطْعِمُهَاكَعُصْفُورٍ بِمِنْقَاري
فَعَافَتْني
وَنَامَتْ في الْعَرَاءْ!
لا تَسَلْني
عَنْ حَبيبٍ أوْ قَريبٍ،كُلّهم يَبْكُونَ في شِعْري
وقدْ سكَتَ الغِناءْ!
ـ كيف ترتب هواجسك الشعرية وكيف تسوي شعثها وأنت القانوني بالمهنة، المشطور بين منطق القانون المنضبط وصوت الشعر المتفلت من كل عقال؟
أكون دائما في منزلتين منزلة القاضي الذي يزن البينات ويرجح فيما بينها كما كنت أفعل سابقا أثناء عملي بالقضاء، ثم أدرك سريعا بأن سلطان الشعر قد تملكني فأجثوبركبتي نحو المنزلة الثانية ـليأتي حكمي في نص شعري دون أن ينتقص ذلك من عدالته (الحق والخير والجمال).
ـ تتكرر مفردة الوطن في قصائد ودواوين زمراوي حتى تكاد تكون الناظم الأعلى بين كل ما أنتج، ما الذي يمثله الوطن بالنسبة لك؟ وما هو موقع الغربة في علاقتك به خصما وإضافة؟
لا أغالي إن قلتُ لكِ بأنني لا أنظم الشعر العاطفي أو الوجداني إلا لماما وكنتُ اردد دوما وما زلت بأن "لا حب في زمن الكوليرا"،فهذا العهد الغيهب الذي ما انفك يخنقنا بأزماته البالغة و قيمه السياسية والأدبية والإنسانية المنحدرة لا يترك لي أو لأي شاعر حقيقي موجوع مجالا ليبث لواعج حبه لهذا الكون المنبسط (الخالي من إنبعاثات ثاني أكسيد الكربون) أو تدبيج كلمات غازلة لإمراة أحببت عينيها أو لوردة شممتها فسحَرك عطرها أو لتغريد طائر الكنار في أيكه أو لزنبقةٍ كنا نجري وراءها في الحقول.
لقد عدتُ للوطن يا سيدتي بعد غيبة طويلة، كنتُ خلالها منفيا، ووجدتُ خرابا هائلا ومدويا وموجعا يكتنف أرجاءه الأربعة. الحكام عندنا للأسف يمتطون أحصنة جامحة دونما ألجمة تحجمها وهم في سباقهم الجنوني، أحرقوا الحرث والنسل كشأن التتار وكل ذلك باسم الله والدين، فشكرا لهم بعينٍ دامعة وفؤادٍ يتفطر.
شكرًا لأعْداءِ النَّهارْشكرًا لمَنْ باعوا لناالدِّينَ المُغلَّفَ بالبُهارْ!يا مَنْ سرقتم لوحَ جَدِّي ،واقْتسمتم بينكم صدفَ البحارْ !
ماذا أقول لجَدَّتي:يَبِستْ ضَراعاتي،وكَفِّي ما يزالُ على الجدارْ ؟أأقول لللَّيلِ البهيمِ ،يَلُفُّ خاصِرتي ويأويني:أمِّنْ صبحٍ ،يُنيرُ لنا الفَـنارْ ؟ماذا أقول لطفلةِ الصَّبارْ زنبقةَِ الكنارْ؟أأقولُ للأرضِ القِفارْهذا زمانُك يا تتارْ !!!
تألمتُ كثيرا مما رأيت من خراب وعدتُ أدراجي مهيض الجناح لمنفاي غاضبا جدا وحزينا جدا أكاد لا أصدق ما رأيت، وآثرت أن امطر هؤلاء العاقين حِمما ًمن الشعر مستصحبا ً كل تلك الألام والجراحات الصادحات. وكان غريبا وقع شعري على أصدقائي، فأنا لم شتم أحدا في حياتي لكنني شتمت الحاكم الظالم وقلت له:
تبت يدا الحاكم
قد تبّت يداه
إنه كالليل
والنوم أباه
سيفُه الوالغُ
ما أوسع مداه
من لم يمت بالسيفِ
أردته يداه
إن الوطن عندي خطٌ أحمرٌ لا يدخله الباطل من بين يديه ولامن خلفه، هو خط مستقيم يمتد من مهدك الى لحدك، هو أمي وأبي وأختي وأخي وحبيبي ومصيري وزوالي وحضوري وغيابي فإن لم تكن خيّرا كالأنبياء تجاه وطنك فأنت شاعرٌ او نبيٌ كاذب، والشعب هو الفيصل، فكم من شعراء إمتلكوا ناصية البيان ولكن ركلهم القراء وأداروا ظهورهم لهم.
لماذا يأخذك الوطن في كل أشعارك باكيا مرة ومغنيا له تارة اخرى، هل مهجركم البعيد بأميريكا الشمالية هو مبعث هذه الألام العظيمة؟
لقد إتخذتُ لنفسي ركنا قصياً قبالة الشلالات (نياجارا) وعشتُ حياة المنفيين عن أوطانهم الذين لم ينسوا الوطن لحظةً واحدة. إن الوطن هو اسمى ما يمتلكه الإنسان، فهو الأم الرءووم وهو الأب الرحيم وهو الصديق الوفي وهو الأرض والنيل والنخيل.
كلما تضيق بي الدنيا أنظر للوطن من خلال شاشة بانورامية عملاقة على مشارف تلك الشلالات وأنظم أشعاري منها. لقد أصدرتُ ثلاث دوواوين شعرية من تلةٍ تُطلُ على الشلال وكأنني أنظر للنيل وهو يجري من جنوبه لشماله.
قلتُ ذات مرة وأنا منجذبٌ:
مَا بَيْنَ مَسْرَايَ وَمَنْفَايَ
رَهَنْتُ قَصيدتي
وَنَقَشْتُ قَافيتي
عَلَى رَملِ البُكاءْ!
يَا أيُّها الْوَطَنُ الَّذي
نَاجَيْتُه وَبَكَيْتُ
مِثْلَ النَّوْرَسِ الْبَحْريِّ
عِنْدَ سَمَائِهِ الزَّرْقَاءْ!
وَنَشَرْتُ أجْنِحَتي
عَلَى شَفَقٍ
مِنْ الأحْلامِ وَالْبُشْرَى
وَأغْويتُ الرَجاءْ!
وَطَنٌ ، تَحَدَّيْتُ
الْمَجَرَّاتِ الْبعيدَةَ
وَارْتَقَيْتُ إلَى
صَلاةِ الْعِشْقِ،
حَدَّثْتُ السَّمَاءْ!
وَرَسَمْتُ عِنْدَسَمَائهِ
طُولِي وَعَرْضي
وَانْتِمَائي
وَاقْتَفَيْتُ خُطَى الصَّلاه!
وَحَمَلْتُ مَسْغَبَتي
عَلَى خَطْوِي
وَطُفْتُ عَلَى الْبسيطةِ
مِنْ أقَاصي الثَّلْجِ،
جَمَّلْتُ الْمَكَانَ،
عَزَفْتُ ألْحَاني
وأَشعلتُ الْبُكَاءْ!
*(مقاطع من قصيدة صلاةُ العِشق).
الذين تناولوا بالنقد والدراسة أشعارك دائما يصورون بأنك شاعر الثورة القادمة وبأنك شاعرٌ ثوري، أليست لك أشعار عاطفية؟
لا أحبُ وسمي بشاعر الثورة أو بشاعر المرأة أو غيرهما فالتسميات تُكبِّل الشاعر ولا يجعله قادرا على نظم أشعاره بحرية وكما تعلمين فإن الشعر فضاءٌ من الأحلام والرؤى والنبوءات. نعم أُقر بأنني أميل للشعر الثوري الحاد لأنني شعرتُ بأن الثورة تعتمل وتتقد في صدري نتيجة للمظالم التي يمر بها الإنسان في كل عصرٍ ومصر. ثم إنني أود أن أوضح لقرائكم الأعزاء بأن الوطن عندي ليس محددا بقطرٍ معين وإنما توصلت لقناعة تامة بأن الأرض الواسعة هذه هي أوطاني. الوطن عندي متعدد والحاكم الظالم والجلاد والضحية ليسوا بالضرورة من السودان أو مصر أو غيرهما من الدول. وقد هاجرت منذ نحو عقدين من الزمان لأميريكا الشمالية وعاشرتُ شعوبها وركلت عندهم كل موبقات العصبية والقبلية وصرتُ أميل كثيرا لمبدأ (الإنسانية).
عندي أشعار عاطفية نظمتها في عدة مرات ولكنها ليست من دائرة إهتماماتي الآن فقد أخذتني الأحزان والأشجان بعيدا عنها. لدي الآن أشعارٌ تمّ تلحينها بواسطة الملحن الخليجي الكبير خليفة جمعان السويدي وهي عبارة عن أوبريت غنائي يتكون من 12 لوحة شعرية وغنائية قمتُ بنظمها لبرنامج لكل ربيعٍ زهرة الذي ترعاه سمو الشيخة موزة حرم أمير دولة قطر. وهنالك ست فنانين من قطر ومصر والسودان يشاركون في هذا الأوبريت الضخم الذي سيتم تقديمه في فبراير 2011 على مسرح قطر الوطني.
كيف ينفعل الشاعر زمراوي بما يحدث لوطنه السودان من مظاهر تمزق وإنفصال ومستقبل مجهول لوحدة أراضيه، هل نظمت أشعارا للوطن؟
حزينٌ لما يحدث لوطني من مآسٍ بالغة وصراعٍ وتمزق. ومبعثُ حزني هو أن الله قد وهبنا وطنا عظيما شاسعا مليئا بالخيرات وشعبا محبا فريدا، إلا أن الساسة قد تكالبوا عليه تمزيقا وتفتيتا حتى إنشطر من الألام.
ليلي يكحَلُ نجمَـه
صخبُ الشتاءْ!
فإذا النُّجومُ تجاسرتْ
وتناثرتْ حوْلي
وأقبلتِ السَّماءْ،
وتهامستْ أجزاءُ قلبي
بالأنينِ وبعضِ
زَفراتِ الرَّجاءْ،
ماتتْ فراشاتي الحزينةُ
حسرةً وخَبَا الضِّـياءْ…!
قُلنا لكمْ
لا تتركوني للسِّباعِ
تَهُشُّ عنْ جسدي
ذُؤاباتِ الرَّجاءْ …!
قلنا لكم
قلبي على وطنٍ
تناثرَ حُزنُه
شرقاً وغرباً
والفراشاتُ الجميلةُ
غِبْنَ في شَفَـقِ العَزَاءْ …!
وما هو الخلاص في نظرك؟
ربما تسعفني هذه الأبيات:
على أمشاطِ القدمِ اليسرى
جاءتْني البُشرى
جاءتْني تتمايلُ كالأحلامْ!
قمري قد جادَ بحلَّتِه
وكذلك غمرتْني الأنسامْ !
عَبَدتُ مسيري ذاتَ ضحًى
وجلستُ أدَاعبُ في الأنغامْ!
“يا نورَ الحقِّ متَى غَدُهْ ” ؟
أقيامُ اللَّيلِ على الأحلامْ؟!
قدْ بِتُّ بجرحٍ في الغرَّةِ
ورماني الذِّئبُ مع الأغنامْ !
أعياني الوالي ذو الفاقة
ففقدْتُّ بريقَ الأيامْ !
وقضيتُ العمرَ على النَّاقة
ورقصتُ الفجرَ مع الأصنامْ!
يا ليلَ الوالي ذي الحاقة
أعياني الخوفُ مِنْ الأزلامْ!
ورماني الليلُ بِكَلكَلِهِ
فهجرتُ الشِّعرَ مع الأحلامْ !
“يا نورَ الحقِّ مَتَى غَدُهْ “؟
وطني…
وطني قدْ باتَ مِنْ الأيتامْ !
ماذا كتبت أخيرا والوطن يمر بأزمته الحالية؟
كتبتُ (دمعتان على الوطن) قلت فيها:
(1)
وجعي هنا...
وطني هناكَ
بدمعِه المسفوحِ
كحَّلَ مُهجتي
"شنفاً" وعَارْ!
وجَعي هُنا...
فلتَسفحي فَوقَ الجِراحِ
دموعَ عَسجدْ كي أرى...
عُصفورتين،
وأَيكَتين،
وجُلُنَّارْ!*
وجَعي هُناكَ
كَدَمعتينِ تَشَظَّتا
فوقَ الجبين وحَطّتا
مَا بينَ أنفاسي
وأَحْدَاقِ النَهَارْ!
وَجَعي هُنا وَطنٌ،
مَشيتُ على خُطاهُ،
رَسَمتُ خَطوي رائعاً:
"أُرجوحَتينِ وشمْعَتينِ"
على فَنّار!
شَمعٌ من الّلَّهبِ المُرفْرفِ
في جَبينِِ الليلِ،
نَاقوسٌ ونََارْ!
شَمعٌ من اللَّهفِ المُشرشَفِ
كإنبساطِ الريحِ
دَنْدَنةِ الكَنارْ!
(2)
هذه الصَحْراءُ مِنِّي
لم تَزلْ آثارُ أقدَامي
على الرَملِ إخْضِرارْ!
هذه الصَحراءُ مِنِّي
لم تَزَلْ أُمي،
وجَدي لم يَزَل يَروي
حِكاياتِ الصِغَارْ!
هذه الصَحراءُ مِنِّي
أرضَعَتني ثديَها الغَاضبَ
إعصَاراً ونَارْ!
هذه الصحراءُ مني
ارضعتني ثديَها الحالمَ
إكليلَ الفَخَارْ!
هذه الصَحراءُ مِنِّي
لمْ يَزَلْ قَصري عَلى
النيلِ مَزارْ!
(3)
وَجَعي هنا...
دُقِي طُبولَ المَوتِ..
صُبِي دمعتينِ
على التَتَارْ!
وَجَعي هنا...
دُقِي نحاسَ البُوقِ
كي يَحيَا النشيد
ونَشتَعِلْ
لَهباً ونَارْ!
وجعي هنا...
دَمعي ودَمعُكِ
دمعَتَانِ على المَدارْْ!
وجعي هنا...
وطني هناكَ
بدمعِه المسفوحِ
كحَّلَ مُهجتي
"شنفاً" وعَارْ!
ـ أستاذ زمراوي ألا تزال تراهن على الشعر بوصفه حافزا يمتلك القدرة على الحض والتحريك؟
قُلنا لكمْ لا تتركوني للسِّباعِ تَهُشُّ عنْ جسدي ذُؤاباتِ الرَّجاءْ …!
قلنا لكم قلبي على وطنٍ تناثرَ حُزنُه شرقاً وغرباًوالفراشاتُ الجميلةُغِبْنَ في شَفَـقِ العَزَاءْ …!
نعم ما زلتُ مؤمنا يقيناً بأن الشعر هو أعلى أدوات المقاومة، لم يمت الشعر بعد، وإن ترنح قليلا. ويجب أن يكون الشاعر الحقيقي متحفزا دوما ومتقدما دائما أمته ليرى لها بعيني زرقاء اليمامة ما لا يراه الغير. ثمّ إن الشعر ما زال مدهشا في إمتلاكه لقدرة التجييش وسوق الناس نحو مرافىء الحق والخير والجمال.
ـ لطالما بشرنا الشعر ـ وشعرك في خضمه ـ بعوالم جميلة تنتصر فيها إرادة الشعوب وتعلو فيها كلمتها؟
ما زال السجال قائما ما بين قوى الخير والشر في السودان الجريح وفي غيره من الأقطار وقد صارت الغلبة للأسف، مؤقتا للأشرار، لكنني أتنبأ صادقا وجازما بأن ليالي الطغاة قصيرة وأن أيامهم معدودة وسوف ينبثق الفجر الصادق قريبا.
يا وطني لا تَحزنْ فالفجرُ أراه يدقُّع لى الأبوابِ السَّمراءْ !
لا تحزنْ يا نبعَ الثُّوَّارِفالثورةُ حينَ تفاجئُنا كالبرقِ الخاطفِ،تأكلُهم كالنارِ الحمراءْ!
و تحصدُ أبناءَ الغولِ وتَسحقُ أحفادَ العنقاءْ!الثورةُ آتيةٌ لا رَيْبَ.صدِّقني يا وطنَ الشُّرفاءْ!
ـ إلى أي حد أنت مشغول بحفظ ذاكرتك الشعرية أستاذ زمراوي، وما الذي ستختاره للبقاء منها إن كان لا بد من الاختيار؟
الذاكرة الشعرية للشاعر هي مخزونه الفكري والإبداعي. يجب على الشاعر أن لا ينظر للأمور نظرة آنية أو سطحية أو ربحية،كأن ينظم شعرا ليبيعه للناس. فالشعر لا يُشترى والشعرُ لا يباع. الشعر الحقيقي هو الباقي بعد رحيل شاعره، قويا يصارع بمعناه ومبناه قوى الشر والظلم والإضطهاد والقمع في كل العصور. ثمّ أن الشعر الذي لا يخاطب الناس في كل عصرٍ ومصرٍ غير جديرٍ بحفظه في الذاكرة الجمعية للقراء.، والشاعرُ منه بإعتباره أول القارئين لما ينظمه من شعر. فإذا دبَّجتَ الآنَ قصيدة المديح العالي في أي حاكمٍ، مهما كان، فقطعا لن تُخلَّد تلك القصيدة في الذاكرة الجمعية ولن تستقر مثلما تستقر القصائد التي تحض على التمرد والثورة والإنعتاق من ربق العبودية والذل والقهر والهوان. الناس يحتفون بالحق والخير والجمال في الإطار الإنساني وهذا ما أسعى اليه دوما وأتمناه. كما أنه ليس ضروريا أن يحتفي الناس بأشعارك وأنت على قيد الحياة وإنما الأروع أن تأتي أجيال أخرى بعد مئات السنين ليستذكرها ويرددها. وبهذه المعانى سأختار كل ما كتبتُ من أشعارعلّها تضعني بين من وضعهم التأريخ في أسفاره وحقائبه.