مع الرئيس… في ربيع ثورة مصر -1-
ادخلوها بسلامٍ آمنين... تلك الآية أول ما تقع عيناي عليه، وأنا ألج فضاء القاهرة، ومنها غالباً ما أعبر بوابة المطار ومباشرة لسيدي الحسين (رضي الله عنه) لأصلي ركعتين، ثم بعد ذلك أهرع لوسط البلد عند جروبي لأتناول كوب الليمون المثلج، والقهوة التي تتميز بفرادة رائحتها، ثم أغشى مكتبة مدبولي والشروق وهما المكتبتان الشهيرتان بميدان طلعت حرب على بعد أمتار من الميدان الأشهر «التحرير». كانت هذه خارطة طريقي التي لم أسلك غيرها منذ أن وطئت أقدامي أرض الكنانة لأول مرة «صحفي تحت التدريب» في صحيفة الأهرام أوخر سبعينيات القرن الماضي. هذه المرة كانت غير... لم أرَ اللافتة التي أعتدت على رؤيتها بسبب أن الطائرة الرئاسية التي أقلتنا بصحبة الرئيس البشير للقاهرة الأربعاء الماضي، توقفت بعيداً في مدرج آخر على أبواب القاعة الرئاسية التي عادة ما يمر عبرها كبار الزوار، ولا يمكن رؤية تلك الآية.
والجو بالخارج منعش... إنه شتاء الحرية؛ ينعشك من أول نفس تأخذه خارج الطائرة... كان هواء القاهرة ملوثاً؛ وهي مدينة بها أعلى نسبة تلوث هواء في العالم الثالث.. ولكن الآن تحس بنقائه.... تمّت تنقيته على مصافي الحرية. نعم للحرية بصمتها في الهواء، كما لها بصمتها في الحياة!! لاحظت أن الرئيس البشير أكثر انتشاءً في هذه الزيارة من أي زيارة أخرى رافقته فيها.. ومعنوياته عالية، ولم يخالطه كدر، ولم أعرف السبب إلا بعد لقائه مع الأحزاب المصرية في منزل السفير عبد الرحمن سر الختم. تلك قصة أخرى سنعود إليها.
غادرنا بوابة المطار لمصر الجديدة؛ حيث مقر وزارة الدفاع؛ مقر المجلس الأعلى للقوات المسلحة. إذن لن أصلي ركعتين في الحسين، بل سنذهب إلى حيث مقر المشير طنطاوي ومجلسه الذي سيكون في استقبال الرئيس البشير. ثورة مصر غيّرت وستغير الشرق الأوسط، وها هي تغير برنامجي الذي اعتدت عليه لأكثر من ثلاثين عاماً!! رجل سبعيني يقف هاشاً باشاً وسط جنوده يداعب هذا، يتحدث مع هذا، ويضاحك ذاك... كنا قد رأيناه في أول أيام الثورة حينما نزل ميدان التحرير للقاء الثوار؛ هو نفسه الذي يقف الآن ببساطته في وسط الساحة لاستقبال الرئيس البشير على إيقاع السلاميْن الجمهوريين السوداني والمصري. غادرنا المكان حين رافق المشير طنطاوي البشير إلى قاعة المحادثات التي التأمت مع أعضاء المجلس. انزوينا في ركن قصي نتجرع الماء القراح... آه أين أنت يا جروبي!! أين رائحة البن وطعم الليمون؟ مالهذه القاهرة غابت عني معالمها.
وصلنا بعد انتهاء محادثات المشير والبشير إلى قصر القبة المقر الرئاسي التاريخي والفخم، والذي كان النظام السابق يضن به على أي رئيس سوداني... فُتح هذه المرة للرئيس عمر البشير. كان الرؤساء السودانيون إذا قدموا لمصر مقرهم الفنادق الصغيرة، أما القصور الرئاسية التاريخية والفخيمة فتُمنع عن السودان!! كيف ذلك يا مصر يا أخت بلادي يا شقيقة!! ولكن إذا كان السيد حسني لم يحسن في شعبه، فكيف يحسن في السودانيين!! سأحكي لكم قصة هذا القصر في حلقة أخرى. حتى لحظة دخولنا القصر لم نعرف ماهو البرنامج تحديداً، ولمَ هذه الزيارة، وماوراءها، وماهي أجندتها. هذه الزيارة التي انفردت بخبرها هذه الصحيفة بدت لنا أكثر من مهمة وخاصة في لحظات المخاض الصعبة إلى تعبرها مصر حالياً. فمن جهة ليس أولى من السودان بالسبق لزيارة مصر في مثل هذه الأوقات التي لأول مرة في التاريخ تحتاج فيها مصر لعون السودان ولوقفته جنبها.. وللسودان الكثير الذي يمكن أن يعين به مصر الآن؛ وهي تنشغل بملفات الداخل بشكل يشل حركاتها الخارجية. الآن للسودان واجب يؤديه تجاه مصر وخاصة في ما يخص موضوع المياه الذي يشهد تحركات محمومة في وقت تنكفي فيه مصر على شؤونها الداخلية المتوترة. قراءة الثابت والمتحول بعد الثورة في مصر يحتاج لزيارة خاصة للقاء الفاعلين في المجلس العسكري والسلطة الانتقالية والأطياف السياسية في مصر؛ وهذا ما تم كما سنرى في الحلقات القادمة.