واشنطن بوست: نحو دين تقدمي: واشنطن: محمد علي صالح
“Washington Post”: A New Religion in Washington
Mohammad Ali Salih
واشنطن: محمد علي صالح
تغيرت كثيرا العلاقات بين الاديان في واشنطن منذ ان جئت الى هنا قبل ثلاثين سنة في وظيفتي الحالية مراسلا صحافيا متفرغا لصحف ومجلات عربية في الشرق الاوسط.
في ذلك الوقت، لم يكن هناك المجلس الاميركي الاسلامي (تاسس سنة 1990). ولا مركز جامعة جورجتاون للتفاهم الاسلامي المسيحي (تاسس سنة 1993). ولا مجلس العلاقات الاميركية الاسلامية، كير (تاسس سنة 1994). كانت مضت سنوات قليلة على تاسيس "واشنطن انترفيث"، اول منظمة تجمع الاديان في واشنطن.
عندما رتبت هذه المنظمة سلسلة زيارات الى الكاتدرائية الوطنية، والمركز الاسلامي، ومعبد اداس اليهودي، كنت المسلم الوحيد الذي غطاها واشترك فيها. في ذلك الوقت، كانت اللقاءات رسمية، وحذرة، وفيها حساسيات كثيرة. وخاصة نحو المسلمين. ومرات كثيرة سئلت في تأدب: "اذا كان اسمك محمد، هل معنى ذلك انك مسلم؟"
----------------------------------
في الاسبوع الماضي، حضرت لقاء بين الاديان كان مختلفا جدا. كان مباشرا وصريحا، بدلا عن الدبلوماسية والمجاملات. وتحدث عن السياسة الامريكية الداخلية والخارجية، بدلا عن تحاشي الحديث في السياسة. وربط بين الدين والسياسة، بدلا عن فصل الدين عن السياسة. وضم ملحدين ووثنين، بدلا عن الاقتصار على اتباع الاديان السماوية. وعقد في مطعم، بدلا عن جامع او كنيسة او معبد يهودي.
عقد في "باسبويز اند بويتز"، الذي زرته لاول مرة، ورايت انه يجمع بين مطعم، ومكتبة، وبار، ومسرح. لم تكن اثاثه انيقة او منظمة. وكان هناك ضجيج كثير. ورايت رجلا في ركن يعزف غيثاره. ورايت فتاة تجلس على الارض، وامامها كومبيوتر وكأس نبيذ.
وعلى الحائط رسومات وشعارات وملصقات. وصور نيلسون مانديلا (زعيم جنوب افريقيا)، والمهاتما غاندي (زعيم الهند)، وشئ جيفارا (ثورى امريكا الجنوبية). وملصقة مكتوب عليها: "اذا تريد السلام، حارب من اجل العدل."
صحيفة "واشنطن بوست" وصفت المكان بانه "ملتقى التقدميين في واشنطن." وحسب القاموس السياسي الامريكي: "بروقريسف" (تقدمي) يقع على يسار "ليبراليست" (تحرري، ليبرالي). والتقدمي اكثر اهتماما برفع الظلم عن المظلومين، وبالتطوع لعمل الخير.
---------------------------------
كانت مناسبة هذا اللقاء بين الاديان هو تاسيس فرع في واشنطن لجمعية "سبريتشوال بروقريسيف" (التقدمية الروحانية). تؤمن هذه بان اصل التقدمية ليس كتب كارل ماركس عن الشيوعية، ولا كتب سارتر عن الاشتراكية. وان اصل التقدمية موجود في الكتب الدينية (باختلاف انواعها). لكن، يركز التقدميون الروحانيون على اشياء، ولا يركزون على اشياء اخرى:
في جانب، لا يركزون على الاختلافات بين الاديان السماوية وغير السماوية واللا دينية والالحاد. ولا يركزون على فتاوي رجال الدين (مسلمين ومسيحيين ويهود وبوذيين وهندوس وغيرهم).
في الجانب الآخر، يركزون على ان الدين، قبل ان يكون صلاة في مسجد او كنيسة او معبد، هو علاقة روحية مباشرة بين الانسان وما يؤمن به. ويحدد كل انسان الايمان الذي يريده: يؤمن بنفسه، او يؤمن بالله، او ببقرة، او ببوذا، او بشجرة، او بصنم.
ويرى التقدميون الروحانيون ان كل الاديان تتفق على رفع الظلم عن المظلومين. ولهذا، يرون ان رجال الدين (بمختلف اديانهم) يضيعون الوقت في مناقشات بيزنطية وفلسفية عن الخطا والصواب، وعن الحق والباطل، وعن موسى وعيسى ومحمد وبوذا وغيرهم. ولهذا، يركز التقدميون الروحانيون على رفع الظلم عن المظلومين. ليس بالكلام، ولكن بالاختلاط مع المظلومين والمحتاجين والضعفاء.
----------------------------------
بدأت الليلة الدينية اندرا بايلوس، يهودية اسست جمعية "انترفيث بيس" (مبادرة الاديان من اجل السلام). وقالت: "هذه ليلة عن التقدمية، والعمل الاجتماعي، والتطوع، وايضا عن الاديان."
واشتركت امرأتان في قراءة رسالة التقدميين: بيضاء مسيحية، وسوداء مسلمة: لويس دافيس التي اسست جمعية "اللاينس فور ريكونسيليشن" (تحالف من اجل المصالحة) للمصالحة بين البيض والسود وغيرهما. وزارينا شاكر التي تقدم برنامجا تلفزيونيا هو "بروسبيكتيف اوف انترفيث" (تطلعات الاديان).
قرأت المرأتان كلمات كتبها هوارد ثيرمان، تقدمي اميركي اسود توفي في القرن الماضي، تقول: "الذي يريد عمل الخير يحتار وهو يشاهد المشاكل بين انسان وانسان، وبين حزب وحزب، وبين دولة ودولة."
وغنى جيسي باليدوفسكي، مع فرقته الموسيقية، كلمات قصيدة كتبها قبل ثمانين سنة مارتن نيمولار، قس الماني في عهد هتلر. كان القس حزينا لان المثقفين الالمان لم يتحدوا هتلر. وكتب: "اعتقلت شرطة الامن الشيوعيين، ولم اتكلم لاني لست شيوعيا. ثم اعتقلوا قادة نقابات العمال، ولم اتكلم لاني لست نقابيا. ثم اعتقلوا اليهود، ولم اتكلم لاني لست يهوديا. ثم اعتقلوني، ولم يكن هناك من يتكلم بالنيابة عنى."
-------------------------------
وتكلم عن التقدمية، ورفع الظلم عن المظلومين، والتطوع لعمل الخير كل من:
قيلا لانقنر (الواعظة اليهودية في مستشفي جامعة جورجتاون). وجوهري عبد الملك (امام في مركز دار الهجرة في ضواحي واشنطن). وغيرليان هيغلر (قسيس في كنيسة المسيح الموحدة في واشنطن). وكيث اليسون (عضو الكونغرس المسلم). وميديا بنجامين (مؤسسة جمعية "كودبينك"، اللون الوردي، حيث تلبس النساء ملابس وردية، ويحملن وردوا، ويقفن امام الكونغرس، يعارضن ظلم السياسة الخارجية الامريكية، مثل غزو افغانستان والعراق).
ركز كل هؤلاء على التقدمية، ورفع الظلم عن المظلومين، والتطوع لعمل الخير.
ولم يتحدث اي واحد منهم عن مواضيع فلسفية ولم يدخل في نقاشات بيزنطية. لم يتحدث يهودي عن ارض الميعاد وشعب الله المختار. ولم يتحدث مسيحي عن ان عيسى ابن الله، وانه الطريق الوحيد الى الجنة. ولم يتحدث مسلم عن الشريعة وتكفير الناس.
-------------------------------
وهكذا، خلال ثلاثين سنة في واشنطن، شهدت تغييرا كبيرا في نظرة الجمعيات الدينية الامريكية الى الدين. (وبالنسبة للمسلمين، يجب الا يكون في هذا الموضوع اي شئ جديد. وذلك لان القرآن يدعو اول ما يدعو الى رفع الظلم عن المظلومين. ولأن القرأن، في الحقيقة، هو اهم كتاب تقدمي، وهو الاول والآخر).
------------------------------------
contact@MohammadAliSalih.com