معمر القذافي .. عقيداً دولياً وقرصاناً جوياً! (الحلقة الرابعة)
حسن الجزولي
31 May, 2011
31 May, 2011
( القصة الكاملة لاختطاف طائرة الزعيمين السودانيين النور وحمدالله عام 1971 بواسطة معمر القذافي وإشرافه)
* ود النور يوضح للمورنينق ستار أسباب الانقلاب وحمد الله يعدد للقارديان تجاوزات النميري الذي حاول الانفراد بالقرارات!.
* كيفية عودة قيادات يوليو إلى الخرطوم كانت معلومة للقاصي والداني داخل لندن وخارجها!.
* الشاعر الحردلو يتحفظ على عودة النور وحمد الله بواسطة طائرة مدنية دون أن ينتبه أحد لتحفظاته!.
* البروفيسور الراحل يوسف بدري وحرمه كانا ضمن ركاب الطائرة المختطفة!.
* بابكر النور هو من وجه بالاستجابة لأوامر الليبيين بالهبوط بعد أن علم بوجود عدد من الأطفال على متن الطائرة!.
كتاب جديد بالعنوان أعلاه، دفع به كاتبه د. حسن الجزولي إلى المطبعة، والكتاب يوثق لأحد أشهر عمليات القرصنة الجوية التي بدأ بها عقيد ليبيا معمر القذافي حياته السياسية في فضاء التدخل والتعدي على السلام الدولي، عندما أمر باختطاف طائرة الخطوط الجوية البريطانية التي كانت تقل كل من المقدم بابكر النور سوار الدهب، والرائد فاروق عثمان حمدالله، عند سفرهما من لندن في طريقهما إلى الخرطوم، كقيادات جديدة للنظام الذي أطاح بحكومة النميري في إنقلاب 19 يوليو عام 1971، ذالك الاختطاف الذي أدى إلى تسليم القذافي كل من بابكر وفاروق إلى النميري العائد إلى السلطة كالمسعور بعد إجهاض الانقلاب، ليبعث بهما إلى دروة الاعدام!، الميدان تبدأ في تقديم مقتطفات من بعض فصول الكتاب في هذه الحلقات المتتالية، لتعريف الأجيال الجديدة، بتاريخ قديم لـ ” ملك ملوك أفريقيا) و( عميد الحكام العرب) الذي يترنح نظامه الآن تحت ضربات الشعب الليبي البطل!.
د. حسن الجزولي
لندن في صبيحة الثلاثاء 20 يوليو 1971:-
في العاصمة البريطانية، كان برنامج كل من بابكر وفاروق قد إزدحم، في تلك الأيام، بعد الاعلان عن نجاح الانقلاب في السودان، وقد وجدا نفسيهما غارقان في لجج، من الاجتماعات واللقاءات والمؤتمرات الصحفية، باعتبار وضعهما الجديد كأعلى القيادات الجديدة للسلطة الوليدة بالسودان.
ولم يكن أغلب صناع السياسة والاعلام، على علم بأن أهم شخصيتين في الانقلاب، الذي أعلن عنه بالخرطوم، تتواجدان حالياً بالعاصمة البريطانية لندن، وما أن تم الاعلان عن ذلك، حتى هرع القوم – خاصة الصحافة البريطانية – إلى السفارة السودانية بقلب لندن، فرتب الشاعر والديبلوماسي سيد احمد الحردلو، الذي كان يشغل وقتها، وظيفة السكرتير الثاني بالسفارة السودانية هناك، أمر كيفية لقاء رجال الصحافة البريطانية، مع كل من بابكر وفاروق، إلا أن الآخيرين قد تحفظا في المبتدأ، ورأيا أفضلية أن تكون الأسئلة مكتوبة ، وقد تولى الحردلو بنفسه الاجابة عليها، وانضم له دكتور عزالدين علي عامر،عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، والذي حضر للندن، بعد فترة إعتقال محدودة، منذ إجراءات السابع عشر من نوفمبر عام 1970 والتي بموجبها، تم إقصاء كل من المقدم بابكر النور والرائدين هاشم العطا وفاروق حمد الله، من مجلس قيادة الثورة ومحاصرة نشاط الحزب الشيوعي، وكافة المنظمات الجماهيرية والنقابية والديمقراطية الأخرى.وهو القرار الذي قصم ظهر بعير العلاقة، بين السلطة الوليدة واليسار السوداني، وعلى وجه الخصوص الحزب الشيوعي!.
أثناء المؤتمر الصحفي – وعندما تلاحظ تزايد الأسئلة المنهمرة، من أكثر من صحيفة، ووكالة أنباء وقناة تلفزيونة – توصل الجميع إلى أهمية عقد مؤتمر صحفي، يتولى فيه كل من بابكر وفاروق، الاجابة مباشرة عن الأسئلة، وبالفعل بدأ المؤتمر.” كانت كشافات الضوء قويّة، ومن كل الجهات تُسلّط أضواءها على وجه المقدّم بابكر، حيث تجمّعت حبات العرق بكثرة على وجهه، وتقدّم أحدهم وأخرج منديله، ومسح حبات العرق عن وجه المقدّم بابكر، تحدث مطولاً عن أسباب الإطاحة بنميري، ورد على الأسئلة بلباقة ولغة إنجليزية حسنة، وكان من وقتٍ لآخر، يشير على فاروق للرد على بعض الأسئلة، وأجرت صحيفة القارديان لقاءً مطولاً مع الرائد فاروق بعد المؤتمر مباشرة. كما نشرت جريدة “مورننغ ستار” اليسارية مقابلة مع بابكر النور، وكانت أبرز مانشيتاتها لتلك المقابلة كالآتي:-” كنا، هاشم العطا وفاروق حمد الله وأنا، مع نميري، أعضاء في تنظيم الضباط الأحرار. كنا كلنا اشتراكيين، ومعادين للامبريالية. لكن، مباشرة بعد ثورة 25 مايو، بدأ نميري يفكر في حل التنظيم. وصار يريد التحول عن مبادئ الثورة. لهذا، بدأنا نخطط لحركة مضادة له. وزاد تصميمنا بعد أن عزلنا نميري في نوفمبر الماضي سنة 1970، الأن تجوب مدن السودان مظاهرات التأييد لنا. ليس هذا انقلاب رجل واحد. وأنا كنت هنا في لندن منذ أسبوع. هذه حركة جماهيرية ديمقراطية شاملة. وعاد ظهور المنظمات الديمقراطية التي كان أعلن نميري حلها: اتحاد نقابات العمال، اتحاد المزارعين، وغيرهما ، بعد عودتي إلى السودان، وخلال الأيام القليلة القادمة، سنؤسس الجبهة الوطنية الديمقراطية، وستتكون من ممثلين من الحركات الديمقراطية، عكس نميري، الذي اختار نفسه ثم اختار الوزراء الذين يعملون معه، ستختار الجبهة الديمقراطية الوزراء، وستراقبهم، ستقود الجبهة الديمقراطية الحملة ضد الرجعية “!.(رسالة من السفير الأمريكي بلندن إلى وزارة الخارجية الأمريكية،22\7\1971،موقع sudanile.com )
يشير الديبلوماسي الشاعر، سيداحمد الحردلو في إفاداته، كشاهد عيان بحكم وظيفته، باعتباره قنصل ثاني بسفارة السودان بلندن، في تلك الفترة، إلى أن موضوع كيفية سفر بابكر وفاروق إلى الخرطوم من لندن التي كانا يتواجدان فيها أثناء وقوع الانقلاب، كان يتم البحث عنه، دون تقديرات تأمينية،” بدأ البحث عن وسيلة لسفرهما للخرطوم بالصوت العالي، وكان ذلك خطأ قاتلاً، قال قائل: لماذا لا نطلب طائرة من إحدى دول شرق أوروبا؟ وقال آخر إن سفرية الخطوط الجويّة البريطانية العادية تغادر لندن – عادة – قبيل منتصف ليل الأربعاء، فلماذا لا يسافران بها؟!” وطريقة التفكير “بالصوت العالي” حول كيفية سفرهما للسودان، أدت إلى أن يعترض الحردلو على الاقتراحين ” بحسبان أن الأول لا يجوز ولا يليق وللثاني محاذيره، وقلت أخاطب الرائد فاروق :- إنني اقترح أحد أمرين .. أن نطلب طائرة سودانية أو نستأجر طائرة، ودار نقاش حول خط سير الطائرة، إن تمت الموافقة على أحد الاقتراحين، لكن الصديق فاروق – يرحمه الله – قال إن (الحردلو متشائم لدرجة المغالاة)، وأمر بالحجز على البريطانية، وذهب مندوب من السفارة يُرتّب أمور الحجز والتذاكر، وأخطرنا الخرطوم بذلك، وطلب الرائد فاروق مني الإتصال، بمحمد في برلين ليحضر إلى لندن قبل موعد إقلاع البريطانية ووجّه بالحجز له معهم، وهنا سألته – وللمرة الأولى – :- ما هو الاسم الكامل لمحمد حتى نحجز له، وضحك فاروق وهو يقول:- أنا كنت قايلك عارف يا أخي ده الرائد محمد محجوب”!.(هو الشقيق الأصغر لعبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي السوداني، والذي تم اختياره كعضو في مجلس قيادة الثورة الذي قاد إنقلاب 19 يوليو، وكان وقت وقوع الانقلاب في زيارة علاجية بألمانيا الشرقية – الكاتب).
وبعد ذلك ووجه الجمع، بأن مطار الخرطوم مغلق أمام الملاحة الجوية، وهو ما أدى إلى أن تلغي الخطوط الجوية البريطانية سفريتها المقررة، ( لندن – الخرطوم – لوساكا)، وبعد أن أحيطا علماً بذلك، وجه كل من بابكر وفاروق بالاتصال الفوري بالسودان، لفتح المطار والسماح للطائرة البريطانية بالهبوط والاقلاع، وقد طلبت الطائرة البريطانية، أن يكون الاذن كتابة وهو ما تم!.
وكما يسجل الحردلو في إفاداته فقد “كان خبر سفرهما بالبريطانية، قد ذاع وانتشر في كل العواصم، وكانت كاميرات التلفزيون، قد نُصبت في مطار هيثرو، بإنتظار تلفزة سفرهما وإذاعته على الدنيا على نحو ما سنرى!”.
في مطار هيثرو، كانت صالة كبار الزوار، والطرق المؤدية إليها، مزدحمة بعشرات الصحفيين وكاميراتهم، يريدون مقابلة المقدّم بابكر والرائد فاروق، يقول الحردلو:-”حاولت جاهداً اقناعهم بصعوبة ذلك، شاهد فاروق محاولاتي، وأخبرته بإصرارهم على إجراء، حوارات أخيرة قبل الإقلاع، ووافق، وانعقد المؤتمر الصحفي الثاني، في غرفة مهيأة لذلك، ودار معظم المؤتمر، حول برامجهم وكيف ستكون علاقات السودان بالغرب. وانتهى المؤتمر.
وأشار الحردلو في إفادته أنه بينما كان يتحدث مع الرائد فاروق بالمطار تقدّم منّهما صحفي وعرَّف نفسه، بأنه يعمل في صحيفة (الديلي تلغراف)وأوضح يقول لفاروق أنه قد حجز على نفس الطائرة للخرطوم إلا أنه لا يمك تأشيرة دخول، وهو يرجو فاروق أن يساعده على دخول السودان حتى يتمكن من التغطية الصحفية، وبالفعل كتب فاروق على ورقة (أرجو السماح له بالدخول)، فسعد الصحفي وشكر الرائد فاروق ومضى، فالتفت الحردلو لفاروق وقال ضاحكاً:
:- على كل حال ستكون الـ C.I.A معكم على الطائرة!.
فتساءل فاروق مندهشاً:
:- (كيف!)
:- إنهم يقولون هنا إن (الديلي تلغراف) هي صحيفة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية!.
ويشير الحردلو إلى أنه – وهو يقول ذلك – لم يكن في الأصل يعلم – لا هو ولا فاروق – بأن “كل استخبارات الدنيا، كانت تراقب بدقة متناهية تلك الطائرة البريطانية، التي ستقلع بعد قليل” !.( مكتبة بكري الصائغ، أين هم الآن وماذا يفعلون موقع:sudaneseonline.com)
إذن فقد غادرت طائرة، الخطوط الجوية البريطانية، قبيل منتصف ليل الأربعاء 21 يوليو بساعة واحدة، حسب توقيت لندن، في رحلتها، من مطار هيثرو متوجهة، إلى العاصمة السودانية الخرطوم، وفي جيب كابتنها الانجليزي، مستر ستيوارت، الاذن المكتوب لها بالهبوط بمطار الخرطوم ، والاقلاع منه!. وكما يشير الحردلو، فإن من السودانيين الذين غادروا على نفس تلك السفرية – إضافاة لبابكر وفاروق – كان كل من “المرحوم عثمان البلول، الذي كان قادماً من موسكو، بعد فترة تدريبية، في طريقه للخرطوم عبر لندن، وكذلك المرحوم البروفيسور يوسف بدري وحرمه”!.
ما أن ربطا حزاميهما، وأقلعت طائرة الخطوط البريطانية، من مطار هيثرو، ونتيجة للاجهاد طيلة الفترة الماضية، فقد راح كل من بابكر وفاروق في نوم عميق، ما لبثا أن أفاقا لفترة من الزمن، حينما هبطت الطائرة في مدرج مطار روما، ثم استأنفت رحلتها، عابرة البحر الأبيض المتوسط، بينما عاد كل منهما مرة أخرى، لمواصلة نومهما العميق.
” وبعد حوالي أقل من ساعة، أحس المقدم بابكر، بكف تربت على كتفه برفق، فتح عينيه بتثاقل، ليجد أمامه أحد مساعدي كابتن ستيوارت، يدعوه بتهذيب لمقابلة الكابتن، لأمر عاجل، أيقظت الحركة الرائد فاروق أيضاً، كما أيقظت بعض الركاب، السودانيين والأجانب، الذين كانوا يعرفون وزن الشخصيتين، اللتين تشاركانهم الرحلة، فاعتدلوا في مقاعدهم، بينما كان بابكر يعبر الممر، إلى داخل كابينة القيادة، مرت حوالي ربع ساعة أخرى، قبل أن يعود بابكر ، والمستيقظون يسرحون عيونهم الغاصة بالتساؤل، في قسمات وجهه، المحتشد بالارهاق، لينقل إلى رفيقه بهدوء قلق، وهو ينحني بقامته المديدة ليزيح الستارة، عن النافذة البيضاوية الصغيرة، ويتطلع عبرها إلى السماء الليبية، الممتدة خارج الطائرة، أن المتاعب في ما يبدو قد ابتدأت:
:- ” يقول إنه يتعرض لتهديد، من طائرتين، حربيتين ليبيتين، تطاردان طائرته، وتطالبانه بالهبوط في مطار بنغازي، وأنه يخشى، إذا رفض الاذعان ، أن تتعرض الطائرة للنسف، حسب ما فهم من التهديد، وأنه سيتصل الآن بوزارة الخارجية البريطانية، لمعرفة كيفية التصرف”!.
قبل أن يعلق فاروق عاود الكابتن دعوة بابكر إلى الكابينة:
-: وزارة الخارجية طلبت مني، الاستجابة بالهبوط، وأن أعود فوراً إلى لندن، في حالة ما إذا احتجزت السلطات هنا أياً من الركاب!.
وأوضح بابكر لرفيقه، على مسمع من الكثير من الركاب، السودانيين بالذات، الذين كانوا قد تحلقوا، هذه المرة، حول مقعدي الرجلين، أن الكابتن قال له، إنه يخشى على مصير بعض الأطفال، الذين كانوا بالطائرة، وأنه سأله: أيهبط أم لا، فما كان أمام بابكر سوى أن يطلب منه الهبوط!.
hassan elgizuli [elgizuli@hotmail.com]